بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيم


همسة..
أحسُّ بِك، أراكَ وأسمعك، وخصوصًا هذه الليلة، أشعرُ بكَ إلى جانبِي، أعلمُ ما حلَّ بك، أشعرُ بثقل صدورِ القرار على قلبكَ وقلبِي، أعلمُ يقينًا أنَّكَ تبكِي الآن وبصمتْ، وتحترقُ وبصمتٍ أكبر، وما يؤسفنِي أن من أصدرَ القرارَ هُوَ من أعزِّ النَّاسِ على قلبيْنَا..
عفوًا عبدالله.. سأحكِي عالمنا وأقصّهُ للبشر؛ ليعلمَ الجميعُ أنَّ الحُبَّ الخالد لا تُزعزعه الرِّياح..
سأحكِي وأقص؛ لتبقَى ذكرى إن لم يكتُب لنَا المَولى زواجًا !!
كُنَّا صغيرين كعصافيرَ تلهو فِي سماء سرمديَّة السَّعادة، نلعبُ ونمرح، نبكي ونضحك، نتوقُ لزياراتِ أهلِنا المُتفرِّقة، نأنسُ معًا ونحكِي آمالنَا وأحلامنا، أقصُّ لهَ ما حدثَ لِي عندمَا كنتُ بعيدةً عنهُ، ويُخبرنِي عن كلّ شيءٍ فِي حياتِه، لا يُخفِي صغيرًا ولا كبيرًا، يحترمُ آرائِي ويقدّمها على آرائه، يحبّنِي كثيرًا وأحبّهُ أكثر، حُبًّا طاهِرًا بريئًا كبراءتِنَا.
كانَ مُكتملَ الشّموخِ فِي عينيَ، أجلّهُ وأقدّرهُ رغمَ صِغر سِنِّي، أحبُّهُ أكثرَ من نفسِي، وأودُّ لو بقيتُ معهُ العُمرَ بأكمله. لم أكُن أخبرهُ بمدَى حُبِّي له، ولم يكُن يحسّ أو يشعُر بنبض قلبِي !!
كانَ يسألنِي دائمًا وبإلحاح: "هل تحبينني؟" أجيبهُ بكلّ برودٍ قاتِل: "أنا أحبّ الجميع" فيلوذُ بالصّمتْ، وهُوَ يقودُ صِراعًا عنيفًا فِي قلبِه.
لم تمنَعنَا الأربعُ سنواتٍ الفارقة بيننا من المُكوثِ معًا، ولم يُؤثّر بنَا وُجودُ الأطفالِ من حَولِنا أو التَّفكِير في اللعب معهُم، كُنَّا نجدُ الرَّاحةَ والأُنسَ لِكونِنا معًا، يُضحّي كلٌّ منَّا من أجلِ الآخر ويتلذَّذ بطعمِ تضحيتهِ.
لا أنسَى ذلكَ اليوم الذي بكى فِيه؛ لأنهُ لم يحصُل على قطعة بسكويت، فأسرعتُ وناولتهُ ما أملِك، وبقيتُ أتلذَّذُ باستمتاعِه بأكلِها، وأحسُّ سريانها بجوفِي.. لمجرَّدِ لمحةِ رضىً رأيتُها فِي عينيه..
واليوم..
ها نحنُ نكبُرُ معًا، ويُصبح لكلٍّ منَّا عالمهُ الخاص، ورُغمَ هذا وذاك كا زالَ الحُبُّ ينبض، ومازالتْ نبضَاتُ القلبِ تزدادُ وجيبًا لكلّ ذِكرَى عابرة..
أبحثُ عنهُ عن بُعد، وأتقصَّى أخبارهُ كامِلة، وأقتفِي أثرهُ وأترقَّبُ يوم صُدورِ نتائِج امتحانِه، كلُّ ذلك عن بُعد؛ حتَّى لا يشعُر أحدٌ بِي.
وكانتْ خالتِي تقومُ بدورٍ مُماثِلٍ لِي.. تجمعُ أخبارِي كامِلة، وتوصلها له، كنتُ استمتِعُ بذلك، أحاولُ تجديدَ حياتِي للأفضَل؛ لِأعجِبه أكثر؛ لأنَّنِي على يقينٍ مِن أنَّهُ من يُرسِلها.
كنتُ أستمتِعُ برحلاتِنا للبر؛ لأنَّهَا الرِّحلةُ الوحيدةُ الَّتِي أراهُ فِيها، وأرَى كلَّ تغيِّرٍ يطرأ علِيه، هاقدْ أصبحَ طويلًا أطولَ مِنِّي، وتغيَّر شكله.. خطَّ شاربه، كلّ شيءٍ تغيَّر سِوى تلك العينين النجلاوين ما تزالانِ تحمِلانِ كُلَّ معانِي الحبّ الدّفِين.. لم تتغيَّرَا عليَّ أبدًا، أقرأ من خلالِهمَا قصَّةً أعرفُها جيِّدًا.. وكتبتُ بيدِي فصُولها معهُ.. سطرًا سطرًا..
