وبدأ الشافعي مسيرته التعليمية في موطن أجداده - مكة - أرض الوحي ومنبع الإسلام ومهوى أفئدة المسلمين في أنحاء الأرض
وأرادت أمه العاقلة الراشدة إرساله إلى أحد الشيوخ ليتعلم منهم القراءة والكتابة كعادة الناس في بداية خطوات التعليم , ولكن لم يكن مع أمه ما تؤديه للمعلم أجراً عن تعليم إبنها , يقول
الشافعي في ذلك
"
كنت يتيما في حجر أمي , ولم يكن معها ما تعطي المعلم " .
وفي يوم ما تأخر المعلم , فبدأ الولد بتعليم الأولاد الآخرين وعندما حضر المعلم ورأى ما رأى أدرك أن لهذا الطفل شأن عظيم وأنه ليس بولد عادي فإهتم به وحثه على مواصلة تعليم الأطفال الآخرين في حالة تأخره .
واستمر على ذلك حتى حفظ القرآن وهو ابن
سبع سنين .
استمر الإمام الشافعي يختلط مع العلماء وياخذ منهم ويستمع إليهم بشغف شديد وذهن حاد , واتجه بعد حفظ القرآن الكريم إلى حفظ أحاديث الرسول صلى
الله عليه وسلم , وكان حريصا عليها , وكان يستمع إلى الحديث ويحفظه بالسمع ثم يكتبه كتابتا على الخزف أحيانا وعلى الجلود أحيانا أخرى .
وفي هذه المرحلة من عمره حفظ كتاب
الموطأ للإمام
مالك قبل أن يسافر إليه ويلتقي به .
وقد روي
المزني عن الشافعي قوله :
"
حفظت القرآن وأنا ابن سبع , وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر "
وبعد ذلك قام الشافعي بالعديد من الرحلات الصغيرة منها توجهه إلى البادية بقصد تعلم الفصاحة والبلاغة وللإبتعاد عن العجمة التي بدأت بالإنتشار مع الإختلاط بالأعاجم في المدائن فقصد هذيلٌ التي كانت مشتهرة بالفصاحة , وبالذات في الشعر فهي أفصح العرب شعراً , ولزم الشافعي هذيلٌ لسبعة عشر عاما , وقيل عشر سنين
وأخذ بتعلم اللغة و بتعلم الأنساب وبتلقى أخبار العرب وغيرها من علوم البلاغة ..
ولم يكتفي من تعلم علوم اللغة في الباردة فقط , بل أتجه يأخذ منهم من العادات التي أشتهرت بها العرب عادتا
فقد برع بالرماية .
وعندما رجع الشافعي إلى مكة رجع شاعرا أدبيا ولم يبرز علمه الشرعي بعد ..
ثم أنصرف الشافعي بعد ذلك إلى طلب الفقه , وتوجه إلى مالك بن أنس أخذا بنصيحة أحد بني عمه ,
فرحل إلى المدينة المنورة وظل ملازما للإمام مالك يتلقى العلم على يديه , وقرأ عليه كتاب الموطأ مباشرة حتى وفاة مالك رحمه الله .
سأذكر بعض ما يتميز به الأمام الشافعي من مواهب خاصة
بشكل موجز :
الفراسة هي القدرة على تحليل الشخصيات من خلال النظر في الوجوه والعلامات الظاهرة , وقد عُني الشافعي بالفراسة علما وتجربة , وممارسها فعلية , وأخذها من البادية حينما توجه إليهم في صغره , ثم أخذ كتبها من اليمن .
*
ومن أجمل قصص الفراسة:
قال
الشافعي : خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة، حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما كان انصرافي مررت في طريقي برجل، وهو محتبي بفناء داره، أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط فقلت له: هل من منزل؟ قال: نعم، قال الشافعي: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، فأنزلني، فرأيته أكرم رجل، بعث إليَّ بعشاء، وطيب، وعلف لدابتي، وفراش، ولحاف، قال: فجعلت أتقلب الليل، أجمع ما أصنع بهذه الكتب، فلما أصبحت قلت للغلام: أسرج فأسرج، فركبت ومررت عليه، وقلت له: إذا قدمت مكة، ومررت بذي طوى، فاسأل عن منزل محمد بن إدربس الشافعي، فقال: أمولى كنت أنا لأبيك؟ فقلت: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ فقلت: لا، قال: فأين ما تكلفت لك البارحة؟ قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك طعاماً بدرهمين وأدماً بكذا، وعطراً بثلاث دراهم، وعلفاً لدابتك بدرهمين، وكراء الفراش واللحاف درهمين، قال: فقلت يا غلام أعطه، فهل بقي من شيء؟ قال: نعم كراء المنزل، فإني وسعت عليك، وضيقت على نفسي بتلك الكتب، فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء؟ قال: لا، قلت: امض، جزاك اللَّه، فما رأيت قط شراً منك.
أول ما ألتقى الشافعي بالرجل وعندما نظر إليه تيقن أنه رجل دنيء ولكن عندما أكرمه
قال الشافعي في نفسه ربما أخطأ في حقه , وأين ما تعلمت من هذه الكتب
ولكن فيما بعد تبين الشافعي أنه أصاب في وصف الرجل وأصابت فراسته ..
قال تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [الأنعام : 97]
وقال : (
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) [النحل : 16]
قال
الشافعي : فكانت العلامات : جبالا وليلا , ونهارا , وأرواح ( جمع ريح ) معروفة بالأسماء , وإن كانت مختلفة المهاب , وشمسا وقمرا ونجوما , معروفة المطالع والمظارب والمواضع من الفلك , فعرض عليهم الإجتهاد في التوجه شطر المسجد الحرام بما دلهم عليه مما وصفت .
عن حرملة بن يحيى قال : كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب , ويقول : ضيعوا ثلث العلم , ووكلوه إلى اليهود والنصارى ..
وللشافعي العديد من النصائح الطبية : وهذه محادثه بينه وبين أمير المؤمنين هارون الرشيد :
قال الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي يقول : قال لي هارون الرشيد : يا محمد , بلغني أنك تُباكِر الغداء .
قلت : نعم يا أمير المؤمنين .
قال : ولم ذلك ؟
قلت : يا أمير المؤمنين لأربع خصال .
برد الماء , وطيب الهواء , وقلة الذباب , ثم أحسم طمعي عن موائد غيري .
قال الرشيد : فهذا بيت القصيد ..
كان الشافعي رحمه لله ذو ذاكرة واعية حافظة يقرأ الموطأ فيحفظه ثم يقرؤه عن ظهر قلب
وكان عميق التفكير لا ينظر للأمور نظرة بسيطة وسطحية بل يتعمق بها وينظر إلى بواطنها
ولا يكتفي بالجزئيات بل يتجه إلى الكليات ويدرسها بعمق ..
المفضلات