عازف الناي
جلستُ أمام مكتبي أحدِّقُ في الأوراق المبعثرة فوق الملف الأصفر المهترئ للمرة العاشرة هذا المساء..
تناولتُ رشفةً من فنجان قهوتي وبدأتُ بمطالعة الوثيقة الأولى..
في أعلاها أُرفقت صورة طفلٍ صغير مبتسم، بدا سعيدًا وهو ينظر إلى شيءٍ ما خلف آلة التصوير.. لعله كان يبتسم لوالدته..؟
من المؤلم أن طفلاً مثله لم يتعدَّ السابعة بعد، كان ضحية الاختفاء الأولى!
~
قلَّبتُ الوثائق بسرعة، كنت أحفظ المعلومات تقريبًا لكثرة ما طالعتُها..
اختفى طفل السابعة -رامي- في الثامن من ديسمبر.. يؤكد ذووه أنه بات تلك الليلة في فراشه ولكنه كان مفقودًا في صباح اليوم التالي.. لم يلاحظوا شيئًا غريبًا في تصرفاته قبل اختفائه، بل كان مرحًا جدًا في ذلك اليوم.. لا توجد آثار اقتحامٍ للمنزل، بل كان الباب مفتوحًا من الداخل..
الفتاة ذات الجديلة السوداء تبلغ التاسعة من العمر، اسمها قمر وهي وحيدة أبويها، اختفت في الثامن من يناير، قالت والدتها بأنها بدت شاردةً طوال اليوم، ولكن عينيها كانتا تلتمعان بسعادة.. بعد انتصاف الليل بقليل سمعت والدتها -التي لم تكن قد رقدت بعد- صوت باب المنزل وهو يُفتَح، ظنته لصًا فأيقظت زوجها وعندما تفقد الأمر وجد باب المنزل غير موصد، بينما يبدو من قفله أنه قد فُتح من الداخل.. ذهب ليطمئن على ابنته ولكنه لم يجدها.. ولم يرها قط منذ تلك اللحظة..
الفتى ذو الثياب المهلهلة والقبعة التي تغطي نصف وجهه هو اليتيم تومي ذو الأعوام التسعة الذي كان يقيم وحيدًا، معتمدًا في نفقته على عطف أهل القرية.. اسمه الحقيقي هو تامر ولكنه اخترع لنفسه ذلك الاسم منذ زمن واشتهر به.. لم يلحظ الأهالي اختفاءه مباشرة ولكن تم تقديم بلاغ بذلك في العاشر من فبراير المنصرم، ويرجح أنه اختفى في اليوم الثامن من ذلك الشهر، فقد شوهد آخر مرة في ذلك اليوم وهو يصفر بسعادة على غير عادته..
هؤلاء كانوا ضحايا الاختفاء الثلاثة الذين اختفوا في اليوم الثامن تحديدًا من الأشهر الثلاثة الماضية..
كانت هنالك وثيقةٌ رابعة تحمل صورةً غير واضحة التُقطت من بُعد لامرأةٍ عجوز ربما تجاوزت عقدها السادس.. ملامحها غير واضحة في الصورة ولكنها -وبعد إصرار الأهالي- المشتبه به الأول في هذه القضية!
أول أسباب الاشتباه هو أنها انتقلت إلى هذه القرية في أواخر شهر نوفمبر، أي قبل أن تبدأ قضايا الاختفاء بأيامٍ قليلة فقط..
الأسباب الأخرى هي أنها غامضة ولا تتحدث كثيرًا، ومنزلها منعزلٌ خلف تلةٍ نائية، ومحاطٌ بالأحراش الكثيفة..
وأخيرًا هناك تلك القصة العجيبة التي يتداولها الأهالي بأن تلك المرأة ما هي إلا غولةٌ متوحشة تتلذذ بالتهام الأطفال..!
إن كانوا يعتقدون ذلك حقًا، فلا أدري ما الذي يتوقعون مني عمله وأنا أحمل مسئولية فك غموض هذه القضية بمفردي، كوني الشرطي الوحيد في هذه القرية..!
