سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

[ منتدى نور على نور ]


النتائج 1 إلى 8 من 8

العرض المتطور

  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي




    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
    هذا الموضوع لتفسير سورة الحجرات، من دون اللجوء إلى التطويل والتعقيد، مع تناول الجوانب اللغوية في السورة الكريمة...
    وأقدم هذا الموضوع الذي ابتدأت به ولم أقم بإنهائه بعد، كصدقة عن روح والدتي رحمها الله، داعيًا الله عز وجل أن يتقبل ذلك مني...

    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 7-6-2018 الساعة 02:08 AM

  2. الأعضاء الذين يشكرون أ. عمر على هذا الموضوع:


  3. #2


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    معنى (سورة)، ومعنى (الحجرات)


    قبل البدء بتفسير آيات السورة، سنتوقف عند معنى كلمة (السورة) لغة وشرعًا...
    نحن نقول (سورة الفاتحة) (سورة البقرة) (سورة...)، ويفرح أي شخص منا إن حفظ أحد أولاده الصغار سور جزء عم مثلًا، فهل نعلم ما معنى كلمة (سورة) أولًا؟!
    في لغة العرب، السُّورة (بضم السين فهناك السَّورة بفتحها)، لها معانٍ متعددة، فكلمة السُّورة تُطلق على ما كان جميلًا رائعًا من البناء، كما أنها تُطلق على كل عِرق من عروق الجدار، وبشكل عام السُّورة هي المنزلة العالية، كما أن السُّورة تأتي بمعنى الفضل، وبمعنى العَلَامة...
    هذا لغويًا، فهل يختلف الأمر قرآنيًا؟!
    تنوَّعت الآراء في سبب التسمية، فمنهم من ذهب إلى أن اسمها (سُورة) كونها تنفصل عن سورة أخرى، وتتوضح عنها، وقيل لأن القارئ يرتفع بالقراءة من منزلة إلى منزلة كلما قرأ سورة جديدة، كما قيل سميت بذلك لشرفها، وقيل لأنها قطعت من القرآن على حد، وقيل لأن قارئها يشرف بها على أمر لم يكن عنده، وقيل سميت بذلك لتمامها وكمالها...
    وبعد شرح تسمية (سورة)... ننتقل إلى (الحجرات) لنشرح معناها، فالحجرات ليست الغُرَف بشكل عام، كما قد يتبادر إلى الذهن، إنما هي الغُرَف أسفل البيت تحديدًا، لأنها تكون ضيقة للغاية، فإذا ما اتسعت سُمِّيت غرفة، بل إن حظيرة الحيوانات تُسَمَّى بالحُجَرْ، كون المكان المخصص للحيوان كي ينام به شديد الضيق... أما حُجْرَة البيت فتُجمع؛ كذلك؛ على (حُجَر)، كما تُجمع على (حُجُرات) بضم الجيم، و(حُجْرات) بسكون الجيم...

    هذه تقدمة الحديث عن سورة الحجرات ومعانيها، ونتابع وإياكم غدًا إن شاء الله تعالى...



    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 7-6-2018 الساعة 02:11 AM

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    تكلمنا المرة الماضية معرَّفين معنى كلمة (سورة) لغويًا وفقهيًا، ومعنى كلمة (الحجرات)...

    واليوم نتابع وإياكم بإذن الله تعالى...
    كثير منا إذ يقرأ، يهتم فقط بتبيان الحروف وإعطائها حقها، وبالمعنى العام الواضح لما يقرأه، من دون أن ينتبه إلى التفاصيل التي يلزم الانتباه إليها...
    سورة الحجرات بدأت بــ(يا)... و(يا) حرف نداء، يُخاطَب به القريب والبعيد على حد سواء، والمهم أن نعلم أن (يا) تفيد التنبيه... لنتخيل أننا في مجلس، في المدرسة مثلًا، ودخل الأستاذ أو المدير، ثم نظر إلينا، وقال: (يا)... فإننا تلقائيًا ننتبه إليه، لنعلم أمرين: من ينادي منا، وماذا يريد منه... ولذا نرى في القرآن الكريم (ربِّ) (ربَّنا) (اللهمَّ) دون حرف النداء (يا) لأن الله تعالى لا ينبغي التنبيه بحقه... إلا موضعان ذُكر فيهما حرف النداء هذ اقبل مخاطبة رب العالمين {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا}{وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}، وفي الموضعين خرج حرف النداء (يا) عن وظيفته الأصلية، فأفاد الاستنكار لفعل هؤلاء القوم، لا النداء...

