وهكذا عدتُ لمراسلة بعض المكاتب التي أعتذرتُ لها سابقا، وحصلتُ على وظيفة جيدة؛ في مكتب لترجمة الوثائق الرسمية، والمعاملات الحكومية، وبدأتُ أعد الأيام التي تفصلني عن "نائلة"، بعد أن رتبت سلم أولوياتي المادية..
فبعد أن أساعد أسرتي في شراء منزل مريح وصحيّ، بدلا من الأجرة التي تلاحقنا كل شهر، في منزل لا تدخله الشمس، مما ترك آثارا سلبية على صحة والدتي وأخواتي، كنت أفكر بمفاجأة والديّ برحلة حج، أعبّر من خلالها عن جزء من امتناني الشديد لهما، لا سيما وأنا أدرك تماما مدى رغبتهما بأداء الفريضة، وزيارة الديار المقدسة، وقد كان لدى أمي حصّالة خاصة، تدّخر فيها المال لهذه الرحلة العظيمة، غير أن وفاة زوج عمتي المفاجيء، أجبرها على كسرها، ولم أكن لأنسى دموعها في ذلك الوقت! صحيح أنها كانت تبكي حال عمتي؛ بعد أن تيتم أولادها، لكنني أدرك أنها كانت تبكي أيضǺ شوقها لبيت الله، الذي كانت تعد له الأيام عداً!! ولا شك أن لرحيل زوج عمتي، أثره الكبير على حياتنا بعد ذلك، مما يعني أن لديّ التزاماً، عليّ أن لا أنساه تجاه أبي، والذي تكفل بإعالة أسرتين، لا كافل لهما- بعد الله- سواه!
وابتسمت لي الأيام مجدداً، إذ سرعان ما لمح صاحب المكتب كفاءتي، فضاعف أجرتي مقابل ساعات إضافية من العمل، فقد بدأ الزبائن يتهافتون على مكتبه دون سواه، وكنت سعيداً بذلك، أعمل بجد، ولا أتردد عن قبول أي أعمال إضافية، فقد كانت الأجرة مجزية جداً، وخلال عام كامل، تمكنتُ من تحقيق إنجازٍ منقطع النظير، فاستعنتُ بصاحب عقارات كان أحد زبائني، وعثرتُ على منزلٍ مناسب جداً، وبعد أن اصطحبتُ والداي إليه، وتأكدتُ من إعجابهما به، سددتُ الدفعة الأولى كاملة، لتنتقل أسرتي إليه في أقل من شهر، وكانت فرحة أمي ودعوات أبي وبهجة أخواتي، كفيلة بإسعاد قلبي.. وكنتُ أتحرق شوقاً للحظة التي أفاجيء بها والداي، برحلة الحج.. حتى إذا ما حان موسمه، وكنتُ قد ادخرتُ مالاً كافياً لهما، شعرتُ بأنني امتلكتُ الدنيا وما فيها، وأنا أقدم لهما تذاكر السفر مع حملة ممتازة، ورغم أن أمي اعترضت بداية بقولها:
- كان عليك أن تفكر بنفسك أولاً وبمستقبلك، فقد أصبحتَ رجلاً، ويجب أن تفكر بعروس مناسبة الآن، يكفي المنزل الذي تكفلتَ بسداد أقساطه..
لكنني طمأنتها بقولي:
- لا تقلقي يا أمي، فقد أصبح لدي دخلاً ثابتاً بفضل الله، وهو دخلٌ ممتاز، ويمكنني تنميته بإذن الله، وأعدك بأننا سنتحدث في هذا الموضوع؛ فور عودتك بالسلامة من الحج، إن شاء الله..
عندها لم تتمالك أمي نفسها، ولم أكن أتخيل أن كلماتي تلك؛ ستملأ المنزل زغاريداً وأفراحاً! لقد أشرق وجهها، كما لو أنه لم يشرق من قبل، فقالت لي:
- سأدعو الله بأن يُنعم عليك بأفضل زوجة في الدنيا كلها، ويرزقك بعشرة أولاد صالحين مصلحين..
