الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن هناك مرضاً خطيراً من مفسدات القلوب تعم المجتمعات الإسلامية الثرية والغنية بالذات وهذا المرض يستشرى وتحدث له مظاهر كثيرة وينتشر باستمرار ونسمع ونتعجب ووجدت آثاره فى نفوس الناس وفى تصرفاتهم ، ومن تأمل حال النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته رضى الله عنهم وجد أنهم على النقيض ممن وقع فى هذا المرض فى هذا الزمن .إنه داء يعصف بالأسر والمجتمعات وسبب رئيسىٌ لفساد القلب بل إنه سبب لسقوط المجتمعات وانهيارها ، إنه سبب لانغماس النفس فى الدنيا وغفلتها عن الآخرة ، إنه سبب لترك الجهاد والتخلف عنه وفتح الباب لغلبة الأعداء على الأمة ، إنه سبب للتنافس والتباغض والتحاسد ، إنه سببل للإعراض عن العمل للدين أفسد أطفالنا وضيع أموالنا ومرغ نساءنا فى أوحال الدنيا
إنه الترف .الترف التاء والراء والفاء ، الترفة فى اللغة النعمة والطعام الطيب ، ورجل مترف يعنى منعم وترفه أهله إذا نعموه بالطعام الطيب والشيء يخص به ، صبى مترف فى لسان العرب إذا كان منعم البدن مدللاً والمترف الذى قد أبطرته النعمة وسعة العيش ، والإرفاء والتنعم والدعة ومظاهرة الطعام على الطعام واللباس على اللباس هذا هو الإرفاء ، يطلق الترف على معانى أخرى مثل التنعم والترفه والرفاهية ويقابله الزهد والتقلل والخشونة .
الترف : هو مجاوزة الحد فى الاعتدال ، والإكثار من النعم التى يحصل بها الترف فالمترفون إذن أبطرتهم النعمة وسعة العيش وهم حريصون على الزيادة فى أحوالهم وعوائدهم والساعون إلى بلوغ الغاية فى حاجات النفس الحسية من المآكل والمشارب والمساكن والمراكب . هذا الترف قائم على الغنى ومبنى عليه لكنه ليس بلازم له فكم من غنى بخيل يعيش حياته حياة البؤس والعوز ، وكم من فقير حرص على تحصيل النعم وتحصيل الشهوات واللذات من كل طريق يعيش بأكثر من دخله فتركبه الديون . لقد ورد ذكر الترف فى القرآن الكريم فى ثمانية مواضع كلها فى الذم والتحذير منه ، كما ورد عدد من الأحاديث يتحدث بعضها عن الترف جملة ، وتحذر من تعلق القلب به وبلاء الإنسان بالانغماس فى متع الحياة وملذاتها . والبعض الآخر من هذه النصوص ينهى عن مظاهر الترف ويحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين .قال الله عز وجل فى وصف الكفار: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116)
قال ابن جرير رحمه الله :إن الله تعالى أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله اتبعوا ما أترفوا فيه من لذات الدنيا فاستكبروا وكفروا فاستكبروا عن أمر الله وصدوا عن سبيله وذلك أن المترف فى كلام العرب هو المنعم الذي قد غذى باللذات . وقال عز وجل: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59) .
قال الحسن : عطلوا المساجد ، ولزموا الضيعات ( وهى المزارع والدكاكين والثمار والأشجار )
وقال كعب الأحبار : ( والله إني لأجد صفة المنافقين فى كتاب الله عز وجل شرابين للقهوات ، تراكين للصلوات ،لعابين بالكعبات " أي بالنرد الزهر الذي يلعب به فى كثير من الألعاب وهو محرم والحديث ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) ( من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده فى لحم الخنزير ودمه ) " رقادين عن العتمات " يعنى صلاة العشاء " مفرطين فى الغزوات ، تراكين للجمعات ثم تلا هذه الآية: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59)
وقال عز وجل: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) (الانبياء).
