بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..





.

.

.







(الفصـل الأول)




أنا طبيب شرعي..طبيب...طبيب نفساني!

قصتي تبدأ منذ ولادتي طبعًا – أو كما أعتقد - , لكن سأتجاهل كل مراحلي العمرية وسأبدأ منذ النهاية, لأن البداية دائمًا ما تكون صعبةً بطريقةٍ ما.

امتهنت الطب الشرعي في الجيش فترةً من الزمن, وكان للحرب تأثيرًا بالغًا, ففي بداية الحرب والفوضى انتشرت السرقات الضخمة, والجرائم الفظيعة الوحشيّة, والعصابات وغيرها.

وفي تلك الفترة المضطربة تمكنت من أخذ شهادة الشرف في الطب, بعدها انتقلت من بلدي إلى بلد آخر بعيد بعد أن أصبحت غاية في الثراء, وافتتحت مقرًّا خاصًّا بي وحدي, وأسميته مقرّ الطبيب الحاصل على الشرف للحالات النفسية.

وكان يأتيني زبائن قليلون بين الفترة والأخرى.

وكنت أركّز على نفسيات المجرمين, وبالأخص الذين لا يدركون أنهم (يجرمون بحق الآخرين).

ولم أوضّح يومًا أني أريد مقابلة المجرمين تحديدًا, لكن كانت تكفيني –أو كما أعتقد- تجاربي الشخصية والعامة مع المجرمين.

بعد فترة من الزمن وأنا ما أزال مجتهدًا في عملي جدًّا, وأنا ما أزال حقًّا أمينًا ومخلصًا في هذا العمل, بدأ اسمي يروج, واشتهرت على نطاقات أوسع, ولم يكن لي اسم محدّد, لأني نازح من الحرب تمكنت من تسمية نفسي أخيرًا بالدكتور شهاب, وأصبحت ألقّب بالشهاب, ومن ثم صارت الشرطة تستعين بي في حل القضايا الإجرامية ودراسة نفسيّات المجرمين وما يخططون له, وكنت أنجح دائمًا, ونجاحاتي تتالى, حتى أصبحت أكتب في الجرائد, وتجرى معي المقابلات, وأنا الآن أتحدث من مقرّي الخاص الذي عدت إليه حتى أفتح قضاياي الأولى, مع زبائني القدماء الذين ما زلت أفتقدهم جدًّا.


"زبوني الأول: الرجل الطويل"
-الساعة التاسعة صباحًا-

بينما كنت أشرب الشاي الساخن وأطالع السماء مع النافذة التي تتطاير ستائرها جراء نفحات الهواء العليل, سمعت طرقًا على الباب فطويت الجريدة بسرعة و وضعتها على المكتب وتوجهت لفتح الباب.

كنت أنوي إلقاء التحية عليه لكنّه كان فزعًا جدًّا؛ لدرجة أنه دفع الباب بقوّة وهو يبتسم باضطراب, جلس على الكرسي ونظر إلي كأنه يقول لي: "تعال", فأتيت مبتسمًا أحاول جاهدًا تلطيف الجو.

وضعت يداي على المكتب وأنا لا أنظر إليه محاولاً إعطاءه الراحة ليتكلم, لكنه ظلّ صامتًا, فبدأت بالحديث:"صباح الخير سيّدي, كيف حالك؟"

نظر إليّ وكأنه كان ينتظرني لأبدأ وقال وهو يبدو كالأبله:"صباح طيّب, أنا؟ لا أدري المهم هو أنت كيف حالك؟"

ابتسمت وأنا أحاول – ما استطعت إظهار تقديري له- :"أنا بخير طالما أنت كذلك"

تلا ذلك فترة صمت قطعتها وأنا أقول بحماسة:"ألم تقرأ جريدة اليوم؟"

اتسعت حدقتا عينيه وهو ينظر إلى الأسفل ويحرّك فمه بحركات غريبة لا مبرر لها, ثم رفع رأسه وهو ينظر إلى شامة على يمين عيني وقال:"اسمع..لا تظن أنّي غير مثقف أو شيء من هذا القبيل, تأكد أنّي أجيد القراءة, وأقرأ دائمًا لكنني.."