~
قريةٌ صغيرةٌ مثل قريتنا لن تهتم السلطات لأمرها.. سيظنون بأن الأطفال قد ضلّوا طريقهم في الأحراش المحيطة بالقرية أو ما شابه.. لن يهمهم حتى لو اختفت هذه القرية "التافهة" كما يدّعون..
صحيحٌ أن قريتنا لا تُنتج الكثير، فتربتها ليست بتلك الخصوبة ومحاصيلها بالكاد تكفيها ولا يوجد فيها ما يجذب السيّاح، ولكننا على الأقل مكتفون ذاتيًا ولا نطلب شيئًا من أحد..!
قبل سنتين كانت هنالك محاولات من المستثمرين لإقناع الحكومة بهدم وإزالة القرية لاستغلالها في مصالح "أكثر نفعًا"، ولكن الحكومة تخوّفت من تحميلها مسئولية إيواء الأهالي فتجاهلت الأمر.. كانت أيامًا مرعبة خصوصًا وأنني كنت الوحيد المطّلع على تفاصيل الأمر دون أن أجد أحدًا يشاركني هذا الهم! لقد مضى الأمر على خيرٍ في ذلك الوقت، ولكن قد لا تسلم الجرة كل مرة!
الخلاصة هي أنني الوحيد الذي باستطاعته تولي هذه القضية، فالدعاية السلبية هي آخر ما تتمناه القرية في وقتٍ كهذا..
~
أطلقتُ تنهيدةً طويلة وأخذتُ أتأمل صورة العجوز مجددًا.. تخيلتُها بأسنانٍ حادة تلتهم فتاة الجديلة السوداء التي تُطلق صرخات استغاثةٍ يائسة.. تتحول تدريجيًا إلى أنين ثم تختفي بعد أن يتمزق جسدها ويغرق في شلالاتٍ من الدماء..
أثارت الصورة التي رسمها لي خيالي شعورًا حادًا بالغثيان وصداعًا رهيبًا.. أسرعتُ بإبعاد الأوراق من أمامي بعنف مفتشًا تحتها بصورةٍ عشوائية حتى وقعت يدي على شريط الدواء المهدئ القابع تحت كل تلك الفوضى..
ألقيتُ حبةً في فمي بسرعة وأتبعتُها برشفةٍ كبيرةٍ من فنجان القهوة أتت على ما تبقى منها.. شيئًا فشيئًا زال الصداع فأعدتُ الوثائق إلى ملفها متجنبًا قدر الإمكان أن تقع عيناي على إحدى تلك الصور البائسة..
منذ أشهرٍ خلت وأنا لا أستطيع الانقطاع عن تناول هذه المهدئات.. المسئولية الملقاة على عاتقي أكبر من أن أتمكن من تحملها بمفردي..
تنبهتُ فجأةً إلى عينين زرقاوين صافيتين تحدقان بي من خلف الباب الموارَب.. ابتسمتُ وهتفتُ بلهجةٍ حاولتُ جعلها مطَمئِنة: بنيّ! تعال إليّ يا صغيري..
علت ابتسامةٌ خجولةٌ وجهه الدائري اللطيف وجرى نحوي وهو يحمل بين يديه كتاب قصصٍ صغيرًا..
احتضنتُه بين ذراعيّ وسألته: لمَ لم تنم بعد؟ لقد تأخر الوقت..
أجاب صغيري ذو الأعوام الخمسة: لا أستطيع النوم.. اقرأ لي قصةً يا أبي..
أعرف أن أعبائي كثيرة ولكني لا أستطيع رفض أيِّ طلبٍ لصغيري المدلل.. لقد توفيت أمه فور ولادته وبقيتُ أعتني به بمفردي.. إنني أعدّه أهم مسئوليةٍ في حياتي، ولن أسمح لشيءٍ أن يمسه بأذى..
وهكذا ذهبتُ مع صغيري إلى غرفة نومه.. دثّرته بلحافه الصوفي، وبدأتُ أقرأ له قصة عازف الناي..