هذا الترف الذى اجتاح هذه القرى فكان سبباً فى هلاكها قال تعالى : { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون } يعنى ارجعوا إلى ما نعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم
وقال ابن كثير: ( لا تركضوا وارجعوا هذا تهكم بهم كأنه قيل لهم : لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والعيشة والمساكن الطيبة .
وقال ابن السعدى رحمه الله فى تفسير الآية : ( أى لا يفيدكم الركض والندم ولكن إن كان لكم اقتدار فارجعوا إلى ما أترفتم فيه من اللذات والمشتهيات ومساكنكم المزخرفات ودنياكم التى غرتكم وألهتكم حتى جاءكم أمر الله فكونوا فيها متمكنين ، وللذاتها جانين ، وفى منازلكم مطمئنين معظمين لعلكم أن تكونوا مطلوبين مقصودين فى أموركم كما كنتم سابقاً مسؤولين من مطالب الدنيا كحالتكم الأولى وهيهات أين الوصول إلى هذا ؟ ( فى الآخرة لايمكن أن يكون لهم هذا) وقد فات الوقت وحل بهم العقاب والمقت ، وذهب عنهم عزهم وشرفهم ودنياهم وحضرهم ندمهم وتحسرهم .
وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون:33)
قال ابن جرير : أترفناهم فى الحياة الدنيا نعمناهم فى حياتهم الدنيا بما وسعنا عليهم من المعاش وبسطنا لهم الرزق حتى بطروا وعتوا على ربهم وكفروا .
وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ) (المؤمنون:64)
قال المفسرون : المترفون السعداء المنعمون فى الدنيا المتنعمون الذين ما اعتادوا إلا الترف والرفاهية والنعيم ولم تحصل لهم المكاره لم تمر عليهم شدة ولا بؤس ولا فقر ولا مرض هؤلاء الذين كانوا فى زينة الحياة الدنيا . وقد قال تعالى مخبراً عن قارون: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79)
قال ابن كثير: ( يخبر تعالى عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة وتجمل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخرفها تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطى .
وروى ابن جرير عن إسماعيل ابن حكيم قال : دخلنا على مالك بن دينار عشية وإذا هو فى ذكر قارون وإذا رجل من جيرانه عليه ثياب معطرة فقال مالك : فخرج على قومه فى زينته فى ثياب مثل ثياب هذا ( انتهز فرصة وجود واحد من المنعمين عليه ثياب معطرة والمعطر للنساء لا يلبسه الرجال فلما أراد أن يفسر الآية أشار إلى المنعم الجالس الذي كان فى مجلسه رحمه الله .
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (سـبأ:34)
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف:23)
هؤلاء المترفون المنعمون الذين أطغتهم الدنيا وغرتهم الأموال واستكبروا عن الحق .
وقال عز وجل أيضاً فى كتابه: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (المزمل:11)
أولى النعمة هؤلاء المنغمسون فى النعم هؤلاء المترفون أصحاب الأموال هؤلاء الذين يطالبون بحقوقهم ويأكلون حقوق غيرهم . وصف الله تعالى أهل الترف بالفسق فقال:
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16) طالت عليهم المسافة وصعب عليهم السفر تثاقلوا عن العبودية ورفضوها وتأففوا منها .
وقال عز وجل فى المترفين الذين لم يطيقوا الجهاد لشدة الحر وهم متعودين على الظلال والأماكن الباردة: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81) لماذا ثقل عليهم النفير وصارت المشقة ؟ بسبب الحر فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة الأبدية التامة وحذروا من الحر التي تقى منه الظلال وتذهبه البكور والآصال على الحر الشديد الذي لا يقابل قدره وهى النار الحامية . ومما يستفاد من الآيات السابقة أن أهل الترف كانوا عرضة لعقاب الله الدنيوى والأخروى .