    نرجع إلى سورة الحجرات، الله تعالى ابتدأ بالنداء {يا أيها الذين آمنوا} لنذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه، أنْ إذا سمعنا الخطاب القرآني {يا أيها الذين آمنوا} فهو إما خير تُؤمَر به، وإما شرتُنْهى عنه، فأرعه سمعك، واستمع إليه لما فيه من الخير.
    وبقراءتنا الآية الكريمة، نرى أن بعد هذا النداء، نهي عن أمر: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}... فما هو هذا التقديم؟
    التقديم هنا له معنيان، الأول هو السَّبْق، أي لا تحاولوا أن تستبقوا بأوامر الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كمن يستبق شهر الصيام رمضان فيصوم أيامًا قبله ويصلها به... أو يصوم يوم الشك... فهذا ليس من باب التقوى بل من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نهينا عنه...
    (لا تنسوا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذُكِر، خوفًا أن يقع أحدنا في وصف أنه البخيل، وأنه قد رغم أنفه، ولما في الصلاة عليه من الحسنات بإذن الله تعالى، ويكفينا أن أولى الناس بشفاعته يوم القيامة أكثرهم صلاة عليه).
    والمعنى الثاني للتقديم، يشمل المعنى ويتجاوزه إلى ما هو أشد وأقسى، فهو ليس مبالغة في أداء الفرائض فحسب، بل إنه كذلك محاولة التلاعب بآيات الله وأوامره ونواهيه، والابتداع في الدين ما ليس منه، كما نرى في كثير من الطوائف الإسلامية اليوم (ولسنا نتكلم عن أحد بعينه)، والمصيبة أن يبدأ من يقدم بين يدي الله ورسوله بالجدال دفاعًا عما يبتدعه في الدين!
    وبعد هذا النهي يأمرنا الله تعالى {واتقوا الله} والتقوى ليست مجرد كلام باللسان، أو أن يقول أحدنا أنا أتقي الله، بل هي إحساس بالخوف والخشية من الله تعالى في حال رأينا أننا في ظرف نستطيع به فعل السيئات ولا أحد يرانا أو يلومنا مثلًا...
    وتُختم الآية ببيان بعض صفات الله تعالى {إن الله سميع عليم}، وفيها التحذير لمن قد لا يستجيب إلى النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم...
    والله تعالى أعلم.



    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 7-6-2018 الساعة 02:14 AM

  5. #4


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    [SUB][SUP]
    [/SUP][/SUB]
    بسم الله الرحمن الرحيم

    نتابع وإياكم، في ظلال سورة الحجرات.
    يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}

