~ المدير الجديد ~
لم أنسَ قط أول يومٍ عُين فيه أمجد مديرًا جديدًا للقسم، فقد وقف بثبات أمامنا رغم صغر سنه وابتسم ابتسامةً عريضة..
وبينما كانت أفكار موظفي القسم تتنوع ما بين حاسدٍ يرى نفسه أحق بالمنصب ومتلمقٍ يفكر كيف يتقرب منه، كان هو يقول بثقةٍ مفرطة: يشرفني انضمامي إليكم اليوم، إنني أرجو حقًا أن نعمل معًا يدًا واحدة وأن نكون معًا في السراء والضراء، كالعائلة تمامًا!
كان من المضحك أن يتفوه رجلٌ ناضجٌ بمثل هذه الترهات، ولكني عزوتُ الأمر إلى الحماسة المؤقتة أو حب الاستعراض والتفاخر بالمنصب الجديد والشعارات السخيفة المصاحبة له..
ولكني أدركتُ بفزعٍ مع الوقت كم كان جادًا في كلامه.. إن مديرنا الجديد أحمق كبير!
~
لم أكن أتمالك نفسي، فلطالما تجادلتُ معه بخصوص مثالياته السخيفة تلك.. كان يستغني عن راتبه ليدفع رواتبنا المتأخرة، أو يتشاجر مع المدير العام لأجل أحد موظفيه.. نعم كان هذا في صالحنا، ولكنها تبقى حماقة وليست في صالحه أبدًا!
كان يقول لي باستمرارٍ كلما جادلتُه: ألن يغدو العالم مكانًا جافًا إن فكر كلٌّ منا بمصلحته وحسب؟ ألن يكون أكثر دفئًا بتضحيتنا لأجل بعضنا كالإخوة تمامًا؟
وكنتُ أجيبه بإصرار: ومن قال أن الإخوة يضحون لأجل بعضهم؟ ربما يتساعد بعضهم في الأمور البسيطة ولكنهم سيتخلون عن بعضهم دون ريب إن كان الأمر جادًا.. لن يضحي أحدٌ بحياته أو مستقبله أو حتى ماله من أجل شخصٍ آخر.. كلا.. لا يحدث هذا سوى في الأفلام.. لا يعني هذا أن الناس أشرارٌ بالضرورة، بل لا بأس في أن يساعدوا بعضهم ما دام هذا لا يتعارض مع مصالحهم، ولكن لكل إنسانٍ أولوياته الخاصة.. ماذا يستفيد إن فقد كل شيءٍ من أجل شخصٍ آخر؟
ومع أن كلامي كان يبدو منطقيًا ومقنعًا للغاية - بالنسبة لي على الأقل - إلا أنه لم يقتنع يومًا واستمر يوجع رأسي بترهاته الفارغة حول التضحية والعلاقات وجعل العالم مكانًا أفضل..
كنتُ أصر على أنه سيتخلى عن مثالياته تلك حين تصبح مصالحه في خطرٍ حقيقي، وكان يصر على أنه لن يفعل..
وقد خضعت تلك المثاليات للاختبار أقرب مما تصور أحد!
~
وقع الحادث لي بالذات، فقد اتُهمتُ باختلاس مبلغٍ كبيرٍ من الشركة بصفتي أعمل محاسبًا فيها، ولم يُجدِ إنكاري ودفاعي المستميتان نفعًا.. وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين وجدت أمجد يدافع عني بشدة وكأنما يدافع عن نفسه.. بل قالها صراحةً أنه يثق بي كما يثق في نفسه!
لم أعرف كيف أتعامل مع موقفه هذا، فقد كنت ممتنًا للغاية من جهة، ومستاءً من مدى سذاجته من جهةٍ أخرى..
كيف يمكنه أن يزج بنفسه في أمرٍ خطيرٍ كهذا؟ أيريد أن يثبت لي أنه مصرٌ على مبادئه؟ أم أنه حقًا مستعدٌ للتضحية من أجلي لمجرد أنني زميله؟ أيعد فريقه عائلةً حقًا؟ بل هل يمكن أن يقوم بهذا لأجل عائلته أساسًا؟
لم أتمكن من فهمه إطلاقًا، لقد أصرّ على أن يكون كفيلي حين أرادت الشركة استصدار حكمٍ قضائيٍّ ضدي يمنعني من السفر إلى حين اكتمال التحقيقات، ولأنني أعربتُ عن حاجتي إلى زيارة والدتي المريضة المقيمة خارج البلاد، فقد تطوع ليكفلني حتى عودتي!
ورغم حاجتي إلى ذلك بالفعل، فقد رفضتُ هذا بشدة.. لا أستطيع القبول.. لماذا قد يفعل هذا لأجلي؟ أكد لي أنه يعتبرني أخاه، ولكن هل يفعل الإخوة هذا حقًا؟
ربما يهمكم أن تعرفوا - وقد مرّ على الأمر فترةٌ طويلة الآن - أنني قبلتُ أخيرًا عرضه ذاك، وها أنا أقيم خارج البلاد بينما يقيم هو في السجن بعد أن ثبتت تهمة الاختلاس ضدي..
لا أريد أن أبدو لئيمًا ولكنني حذرتُه، ولا زلتُ أراه مجرد أحمق، لم يتغير شيءٌ بالنسبة لي..
أما هو، فلا أدري بالضبط إن كان لا يزال مصرًا على مبادئه تلك حتى الآن أم أن ما جرى ترك بصمته فيه بشكلٍ آخر..
~ تمت ~
المفضلات