رغم نعاسه كانت عيناه تلتمعان وهو يستمع إليّ وأنا أحكي عن الفئران التي هاجمت القرية، العازف الذي أنقذها، ثم اختطافه للأطفال بعد أن رفض الأهالي مكافأته..
وهنا همس الفتى فجأة: لمْ يأخذ الأطفالَ دفعةً واحدة، أليس كذلك؟
أجبتُه وأنا أمسح على رأسه: لقد كان يعزف لحنًا يجذب الأطفال، لذلك تبعوه..
ولكنه عاد يسأل: ولم ينتبه أحد..؟
شعرتُ الآن بأن في القصة خللاً بالفعل ومع ذلك أجبتُه: لأنهم كانوا مشغولين جميعًا..
ولكن صغيري هزّ رأسه بإصرار وقال: أظن أنه يأخذهم واحدًا واحدًا..
شعرتُ فجأةً بأن قصة الأطفال هذه لا تناسب الأطفال بالفعل، ولكن إصراره أثار فضولي فسألته: لماذا تعتقد ذلك؟
وببساطةٍ أجابني: لأنني رأيته..!
ورغم الهدوء الذي اكتسى صوته إلا أن عينيه كانتا تلتمعان بخوفٍ دفين..
ارتبكتُ هنا ولم أفهم ما يحدث.. هل سببت له هذه القصص الفاشلة الكوابيس؟ سألته مستفهمًا: رأيتَ عازفَ الناي؟
هزَّ صغيري رأسه موافقًا..
ألقيتُ بالكتاب بعيدًا وهمستُ له: حبيبي، عازف الناي غير موجود، ولا أحد يستطيع أن يؤذيك..
أصرّ الفتى مجددًا: ولكني رأيتُه!
حاولتُ تهدئته: لقد كنتَ تحلم..
وأخيرًا أفرج عما يختزنه صدره الصغير قائلاً: لقد رأيتُه عندما أخذ تومي!
~
هنا لم أعد أدرك ما يقول ولم أجد ترابطًا في الأمر كله.. سألتُه مستوضحًا: تومي؟ تومي اليتيم؟
أجاب بخفوتٍ وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: أجل.. من النافذة.. استيقظتُ في الليل ونظرتُ من النافذة فرأيته عند الشجرة الكبيرة.. كان يلبس معطفًا أسود، وذهب معه تومي.. ثم سمعتُ الناس يقولون بأن تومي اختفى..
كان صوته يرتجف الآن: أبي.. أنت ستحمي تومي أليس كذلك؟
صوتي أنا الآخر أضحى مرتجفًا بعد هذه المفاجأة، فاحتضنتُ ولدي وهمهمت: بالتأكيد! وسأحميكَ مهما كلفني الأمر..
هدأ طفلي قليلاً ولم يمر وقتٌ طويل حتى غفا في حجري، فأودعتُه فراشَه وغادرتُ غرفته بهدوء..
بقيتُ واقفًا قرب بابه محدقًا في الفراغ ومفكرًا فيما سمعتُه منه.. تومي.. معطف أسود.. الشجرة الكبيرة.. أتساءل...
نظرتُ إلى الساعة بتوتر.. عليّ أن أقرر الخطوة التالية بسرعة.. عليّ أن أحسم أمري.. لم يبق وقت.. فاليوم هو الثامن من مارس!
~
منتصف الليل يقترب، وأنا لا أزال أجول في مكاني بحيرةٍ واضطراب.. ألقيتُ نظرةً على وجه ولدي النائم بسلام.. وأخيرًا حسمتُ أمري وعقدتُ العزم على تنفيذ ما يجول بخاطري!
أسرعتُ إلى حجرتي واخترتُ من ثيابي معطفًا أسود، ارتديتُه على عجالة ورفعتُ ياقته محاولاً تغطية ملامح وجهي، ثم خرجتُ متوجهًا إلى الشجرة الكبيرة التي أشار إليها ولدي..