وبدأ يجيل نظره في المكان ثم هزّ كتفيه ونظر إليّ والفزع يعود إلى عينيه الجاحظتين:"آه..لكنني لم أشترِ جريدة اليوم"

ابتسمت وأنا أقول له ببساطة:"أتفهم ذلك, لا بأس بذلك حتى أنا لا أشتري الجريدة كل صباح"

كشّر بوجهه ثم ابتسم ثم أعادها؛ وقال:"حقًا أنت تقوم بذلك؟"

قلت له متعمّدًا تأجيل سؤال عن هذا:"أجل أجل يا... اعذرني لم أعرّفك بنفسي أوّلاً أنا محمد"

لم يخبرني عن اسمه وإنما قال مستفسرًا:"طبيب؟"

قلت بتواضع:"أجل سيدي"

كان يرتدي قبعة على رأسه ولم يخلعها منذ أن دخل فقال بعد فترة طويلة وكأنه للتو تذكر:"أعتذر منك أشد الاعتذار"

وخلعها ثم ألقاها مع النافذة بغضب وعاد للجلوس ونظر إليّ بهلع:"آسف لم أقصد...أرجوك..أرجوك..أرجوك...سامحني"

وسقط على الأرض وهو ينتفض كأنما به صرع.

فهرعت إليه وحملته على الكرسي وذهبت لأحضر له ماء.


عندما أتيت بالماء وجدته يغطي وجهه بيديه, فاقتربت منه لأرى ماذا حل به.

لما اقتربت أكثر سمعت نحيبًا مكتومًا فابتعدت عنه و وضعت الكأس بقربه, وتوجهت للنافذة ورفعت الستائر وأنا أقول بمرح:"يا لهذا الجو الجميل!"

سمعت صوته يبلع ريقه قبل أن يشرب الماء فعدت للجلوس في مكاني, وبدأت الحديث –بعد أن عرفت أنه لا يجيد بدأه-"أخبرني ماذا بك يا صديقي؟"

قال بعد أن رشف رشفة من الكأس وهو يعض على شفتيه:"ماذا؟ صديقك؟حقًّا؟" وعاد للنظر إلى المكان حوله بطريقة غير لائقة

لكنني تجاهلت ذلك وأنا أنظر إلى عينيه مبتسمًا:"نعم صديقك, ولمَ لا؟"

قال بعد مدة قضاها في تحريك رقبته إلى أن أظهرت صوتًا غريبًا:"حسنًا يا صديقي..سأخبرك...في الحقيقة ليس لدي أية مشكلة..مجرد...."

اتسعت حدقتا عينيه وهو يبتسم بجنون ثم سكت.

فقلت له:"أكمل.... نعم, مجرد ماذا يا صديقي؟"

تنهد طويلاً ثم قال برجاء:"لا تنظر إليّ! حدثني ولكن لا تنظر إليّ!"
رفع صوته أكثر مكملاً:"أرجوك لا تنظر إلى وجهي"

أسندت رأسي على يداي وقلت له:"لن أنظر إليك خذ وقتك للحديث لا بأس بأن تصمت فترة ثم تعاود الحديث حتى تتذكر جيدًا"

قال بصوت مبحوح:"ذكـريات؟"

قلت له بهدوء:"أجل ذكرياتك, تذكر...فربما علمت ما مشكلتك بالضبط؟"

تنهد طويلاً..وعاد للتنهد مرة أخرى حتى أصبت بالسأم وأنا أجاهد نفسي لأصبر.

قلت له:"هل تريد أن تشرب شيئًا؟"

قال:"لا"

-"تأكل إذن؟"

-"لا"

رفعت رأسي ونظرت له بشفقة وقلت له:"هل تشعر بضيق؟"

بسط يده وظل قرابة الربع ساعة يتأمل راحة يده ثم قال بألم:"نعم..كثيرًا..ودائمًا..دائمًا أشعر بالضيق"

فقلت له:"هل تشعر برغبة في البكاء؟"

أغمض عينيه -فزادتا جحوظًا- ثم قال بألمٍ شديد:"آه..دائمًا ما تنتابني الرغبة في البكاء..أتعلم؟ أبدو غبيًّا جدًّا, أبدو كطفل لا يفقه شيئًا دائمًا ما أتمنى أن يحضنني أحد بقوّة ويجعلني أبكي طويــلاً..."

نظرت إليه بعينين شبه مغلقتين حزنًا وأنا أقول له:"هل في بالك شخص معين تتمنى أن يحضنك وأنت تبكي؟"

أظهر ثناياه بطريقة فجّة وقال:"كلا!"

