بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيَّد الخلق أجمعين نبيّنا المصطفى على العالمين محمد وآل بيته الكرام الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا هو التواجد الأول لنصوصي الكتابية بين مواضيع هذا القسم والذي أرجو أن يكون خفيفاً عليكم وحقيقةً في بادئ الأمر لم أكُن أنوي
إنشاء هذه القصة كموضوع مستقل بل كنتُ أود المشاركة بها كتعليق للصورة التي أرفقتها الأخت "corapica" في مسابقة صورة وأجمل تعليق
ولكنني صرفتُ النظر عن ذلك لتجاوز طول القصَّة لطول التعليق المختصر فقررتُ وضعها هنا وأرجو أن ينال مستواها المتواضع على
استحسانكم وستكون ملاحظاتكم وانتقاداتكم محل ترحيبي واحترامي مع جزيل الشكر لكل من يمرون على صفحتي المتواضعة
وهذه هي الصورة المقصودة :
والآن أترككم مع القصة :
" زنزانة الذكرى "
سكَبَت برفق بعض المياه بداخل أصيصٍ جاور القبر الذي تجلس بقربه ثم أخذت تتأمل بصمتٍ يجاري سكون تلك الأجداث التي انتشرت حولها
تلك الزهرة التي احتواها ذات الأصيص والتي بدا عليها بعض الذبول نتيجة تأخر الفتاة بعض الوقت عن ريِّها ومع هبوب بعض النسمات الهوائية
الخفيفة التي حركت وريقات الوردة أطلقت زفرةً تعبر عن ألمها وهي تمعن النظر في تلك البتلات البيضاء التي بدت وهي تهتز بفعل الرياح
وكأنَّها تتحدث معها معاتبةَ إياها على هذا التأخير الذي أصابها بالظمأ وبدت في ملامح الصبيَّة نظرة كئيبة وهي تحوِّل بصرها باتجاه قبر تلك
السيدة المسنَّة التي كانت ستغدو بالنسبة لها نسياً منسياً لولا تلك الحادثة التي تطرق أبواب ذاكرتها باستمرار , تلك الحادثة التي سكنت اعماقها منذ
الطفولة وبقيت تعذبها ليلاَ عندما تهجع العيون وتبقى وحدها تصارع الألم وتصغي بندم لتوبيخ ضميرها الذي يعيدها من بوابة الذاكرة عدداً من
السنين إلى الوراء فترى نفسها تلكَ الصغيرة ذات الأعوام السبعة وهي تلعب وتلهو في فناء بيت جدِّها عندما جاءت السيدة صاحبة القبر لزيارة
جدتها إذ كانت من ضمن صديقاتها وعندها فوجئت بابنة خالتها التي تكبرها بعامٍ واحد وهي تسحبها من الفناء إلى إحدى الغرف الجانبية على
عجل وهي في حالة دهشةٍ وذهول لم تستفق منهما إلَّا على صوت ابنة خالتها وهي تقول لها في لهجةٍ محذرة : إياك أن تقربي تلك المرأة فإنَّها
من الحاسدين فإن أعجبها شيء فيكِ فستفقدينه فوراً وإلى الأبد أتفهمين ؟!
فردَّت هي في مزيج من الدهشة والخوف : هل أنتِ واثقة من ذلك ؟! وماذا بإمكاني أن أفعل إن شاهدتني ولم أكن أفطن لوجودها في ذلك الحين
هل أهرب بسرعة من المكان الذي تتواجد فيه أم ماذا أفعل عندها ؟!
