مضت أعوام كثيرة
ومازال عدوه يتبعه ويلاحقه !
أينما ذهب وأينما ارتحل ..
لم يتركه يوما ليريح هذا الجسد الضعيف .. لم يسمح له بنومة تفصله عن عالمه المخيف !!
إنه الأرق .. مع خوفه والقلق !!
..
لم يكن نائما حينها كما ظنت والدته التي أغلقت عليه الباب بعد أن قبلته وسقت وسادته بدمعات حارة متألمة !
سمعها وهي تستجدي عطف جدته وتتوسل إليها
أن تريحها من هذا العذاب .. أن تلطف بها وترحمها .. أن تشعر بالنار المشتعلة في صدرها .. أن تبكي على الكدمات والجروح المنتشرة على جسدها !
قالت بصوت باكٍ مبحوح:
لم أعد استطيع الاحتمال أكثر .. صدقيني !
أتمنى أن أستنشق عبير الحرية ولو لساعة بل حتى لو دقيقة أنا وهذا الطفل المسكين .. الذي عاش احد عشرعاما لم يعرف خلالها الا الاهانه والألم .. ما ذنبه ليعيش هذه العيشة ! وماذا جنى ليعاقب هذا العقاب ..؟
أراه يذبل ويصفّر يوما بعد يوم .. أراه ينهار لحظة تلو الأخرى .. قد يرحل عني ويفارقني في أي لحظة.. ربما حتى قبل رحيلي وانتهائي !
توقفت عن الحديث لتستنشق بعض الهواء وتمسح قطرات دمع من انهارها الجارية ..
تمنت أن تكمل بوحها في حضن والدتها .. أن تحظى بقبلة منها ..
أن تمسح على شعرها أو تربت على كتفها .. لكنها لقيت جوابا قاسيا وجافاكما اعتادت من والدتها و عائلتها :
" ليس أمامك إلا ان تتحملي وتجاهدي لتحافظي على بيتك وابنكوستحبين زوجك يوما ما "
...
كان مستيقظا أيضا تلك الليلة الظلماء .. يجلس بجانب أمه ويراقب دموعها تنهمر بغزارة كالمطر .. دون توقف !!
.. يسمع نحيبها وهمهماتها..و يراها تحدق بتلك الورقة لأكثر من ساعة دون أن تنطق بكلمة واحدة مفهومة ..!
سألها والدهشة بادية على ملامحه المظلمة : أمي أخبريني ماذا كتب في هذه الورقة؟
أعطته الورقة مستسلمة لمطلبه .. فهي تعلم أنه لن يفهم منها شيئا
سألها مرة أخرى : ما معنى هذه العبارات الانجليزية .. أنا لا اعرف من هذه اللغة الا حروفها ..
فأشارت بإصبعها على كلمة وقالت له :
أخبرني ماذا كتب هنا ؟!..
اقرأها عليّ.. لعلي أخطأت في قراءتها ..
أو لعلي جُننت فتوهمت .. أو كبرت وخَرفت
نظر إليها الطفل البريء ذي الحادية عشر عاما وبدأ بنطق أحرفها حرفا حرفا :
اي .. آي .. دي .. إس
إيدز !
ما هذا الايدز يا امي ؟!
نظرت إليه نظرات حانية خُيل إليها أنها آخر ما سترى عينيها .. ارادت ان تحضنه .. أو تقبله .. لكنها خافت عليه منها !!
همست له بصوتها المتقطع :
لن يصدقني غيرك ..
لم أفعلها وربي.. لست سوى ضحية لذاك الوحش الخائن ..
حاولت أن أكون لك أما حنونا .. ان احميك قدر استطاعتي .. ان اوفر لك كل ما املك .. فاعذرني وسامحني ان قصرت!
رجوت ان ابقى بقربك الى ان اراك حرا سعيدا .. رجلا افتخر به .. زوجا صالحا وأبا عطوفا .. لكني انتهيت قبل ان يحين ذلك ..
قاطعها ولدها قبل ان تكمل :
لماذا تقولين لي هذا يا امي؟
انت لم تنتهِ ومازلت امامي بخير .. سيموت ابي وسأحيى انا وانت كما نريد..
سنسافر بعيدا الى مكان لا يوجد فيه ابي ولا جدي ولن نرى خالي ولاجدتي ولا احد !!
نظر اليها فوجد عينيها الجاحظتين زائغتين في الفراغ خلفه .. يمينا ويسارا تهز راسها .. واطرافها ترجف رجفا !
نطقت بصوت منخفض:
جاء!
لقد...جاء !!
فَتح الباب!!
حملته على ذراعيها سريعا وركضت به الى حيث النافذة .. وفي الشارع المظلم انزلته و أوقفته.. ثم صاحت به :
اركض اركض..
اذهب بعيــــدا
فلن يرحم احدا..
اسرع وابتعد ..!
القت عليه نظرة اخيرة قبل ان تغلق مصراعي النافذة !
التفتت خلفها لتجده ماثلا امامها .. لم يمهلها قليلا حتى كان سوطه يقطع لحمها !
من خلف النافذة كان ابنها يراقب في ذهول ..!
يراها تصرخ وتتلوى من الالم..!
يرى دماءها تنزف على ارض الغرفة كخروف يُذبح دون رحمة ولا رأفة ..!
لم يستطع ان يرسل دمعة اويطلق زفرة .. بل كاد يُجن!
وقعت عيني والده عليه !!
تملكه خوف شديد وفر هاربا الى ابعد مكان من هنا ..
الى حيث توصله قدماه ..
الى ارض لا يعلمها طالبا فيهاالامان !
..
الأمان ..!
ومن أين له الامان وهو الشريد الضائع التائه !!
من أين له وهو الذي لا يعرف من معناه شيئا ..
..
ضاق به هذا العالم الفسيح .. حبسه الماضي وهو حر طليق
نبذه مجتمعه و أبغضه اخوانه ..
لا مدرسة تقبله ولا وظيفة ترحب به ولازوجة ترضاه شريكا ..!
..
من أرض الى ارض ومن مدينة الى اخرى قضى حياته متسولا شريدا
يقلب صفحات الماضي ليسقي بها حقده وقهره ..
ليرى خيانة والده وغدره .. ليترحم على امه الطاهرة من اتهامات قذرة ..
الضحية لعائلة قاسية القلب متحجرة
وينظر في حاله وحاضره فيبكي قدْره ..
صفر زيد شمالا بل حملا وعالا
خاطب نفسه المكلومة بين جنبيه مواسيا :
لا تحزني فلست وحدك المشردة ..ذرية ابي تهيم على وجهها في الشوارع والازقة مثلك دون شك !!
انت تفضلينهم بواحدة هي انك
" لست لقيطة"
هي انك" نطفة حلالا"
سار تحت قطرات المطر المنهمرة
في هذه الليلة المثلجة
نحو حافلة اخرى تقله الى مدينة اخرى
طالبا فيها الامان !
المفضلات