    نذكر بالنداء (يا) إنه إما خير نؤمر به، وإما شر ننهى عنه، فوجب أن نعيره انتباهنا... وفي الآية هنا نهي عن مسألتين مختلفتين، الأولى أشد من الثانية، وكلتا المسألتين لها عقاب واحد، فالنهي الأول عن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، الله عز وجل يرشد الصحابة الكرام إلى أعلى درجات الأدب، كانوا يجلسون مع النبي صلى الله وسلم ويتحادثون في أمور دينهم ودنياهم، ولكن عليهم أن يدركوا أنا لمصطفى أعلى منهم درجة ومقامًا، وبالتالي لا ينبغي لأحد أن يرفع صوته أعلى من صوت النبي، وهذا النهي الأول، ومن النهي الأول يأتي التدرج إلى النهي الثاني، فحتى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم كما يخاطبون بعضهم بنبرة الصوت، خطأ عظيم، يلتقي مع الخطأ الأول، بأن كليهما يؤديان بالمؤمن إلى فقدان أجر عمله من صلاة وصوم وزكاة وصدقة وحج وجهاد وأذكار، كل العمل الطيب الذي يأتيه بالحسنات سيذهب هباء منثورًا، في حال رفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى خاطبه كما يخاطب الناس الآخرين بنفس درجة ارتفاع الصوت، لكن الخطأ الثاني يفترق عن الخطأ الأول بأمر، أن الخطأ الأول (رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم) له عقوبة ولكن ترك مثل هذا الخطأ ليس فيه ثواب، لأن الأصل وأدب الحوار والكلام ألا نرفع أصواتنا فوق صوت الآخرين، فما بالنا إن كان من نكلمه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    أما ترك الخطأ الثاني، الذي يُعَدُّ خطأ فقط إن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعَدُّ خطأ إن كان مع سواه، فله ثواب كبير من الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}، ذلك لأن هذا الأمر فيه تكلف من صاحبه ومشقة عليه، أن يخفض من نبرة صوته المعتادة التي يتكلم بها، فقط حين يكلم إنسانًا معينًا، ونلحظ التدرج في الثواب، أولًا المغفرة، هنا البشارة، أن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بنبرة أخف من سواه تغفر الذنوب، وثانيًا الأجر العظيم، وهنا تدرج في رفع المكافأة، فليست فقط المغفرة على عِظَم هذا الأمر، بل إن الله تعالى يزيدنا من فضله أجرًا عظيمًا... وننتبه هنا إلى ورود هذه المكافأة بصيغة النكرة: (مغفرة ) (أجر)، لا المعرفة، وذلك للدلالة على أن المغفرة والأجر هنا غير محددين، بل مفتوحين وواسعين...
    ومسألة أخرى نشير إليها هنا، أن الله تعالى أكد في الآية القرآنية أمرًا مهمًا، فهو لم يأمر المؤمنين بخفض أصواتهم في مخاطبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمرهم بِغَضِّها، قد أخفض صوتي في مخاطبة أحد احترامًا له، وقد أخفض صوتي في مخاطبة أحد، ولكن صوتي لا يحمل نبرة الاحترام، أما غض الصوت، فلا يكون إلا استحياء وتواضعًا، فهو أعم وأشمل من مجرد خفض الصوت.
    ويطرح السؤال نفسه: هل هذا النهي وهذا العقاب وهذا الثواب، كانوا فقط للصحابة رضوان الله عليهم، ولمن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم، لاعتبار أننا لا نستطيع الآن أن نغض أصواتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
    والإجابة: لا، بل هذه الأمور عامة تشمل كل أمة محمد، فهو وإن توفاه الله تعالى، ما زالت سنته وأحاديثه بيننا، وكم من شخص تذكر له ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمر به أو نهى عنه فيجادل ويرفع صوته معترضًا مبررًا لنفسه؟ ألا يدخل هؤلاء في باب (الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي)؟! بلى إنهم يدخلون فيه... كما يدخل في الأجر والثواب من يصمتون إذ يستمعون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن إذا استفسروا عن شيء من كلامه فعلوا ذلك بغضِّ أصواتهم...

    والله تعالى أعلم وأحكم.



    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 7-6-2018 الساعة 02:13 AM

  6. #5


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي


    بسم الله الرحمن الرحيم

    نتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات
    تكلمنا من قبل عن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن ذلك يؤدي إلى إحباط العمل الصالح، وأن غض الصوت في مخاطبته يثيبنا الله عليه مغفرة وأجرًا عظيمًا، ثم تأتي الآية اللاحقة لتبيِّن سبب نزول هذه الآيات:
    {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} وقد شرحنا معنى كلمة (الحجرات) أنها تقع أسفل البيت لضيقها، وبشكل عام هي كل غرفة ضيقة، وكان في تلك الحجرات نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الحجرات، حين أتاه قوم من الأعراب وأخذوا ينادون: يا محمد يا محمد، اخرج إلينا فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين... وقد آذى صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبيِّن لهم ذلك، بل خرج إليهم قائلًا لهم "إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين"، فأخبروه بأنهم من بني تميم وقد أتوا بشاعرهم وخطيبهم للمشاعرة والمفاخرة، فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع إليهم، وطلب إلى بعض صحابته (ثابت بن قيس بن شماس) الرد بالمناظرة عليهم، كما طلب من شاعره حسان بن ثابت الرد على أشعارهم.
    وقد أدى حلم النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وصبره عليهم، رغم أذاهم إياه، إلى إسلام شاعر هؤلاء القوم، (الأقرع بن حابس)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما يضرك ما كان قبل هذا) ثم أكرم هؤلاء القوم وأعطاهم وكساهم، الأمر أدى إلى اللغط عند رسول الله وارتفاع الأصوات، فنزلت الآيات السابقة التي تنهى عن رفع الأصوات فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد وجَّه الله تعالى المسلمين في كتابه الكريم، بعد ذِكره هؤلاء الذين ينادون النبي من وراء الحجرات، فقال {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم. والله غفور رحيم}، فهذا الفعل من هؤلاء القوم لم يكن خطأ فرديًا منهم، بل كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها بدلًا من أبوابها، فكان هذا التوجيه الرباني بإتيان البيوت من أبوابها وعدم الصياح خارجها لأهل البيت، بل الانتظار حتى يخرج من يطلبونه من أهل الدار إليهم، ويؤكد الله تعالى فضله على المخطئين من بني تميم بإيذاء أهل الدار بالصياح خلف الحجرات، بأنه غفور لهم رحيم بهم... وهذا أمر عام، ليعلمه ويتأكد منه كل مخطئ، إن الله غفور رحيم، فلا ييأس من خطئه، ولا يظن أن ذنبه سيهلكه حتمًا، فالشيطان قد يدخل الإنسان من هذه الأبواب، وليتذكر المخطئ الرجوع إلى الله تعالى والاستغفار الدائم.

