قبل أن أبدأ، الموضوع قد يبدو طويلاً، لكن لا يفزعنّكم ذلك، فستستمتعون بقراءته إن شاء الله.
انتابتني الحيرة عمّاذا أكتب. كان هنالك موضوعان أود طرحهما منذ زمن، أحدهما لغوي والآخر قصصي. كِلا الموضوعين تطلب تحضيرًا وتجهيزًا، وهما أمران منعتني منهما ظروف عدة طرأت في الأيام الماضية. فاستقر رأيي على وضع موضوع ثالث - رغم احتجاج الموضوعين الآخرين وبكائهما المقطّع لأوتار القلوب بعد أن كادا يشمّان أولى أنفاس الحرية - لذا استخرجتُ لكم من عباءة أفكاري موضوعًا شعريًا، آمل أن تستمتعوا به وتخرجوا منه وقد تعلمتم شيئًا جديدًا. أما الموضوعان الآخران فعسى أن أتفرغ لهما قريبًا بحول الله فيبصران النور بعد إقامة طويلة في سجن أشدّ حلكًا من سجن سوس.
هل تحبـ/ـين الشعر العربي؟
هل أحببت يومًا أن يخرج الشعر من قلمك بسلاسة ويُسر؟
هل خطر لك يومًا أن تكتب شعرًا فألفيت نفسك عاجزًا عن ذلك؟
أطَمِعْت مرةً أن تزيّن كتابتك أو تصميمك أو ترجمتك بأبيات شعرية تناسب المقام لكن لم تجد ما يلبي طلبك؟
إذا كانت جوابك بالإيجاب على واحد أو أكثر من هذه الأسئلة فأنت في المكان الصحيح. وإن أجبت على جميعها بالنفي فأضف لها سؤالاً من عندك يكون جوابك فيه: نعم xD. هنا سنتعلم معًا إن شاء الله كيف سيصبح نسج الشعر من أيسر الأمور وأسهلها، وعسى أن نرى في هذه المدرسة ولادة شعراء من المقام الرفيع.
1- أن تكون محبًا للغة العربية عامة، وللشعر العربي الموزون خاصة، فكاره الشيء لا يتقنه
2- يُستحسن أين يكون لديك إلمام بسيط بطريقة تجزئة الحركات في علم العروض، وإن لم يكن لديك فسنشرحها في الأسفل
3- يُحبّذ أن تكون لديك معرفة معقولة بالنحو والإعراب وضبط الحروف، فلن يكون جيدًا أن تكتب شعرًا مليئًا بالأخطاء النحوية والإملائية
4- لا يلزم أن تكون عارفًا ببحور الشعر ولا متعمقًا في علم العروض
إذا عجزت عن صنع شيء من الصفر، فلمَ لا تقلد غيرك وتتعلم طريقته؟ كذلك يُنصح من يريد تعلم الرسم أن يشفّ رسمًا جاهزًا (أي يضع ورقة شفافة فوق الرسمة ويرسم الخطوط الظاهرة على الورقة الشفافة فيخرج رسمه مطابقًا للأصل)، فيتعلم من ذلك طريقة رسم الحدود والأشكال والتفاصيل والظلال وغير ذلك. وباتباع الطريقة نفسها، أتقن اليابانيون صناعة محركات السيارات، وذلك من خلال تفكيك محركات سيارات أوروبية ومعرفة أجزائها وطريقة تركيبها وعملها. سنتعلم اليوم إن شاء الله، وبطريقة مماثلة، كيف نشفّ الشعر، لنبني شعرًا متينًا موزونًا حتى لو كنا نجهل بحور الشعر وتفعيلاتها.
قبل أن نبدأ بالشفّ، دعوني أنبّه على طريقة تجزئة الكلمات لمن لا يعرفها.
الطريقة بسيطة جدًا، وهي أننا سنكتب الكلمات والحروف كما نلفظها لا كما اعتدنا كتابتها، ثم نستبدل كل حركة بشرطة مائلة (/) وكل سكون بدائرة مفرغة (o).
مثال:
بحور الشعر وافرها جميلُ
بُحُوْرُشْ شِعْرِ وَاْفِرُهَاْ جَمِيْلُوْ
//ه /ه /ه //ه ///ه //ه /ه
مثال آخر:
لا تنه عن خُلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلتَ عظيمُ
لَاْ تَنْهَ عَنْ خُلُقِنْ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُوْ *** عَاْرُنْ عَلَيْكَ إِذَاْ فَعَلْتَ عَظِيْمُوْ
/ه /ه //ه ///ه //ه ///ه //ه *** /ه /ه //ه ///ه //ه ///ه /ه
نلاحظ أن شطر كلّ بيت شعريّ (الشطر نصف البيت) يجب أن يبدأ بمتحرّك وينتهي بساكن. مع ملاحظة أن هاء الضمير (مثل: له، به) نضيف لها واوًا أو ياءً إذا كان ما قبلها وما بعدها متحركين، نحو: لهُ أساسٌ => لَهُوْ أَسَاسُنْ.
