الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذه قصة فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدًى، فربط على قلوبهم وثبّتهم فسمت نفوسهم بالتوحيد على حطام الدنيا الزائل لما رأوا طريقًا إلى الشرك وآثروا حياة الكهوف في عز التوحيد على حياة القصور في ذل الشرك، وبصدقهم وإخلاصهم نشر الله عليهم من رحمته وأنزل عليهم سكينته وحفظ أجسادهم من الفناء، سنين عددًا وبعثهم من مرقدهم ليكونوا آية من آياته وعبرة للأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين.
ونحن نبدأ معك قصتهم كما ذكرها لنا القرآن الكريم إجمالاً وتفصيلاً مستعينين بالله رب العالمين في الإجمال والتفصيل، وستكون وقفتنا الأولى بعون الله بين القصة والسورة.
أولاً: بين القصة والسورة:
لم يذكر المولى عز وجل قصة أصحاب الكهف إلا في سورة الكهف، ولم أقف على تسمية للسورة بغير هذا الاسم، فقد وردت تسميتها فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة «الكهف»، وقد جاءت هذه التسمية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال» [مسلم 809]. وفي رواية الترمذي: «من آخر الكهف». وكذلك جاء في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري تسميتها بهذا الاسم.
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها سورة أصحاب الكهف، إذن السورة تدور تسميتها بين الكهف وأصحاب الكهف، ولم يرد لها اسم ثالث فيما أعلم،
فهل هناك علاقة بين اسم السورة وبين قصة أصحاب الكهف؟
أقول: نعم، وعلى الرغم من ورود قصص أخرى في السورة مثل قصة صاحب الجنتين، وقصة ذي القرنين وقصة موسى والخضر، ومع ذلك سُميت السورة باسم الكهف أو أصحاب الكهف لتبقى العلاقة وثيقة بين اسم السورة وقصة أصحاب الكهف وإن كان هذا لا يمنع صلة السورة أيضًا من خلال أهدافها بما ورد فيها من قصص أخرى.
ويبقى السؤال: ما أبعاد العلاقة بين سورة الكهف وقصة أصحاب الكهف؟ ونجيب عن هذا التساؤل- بعون الله- فيما يلي:
1- إن موضوع سورة الكهف يقوم على تصحيح علاقة الناس بربهم الذي خلقهم وبحياتهم التي يعيشونها وآخرتهم التي يعودون إليها.
2- وهذا البناء الشامخ يقوم على محاور ثلاثة:
أ- تصحيح عقيدة الناس بربهم.
ب- وتصحيح نظرتهم إلى دنياهم التي يعيشون فيها وآخرتهم التي سيعودون إليها.
جـ- تصحيح القيم والأخلاق التي يتعاملون بها.
3- وعند التأمل نجد قصة أصحاب الكهف تلتقي مع السورة في هذه المحاور على النحو التالي:
تبدأ السورة بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا» [الكهف: 1- 5].
وختمت السورة بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» [الكهف: 110]، وهكذا يتساوى البدء والختام في إعلان توحيد رب العالمين، وإنكار الشرك وإثبات النبوة والرسالة.
وهكذا ما نلاحظه بوضوح في قصة أصحاب الكهف، فقد أعلن الفتية إيمانهم بالله رب العالمين، وأنكروا أن يتخذوا من دونه أولياء، فقالوا: «رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا» [الكهف: 14]، وفي التعقيب القرآني على القصة قال الله تعالى: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا» [الكهف: 26].
4- أما في مجال تصحيح عقيدة الناس بربهم فقد أنكرت سورة الكهف على الذين يقولون على الله بغير علم، قال الله تعالى: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا» [الكهف: 4، 5]، وفي قصة أصحاب الكهف قال الفتية عن قومهم: «هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ» [الكهف: 15]، فاستنكروا قول قومهم على الله بغير دليل واضح.
5- وفي مجال تصحيح القيم والأخلاق وربطها بالعقيدة:
أ- قال الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا» [الكهف: 7، 8].
فزينة الدنيا التي تبهر قلوب الضعفاء إلى زوال، والباقيات الصالحات خير ثوابًا وخير أملا.
ب- وحياة المرء بعقيدة صحيحة ولو في كهف خير من حياته بين القصور وربات الخدور بغير رصيد صالح من إيمان أو عمل، ومن هنا آثر الفتية الذين آمنوا اللجوء إلى الكهف هربًا بعقيدتهم الصالحة من قصور كانت تهدد عقيدتهم.
وكما ذكر الله عنهم وهم يقولون بعد اعتزالهم قومهم في العقيدة، وأرادوا كذلك أن يعتزلوهم في المكان؛ حرصًا على عقيدتهم، فقال بعضهم لبعض: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا» [الكهف: 16].
