وأخيرا جاء دوري.. فاعتدلتُ في مجلسي، لأشاهد نفسي، وما الذي ذكرته "آسيا" عني، بالطبع كان لا بد لصورة "آخر العنقود" بالتدلي على الشاشة!!
وشعرتُ بمعنى أن يكون الانسان "طفل العائلة المدلل"، وإن كان في سن الرابعة والعشرين!! فقد أسهب الفلم بعرض صُوَري في جميع مراحل حياتي، ربما لأنهم لم يجدوا أي إنجازٍ يُذكر حتى الآن!! وبالطبع تمت الإشارة إلى حصولي على المركز الثاني في امتحانات الثانوية العامة، رغم أنني كنتُ أتمنى التفوق على "مريم"، ولكن الحمد لله، هذه نعمة كبيرة بلا شك، ومن ثم تخرّجي بمرتبة الشرف الأولى في كلية الطب، بفضل الله، ولم تنسَ الاشارة إلى سلسلة "مذكرات طالب طب"، التي نشرتها خلال سنوات دراستي، كان آخرها الجزء السادس! وقد كانت بداية الفكرة، عندما أخذ أبي يُطالع دفتر مذكراتي الخاص، وما كتبته من أحداث، مرت بي في السنة الدراسية الأولى، فاقترح عليّ نشرها في كتاب، لعلها تفيد زملائي من بعدي، وقد أسعدني أن أبي وجدها مذكرات مفيدة حقاً، إذ كنتُ مغرماً بالكتابة، ولم أتوقع أن يكون في ما أكتبه فائدة لغيري! وقد أقبل أصدقائي على مذكراتي بشدة، لا سيما وقد وجدوا فيها ما يلامسهم! ورويداً رويداً زاد عليها الطلب، وهكذا.. وجدتُ نفسي أصدر في نهاية كل سنة دراسية كتاباً، بتوفيق الله..
ثم عرّج الفلم، على الحادثة التي تعرضتُ لها، وخروجي منها سالماً بأمر الله، على يد الطبيب "معروف"، والذي ساعدني فيما بعد، للعثور على فرصة ممتازة في أحد أفضل مستشفيات البلاد، لأبدأ برنامج الامتياز الطبي. ولأن المستشفى في مدينة أخرى، بعيدة عن مدينتنǺ فسأنتقل للإقامة في سكنٍ خاص، تابع للمستشفى، مما يعني أنني سأفترق عن والداي لأول مرة!!
وخُتم الفلم- ذو النصف ساعة- بالآية القرآنية:
"أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير"
تلاها عبارات الحمد والثناء على الله، والشكر لوالدينا، حيث كانت هناك عشر عبارات، كتبها كل واحد منّا على حِدَة، فما هذا إلا جزء من إنجازاتهم، ولم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه، لولا فضل الله علينا، وحسن تربيتهم لنا.. فتربية عشرة أولاد، وتحمل مسؤوليتهم كاملة، كما تقول "عفيفة"؛ ليس عملاً سهلاً أبداً!!
وقد أحسنت "آسيا" في إخراج ذلك كله؛ بعرضٍ رائع، وجذّاب..
انتهى الفلم وفتحنا الستائر، وكان أبي لا يزال على جلسته، وهو يحيط كتفا أمي بذراعه، فيما لم تتمالك هي دموعها، فانهمرت على وجنتيها بتأثر شديد، وقمنا نحن نقبل كفيهما ورأسيهما، بحب وامتنان، لكن أمي استدركت قائلة، وهي تخاطبنا، وكأننا أطفال في الابتدائية:
- هل قرأتم أذكار الصباح يا أولاد؟
وقد أجابها الجميع بالإيجاب، لكنها نظرت أليّ فجأة، كمن يضبط لصاً، يحاول التسلل من قبضة العدالة:
- "عفيف".. هل قرأت أذكار الصباح؟؟
وحقيقة لم أكن متأكداً مما إذا كنتُ قد قرأتها أم لا، وأمام ترددي في الإجابة، رمقتني أمي بنظراتٍ ثاقبة:
- كم مرة عليّ أن أذكرك؟؟ العين حق، ولا ينقصنا متاعب بسببك!! هيا أسمعني الأذكار الآن..
وساندها أبي بقوله ملاطفاً:
- ستكون فرصة لتُسمعنا صوتك الجميل يا بني..
وبالطبع انطلق لساني يرتل بصوتٍ رخيم، سورة الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، وبقية الأذكار والأدعية..
وكأن والداي ظنا أن الحفلة قد انتهت، دون أن يخطر ببالهما أن المفاجأة الحقيقية لم يُعلن عنها بعد؛ فهمّا بالقيام، لكن "عفيفة" أشارت لهما بالجلوس قائلة:
- والآن.. يشرفنا تقديم هذه الهدية البسيطة لكما، رغم أنها لا تُقارن بعظيم ما قدمتماه لنا..
وأحضر "أكرم" علبة صغيرة، مغلفة بورقٍ مُلوّن برّاق، قدمها لهما، فتناولها أبي وقدمها لأمي كالعادة، فقامت بفتحها والفضول بادٍ في أعينهما، فيما كنّا نتابع ردة فعلهما بترقب!
وكم كانت دهشتهما كبيرة وواضحة- كما أردنا- عندما وجدا جوازات سفرهما في العلبة!!