ما يهمنا هنا من كل هذا الحديث هو شيء واحد. في الشعر الموزون، لن تجدوا - عدا حالات نادرة جدًا - التجزئات إلا متألفة من الأجزاء التالية: /ه، //ه، ///ه. هذه الأشكال الثلاثة هي حجارة الأساس التي تكوّن تجزئة أي بيت شعري (وقد وضعتُ لكم المسافات في تجزئة الأبيات أعلاه لكي تتبينوها فحسب). ماذا نستفيد من هذه المعلومة؟ نستفيد منها أنه لا يمكن لأربع حركات أن تأتي متتابعة في الشعر العربي (يعني ////ه مثلاً)، كما لا يمكن لسكونين أن يلتقيان (مثل /ه ه).
والآن بعد أن انتهينا من الشرح الممل، ننتقل مباشرة إلى طريقة الشفّ.
أولاً، نُحضر بيتًا شعريًا جميلاً من ذاكرتنا، أو من أحد دواوين الشعر، أو من بحث سريع في العم غوغل.
سأختار هذا البيت:
لقد ذهبَ الحمارُ بأمّ عمرٍو *** فلا رجعَتْ ولا رجعَ الحمارُ
(أعرابي يندب زوجته التي ركبت الحمار وهربت معه xD)
لننظر معًا إلى مكوّنات هذا البيت:
البيت يبدأ بـ "لقد" (//ه)، وهي كلمة عامة تصلح لكثير من المعاني، سأبقيها كما هي وسأجعل بيتي يبدأ بها.
الكلمة التالية "ذهب" وبعدها سكون لام أل التعريف، يعني "ذَهَبَلْ" (///ه)، يعني إما أختار كلمة من ثلاث حركات وبعدها سكون لام أل التعريف، وإما أختار كلمة من ثلاث حركات وسكون. سأختار الأولى وأنتقي كلمة: رَكِبَ.
الكلمة التالية: "حِمارُ" (//ه/)، ولم أذكر اللام هنا لأننا قررنا إبقاءها في نقاش الكلمة السابقة. إذًا ماذا لدينا من كلمات على وزن "حمار" وتلائم كلمة "ركب". ما رأيكم بـ "قطار"؟ ;-)
بقي لدينا في الشطر كلمتان، وهما "بأمّ عمرٍو" (//ه/ /ه/ه). يمكننا أن نستبدلهما بكلمة واحدة لها الوزن نفسه، أو بكلمتين. الكلمة الواحدة ستكون على وزن "جبابرينا"، ولكن لا يخطر ببالي شيء من هذا الوزن يتلاءم مع الكلمات السابقة. الكلمتان قد يصلح على وزنهما "بألفِ خَيْرٍ" أو "بكلّ فخرٍ". لاحظوا أنني أبقيت الباء لتسهيل الأمر واخترتُ "ألف" أو "كلّ" اللتين على وزن "أمّ"، و"خير" و"فخر" اللتين على وزن "عمرو". لا تنسوا أن الواو في "عمرو" تُكتب ولا تُلفظ لذا لا اعتداد بها.
وبهذا يكون قد تكوّن معنا صدر البيت بمعنى جيّد: لقد ركب القطار بكلّ فخرٍ
الآن قد تكونت لدينا فكرة للبيت أثناء عملية الشف (وقد نتابع بهذه الفكرة ونكملها لو أردنا نظم قصيدة). لدينا الآن شخص دخل القطار متفاخرًا، فماذا نفعل به؟ شخصيًا أود لو أرميه خارجًا عقابًا على غروره xD. هل هذا ممكن؟ فلنجرب!
الشطر الثاني:
أريد أن أدخِل فعل الرمي أو مصدره هنا، فأبحث عن مكان فيه وزن "رمى" أو شيء مشتق منه. هممم، أرى كلمة "حمارُ" في النهاية على وزن //ه/، ويصلح أن أستبدلها بـ: رَمَاهُ. وأجد ما قبلها مباشرة "عَلْ" (/ه)، عين "رجع" ولام التعريف في "الحمار"، وبما أن أن عندي فعلاً بعدها يصلح أن يكون على وزنها "أن" أو "قد". سأقرر في أمرها بعدما أنتقي بقية الكلمات فقد يخطر لي شيء آخر.