وقد بين الله عز وجل أن التوسعة فى النعم على العباد فى الدنيا إنما هو امتحان وابتلاء وليس رضاً عليهم ولا محبة لهم بخلاف ما يعتقدونه فإنهم يعتقدون أو يظنون بأن النعم التى تأتيهم علامة على رضا الله عنهم وليس هذا فى الحقيقة فمن عاش فى حياة الترف وألهاه التنعم بالانغماس فيه والاستكثار منه عن التعبد لله عز وجل وأشغلته هذه الأمور عن طاعة الله عز وجل فهذا مسكين
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ(56) (المؤمنون) أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون بقولهم
(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سـبأ:35) لقد أخطأوا غاية الخطأ وخاب رجاؤهم بل إن ما نفعل بهم هذا الإعطاء استدراجاً لهم . (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا ..) (التوبة:85) ما هى ؟ الأموال والأولاد .
(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)
وقال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران:178)
وقال عز وجل: (فَذَرْنِى وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف:183) أمدهم أعطيهم مالاً وعمراً
وقال تعالى: (ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً (16) (المدثر)
وقال عز وجل: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (سـبأ:37) .
وقال عز وجل: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (الفجر:15) هذا إنكار على الإنسان الذي يعتقد أن الله إذا وسع عليه فى الرزق ليختبره أن هذا إكراماً له ، كلا بل هو ابتلاء وامتحان وهذه طبيعة الإنسان الجائر الظالم الذى لا يعرف العواقب فيظن أن ما به من النعم سيستمر ولا يزول ولا يحول ويظن أن إكرام الله سبحانه وتعالى له لكرامته عليه ، وقد يصبر الإنسان فى الضراء ولا يصبر فى السراء يصبر فى الشدة فإذا أنعم الله عليه كفر قال الصحابى عبد الرحمن بن عوف : ( ابتلينا مع رسول الله فى الضراء فصبرنا ثم ابتلينا فى السراء بعده فلم نصبر) رواه الترمذى وهو حديث حسن فهذا الصحابى يقول لتواضعه هذا الكلام وأنهم لم يصبروا على السراء . وقد أخبر عز وجل أن هناك ناس تعجل لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا فقال:(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الاحقاف:20)
قال قتادة : تعلمون والله أن أقواماً يسترطون حسناتهم ( الاستراط الابتلاع سرطه يعنى ابتلعه والمراد أن حسناتهم تنقص قال : استبقى رجل طيباته إن استطاع ولا قوة إلا بالله .
كان عمر يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاماً وألينكم لباساً ولكني أستبقي طيباتى ( يعنى إلى الآخرة ) ولما قدم الشام صنع له طعام لم يرقبله مثله فقال : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير قال خالد بن الوليد : الجنة ، فبكى عمر واغرورقت عيناه وقال : لئن كان حظنا فى الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بوناً بعيداً .
وكان عليه الصلاة والسلام يواسى أهل الصفة وهم المساكين الذين يرقعون ثيابهم بالجلد لأنهم لا يجدون قماشاً يرقعونها به ، هؤلاء ماذا يقال لهم ؟ أنتم اليوم خير أو يوم يغدو أحدكم فى حلة ويروح فى أخرى و يغدى عليه فى جفنة ويراح عليه فى أخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة ، أنتم اليوم خير من ذلك اليوم الذى يأتى وقد فتحت عليكم الدنيا . وقال جابر رآنى عمر وأنا متعلق لحما ً فقال يا جابر ما هذا قال : لحم اشتريته بدرهم لنسوة عندى قرمن إليه ( يعني اشتهين اللحم ) قال عمر : أكلما اشتهيت اشتريت أما يشتهى أحدكم شيئاً إلا صنعه أما يجد أحدكم أن يقضى فضله لجاره وابن عمه أين تذهب هذه الآية { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } قال : فما كدت أن أنفلت منه ( ما كدت أخرج من هذا اللقاء المحرج الذي وعظني فيه عمر ) .