فكهف ضيّق بعقيدة صحيحة في رحاب رضوان الله خيرٌ من قصور شاسعة بعقيدة فاسدة تستجلب سخط الله.
ونكتفي بهذا القدر في بيان العلاقة الواضحة بين سورة الكهف وقصة أصحاب الكهف في تصحيح العقيدة وبيان المنهج الصحيح واستقامة السلوك.
ثانيًا: عرض مجمل للقصة:
قال الله تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا» [الكهف: 9- 12].
في هذا الإيجاز البليغ الذي يُعدُّ مقدمة للقصة يرسم لنا القرآن معالمها الرئيسة فهي قصة عجيبة ولكنها ليست بأعجب آيات الله، ففي كون الله وفي خلقه سبحانه عجائب لا تُحصى قديمًا وحديثًا، وفي المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، كم من آيات عجيبة يمر عليها المكذبون وهم غافلون؟!!
والخطاب وإن كان للنبي-صلى الله عليه وسلم – ولكن يُراد به قومه الذين كذبوا به، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عن قصة هؤلاء الفتية الذين كانوا في الزمن الغابر، قال العلامة ابن عاشور – رحمه الله-: «وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب»، وقال: وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبَر. اهـ.
ولعله هنا يشير – رحمه الله – إلى ما ورد في أسباب النزول، وقد ذكره كثير من المفسرين وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول أن المشركين لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة يسألونهم رأيهم في دعوته، فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث؟ فإن أخبركم فهو نبيّ، ومن هذه الثلاث قالوا لهم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم...
وبغض النظر عن صحة هذا الخبر فإن القصص القرآني لا شك مَعْلم من معالم النبوة، ودليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن ربه، فكيف للنبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يغادر مكة قبل بعثته إلا مرة واحدة ولم يجلس ليتعلم على يد أحد أن يعرف أخبار أهل الكهف الذين كانوا في عهد الدولة الرومانية وكانوا على النصرانية؟ أو كيف به أن يعرف أخبار من سبقهم ومن لحقهم إلا عن طريق وحي من ربه، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن إخباره بقصص الأولين والآخرين: «تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» [هود: 49]. فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على علم بهذا القصص، ولم يكن كذلك قومه على علم، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبره عن ذلك الغيب، وأطلعه عليه؛ تصديقًا لما بين يديه، فهو سبحانه اقتضت حكمته أن يُطلِع رسله أو بعض رسله على شيء من الغيب؛ عونًا لهم في إبلاغ رسالتهم وإتمام دعوتهم، قال تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا» [الجن: 28].
والكهف: هو الشق في الجبل أي (الغار)، والمراد الكهف الذي أوى الفتية إليه، والرقيم: قيل اسم كلبهم، وقيل: اسم الجبل أو اسم القرية التي خرج منها أولئك الفتية، ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب هو الرقيم بمعنى مرقوم أي مكتوب، وهو اللوح الذي كُتبت فيه أسماؤهم وقصتهم أو الكتاب الذي كان معهم وفيه عقيدتهم، والله أعلم.
أما تفاصيل قصة هؤلاء الفتية وعددهم الذي اختلف الناس فيه اختلافًا كبيرًا، وكذلك مدة مكوثهم قبل بعثهم، كل ذلك يقصه الله تعالى علينا بالحق، قال تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» [الكهف: 13].
ونستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
اللهم أحينا مسلمين ، وتوفنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ..
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ..
ونسألك قول الحق في الرضا والغضب ..
ونسألك القصد في الفقر والغنى ..
ونسألك الرضا بعد القضا ، وبرد العيش بعد الموت ..
ونسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ..
اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين يا ربَّ العالمين ..
اللهم إنك ترى ما حلَّ بأخواننا في فى ليبيا
اللهم إنك ترى مكانهم ، وتسمع كلامهم ..
رحماك بهم ..
يا أرحم الراحمين ..
اللهم رحماك بالأطفال الرضّع ، ورحماك بالشيوخ الركّع ، رحماك بالبهائم الرتّع.
اللهم إنهم خائفون فأمنهم .. اللهم إنهم خائفون ..اللهم إنهم مظلمون ..
اللهم انصر من نصرهم ..
اللهم اخذل من خذلهم ..
اللهم لا تدع لمعر
قوة في الأرض إلا دمرتها ..
ولا قوة في السماء إلا أسقطتها ..
ولا قوة في البحر إلا أغرقتها ..
اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض ..
وما نزل من السماء ..
اللهم اقلب عليهم البحر ناراً ..
والسماء شهباً وإعصاراً ..
اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك
وصلى وسلم على سيدنا محمد
المفضلات