أرَى فِيها كُلَّ عالمهُ، أشعرُ بارتياحٍ نحوَهُمَا، وذلكَ القلبُ الطَّاهِرُ الذي لن أجِدَ بين زحامِ البشرِ مثله، قلب امرأةٍ فِي جوف رجُل.
أودُّ لَو أحكي لهُ كما كنتُ أحكِي فِي طفولتِي سابِقًا، أودُّ لَو أخبرهُ الآنَ بمدى حُبِّي، أودُّ لو أجلس معه، لكنّ إيمانِي وحُبِّي لله ورسولِه يمنعانِي من فعلِ ذلك.
أكتفِي بذكرياتِنا السَّابِقة، وأستمتِعُ بها، أجلسُ مع القومِ جسدًا لا روحًا، كيفَ لَا؟ ورُوحِي قدْ سافرَتْ إليه، أبَتْ إلَّا أن تعِيشَ معه..
ذات يوم.. اتَّصلتْ أمّهُ على والدتِي تقُول: "عبدالله يُريد آمال"، لم أُصدِّق حِينها ما قالتهُ، بكيتُ فرحًا، وأنارَ الكونُ كلّهُ لِي، حمدتُ الله كثيرًا ولَا أدري وقتها ماذا أفعل، كيف أُعبِّر، كنتُ أعلمُ أنَّنِي ما زِلتُ صغيرة، وأنَّهُ يُريدنِي بعد سنواتٍ لكنَّ كلّ شيءٍ كان جميلًا، يكفيني أنني ما زلتُ حيَّةً فِي فؤادِه، وددتُ لو أصرخُ للعالمِ أجمع أن شارِكونِي فرحتِي !
مرَّتِ السَّنوات تحملُ أحلامنَا معًا، نحلمُ بذلك اليومِ الذي سيجمعُنا تحتَ سقفٍ واحِد، ولم نكُن نحسِبُ للخلافاتِ العائليَّةِ أيّ حساب.
كلّ سنةٍ تؤكّدُ والدتهُ الخبرَ على مسمعِ أمِّي فتجيبُها أمّي بالصَّمتْ؛ لأنَّهَا تعلمُ يقينًا أنَّ والدِي سيرفضه، تعلمُ يقينًا أنَّ هُناك خلافًا دفينًا بينَ والدينَا، فكيفَ سيتمُّ ذلك !
غيرَ أنِّي أصرَّيتُ عليها لتُفاتِح أبي بالموضوع؛ لأطمئِنَ نفسِي.
ففاتحتهُ على خوف؛ فرفضَ رفضًا قاطِعًا، وارتسمتْ جميعُ علاماتِ التَّعجّب والاستفهامِ على مُحيَّاه، واكتفَى أخيرًا بابتسامةٍ سخريّة وتهكّم، فلاذتْ أمّي بالصَّمتِ وتمنَّتْ حِينها أنَّهَا لم تتكلَّم..
أما أنَا فقد بكيتُ بُكاءً مُرًّا على الرّغمِ من توقّعِي لهذا الرّد، واسودَّتْ الدُّنيا في ناظريّ، واستحالَ كلّ شيءٍ إلى سواد، وبعدمَا طفحَ الكيلُ بِي، ولم أعُد أحتمِل.. دخلتُ على والدِي فِي مكتبهِ وكُلّي انفعال، وأخرجتُ كلَّ شيءٍ له..
أخبرتهُ بتمازِج روحينَا مع بعض، وكيف أنهُ برفضه يحاوِلُ فصلها، بكيتُ وأخرجتُ كلَّ ما خبَّأتهُ عنه، وعن العالمِ أجمع، كنتُ أحكِي وعينَايَ تحكِي، ورُوحِي الذائبةُ تقطّرُ أسىً ولوعة..
عندها..
انفتحتْ عينا والدِي عن آخرهمَا ذُهولًا وأسفًا، لم يكُن يتوقَّعُ ذلك الحُبّ الخالد الذي أخفِيه منذُ الصِّغَر، لم يكُن يتوقَّعُ حجمَ الضِّيقِ المُتراكِم على صدرِي من جرَّاء رفضه، لم يكُن يعلمُ أنه يقتلنِي عدَّةَ مرَّاتٍ فِي السَّنة..
نظرَ إليَّ وبُكلِّ حنانٍ وعدنِي خيرًا، فاطمأنَنتُ واستبشَرتُ، و وددتُ حِينهَا لو أخبرتُ عبدالله بكلّ شيء، غيرَ أنَّ مبادئِي تحتّمُ عليّ ألَّا أهاتِفه..