فبدا على ابنة خالتها التفكير العميق لبرهةٍ من الوقت ثم أجابتها وكأنَّها توصلت إلى حلٍ عظيم : بالتأكيد أنا على ثقةٍ مما أقول أنسيتِ أنَّني أكبر
منكِ سناً وأمَّا إن رأتكِ فعليكِ أن تظهري أمامها بمظهر الفتاة سيئة الطباع وعندها ستصرف نظرها عنكِ
فسجلت الفتاة تنويه ابنة خالتها في ذهنها حتَّى لا تنسى في المرَّة المقبلة أن تتفادى تعريض نفسها للحسد من قبل تلك المرأة
ومرَّ أسبوع على تلك الزيارة فوجئت بعده الفتاة بدخول السيدة للغرفة التي كانت تجلس فيها مع جدَّتها وأمها وأختها التي تصغرها بعامين
فارتبكت الصغيرة ولم تجد ما تفعله حيال ذلك الدخول المفاجئ لمن اعتقدت بوجوب تحاشيها خاصَّة بعد أن مدَّت المسنة يدها لمصافحتها في
ترحاب فوجدت نفسها تصافح المرأة بحركة تلقائية وعفوية اعتادت عليها وما أن افترقت يداهما حتى استرجعت بخوف تحذير ابنة خالتها وبدأت
تلوم نفسها على تلك المصافحة التي جعلتها تبدو طفلة مهذبة في حين أنَّها تريد إظهار العكس في هذا الموقف وبدأت تفكر في حيرة ورعب في
حلٍ لما اعتبرتها مشكلةً مستعصية فقد أخذت الهواجس السوداء تتصارع بذهنها
ولم يقطع حبل تفكيرها سوى صوت والدتها وهي تستثير حواسَّها مناديةً : مريم ألا تسمعين ؟! ما بالكِ شاردة الذهن هكذا؟! أم محمد تطلب منكِ إحضار كوبٍ من الماء لتشربه فهي تشعر بالظمأ هيا انهضي بسرعة ونفِّذي ما تريده الخالة منكِ !
فالتفتت مريم نحوها بارتباك فوجدتها تبتسم لها ابتسامة تودد واستلطاف ممَّا جعل توترها يصل إلى ذروته وبدأت الأفكار تدور بسرعةٍ خارقة في
ذهنها وكان مضمونها هو أنَّ هذه هي فرصتها لتعطي عن نفسها انطباعاً سيِّئاً حتى لا تُحسد على بالغ لطفها وغاية احترامها لمن يكبرونها سناً
لذلك قررت وللمرَّة الأولى أن ترفض تقديم خدمةٍ بسيطة كهذه
فردَّت على الأم بخجل وتردد : أمي أنا الآن منهكة جداً ولا أستطيع الذهاب لإحضار الماء
فنظرت لها أمها والدهشة تملأ لبَّها وجنانها واجابتها باستنكار : منهكة ؟! وما الذي أنهك طفلة مثلكِ ؟!!
اذهبي سريعاً واحضري الماء لخالتكِ أم محمد
فأجابتها وهي تتحاشى التقاء نظراتها بأي فردٍ يتواجد في الغرفة من فرط الخجل الذي يعتريها ليقين علمها بمدى سوء التصرف الذي تتعمد القيام
به : لا . لا أستطيع أنا متعبة ولا رغبة لي في النهوض
فتحولت دهشة الأم إلى غضب وخجل من تصرف ابنتها التي عهدتها مطيعة مهذبة وقالت في لهجةٍ آمرة تكسوها الصرامة : ستذهبين لتنفيذ ما
طُلِب منك وبدون تأخير ولا أريد سماع أي أعذار
فكادت تنهض في استسلام لولا وصول أختها الصغيرة التي خرجت مبادرة لإحضار كوب الماء وسط انشغال الجميع بالتحديق في مريم التي
تتصرف بغرابةٍ غير معهودة
فقدَّمت الطفلة الكوب للسيَّدة وهي تبتسم في براءة فتناولته منها مبادلةً ابتسامتها بأخرى تعكس شكرها وامتنانها في حين كانت مريم تنظر لأختها
بقلق وهي تردد في نفسها : يا لأختي المسكينة ستحسدها هذه المرأة الآن ليتني حذرتها قبل الآن ولكنها صغيرة لن تفهم ما أقوله لها
احتضنت الأم ابنتها الصغرى في اعتزاز و ربتت على رأسها الصغير برفق وهي تقول : هذه هي ابنتي الرائعة اللطيفة كم أنا فخورة بكِ ثم
التفتت نحو ابنتها مريم وأردفت : أمَّا أنتِ فحسابكِ عندما نعود إلى البيت