فأفلتت مني ضحكة رغماً عني:
- لماذا عشرة بالتحديد؟؟
فضحكت أمي وهي تقرص أذني:
- لا أدري.. هذا ما خطر ببالي الآن!
ونمتُ تلك الليلة، وأنا أفكر بـ "نائلة"، ستحبها أمي بلا شك..
وانطلقت قافلة الحجيج إلى بلد الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وانطلقتُ إلى عملي، أهتم بشؤون أخواتي، وشؤون عمتي وأولادها، نيابة عن أبي، وقد كانت تلك من أسعد اللحظات، التي مرت عليّ حتى ذلك الوقت..
إنها بضع خطوات فقط، تفصلني عن "نائلة"!!
غير أن للقدر مسارٌ آخر، غير ذاك الذي رسمته في ذهني!!
فبعد عام وثلاثة أشهرٍ من لقائي بـ"أشرف" آخر مرة، فوجئتُ به يزورني في مكتبي، وكانت ملامح وجهه لا تبشر بخير، وهو يقول لي:
- أين كنت؟؟ لقد بحثتُ عنك كثيراً، بعد أن فقدتُ أي وسيلة للاتصال بك!
عندها تذكرتُ بأنني لم أخبره بعنوان منزلنا الجديد، الذي انتقلنا إليه، فاعتذرتُ منه متأسفاً:
- إنني مدين لك باعتذار بالفعل، فقد شغلتني الحياة كثيراً كما ترى..
ثم صمتُ، وأنا أتطلع لحديثه عن "نائلة"، كما فعل آخر مرة، غير أنه اكتفى بقوله:
- جئتُ لأطمئن عليك، كيف حالك؟
كانت كلماته واجمة بشكل كبير، مما أثار مخاوفي، فهتفتُ دون وعي مني:
- هل حدث شيء لـ "نائلة"؟
عندها نظر إلي بعينين لائمتين:
- كنتُ أدرك طوال الوقت أنك مهتم بها، فلماذا تأخرت؟! لقد تزوجت "نائلة" قبل ثلاثة أشهر!
وقتها أدركتُ فقط، كم كنتُ أحبها... ولا يمكنني تخيل حياتي من دونها!
ولا أدري ما الذي جرى لي تحديداً بعدها، فقد كانت تلك أشبه بالضربة القاضية؛ لكل ما بنيته من أحلام وطموح ومجد! ولم أستطع متابعة العمل في ذلك اليوم، فطلبتُ إذناً بالخروج وهِمتُ على وجهي... ما أشبه اليوم بالبارحة!! غير أنني فقدتُ السبب، الذي أحيا عزيمتي أول مرة!!
"نائلة".. تلك الفتاة التي أحببتها من كل قلبي؛ أصبحت مجرد ذكرى عابرة، بل سراب في صحراء شاسعة، لم أستطع الوصول إليها أبداً، ولا الارتواء بفيء ظلالها..
ما الذي سأقوله لأمي عندما تعود! ما الذي سأحدثها به؟ لقد فقدتُ الرغبة تماماً بالزواج...
وكأن المصائب تأبى أن تأتي فُرادى، لعل بعضها يُنسي بعضاً، فرغم أنني حرصتُ على استقبال والداي، عند عودتهما من الحج، استقبالاً يليق بهما قدر استطاعتي؛ إلا أن وفاة عمتي الكبرى؛ كان صدمة حقيقية للعائلة، فهي لم تكن تشكو من شيء، وكانت بمثابة الجدة لنا بعد جدتنا!
كانت أيام عصيبة، لكنها مرت كما يمر السحاب، وذكرى "نائلة" لا تزال تلوح أمامي في كل خطوة أخطوها، رغم محاولاتي الجاهدة لتناسيها، ولم أكن أدرك كم كانت جذورها متغلغلة في كياني..
حتى جاء اليوم الذي كنتُ أخشاه، يومها طلبت مني أمي الحديث على انفراد..