كان حفص بن أبى العاص يكثر غشيان عمر وكان إذا قرب طعامه اتقاه فقال له عمر :مالك وطعامنا ؟ قال : يا أمير المؤمنين إن أهلى يصنعون لى طعاماً هو ألين من طعامك فأختار طعامهم على طعامك ، قال : ثكلتك أمك أما ترانى لو شئت أمرت بشاة سمينة فألقى عنها شعرها ثم أمرت بدقيق فنخل فى خرقة فجعل خبزاً مرققاً وأمرت بصاع من زبيب فجعل فى سمن حتى يكون كدم الغزال ، قال حفص : إنى أراك تعرف لين الطعام ( عندك خبرة فيه ) قال : ثكلتك أمك والذي نفسى بيده لولا كراهية أن ينقص من حسناتى يوم القيامة لأشركتكم فى لين طعامكم . وقالت حفصة بنت عمر لأبيها رضى الله عنهما يا أمير المؤمنين : إنه قد أوسع الله عليك الرزق وفتح عليك الأرض وأكثر من الخير فلو طعمت طعاماً ألين من طعامك ولبست لباساً ألين من لباسك فقال سأخاطبك إلى نفسك : أما تذكرين ما كان رسول الله ( حفصة زوجة النبى كانت معه فى بيته ) يلقى من شدة العيش فما زال يذكرها حتى أبكاها ثم قال : إنى قد قلت لك إنى والله لئن استطعت لأشاركنهما فى عيشهما الشديد لعلى ألقى معهما عيشهما الرخى ( يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صلى الله عليه وسلم ) . وقال أبو (مجبذ) ليتفقدن أقواماً حسنات كانت لهم فى الدنيا فيقال لهم : أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . وأخبر تعالى فى كتابه بأن هذا النعيم الذي يعيشه العبد فى الدنيا سيسأل عنه يوم القيامة وهل أدى شكره أم لا ؟
كما قال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(التكاثر:8) .
أعظم ثلاثة فى الدولة الإسلامية الأولى : الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رؤوس الدولة الإسلامية رؤوس الدولة خرجوا يوماً من بيوتهم فالتقوا فى الطريق ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا : الجوع يا رسول الله ( يعنى الرئيس والنائب الأول والنائب الثانى ) التقوا فى الطريق ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا : الجوع يا رسول الله وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذي أخرجكما قوموا فقاموا حتى أتوا بيت ذلك الصحابى وذبح لهم وأطعمهم وشربوا الماء فلما شبعوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما : ( والذى نفسي بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ) " هذا على مرة فكيف بنا نحن كل يوم ثلاث وجبات ضرورى لازم ثلاث وجبات . وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا حتى عن شربة العسل يعنى تسئلون .
نعيم الغداء والعشاء من النعيم أكل العسل والسمن والخبز النقى كما قال أبو الطلاء .
وكان الحسن وقتادة يقولان: ثلاث لا يسئل عنهم ابن آدم ( يعنى يوم القيامة ما يحاسب عليها ) وما خلاهن فيه المسألة والحساب يوم القيامة " ما هى الثلاثة ؟ " قال : كسوة يواري بها سوءته " يعنى عورته " ، وكسرة يشد بها صلبه ، وبيت يظله .
