الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ،
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما
علمتنا وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه,
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ..
قال الله تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور }
كثيرة هي الآيات عن الموت والحياة .. ولطالما أشغل الفكر الانساني بمسألة الموت والحياة
وعن ماهية الموت ..!! وماهية الحياة..!!
وأيهما يسبق الآخر ..؟؟
وهل الموت والوفاة مرادفين لمعنى واحد ..؟!
لإنسان موتتين وحياتين .. قال الله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة -28
والترتيب يكون موت فحياة ثم موت ثم حياة .. أي أن الموت يسبق الحياة ..!!
والموت الاول يقصد به حسب تفسير ابن عباس رضي الله عنه
-أنه كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ..
ثم يأتي الحياة الأولى .. وهي حياة الدنيا .. ثم الإماتة وهو الموت الحق ..
ثم الإحياء للحياة الثانية يوم البعث ..
وهي مثل قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...} غافر-11
وقال الضحاك في تفسير هذه الآية عن ابن عباس:
كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون
إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان
[[ وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس
كما قال في الأصنام : { أموات غير أحياء } النحل-21
وقال: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } يس-33
{ نلاحظ أنه ذكر الموت قبل ذكر الحياة ...
منذ سنوات قليلة اكتشف العلماء أن هناك على (الكروموسوم) الصبغي الذي يحمل
(الشفرة) الوراثية للإنسان، توجد نهايتان مختلفتان في شكلهما ولونهما، وعند نهاية كل
(وسيم صبغي) حامل الوراثة. وان هاتين النهايتين تحددان عمر الإنسان وأجله فكلما
انقسمت الخلية تناقص عمر الإنسان حتى تأتي اللحظة التي تموت فيه الخلية، فاثبتوا
أن الموت مخلوق ومقدر قبل الحياة ، وقبل أن يولد الجنين وهذه الآجال محددة على
(الصبغيات) .. والدليل على ما سبق قوله تعالى : { لكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } الرعد-38
وقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } الشمس-7-8-9-10
والحديث الذي رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم :
" يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة ،
فيقول : يا رب أشقي أو سعيدٌ ؟ فيكتبان ، فيقول : يا رب أذكر أو أنثى ؟ فيكتبان ،
ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، تم تطْوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص " .
وهو قدر الله المكتوب على الإنسان { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } الرحمن-26
وهو السلاح المرعب الذي قهر الله به الجبابرة والطاغين .. وكل نفس حي يذوق الموت
دون استثناءات .. قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } العنكبوت-57
وما الموت الا مصيبة على بني ادم بكل ماتحمله الكلمة من معاني الإصابة بذات النفس
وهالة الخوف الكبير التي تسيطر على الإنسان بمجرد وقوع الحدث
قال تعالى: { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } المائدة-106
حياتنا محسوبه ومعلومه من قبل الله عز وجل ونحن فيها في اختبار وامتحان ..
وما الموت الا اتعاظ والرجوع الى الله .. قال الله تبارك وتعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } الملك-2
قال القرطبي: (قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعانق
الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار).
إذاً ندرك أن الحكمة من خلقه ابتلاء وامتحان والأهم لفصل الروح عن الجسد لإنتقاله من دار
العمل إلى دار الجزاء حيث توفى كل نفس ما كسبت.
قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } آل عمران-185
قال تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } الزمر-42
جاء في لسان العرب (مادة وفي): تُوُفِّيَ فلان وتَوَفَّاه الله إذا قَبَضَ نَفْسَه، وفي الصحاح:
إذا قَبَضَ رُوحَه، وقال غيره: تَوَفِّي الميتِ اسْتِيفاء مُدَّتِه التي وُفِيتْ له وعَدَد أَيامِه وشُهوره
وأَعْوامه في الدنيا .. ومن ذلك قوله عز وجل: { الله يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِها }
أَي يَسْتَوفي مُدَد آجالهم في الدنيا، وقيل: يَسْتَوْفي تَمام عدَدِهم إِلى يوم القيامة. وأَمّا تَوَفِّي
النائم فهو اسْتِيفاء وقْت عَقْله وتمييزه إِلى أَن نامَ.
{وفــــــــاة صغــــــــرى ..
فهي التي تكون عند المنام، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَم مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } الأنعام:60
ويشبه ذلك ماجرى لأصحاب الكهف حيث لبثوا في كهفهم ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعا وهم
نائمون وبما ان النائم يوقظه الصوت فقد ضرب الله على آذانهم حجابأ يمنع عنهم الصوت
في تلك السنين كلها قال تعالى: { فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا*ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } الكهف-11-12
ولعل من هذا القبيل ماجرى لـ عيسى - عليه السلام قوله تعالى : ( يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) آل عمران-55
وفي ( شرح الواسطية ) للعلامة ابن العثيمين رحمه الله:
( يَا عِيسَى ) خطاب من الله ـ تبارك وتعالى ـ لعيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ( إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ ) الذي عليه الأكثر أن المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) الزمر-42
{وفــــــــاة كبــــــــرى ..