- بني.. لقد وعدتني بالحديث في موضوع الزواج فور عودتي من الحج، وقد مرت الأيام دون أن تحدثني بشيء! لقد ظننتُ أن هناك فتاة تود خطبتها، وكنتُ سأبذل جهدي من أجلك، حتى ولو طلبتَ بنت السلطان مثل علاء الدين..
كانت أمي تتكلم بجدية كبير، حتى أنني اكتفيت بالابتسام لخيالها الواسع، فيما تابعت هي كلامها بالنبرة نفسها:
- أخبرني يا حبيبي، هل حدث لك شيء؟
كانت كلمات أمي الحبيبة، كفيلة بإذابة الجليد المتراكم على قلبي، فاضطربَت مشاعري، ونفرت دمعاتٌ من عيني، فانكببتُ على يديها أقبلها، وأنا أخفي وجهي في حجرها:
- سامحيني يا أمي.. أنت تعرفين الظروف التي مررنا بها بعد وفاة عمتي، رحمها الله...
فما كان من أمي إلا أن ربتت على شعري بحنان:
- لقد مر على ذلك أكثر من عشرة أشهر، فأخبرني الحقيقة.. هل حدث شيء للفتاة التي كنت تفكر فيهǿ
لا أدري كيف وصلت أمي لذلك الاستنتاج، بل لا أعرف كيف عرفت أن هناك فتاة كنتُ أود خطبتها بالفعل، لكنني آثرتُ الصمت، تاركاً العنان لدموعي، لتنساب في حضنها الدافيء، وليكون هذا أبلغ جواب عن سؤالها..
عندها ضمتني إليها كطفلٍ رضيع، وشعرتُ بدموعها تتخلل خصلات شعري:
- لن يضيعك الله أبداً يا بني، ولو كان فيها خيراً لك، لما أبعدها عنك...
كانت لحظات سكينة، اغتسلت روحي في صفائها وطهارتها، حتى شعرتُ بأنني ولِدتُ من جديد..
لم تمضِ على تلك الحادثة سوى أيامٌ معدودة، حتى فوجئتُ بأمي تقول لي:
- سمعتُ عن فتاة طيبة من الحاجّة "أم أسعد"، وأظنها مناسبة لك.. وأنوي زيارتهم والتعرف إليهم غداً، إن شاء الله..
ورغم عدم استعدادي النفسي للارتباط بأي فتاة أخرى، غير "نائلة"؛ إلا أنني وجدتُ نفسي انصاع لكلامها، إذ لم أجد مبرراً واحداً لمجادلتها، أو الاعتراض على عَرضها!
كانت سعادة أمي بالفتاة وعائلتها بعد ذلك، من النوع الذي تعجز الكلمات عن وصفه! فقد كالت لها المدائح كيلاً، من كل حدب وصوب، وكأنني على موعدٍ مع ملاكٍ؛ هبط من السماء فجأة!!
كنتُ أُقنع نفسي بأن موافقة الأهالي المبدئية، لن يترتب عليها أي شيء؛ إلا بعد مقابلتي الشرعية للفتاة، حيث يحق لأي واحدٍ من الطرفين الرفض، وقد ترفضني الفتاة وينتهي كل شيء بسلام، وفي أسوأ الاحتمالات.. فإن أمي وعائلتي بالطبع، لن يهدأ بالهم حتى أتزوج، وإن كنتُ سأتزوج عاجلاً أم آجلاً؛ فلمَ لا أقدم على هذه الخطوة الآن! على الأقل.. هذا سيسعد أمي وأبي، ويدخل البهجة على عائلتي، لا سيما وأن أكبر أخواتي قد تمت خطبتها لابن خالي، وكل شيء يبدو على ما يرُام.. هكذا كنتُ أقنع نفسي بضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، وأخذتُ عهداً على نفسي بضرورة نسيان "نائلة" تماماً، فأي مقارنة بينها وبين الفتاة التي سأخطبها، أياً كانت؛ ستظلم الجميع!!