وقد جاءت الأحاديث أيضاً فى ذم الترف وحذر النبى صلى الله عليه وسلم من الدنيا ومافيها من النعيم وقال : ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها). وضرب لهم المثل من دواب الأرض التى تأكل وتتورع فى الأكل ومنها التى تأكل وتسرف ما فى بطنها ومنها آكلة الخضر المقتصدة التى تأكل بمقدار الحاجة ثم تصرفه عنها تستقبل عين الشمس وتصرف ما فى بطنها وتخرج ما يؤذيها من الفضلات . وهذا ضرب المثل بالمؤمن المقتصد من الدنيا الذى يأكل من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها مقدار بلغته ويجتزيء من متاعها بأدونه وأخشنه ثم لا يعود للأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته فلا يوجب له هذا الأخذ ضرراً ولا مرضاً ولا هلاكاً بل يكون بلاغاً له وعوناً وقوة ويعينه على التزود للآخرة وخير الرزق ما يكفى ولذلك قال اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً " يعنى شيء يقيتهم ويكفيهم " لا لهم ولا عليهم لا عليه دين ولا له أموال فوق حاجته .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
كان عليه الصلاة والسلام يعد أصحابه نفسياً لما سيواجهونه فى المستقبل من فتوحات ومن سعة العيش ورغيده فكان يقول لهم بعد ما يصعد المنبر : ( إنى لست أخشى عليكم أن تهلكوا بعدى ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان من قبلكم ) هذا من آخر ما وعظ به النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه .
هذه قضية النعومة والترف فى الدنيا بالنسبة لعذاب الآخرة ليست بشيء ولذلك أخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم بالخبر التالى : ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ فى النار صبغة ثم يقال ياابن آدم هل رأيت نعيماً قط هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يارب ، ويؤتى بأشد الناس بؤساً من أهل الجنة يوم القيامة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له : هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط فيقول : لا والله ما مر بى بؤس قط ولا رأيت شدة قط ) إذن كل هذا الترف يوم القيامة لا شيء . قال صلى الله عليه وسلم :
( إن من شرار أمتى الذين غذوا فى النعيم يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب يتشدقون بالكلام ) صححه الألبانى رحمه الله بمجموع طرقه . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إياى والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) مما يدل على ذم الترف والنعومة والانغماس فى الملذات ( إياى والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) رواه أحمد وهو حديث صحيح . وهؤلاء لا ينكحون المتنعمات أيضاً سيوفهم على عواتقهم فى سبيل الله فما لهم وللمرأة المتنعمة التى تجبره على أن يأتى لها من السوق كل يوم بكذا وكذا .
وهذا التنعم منه أيضاً الترجل كل يوم ، عد بعضهم تسريح الشعر والادهان والانشغال بالشعر من التنعم والترفه المذموم .وقد قال عبد الله بن بريدة كما فى سنن أبى داود وهو حديث صحيح قصة جميلة أن رجلاً من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه فقال : أما إنى لم آتك زائراً ولكنى سمعت أنا وأنت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم قال : وما هو ؟ قال كذا وكذا ، قال هذا الزائر "الذى أتى الآن وهو صحابى مثله اثنين من الصحابة " قال : مالى أراك شعثاً وأنت أمير الأرض " أنت أمير البلد وشعرك منفوش مفرق " قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاء "الإرفاء الترفه التنعم " قال : فمالى لا أرى عليك حذاءً ؟ " لأنه حافى " قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفى أحياناً ) . "لماذا أمرهم بالاحتفاء أحياناً ؟ حتى يكون عندهم اخشوشان حتى لو اضطروا أن يمشوا حافين فى الجهاد أو بدون دواب استطاعوا ذلك ، وهذا ما حصل فى غزوة ذات الرقاع ، وهو نوع من التدريب والتمرين " إن الإعجاب والانشغال بالملابس والأشياء الناعمة كان من الأمور التي تحسب على المنافقين فى علاماتهم ، كما جاء فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم لما وصل تبوك سأل عن كعب بن مالك فواحد من الصحابة قال : يارسول الله حبسه برداه والنظر فى عطفه " أى اعجابه بملابسه والنظر فيها "فقال معاذ بن جبل صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً ) فإذن مسألة حبسه برداه والنظر فى عطفه وصف مذموم حتى أن معاذ رضى الله عنه ما رضيه لأخيه . إذن لماذا نقول لمن حصل له هذا الشيء ممن يقضون الوقت الطويل أمام المرآة كل يوم ؟
الله المستعان .
المفضلات