    ويقول الله تعالى بعد ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في صدقات بني المصطلق، فأساء فهم ما حصل، إذ رأى الحارث بن ضرار الخزاعي، وكان حديث الإسلام، وقد جمع الزكاة من قومه، وانتظر رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه ليأخذ الزكاة، وحين تأخر الوليد خرج الحارث مع قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن ذلك، وإذ رآهم الوليد خارجين وهو في طريقه إليهم خاف وظن أنهم يريدون قتله، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إن الحارث منع الزكاة وأراد قتله. فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أناسًا من صحابته إلى الحارث ليسألوه، فالتقوا قرب المدينة، وأقسم لهم الحارث إنه ما رأى الوليد البتة، ثم أقسم بذلك أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}...

    وفي هذه الآية توجيهات لنا:
    أولًا: ألا نتسرع في إطلاق الأحكام، خاصة الأحكام السيئة، والتي تقلب الحق باطلًا، كما تبيَّن لنا من هذه القصة، فالحارث الذي خاف أن يكون الله قد سخط عليهم، فلم يرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا يستلم الزكاة منهم، وخرج مع أشراف قومه ليستفسر عن ذلك، حوَّل الفهم الخاطئ من الوليد هكذا فعل يوزن بحسنات، إلى جريمة يسعى صاحبه إلى القتل!
    ثانيًا: ألا ننقل كل ما نسمعه من الأخبار عن الآخرين، فلعلَّ من هذه الأخبار خبرًا أساء صاحبه الفهم كما حصل في خبر الوليد والحارث هنا.
    ولننتبه جيدًا إلى خطورة هذا الأمر، الوليد خاف وارتعب، لما أساءه من الفهم، فأصدر حكمه، فوصفه الله تعالى بأنه (فاسق)، في آية تتلى بحقه حتى تفنى الأرض، ولا يجوز لأحد أن يُدخِل نفسه في هكذا وصف، حتى لو لم يعد القرآن ينزل، فمن سيحتمل أن يراه الله تعالى فاسقًا، وكل ذلك لأن لسانه في نقل الأخبار والشائعات طويل؟!
    ثالثًا: قد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أفضل تربية، بهدي القرآن وأوامر الله تعالى ونواهيه، وإذا ما نظرنا، لغويًا، إلى الآية، لرأينا استخدام حرف الشرط "إن" {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ}، و(إن) هذه للأمر قليل الحصول، أو مستبعد الحصول، أو حتى مستنكر حصوله... وبالتالي هذه الأمور يجب أن تكون نادرة في المجتمع الإسلامي، فإياك ثم إياك أن تكون من الندرة التي تسعى في الشر، حتى لو كانت النوايا طيبة.


    هذا والله تعالى أعلم.

    ونتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.