عرفتُ أن اسمها "عفاف جميل"، وبعد مقابلتي لوالدها، قابلتها.. ولا أدري كيف انشَرَحَ لها صدري فجأة، كان هناك توافقٌ عجيبٌ بيننا، وكأنني أعرفها منذ زمنٍ طويل، بل شعرتُ أنني أتحدث مع نفسي، وأرى صورتي في مرآة صافية! كانت تعمل في مجال (البرمجة)، حيث يمكنها مزاولة عملها في المنزل، ثم حدثتني عن أهدافها وطموحاتها، وحدثتها وكأنني أتحدث إلى صديق مقرب؛ أكثر من كوني أتحدث إلى فتاة أنوي خطبتها! وقد أراحني هذا الشعور كثيراً في ذلك الوقت! وكم كانت فرحة أمي وأبي كبيرة، بإعلان الموافقة من الطرفين..
وبعد أن تم ترتيب كافة الأمور بين الأهالي، وتحديد موعد الزفاف؛ شعرتُ بحاجة ماسة للاختلاء بنفسي، فلم تبقَ أمامي سوى أيام معدودة، لأتحمل بعدها مسؤولية كبرى، أُخِذَ مني عليها ميثاقٌ غليظ! فأخبرتُ أمي بأنني ذاهبٌ للنادي الرياضي، وقد أتأخر قليلاً حتى لا تقلق عليّ، وقد ذهبتُ هناك فعلاً، والتقيتُ ببعض الأصدقاء القدامى، ولكنني كنتُ أبحث عن الفرصة التي أخلو فيها بنفسي، فخرجتُ من حدود النادي أتمشى وحيداً، في ممشى شجري، بعيداً عن الضوضاء، أراجع شريط حياتي، تحت ضوء القمر، وكان لا بد لظل "نائلة" أن يظهر من جديد؛ إذ كنتُ أبحثُ عن طريقة لأنساها تماماً، وأُسدل الستار على آخر فصولها، فقد رأيتُ أنه من الخيانة للفتاة، التي ستصبح زوجتي؛ أن تكون هناك فتاة أخرى، لا تزال عالقة في قلبي..
وبينما أنا على تلك الحالة من الحوار الداخلي؛ فوجئتُ بظل شخصٍ، يعترض طريقي!! لم أتبين ملامحه في البداية، غير أنه بدا يتعمد لفت انتباهي، وربما يريد التحدث معي.. لكنني ذُعرتُ تماماً، عندما تبين لي أن ذلك الشخص؛ لم يكن رجلاً!! فاستدرتُ وأنا أنوي العودة من حيث أتيت بأسرع ما يمكن، فليس من الحكمة في شيء، أن أقف وحيداً مع فتاة شابة، على ما يبدو، في مكانٍ معزول كهذا!!!!
وقبل أن أقدم على خطوة أخرى في طريق العودة؛ فوجئتُ بها تهتف باسمي، بنبرة كسيرة، كانت كفيلة بزلزلة أعماقي، لتهيج أعاصير وزوابع، بل تفجّر براكين؛ توهمتُ أنني نجحتُ في إخمادها!
- نبيل.. ألم تعرفني؟ هذا أنا.. "نائلة"!
لم تكن بحاجة للتعريف بنفسها، لأدرك أنها هي بعينها، ورغماً عني وعن كل خططي الدفاعية؛ وجدتُ قلبي يخفق بجنون، حتى أنكرتُ نفسي، وأنا أحدثها باستبسال الغريق الذي يتشبث بالقشة:
- ما الذي أصابك يا نبيل!! ألم تقل قبل لحظات؛ بأنه لا وجود لـ "نائلة" في قلبك بعد اليوم!! أكان هذا اختبار مفاجيء لصدق كلامك، فأعلنتَ فشلك فيه من الكلمة الأولى!!!
تمالكتُ نفسي بصعوبة، لأقول لـ "نائلة"، بأكثر نبرة جادة امتلكتها في حياتي:
- أخشى أن يرانا أحد في هذا المكان وحدنا، فيظن بنا سوءا، ولا أريد أن أسيء لك بأي شكل يا أختي..