نكست مريم رأسها في خجل واكتفت بالصمت إجابةً على العبارة الأخيرة ومضت ساعات قبل العودة للمنزل بتثاقل حتَّى بعد مغادرة المرأة لبيت
جدِّها إذ قضت وقتها في ذلك الحين في سكونٍ كئيب ولم ترفع بصرها عن الأرض قط
وعند إيابهم للمنزل انزوت والدتها بها جانباً لتعرف المبرر وراء تصرفها المشين ذاك ولكنها لم تكن بحاجةٍ لأي سؤالٍ تبدأ به حديثها إذ أنَّ قلب
الفتاة كان قد كبت انفعالاته بما فيه الكفاية فبدأت الكلمات تنساب على لسانها كحمم بركان في بداية ثورته مخبرةً أمها بالحديث الذي دار بينها وبين
ابنة خالتها والتحذير الذي تضمنه فاطمأن فؤاد الأم قليلاً لمعرفتها لسبب ردَّة الفعل الغريبة التي أبدتها ابنتها في بيت جدها فتنهدت بعمق ثم ردَّت
عليها قائلةً : عليكِ عدم تصديق كل ما تسمعينه و ابنة خالتكِ طفلة مثلكِ وأنا أعرف هذه السيدة منذ أن كنتُ في مثل عمرك إنَّها امرأةٌ لطيفةٌ للغاية
وما قيل لكِ عنها غير صحيح بتاتاً أمَّا أنتِ فقد أخطأتِ مرتين المرة الأولى عندما صدَّقتِ ما لا علم لكِ به وظلمتِ هذه السيدة البريئة دون أن
تسأليني عن صحَّة الكلام الذي سمعتِه والمرة الثانية هي عندما رفضتِ تقديم المساعدة لمحتاجةٍ إليها في حين استطاعتكِ لتقديمها وعندما نخطئ
علينا تصحيح أخطائنا أليس كذلك ؟
فأومأت الفتاة برأسها موافقة
فأكملت الأم حديثها : في المرَّة القادمة عندما تأتي أم محمد لزيارة جدَّتك عليكِ إحضار الماء لها قبل أن تطلبه ثم الاعتذار لها وتقبيل رأسها أيضاً
فهمتِ ؟
فردت البنت بصوتٍ خافت على استحياء وهي تتخيل الموقف : نعم يا أمي سأفعل ذلك
ثمَّ أطلقت نفساً عميقاً في الهواء تعبيراً عن ارتياحها للبوح بما كانت تخفيه وتوصلها لحلٍ يصحح الخطأ الذي ارتكبته
ومضت الأيام وهي تزور بيت جدها باستمرار منتظرةً عودة المرأة المسكينة لتصحح ما أخطأت به في حقها حتَّى نزل ذلك الخبر على رأسها
كالصاعقة حيث استقبلت ذلك الصباح بخبر وفاة الخالة أم محمد والتي ماتت دون أن تسنح لها الفرصة بتقديم اعتذارها فأمضت بقية أيامها وهي
تستمع لتوبيخ ضميرها كل ليلة وهي تدرك تماماً أنَّ الانتصار مرَّة واحدة على موقف ضميرها قد يجرح لديه شعور الكبرياء وربَّما يرحل تاركاً
إياها إلى الأبد تماماً كما فعلت أم محمد ولذلك اكتفت بالإذعان لضرباته القاسية والتي كانت تزيد من عمق جروحها ولم يكن يخفف عنها آلامها
سوى حديث أمها التي أخبرتها بأنَّ أم محمد الآن بحاجة للحسنات أكثر من حاجتها في ذلك اليوم لكوب الماء البارد ذاك ويمكنها أن تقوم بالعمل
الصالح والتصدق نيابةً عنها لتسعدها في لحدها .
توقفت الفتاة عن التفكير عندما وصلت لهذه النقطة واستعاد العالم الحقيقي صورته في عينيها فأخذت تنظر مرَّة أخرى إلى الزهرة البيضاء التي
استعادت حيويتها بعد أن ارتوت من الماء الذي سقتها به ورأت نفسها في تلك الزهرة فلم تكُن أقلَّ منها ذبولاً وشحوباً عند مجيئها وهاهي الآن
ترسم ابتسامةً خفيفةً على وجهها عندما تذكرت كلمات والدتها وتنهض لتخرج من المقبرة التي خلت من سواها وهي تعلم أنَّ استعادتها لصدى تلك
الكلمات ليس سوى مسكنٍ مؤقت المفعول ستحتاج لتناوله مجدداً عندما تشعر بالكآبة مرةً أخرى ولكنها تعلَّمت درسها في الحياة وهو أنَّ الوقاية
من الكوابيس خيرٌ من علاجها .
المفضلات