    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 7-6-2018 الساعة 02:18 AM

  7. #6


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    بسم الله الرحمن الرحيم


    نتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات
    يقول الله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزَيَّنه في قلوبكم وكَرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلًا من الله ونعمة والله عليم حكيم}.
    الخطاب يتوجَّه به الله تعالى إلى المؤمنين، في صيغة الأمر: (اعلموا) وذلك للتذكير الدائم بهذا الأمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود فيما بينهم، وإذًا الأمر أمره، فهو لا ينطق عن الهوى، وما يقوله وحي من رب العالمين...
    وهذا الأمر لا ينفي مبدأ إبداء الرأي ومبدأ المشاورة على الإطلاق، فالله تعالى يقول: {وأمرهم شورى بينهم}، ثم هناك مواقف مرَّت في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم شاور فيها أصحابه وأخذ برأيهم، ولكن التنبيه هنا إلى أن الأمر إذا تمَّ عزمه، فلا جدال ولا إلحاح ولا إصرار في الرأي، كما حصل في معركة أحد، حيث ارتأى النبي صلى الله عليه وسلم على القتال داخل المدينة وجادل بعضهم برأي مخالف.
    ولننتبه، لغويًا، إلى حرف الجر (في)، والذي خرج عن دلالته الحقيقية، ليؤدي دور ظرف المكان (فيكم=بينكم)، ولكن الله تعالى قال (واعلموا أن فيكم رسول الله) تحببًا إلى المؤمنين، وزيادة في الألفة فيما بينهم، لأن (في) تعني هنا الحميميَّة، تعني الود والمحبَّة، فرسول الله (فيكم) وليس (بينكم) فحسب، لو أنَّ اللفظ القرآني (واعلموا أن بينكم رسول الله) لما دلَّ على أكثر من وجوده صلى الله عليه وسلم بين الصحابة، ربما يكون هناك محبة وألفة وربما لا، أما (فيكم) فهي دلالة المحبة والألفة فيما بينهم.
    وإذًا، لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليهم في كثير من الأمر، لوقعوا في (العَنَت)، والذي يعني الخطأ، يعني الإثم، يعني المكابرة مع العناد، يعني التفرق والبغضاء، كالعظم الذي يُجبَر بعد كَسرٍ ثم يُكْسَر... وليس في هذا انتقاص من قدر الصحابة، إنما هنا التنبيه إلى تنوُّع الآراء وتعددها، وكل يتكلم بما يراه الحق خدمةً لهذا الدين، ولكن التنبيه لا تجادلوا حين يعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، لأن أمره يتجاوز التفكير البشري إلى وحي رب الأرض والسماء.
    وبعد الخطاب بما فيه من الترهيب بالعَنَت، تأتي المودة والرحمة، فيذكر الله الصحابة بأنه حبَّب إليهم الإيمان، ليس هذا فحسب، بل جعلهم يرونه حسنًا محببًا في أنفسهم، لو حبَّبه إليهم فقط، لأحبُّوه لكن ربما أحبُّوا معه أمورًا أخرى قد تخرج عن الإيمان وتناقضه، لكن الله تعالى ينفي عنهم هذا نهائيًا، لقد زيَّن الله الإيمان في قلوبهم، فلا ينتقص منهم أحد، لأنهم المؤمنون حق الإيمان، ويتابع الله التفصيل في الآية، ليرتقي بمنزلة الصحابة مكانًا ساميًا لا يُدانى، هم يشيرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتمرون بأمره ولو خالف أهواء بعضهم، هم يحبَّون الإيمان، هم يرونه حسنًا رائعًا، وهم، كي لا يحاول أحدا لشكَّ بهم، يكرهون الكفر، بل إنهم بدرجة أرفع وأعلى في تقواهم، يكرهون الفسوق كذلك، بل حتى المعصية لا تحلو في أعينهم، لأنهم المؤمنون حقًا، فيكرهون المعصية كما يكرهون الفسق الذي هو أكبر من المعصية، كما يكرهون الكفر الذي هو أكبر من الفسق، كل هذه المنكرات في درجة واحدة، يكرهها الصحابة ويبتعدون عنها، ولذا وصفهم الله تعالى: {أولئك هم الراشدون}... ولو كان الكلام (أولئك الراشدون) لكان تامَّ المعنى، اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وخبره. ولكن الفصل أتى بضمير الفصل أو ما يسمى بضميرالعماد (هو): (أولئك هم الراشدون) زيادة في التوكيد، وإفادة معنى الحصر، أي أنه لا راشد سوى من اتصف بهذه الصفات جميعها، وإلا فإن صفة الرشد تنتفي عنه، ومن اتصف بهذه الصفات فذلك فضل من الله ونعمة يؤتيهما من يشاء بعلمه وحكمته، فليحمد من أوتي هذه الصفات الله تعالى عليها دائمًا وأبدًا...
    ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته، فهو فينا الآن كذلك، وإلى يوم القيامة، بما ترك لنا من الأخلاق الكبرى، والرحمة التي تشمل العالمين، بما تركه لنا من أوامره ونواهيه بأحاديثه الشريفة، وخاب وخسر من يعترض على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لأنها لا تناسبه، مثلنا مثلهم إن أطعناه في تحقق الرشد، إذا ما اتصفنا بباقي الصفات، ولا نبلغهم في مكانتهم، ومثلنا مثل من يصيبه العَنَت إذا خالفناه، ونعوذ بالله من ذلك...

    ونتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات بإذن الله تعالى.



  8. #7


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    نتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات، على أمل أن يتقبلها الله تعالى صدقة جارية عن روح أمي رحمها الله...
    يقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}
    هل يمكن أن يقتتل المؤمنون فيما بينهم؟ نعم، ديننا دين واقعي وقد أنزل إلى البشر لا إلى مجموعة من الملائكة، ومن الممكن أن يدفع الغضب أو سوء التقدير بعضهم إلى مقاتلة غيرهم، خاصة حينما يسمحون للغريب الحاقد وصاحب الفتنة بالدخول فيما بينهم، وينخدعون بكلامه المعسول، دون أن يرجعوا إلى الدين الحق فعلًا، وحين يسود الجهل فيما بيننا، فمن الممكن فعلًا أن يوهمنا بعضهم أننا نحن وحدنا على صواب، وكل من سوانا مبتدع فاسق جاهل، إلى ما تلك الصفات السلبية، ليؤجج نار الحقد فيما بيننا، وحتى لو كنا نحن على الصواب، فإن علينا أن لا ننسى قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وإن رجعنا إلى تاريخنا، فسندرك أن أولى بوادر الفتن كانت حينما اندس يهودي متظاهر بالإسلام بين المسلمين ليبث فيهم سمومه...
    وفي صحيح الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب يومًا ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما وأرضاهما، فجعل الرسول ينظر مرة إلى الحسن وأخرى إلى الناس، ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، وقد تحقق ذلك حينما أصلح الحسن بين أهل الشام وأهل العراق، ولنلحظ وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للفئتين المتقاتلتين (فئتين عظيمتين من المسلمين).
    وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم حدث نوع من التقاتل، بسبب قلة أدب عبد الله بن أبي، وكان زعيمًا في قومه، فلما أتى الإسلام، تظاهر به، حقدًا وكرهًا، وقيل مرة للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتَ عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي راكبًا حماره، ومشى خلفه مجموعة من المسلمين، فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن أبي، قال له الأخير: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فردَّ رجل من الأنصار: "والله، لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك" فغضب رجال ابن أبي، وحصل تضارب بينهم وبين رجال من الصحابة، فأنزلت هذه الآية فيهم. وقيل إنها أنزلت بسبب خلاف بين رجل من الأنصار وامرأته، إذ منعها من زيارة أهلها، فجاء قومها وأخذوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بأهله، فحصل التضارب بينهم، فأنزلت هذه الآية.
    والفيء هنا هو الظل الذي ينبسط بعد الزوال، فكأنه ظل الإيمان وظل الرحمة يعودان إلى النفوس والقلوب، ليبددا وهج الحقد الذي اشتعل بين الناس.
    والعدل في الحكم بين المتخاصمين أمر عظيم، وثوابه كبير، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا". كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وُلُّوا"
    وتأتي الآية اللاحقة لتؤكد هذه الآية ومعانيها، فيقول الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}، أي أصلحوا بين الفئتين المتقاتلتين، وتشمل أي خصام بين المؤمنين، أن نسعى إلى إنهائه صلحًا فيما بينهم، لا تقاضيًا، وأما التقوى فهي في هذا الأمر، وفي كافة الأمور الدينية والحياتية على حد سواء.
    هذا، والله تعالى أعلم...

    ونتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.

  9. #8


    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    المـشـــاركــات
    51
    الــــدولــــــــة
    الكويت
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: سورة الحجرات، تفسير لغوي وشرعي

    جزاك الله خير الجزّاءوبارك الله فيك

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...