غير أنني تشنجتُ مكاني، وكأن الشلل أصاب كل خلية في جسدي، وأنا استمع لشهقاتها الملتاعة، وبكائها المرير! وهممتُ أن أهرع نحوها، لأضمها بين ذراعي، وأقول لها مُطمئِنا:
- "نائلة" يا مالكة قلبي، هوني عليك حبيبتي، وأخبريني، هل حدث لك شيء؛ فأقدم حياتي فداء لك؟
لكنني كبّلتُ قدماي، بأقوى أغلال يمكن أن تثبتهما مكانهما، وألجمتُ لساني بشدة، لأقول لها بلهجة جادة:
- هل يمكنني تقديم أي مساعدة؟
فما كان منها إلا أن جثت على ركبتيها، وهي تنتحب بكلام متهدج؛ كاد أن يفقدني صوابي:
- أعلم أنني أستحق منك هذا التجاهل بعدما حدث.. ولكن صدقني، لم أكن أدرك أنك تحبني أو حتى تهتم لأمري، رغم أنك كنتَ الشخص الوحيد، الذي أحببته طوال حياتي، وكنتُ أفضّل الموت على أن أتزوج برجل آخر! لكن أهلي أرغموني على ذلك.. وها قد مر أكثر من عام على زواجي، دون أن تغيب ذكراك من مخيلتي، إذ كان زوجي كثير السفر والترحال، وبالكاد يذكر أن لديه زوجة، عليه الاهتمام بها!! ربما لم تكن تعرف أن زوجة "أشرف" هي أختي من أمي، وهي أكثر من تعلم بمأساتي، فقد انفصلت أمي عن أبي عندما كنتُ في الثانية من عمري فقط، ثم تزوجَت مرة أخرى وأنجبت أختي تلك، فيما تزوج والدي امرأة أخرى وأنجب منها بقية أولاده، وبقيت أنا أتنقل بين البيوت، تارة في بيت جدي لأبي، وتارة في بيت جدي لأمي، تارة عند أبي وتارة عند أمي، وكبرتُ دون أن أعرف معنى الاستقرار، فأشغلتُ نفسي بالتميز والأهداف العظيمة؛ لعلي أتناسى ذلك النقص الكبير في حياتي، ثم شرعتُ في بناء كياني الخاص! لم يكن ينقصني المال، ولم أكن أدرك أنني كنت أبحث عن الحب والأمان.. حتى التقيتك ووجدتُ فيك كل ما أتمناه! ولكنني لم أكن أجرؤ على المبادرة بشيء قد يُساء فهمه، وكنتُ أنتظرك، وأنا أمنّي نفسي بأن أكون قد وقعتُ في قلبك؛ كما وقعتَ في قلبي.. ولكن مضت الأيام دون أمل، واعتراني الهم، حتى حصل ما حصل!! وقبل أسبوع فقط، عندما كنت أحدث أختي برغبتي في الطلاق من زوجي، بعد أن أصبحت حياتي جحيما لا يُطاق، حدثتني عن لقاء "أشرف" بك... وقتها فقط، شعرتُ بأن القدر قد يبتسم لي من جديد.
لا أذكر بأنني شعرت بوجود كلمات أكثر صدقاً، تنساب بعذوبة وعفوية كتلك الكلمات من قبل، ولا أعرف كيف تمكنتُ من الصمود في تلك اللحظات، دون أدفئها بلهيب أشواقي المشتعلة، أو أغمرها بسيل مشاعري المتأججة، لأخبئها في أعماقي؛ خشية أن يراها أو يسمعها أحد غيري!
وأي شاب يحتمل رؤية حبيبته الوحيدة، التي قضى أيامه يحلم بالوصول إليهǺ تصارحه بحبها ورغبتها، وهي في أشد حالات اليأس والانكسار، بعد أن فقدَ في وصالها الأمل!! وكأنني غبتُ عن واقعي للحظة، فرأيتني انتشلها من بؤسها، وأخلصها من عذاباتها، فأنا فارسها المنقС الذي طال انتظارها له، وآن لها الارتماء في أحضانه، ليحلق بها على صهوة جواده الأبيض، فوق سحائب الهموم والآلام، حيث سنبني قصر حبنا، والذي سيرتع في ظلاله أطفالنا، حتى ننسى أننا ذقنا في حياتنا بؤساً قط!