لا حياة بعدها إلا حياة الآخرة، فمن مات في الليل وهـو نائم فقد انتقل من وفاة صغرى
وهي النوم الى وفاة كبرى وهي الموت كما يفهم من قوله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } زمر-42
وهذه دلالة على أن النوم أخو الموت، إلا أن النفس تعود إلى النائم فيعود إلى الحياة،
أما الميت.. فلن تعود الروح إليه لأنه قد بلغ أجله.
وَقَالَ بَعْض السَّلَف: يُقْبَض أَرْوَاح الْأَمْوَات إِذَا مَاتُوا وَأَرْوَاح الْأَحْيَاء إِذَا نَامُوا فَتَتَعَارَف
مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَنْ تَتَعَارَف، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح
الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
( كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون ).. فالله تعالى يقبض الروح في
حالتين: حالة النوم وهي الوفة الصغرى، وحالة الموت وهي الوفاة الكبرى..
الحياة الدنيا هي تلك الدار التي يجمع فيه الإنسان بين النفس والجسد .. وبتفاعلهما تكمنُ
خلافةُ الإنسانِ لله تعالى ، وتكمُنُ ماهيّةُ حملِ الأمانةِ التي تعهّدَ الإنسانُ بحملِها ..
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.. ودار ابتلاء وفناء ..
والحياة الآخرة هي دار الجزاء والبقاء .. قال تعالى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ
وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت-64
إن الحياة الدنيا ما هي إلا دار استخلاف ..
استخلف الخالق سبحانه الإنسان على هذه الأرض لمدة محدودة، وأجل معلوم، لمعرفة
طاعته من معصيته، ولتمييز المؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي ، حتى يكون الجزاء
في الآخرة على ما قدم الإنسان من عمل في الدنيا.
وجعل كل ما في الدنيا أداة من أدوات الامتحان, ولأن الامتحان هو المقصود من الحياة
فإن الله لم يرغم الناس على عبادته بل استخلفهم على الأرض ، وأرسل إليهم رسلاً
ورسالات، وطلب منهم أن يخضعوا لأمره ، وأن يطيعوه ويعبدوه باختيارهم، في المهلة
المعطاة لهم على الأرض. قال تعالى: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ… ﴾ الكهف-29
إذا الدنيا وسيلة للآخرة .. والآخرة عاقبة لأعمال الدنيا ..
دائماً الخطب والدروس والمحاضرات تتحدث عن الموت والموت فقط ..
وتهمل جانب الحياة .. ولكن قبل أن نموت علينا أن نعيش وقبل أن نرحل علينـا أن نبني
وأن نعمـر وقبل أن نودّع الحياة علينا أن نترك أثراً جميلا وذكراً حسناً من عمل صالح
وخُلُق نبيل ومشروع نافع وذرية طيّبة ومؤسسة رائدة وكتاب مفيد ونحو ذلك من صنوف
البر والإحسان ..
إن الحياة في سبيل الله أعظم من الموت في سبيله, لأن الحياة في سبيله سبحانه، طويلة
وجميلة فيها علم وعمل، ومعتقد وأخلاق، وأخذ وعطاء، ودنيا وآخرة، وحقوق وواجبات
إن الأبرار .. وعلى رأسهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، بنوا الحياة وشادوا
الحضارة وأسسوا القيم الراشدة وبنوا صروح المعرفة ...
أما أرسل جيوش الفتوح تنشر العدل والأمن والإيمان في العالم؟
أما سار الخلفاء بعده يواصلون مسيرة الإعمار والبناء ونشر ثقافة الحب والسلام؟
والقرآن دعا إلى حياتين ومشهدين ومرحلتين للحياة في سبيل الله والموت في سبيل الله:
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل:97
لذا علينا أن نتبع الخطا ونترك حياةً جميلة وحضارةً مباركة كما تركها أجدادنا لنا ........
د. عائض القرني
على رغم ما يتصف به الموت بالرعب والمصيبه .. وما قد يترتب على نفس الإنسان
من هلع وجزع بذكر الموت إلا أن للموت لحظات جميلة .. وهي للمؤمن خاصة ..
يبتدأ بخلاصه من الدنيا الزائلة ..
كما أنه يرى ملك الموت وملائكة الرحمة بيض الوجوه وبصوره حسنة, ويخرج روحه
بكل يسر وسهوله, ويفوح من كفنه رائحة كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ..
ويفتح باب للجنة في قبره فيأتيه من ريحها و طيبها ، فيفسح له في قبره مد بصره
وأجمله فأجمله لقاء الله عز و جل ..
قال تعالى : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } العنكبوت-5
فما دام أن الموت وارد لا محالة وواصل لا شك فيه، فعلى المسلم أن يتهيأ لهذا الموت،
فإن سعادة المسلم، أن يعيش حميداً وأن يموت شهيداً ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيـــــــــــراً ...
المفضلات