ثم أعود لبداية الشطر فأجده يبتدئ بـ "فما رجعتْ". أيضًا سأبقي "فما" فهي تعطيني خيارات كثيرة. ماذا عن "رجعتْ"؟ بما أن الفعل "رمى" يحتاج سرعة، فما رأيكم بشيء يفيد عدم التردد؟ "فما لَبـِث الْ"؟ خاصة وأن نهاية جملتنا "أن رماه"، فستليق بها. ما لبث أن رماه جيدة البناء. وأضفت لام التعريف الساكنة للتعويض عن السكون في تاء "رجعتْ".
يبقى لدينا فراغ في المنتصف بين "فما لبث الْ" و "أن رماه". الوزن الناقص هنا هو وزن "ولا رَجَـ" لأن عين "رجع" مع لام التعريف بعدها استخدمناها لـ "أن". أي إن الوزن هو //ه//. ماذا نضع هنا؟ هذا الوزن يصلح لأي اسم على وزن "مُفعّل"، وبما أننا نتحدث عن قطار فما رأيكم بـ "محصّل"؟
الآن أكملنا كل الفراغات، فلننظر إلى البيت الجديد كاملاً:
لقد ركب القطارَ بكلّ فخرٍ *** فما لبث المحصّلُ أن رماهُ
لطيف وموزون في الوقت نفسه، أليس كذلك؟ ^^
والآن وبعد أن تعلمنا أساس الطريقة، هيا بنا ننظر إلى نتيجة تطبيقها على أمثلة أخرى.
أحيانًا يكون أحد الشطرين في البيت أصعب على الشفّ من الآخر. يمكنكم في هذه الحالة اعتماد وزن كلمات شطر البيت الآخر في كِلا الشطرين اللذين ستكتبونهما، كما سترون في بعض الأمثلة أدناه.
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنا الذي حفرَ الآبارَ في أَمَلِ *** وأيقظت صرخاتي كلّ ذي كَلَلِ
عاصفٌ يرتمي وبحرٌ يغيرُ *** أنا بالله منهما مستجيرُ
رقبةٌ تنحني ورأس يطيرُ *** وجثة ترتمي وقَتْلٌ كثيرُ
لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ
لا تـُذهِب الماء هدرًا أنت مُهلكُهُ *** إن العِطاشَ لَكُثْرٌ، بئسَ ناسيهمْ
ألا هُبّي بصحنك فاصبحينا *** ولا تبقي خمورَ الأندرينا
فلا همّوا بقتلِ الأفعوانِ *** ولا عادوا بشيءٍ قد شفاني
قالت الصغرى وقد تيّمْتُها *** قد عرفناهُ وهل يخفى القمرْ
قالت الأخرى بغير تبجّحٍ *** قد بلغناهُ، ويشهدُ مَنْ حَضَرْ
إلى أين تهربون؟ لم يرنّ جرس الفسحة بعد xD. قبل أن تذهبوا، أقبلوا لحلّ بعض التمارين كي نطبق النظريّ عمليًا. سأطرح لكم بعض الأبيات الشعرية وأطلب منكم شفّها. ابذلوا جهدكم في تطبيق الطريقة المذكورة، وسأكون معكم إن شاء الله لمساعدتكم وتقديم الملاحظات. كلما طبّقتم هذه الطريقة أكثر كلما صرتم أبرع فيها، وستغدون قادرين على نظم الشعر - بلا شفّ حتى - في وقت قصير بإذنه تعالى. لا تيأسوا إن لم تُوفّقوا في المحاولات الأولى، فبالإصرار والمثابرة تُبلغ قمم الجبال.
الأبيات
ضمنتُ الفوزَ مُذ كنتَ الغريما *** ولستُ أعدّه فوزًا عظيما
فأقبلتُ زحفًا على الركبتينْ *** فثوبًا لبستُ وثوبًا أَجُرْ
إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً *** فلا تظنّنَّ أنّ الليثَ يبتسمُ
فشككتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابهُ *** ليسَ الكريمُ على القنا بمُحرَّمِ
عِش ما بدا لكَ سالمًا *** في ظلِّ شاهقةِ القصورِ
ودارِ خرابٍ بها قد نزلتُ *** كأنيْ نزلتُ إلى السابعةْ
وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا
تعيّرُنا أنا قليلٌ عديدُنا *** فقلتُ لها إن الكرامُ قليلُ
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌ *** تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
بيتٌ كمعناكَ ليسَ فيهِ *** معنىً سوى أنه فضولُ
ومن يتهيّبْ صعودَ الجبالِ *** يَعِشْ أبَدَ الدهرِ بينَ الحُفَرْ
آمل أن تكونوا قد استفدتم من هذا الدرس، وآمل ألا تستخدموا ما تعلمتموه في كتابة ما يسؤوكم رؤيته في صحائفكم يوم القيامة. وتذكروا قول الله تعالى: ((والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا)). آخر سورة الشعراء.
المفضلات