ومَاهِيَ إلَّا أشهرٌ قليلة حتَّى تلاشتْ فرحتِي..
رجلٌ غريبٌ متطفِّلٌ طرقَ باب منزِلنا طالبًا يدي، مُحاوِلًا اقتحامَ مملكتِي وبكُلِّ ما أوتِيَ من قُوَّةٍ وبأس، والأهلُ بينَ مصفق ومعزّ يحاولُ وبكلّ جبروتِه الحُصول عليَّ، مسكين حقًّا لم يكُن يعلم أنَّ قلبِي لن يسعَ له، لم يكُن يعلم أن هُناك من سكنَ وتربَّعَ على عرشِه..
والدِي يُحاولُ بِي، يُحاول نزعَ حبّ عبدالله بكلّ رفق، يتمنَّى لو تناسَيتُه ووافقتُ على الشَّخصِ القادِم، يستخدِمُ كلَّ طرق الإقناعِ بِي، يُحاولُ جذبَ اهتمامِي له، غيرَ أنَّ قلبِي يصرخُ وبقوَّةٍ لا أريد.. لا أريد !!
أمّي تُحاوِل بشتَّى الطّرقِ وتجد بُدًّا من أن تتّصِل بخالتِي؛ لتخبِرَها علَّ ابنها يكفُّ عنِّي، فهاتفتْهَا وكنتُ أقبعُ بجوارِها، لأسمعَ كلّ ما يدورُ بينهُم، وليتنِي لم أجلِس..
ردَّتْ خالتِي وبكلّ برود: "والدهُ أيضًا رفضَ وبكلّ إصرار"
قالتْ أمي والفرحةُ تملؤها: "يعني خلاص!! أنتم لا تُريدونها إذًا !!"
قالتْ: "لا.. مازالَ عبدالله متشبِّثًا بِها لن يتزوَّجَ غيرَها، يُحاوِل إقناعَ والده"
قالتْ أمّي وبكلّ برود: "لا أظنّ والدها سيُوافِق!"
وأغلقتْ الخط.. وأغلقتْ معهُ كلّ أملٍ كنتُ أرسمه، ذهلتُ وصُدمت..
لمَ يُحاوِلُ الجميعَ إبعادَ قلبينِ تحابَّا منذُ زمن !!
لمَ يستمتِعُ الأهلُ بإغاظةِ نفسينِ لم تُجرِمَا بحقّ أحدٍ أيّ إجرام !!
لمَ لا يُقدّرُ البشرُ ذلك الحُبّ الخالِد، ذلك الحُبّ العفيف الطاهر الذي بلغَ من العُمر مَا بلغ !!
ألِأنَّهُما أحبَّا بعضهُمَا حُكم عليهمَا بالإعدام !!
أأنا.. أو عبدالله.. نعلمُ القدر؛ حتَّى نُجنِّبَ أنفُسَنا مثل هذَا العذاب، ونأمرَ قُلُوبنَا أن تكُفَّ، وأرواحنَا أن تنشغِل !!
إلهي لا اعتراض..
اللهمَ لا تجعلنِي متسخّطة..
مرَّت تِلك الأيامُ كأصعبِ ما يكُون، تعلَّمتُ حِينها القهرَ والظّلمَ بكلّ أنواعِه وصُورِه، تعلَّمتُ الصَّبرَ ومرارته، تعلَّمتُ كلّ طُرق البُكاء وأسالِيبها، تعلَّمتُ أشكالَ الحِرمان وتلذّذ النّاسِ بها..
أعلمُ يقينًا أن عبدالله لن يتزوَّجَ غيرِي حتَّى وإن طالَ به الزَّمن، وأملِي بأن الأمورَ ستجرِي على ما يُرام، سأنتظرهُ قريبًا، سأدعو ولن أملّ؛ لأنِّي مؤمنة بقولِ الله تعالى: (( يَمحُوا اللهُ مَايَشَاءُ ويثبت وعِنْدهُ أمّ الكِتاب ))
عبدالله..
هل قرأتَ ما نسجتهُ يديّ؟ هل بلَّلتْ دُموعكَ الورق؟ هل تيقَّنَ قلبك من أني من كتبها؟

ممّا قرأتُ..
-آمال (ضجيج الحلم)-
مخرجٌ اختلجني:
حينَ قرائتِي لها، لا أدري كم استغرقتُ ولا أدري حتّى في أيّ عالمٍ رمتنِي..
لكنّها -وبطريقةٍ ما- أشعلتْ آلامًا فِي أعماقِي، قد تتساءلونَ كيف، ولمَ.. لكنّ جوابِي سيكونُ ما تبادرَ لأذهانِكم..
فحتّى أنا.. لا أدري ما قصّة السّهامِ التي أصابتنِي.. من تِلك الأحرف..
* إهداءٌ لأحدهم ربّما.. بكلّ ما حوتهُ من ألمٍ.. وحُب..