وكأنها خشِيَت ترددي، فرجتني بنبرة؛ أذابت جليداً؛ حاول أن يصمد في لهيب صدري:
- إن منزلي قريب، وأنا وحيدة، فلا تتركني لأشباح وحدتي، أتجرع مرارة الحرمان من جديد، ولا يهمني ما الذي سيحدث بعد ذلك، فلم تعد الحياة تعني لي شيئا!! وثق بأنني مستعدة لفعل أي شيء من أجلك..
ولكن.. لا أدري أي قوة تلك التي كبحت جماحي، وعقدت لساني، فوقفَتْ سداً منيعاً أمام هوى قلبي، فتجمّد قبل أن ينساب في كلماتٍ؛ تكشف عظيم حبي، وشدة شوقي!
لقد أصابتني رعدة خوفٍ؛ ما شعرتُ بمثلها قط! ولستُ أدري إن كان ذاك خوفاً من ارتكاب عملٍ خاطئ؛ أندم عليه طوال حياتي، أم خوفٌ من ردة فعل أمي، التي بذلت جهدهǺ حتى أتمّت خطبتي، أم خوفٌ من ردة فعل أبي الذي يثق بي، أم خوفٌ من خيانة زوجٍ غائبٍ؛ قد لا يكون له ذنبٌ فيما يجري، أو خيانة فتاةٍ على وشك أن تصبح زوجتي!!
رأيتُ ناراً يقع المجرمون فيها سبعون خريفاً؛ فلا يصلون قعرها، وجنة يخلد الأبرار في نعيمهǺ ولا يملون منها أبداً، وفوق ذلك.. ربٌ عظيمٌ لا تخفى عليه خافية، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!! فخشع قلبي، وسكنَتْ جوارحي، ونطق لساني، وقدماي تلوذان بالفرار:
- لقد عقدتُ قراني، وسأتزوج بعد عدة أيامٍ، إن شاء الله..
ربما توقعتُ كل شيء، إلا سماع شهقتها الفزعة، وهي تسألني بالتياع:
- وهل كنتَ تحبهǿ؟
فوجدتُ لساني يجيبها بتلقائية، وأنا أحث الخطى في الابتعاد:
- لقد أصبحَت زوجتي.. وسأحبها، بإذن الله..
غير أنني توقفتُ فجأة؛ لأقول لها دون أن التفت إليها:
- حتى أنتِ يا أختي.. يمكنك أن تحبي زوجك، وقد يرزقك الله منه طفلǺ يكون قرة عين لك في الدنيا والآخرة، لذا أرجوكِ، عودي من حيثُ أتيتِ، واستري على نفسك ستر الله عليك..
وهممت بالجري كي أختفي من ناظريها بسرعة، لكنني تذكرتُ أمراً هاماً، ختمتُ به كلامي، قبل أن أطلق ساقاي للريح:
- أنا لم أرَ ولم أسمع شيئاً، ولا أعرف عنكِ سوى أنك الطالبة الخلوقة "نائلة عواد"؛ التي ستسعى بجدٍ لتحقيق هدفها في ترجمة كتبٍ، تكون سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا..
ورغم مرور كل تلك السنوات؛ ما زلتُ لا أتمالك دموعي كلما تذكرتُ ذلك الموقف، وذكرتُ حفظك لي فيه يارب، فقد كنتَ سندي في جميع أموري، وأنتَ تعلم أنني ما تتبّعتُ لها خبراً بعد ذلك، ولا كشفتُ لها ستراً، وكنتُ أرجو أن ينصلح حالها بكل خير، ابتغاء مرضاتك، وإنني أتوسل إليك بقدرتك، التي حَفِظَت شاباً هائجاً، وثبّتته في ذلك الموقف العصيب؛ أن تُلهم هذا الطبيب الطيب علاجاً؛ يكون فيه نجاة ابني وحفظه من كل سوء، فقد كنتُ شاباً مثله، وأنتَ على كل شيء قدير..
*************************
(يتبع)
المفضلات