وقفتُ خلف الشجرة بضع دقائق وأنا أصيخ سمعي إلى ما يوجد من حولي.. وأخيرًا سمعتُ صوت خطواتٍ تقترب.. كان قلبي يخفق بشدةٍ الآن ونفسي تكاد تخونني فيما عقدَت عليه العزم..
عندما اقتربت الخطوات من الشجرة.. توقفت هناك تمامًا.. ثم.. دار الظل حول الشجرة وشعرتُ بيدٍ تجذبني من ردائي..
التفتُّ بوجلٍ لأرى طفلاً صغيرًا في السادسة أو السابعة من عمره تقريبًا.. وفي ضوء القمر استطعتُ تمييز ابتسامته البريئة وهو يقول بخفوت: لقد أتيتُ كما وعدتك! ولم أخبر أيّ أحدٍ أبدًا بالأمر! لذلك هيا بنا إلى المنزل المصنوع من الحلوى!
لم أتحدث وإنما هززتُ برأسي فقط.. نظرتُ حولي بقلق.. عليّ أن أتحرك من هنا.. إلى أين..؟ استجمعتُ قواي وشحذتُ عزيمتي مجددًا وسرتُ أمام الفتى نحو منزل العجوز!
طوال الطريق والفتى يلقي بأسئلة من قبيل: هل حقًا يمكنني أكل ما أريد من حلوى؟ هل سأحصل على هديةٍ كل يوم لأنني وفيتُ بوعدي ولم أخبر أحدًا؟ هل سأستطيع زيارته بعد ذلك مع أصدقائي وأسرتي؟ كنتُ أكتفي بالإيماء دون أن أجيب متعجبًا من براءة الصغير وتصديقه لكل هذه الأمور التي من الواضح أنها تهدف إلى الإيقاع به وحسب.. براءة الأطفال تكون مؤلمةً أحيانًا..
سرتُ عبر القرية حتى وصلتُ إلى التلة.. وهنا صرتُ أقدم رِجلاً وأؤخر أخرى.. إلا أن النظرة في عيني الصغير ذكّرتني بنظرة ولدي النائم بسلام في فراشه.. عليّ ألا أجبن الآن! وهكذا التففتُ حول التلة وسرتُ عبر الأحراش حتى وصلتُ منزل العجوز!
الفتى المسكين بدا متحمسًا.. أسفتُ حقًا لتوريطه في الأمر برمته، ولكن لا بد من ذلك.. وقفتُ أمام الباب.. لا تتخاذل الآن..! وأخيرًا مددتُ يدي وطرقتُ طرقتين خفيفتين.. ثم وقفتُ مرتجفًا!
لم تمر سوى بضع ثوانٍ من الصمت فُتح الباب بعدها ببطء.. وأطلت من خلفه عجوزٌ بشعة ملأت التجاعيد وجهها بشكلٍ مرعب! لم تتعرف وجهي بسبب الياقة العالية والظلام الشديد، ولكنها كشّرت عن أنيابها مبتسمة حين رأت الصبي، وفتحت الباب عن آخره، ودعتنا للدخول..
كان منزلها صغيرًا جدًا تفوح منه روائح العفن.. قالت بصوتٍ غليظٍ وأجش: لقد وفيتَ بوعدك مجددًا! شكرًا لك! سأفي بوعدي بالمقابل ولن أتعرض لطفلك بسوء.. أتحب أن تشهد مصير ضحيتكَ التالية؟
ولمّا لم أكن أرغب بأن أشهد ذلك، غادرتُ المنزل بينما نظرات الشك والخوف بدأت تشق طريقها نحوعيني الصغير..
وبينما كنتُ أبتعد سمعتُ استغاثات الفتى وصراخه المجنون، فحثثتُ الخطى مبتعدًا قبل أن يبدأ خيالي برسم تلك المشاهد مجددًا.. اختلط صراخه بصراخ الضحايا الثلاث السابقين الذي طُبع في ذاكرتي حين تركتُهم هنا قبلاً.. شعرتُ بأنني أميز صراخ كلٍّ منهم على حدة.. عليّ العودة بسرعةٍ إلى المنزل.. أحتاج بعض المهدئات..
~ تمت ~
المفضلات