كان مصطفى محمود ينكر بشدة وصفه بالملحد فيقول :
"أنا عمرى ما شككت فى وجود الله سبحانه وتعالى.. وأنه الواحد الأحد القهار.. ولم ينتبنى الشك مطلقاً فى القدرة الإلهية وأنها تدير هذا الكون الكبير من حولنا وأن هذا الكون باتساعه الكبير هو خير برهان ودليل على وجود الخالق الأعظم فهو يفصح ويثبت ويبرهن بل يهتف (لا إله إلا الله محمد رسول الله".
إنمــا كان شكه ومبعث تساؤلاته وقلقه في التخيير والتسيير، والفناء والخلود، والجنة والنـار.. وهو ما اتخذه الفقهاء دليل كفره.
وكان إبان عمله كطبيب كثيراً ما يفكر أن هذه لم تكن البداية، فالبداية وقت ماكان طفلاً تجد أصوات الشيوخ والدجالين لأذنه مجالاً فتقنه بكذبهم وتلفيقهم فيقول : "لماذا نستقبل منذ مولدنا كل الأفكار كمسلمات يجب أن نرضى بها؟! لماذا نقنع بكل ما يدرس ويعلم لنا من الكبار؟! هل هم علماء وكلامهم يقين؟! هذه هى بداية الشك التى تحدث عادة لأى أحد فى نفس مرحلتى وظرفى ".
وعندمـا ذكر مصطفى محمود أن إلحـاده كان صحيـاً، فليس يقصد إلحـاد أفرادٍ أرادوا أن يلقوا بفروضهم الدينية وراء ظهورهم، ولا أن يريحوا أنفسهم من إيلام ضمائرهم لهم..
إنمــا كان إلحــادٌ يقصدُ اليقين، وبحثٌ يؤكد ما يعتقد للوصول إلي إيمــانٍ كامل !
ومرحلة الشك هذه مر بِـها كل المفكرين والفلاسفة من قبله، من إفلاطون الإغريقي إلي ديكارت صاحب مبدأ " أنـا أُفكر إذن أنـا موجود "..
وكذلك من العلمـاء المسلمين الشيخ ( الغـزالي ) فاقترب منه (مصطفى محمود) في كتابه ( المنقذ من الضلال ) فيقول ( الغزالي فيه ):
" كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبى وديدنى، من أول أمرى وريعان عمرى، غريزة وفطرة من الله وضعتا فى جبلتى، لا باختيارى وحيلتى، حتى انحلت عنى رابطة التقليد، وانكسرت علىّ العقائد الموروثة على قرب عهد الصبا".
وإن كانت حالة الشك التي انتابت الغزالي لم تتجاوز ستة أشهر فقد امتدت مع المفكر ( مصطفى محمود ) قرابــة الثلاثين عامـاً جاب خلالهــا قبـائل وثنية، وبدائية كالــ " النكا " و " نيام نيام " و " طوارق " .
قرأ فيها كل ما كتب فى الفلسفة وعلم النفس بدءاً من سقراط إلى أفلاطون وأرسطو وهيجل انتهاء بكارل ماركس ووليم جيمس، وتعمق فى قراءة الأديان من أول الفيدات الهندية والبوذية والزرادشتية وأخذ ذلك مجالاً طويلاً معى.. رحلة طويلة بينى وبين أركـان الأرض الأربعة، انتهت بشاطئ الإيمان..
أحسست بعدها فى النهاية أن القرآن الكريم جامع مانع.. تناول كل شىء فى هذا الوجود، ويعطى الإجابات النهائية لكل المسائل والقضايا التى كانت تحيرنى وتشغل عقلى، وليس هذا فقط ولكن القرآن يضم فى عباءته كل الأديان والفلسفات وخلاصتها.
فبدأ يفكر في كتابه الثاني "القرآن محاولة لفهم عصري"، الذي استعرض فيه بعض اللمحات العلمية في القرآن، وحتى لا يكرر نفس الأخطاء التي حدثت مع الكتاب الأول ( الله والإنسان ) ففكر في استشارة المفكرة (بنت الشاطئ) قبل إصدار الكتاب وأهداها نسخة منه وقرأته وباركته وطلبت منه فقط تغيير عنوانه من "محاولة لتفسير القرآن الكريم" وبالفعل غير من العنوان..
وطبع الكتاب ففوجئ مصطفى محمود بمئات المقالات من (بنت الشاطئ) نفسها في جريدة (الأهرام) تسبه فيها وتنقد كتابه فشعر أن الأمر خرج إلى مجال آخر هو المنافسة حيث يعتبر كثير من المتدينين ورجـال الأزهر أن القرآن ومحاولة فهمه حكر عليهم لذا فإن ظهور مثل هذا الرجل ومحاولته التطاول على تفسير القرآن أو فهمه يجب أن يتم الوقوف لها بالمرصاد وعندما كان يرد عليهم بقوله ما قولكم في الصحابة الأجلاء من (أبو بكر الصديق) و( عمرو بن الخطـاب) فيقولون لا غبار عليهم.. يعنى لم يتخرجوا من الأزهر الشريف ومع ذلك تأخذون العلم عنهم فكانوا يصمتون!
وكانت أكبر أزماته وآخر مواجهاته بمعركة الشفاعة..
وقد بدأ كلامه عنها بأنها حقٌ لا شك فيه، ولكن الله تعالى يقول ""قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (الزمر/ الآية: 43) فاستنتج أن عمل الإنسان هو شفيعه وأنه لا وسائط بين العبد وخالقه في الشفاعة مستنداً لقوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ" ( الرحمن / من الأية 39 - إلي الأية 42).
فالعمل إذن هو ما يجعل للمسلم الحق في نيل الشفاعة لا وسائط ولا أولياء !
الأكثرُ إثارة للدهشة أنه اعتمد على آراء كبار العلماء وعلى رأسهم الإمام ( محمد عبده)، لكنهم حمَّلوم الخطيئة كاملة !
فهوجم الرجل بألسنة حداد وصدر 14 كتابا للرد عليه على رأسها كتاب الأستاذ (محمد فؤاد شاكر) أستاذ الشريعة الإسلامية، كان ردا قاسيا للغاية دون أي مبرر.. واتهموه بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم!
تقريبا لم يتعامل مع الموضوع بحيادية إلا فضيلة الدكتور نصر فريد واصل عندما قال:
"الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الإطلاع والغيرة على الإسلام فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علقت بها وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعا عن الدين".
كانت محنة شديدة أدت به إلى أن يعتزل الكتابة إلا قليلا وينقطع عن الناس حتى أصابته جلطة مخيه عام 2003 وعاش منعزلا وحيدا.
المفضلات