فسألته بتعجب:"إذن؟"

قال فورًا:"أي أحد أريده أن يحضنني أي أحد!"

حاولت أن لا يلاحظني وأنا أنظر لساعتي لأعلم الوقت؛ ففوجئت لما علمت أنه أخذ من وقتي حتى الآن ثلاث ساعات ونصف!

ابتسمت له وأنا أحاول أن نعود لصلب المشكلة:"يا صديقي العزيز...كلنا نشعر برغبة في البكاء, ولكننا نحاول معًا دائمًا معرفة الأسباب"

قال لي فجأة:"أخبرني هل تسمع أصواتًا غريبة؟"


قلت له مشجّعًا إياه بحماسة:"أنت صديقي حقًّا ! نعم كلنا نستمع لمثل هذه الأصوات.."

قال وهو يدور بالكرسي: :"أنت صديقي حقًّا نعم كلنا نستمع لمثل هذه الأصوات"


عندما تحرّك اكتشفت أن رائحته السيّئة لم تكن وهمًا, فعلاً كانت الرائحة كريهة جدّا لكني لم أقل شيئًا.

بينما كنت أفكّر في ماهيّة مرضه جاءتني ضربة قويّة على رأسي بيده, ولم يعطني الفرصة لأفعل شيئًا بل انفجر ضاحكًا بطريقة هستيرية ولمدة طويلة حتى اختلط ضحكه ببكائه!

واستمر في البكاء بصوت مرتفع وهو ينشج بين فترة وأخرى.

مسحت على رأسي بامتعاض وأنا ألاحظه وهو يغطّي وجهه.
قلت له بعد فترة قصيرة شعرت فيها أنه اكتفى أخيرًا من البكاء:"صديقي..قلّ لي ما الذي تحتاجه"

قال:"انتظريني.. ماذا؟ تحتاجين إلى طعام؟ أم إلى مشروبات مخمّرة؟"

شعرت بيأس وأنا أخفي تنهيداتي بصبر؛ سنعود الآن لنقطة البداية!


فنسيت أني لم أسأله عن أمر مهم:"صديقي..هل لديك ذكريات سيئة في طفولتك؟ أو في مراهقتك؟"

لا أدري ما الذي حلّ تلك اللحظة..لكنّ الصمت خيّم علينا مدة طويلة, حتى ظننت أن هذه مشكلته فعلاً؛ لكنه فاجأني بقوله وهو يهمهم ويخرج كلماته بصعوبة بالغة:"بل.....قل..من الذي...سببت...له بمعاناة!"

في تلك اللحظة أحسست بأنه شخص مريــع, لكنّي تمالكت نفسي وأنا أسأله:"وضح لي لم أفهم!"

رد علي بفم مائل:"الكثيرين يلاحقونني..في كل مكان! كل مكان يلاحقونني ويتجسسون على مكالماتي!!"

نظرت له بشفقة شديدة وقلت له:"من هم؟ من؟"


فقال وعينيه تصيحان جرّاء اضطهاد غير موجود:"هم! هم! ألم تشعر بهم؟ لقد أخبرتني مسبقًا أنك تستمع لأصواتهم"

شعرت بأني أخطأت نوعًا ما عندما كذبت عليه فقلت له:"لا أدري؛ ربما لم أصل إلى المرحلة التي يلاحقونني فيها"

قال بأسف:"نعم..صحيح..أنت مثلي, في البداية مجرد أصوات..لكنهم صاروا يحاصرونني في كل مكان! كل مكان.. تصوّر ذلك!!"

أتذكر أن دواءً اسمه سيروكيل سيفيد معه؛ إذا كان يعاني من الانفصام كما يظهر لي حتى الآن..اهممم...هل أنصحه بها؟...



بينما كنت مشغول البال جاءتني صفعة قوية على وجهي حتى أمالته

كدت أن أصفعه إلا أني تمالكت نفسي وقلت له:"صديقي العزيز الذي لا أعرف اسمه..انتهى وقتي, المعذرة"

ضحك ضحكة مكتومة وهو ينهض من مكانه وقال:"هل تريد التخلص منّي أيّها الوضيع؟"

وخرج, وسمعت صوت الباب وهو يغلق بقوّة شديدة.


و...لم أره بعدها.