فتناولت أمي جواز سفرها، وأخذت تقلبه لتتأكد منه، وفعل أبي الشيء نفسه، قبل أن تعلق أمي قائلة:
- ما معنى هذا!!! وكيف وصل جوازي إلى هنǿ
والسؤال نفسه، كان يشع من عيني والدي بطبيعة الحال، فيما حاولتُ اخفاء ابتسامتي وأنا أحدق في السقف، فمن سيأخذ جوازهما غيري، دون أن يُشعرهما بذلك!!
وبعد لحظة صمت، قالت "عفيفة"، وهي بالكاد تسيطر على نفسها من شدة الحماسة، ولم نكن بأقل حماسة منها:
- بما أن "عفيف" سينتقل الأسبوع القادم للإقامة في سكن المستشفى، إن شاء الله، ولن يعود هناك من تقلقا عليه في المنزل؛ فستكون فرصة لكما لتجوبا العالم، في رحلة سياحية حوله؛ من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن متأكدون من أنكما ستنشران الخير حيث حللتما، وستكونان سبباً في هداية خلقٍ كثير، بإذن الله، فمن يراكما معاً، ويتعامل معكمǺ لا يملك إلا أن يسأل عن معتقدكما، وهذه هي الدعوة الحقيقية..
ويبدو أن أمي لم تستوعب ما قالته "عفيفة" تماماً، فسألتها بتعجب:
- كيف؟
فابتسمت "عفيفة":
- لقد تم حجز وترتيب كل شيء، تذاكر الطائرات، والفنادق، في رحلة حول العالم لمدة سنتين، إن شاء الله، واطمئنا، فسأمر على المنزل بين الحين والآخر لتهويته، وسنكون معكما على تواصلٍ دائم، بإذن الله، وقد نأتي لزيارتكم مع عائلاتنا، أثناء إجازاتنا، في المكان الذي تقيمان فيه، خلال تلك الفترة..
والتقطت نفساً قبل أن تتابع:
- سنقوم بإصالكما إلى المطار مع "عفيف"، الأسبوع القادم، إن شاء الله، فستنطلق رحلاتكم في اليوم نفسه، وقد أنهينا جميع الترتيبات لذلك، بفضل الله..
فهتفت أمي:
- ما الذي تتحدثين عنه؟؟ هل أنتِ جادة حقاَ!!
والتفتَتْ نحو أبي، تحاول التأكد من أن ما فهمته صحيحاً، فيما فسحت "عفيفة" المجال لـ "سليم"؛ الذي قدم لهما هاتفين حديثَيْن، قائلاً:
- هذه الأجهزة من أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا هذه الأيام، وقد تم توصيلهما بخدمة (انترنت) مفتوحة، متصلة بالأقمار الصناعية مباشرة، يمكنكما استعمالها في أي مكان وزمان، وبهما شرائح اتصال دولية، ترسل وتستقبل المكالمات، من أي مكان في العالم، كما قامت "آسيا"، بتحميل برنامج مُحاكاة خاص عليهما، يعمل كالدليل السياحي، لمسار هذه الرحلة..
وبسرعة، قمتُ بإغلاق الستائر من جديد، بناء على إشارة "عفيفة"، حيث قام "رؤوف" بعرض مخططٍ لمسار الرحلة، وصوراً للأماكن التي سيزورانها، والفنادق التي سيقيمان فيها، وجميعها من الدرجة الأولى، وقد علق "رؤوف" قائلاً:
- لقد ضَمِنت لي الشركة السياحية، التي أتعامل معها، توفير جميع وسائل الراحة، ولن تجدا ما يؤذيكما من خمور أو ما شابه، لقد أكّدتُ لهما على هذه القضية تحديداً.. وقد حرصتُ على اختيار شركات الطيران بعناية، حيث ستسافران عبر الدرجات الأولى، في جميع الرحلات بإذن الله، بداية إلى الديار المقدسة، حيث تم حجز أسبوع لكما في فندقٍ يطل على ساحة المسجد النبوي الشريف، ثم أسبوع في مكة، في غرفة ذات واجهة زجاجية، تطل على الكعبة المشرفة، ويُمكن أن تُرى، حتى أثناء النوم على السرير..
كان "رؤوف" يتحدث، وهو يشير إلى الصور التوضيحية على الشاشة، وكأن أمي استوعبت أخيراً، طبيعة هديتنا، فسمعنا صوت بكائها من شدة التأثر، فصمتَ "رؤوف"، فيما كان أبي يضم أمي إليه، بحبٍ واضح، وعيناه تترقرقان بالدموع، طابعاً قبلةً حانية على جبينها:
- تستحقين كل الخير يا عزيزتي..
ومن غير ترتيبٍ مسبقٍ بيننا، هتفنا معاً في صوت واحد:
- وأنت أيضا يا أبي، تستحق كل الخير.. وهذا قليل في حقكما..
وكأن أبي حاول تهدئة أمي، فسأل بابتسامة ذات معنى:
- وماذا عن القدس؟ ألن نزور المسجد الأقصى أيضاً؟؟
وبحركة لا إرادية، هببتُ من مكاني هاتفاً:
- أنا لها.. أنا لها..
وانفجر أخوتي ضاحكين، فيما ابتسمتُ قائلا بثقة- فقد كنت أغبط "رؤوف" على دوره الكبير في هذه المفاجأة:
- سأعمل بجدٍ لتحقيق ذلك يا أبي، إن شاء الله..
ثم قلتُ مداعباً أمي، التي كانت تحاول التقاط أنفاسها:
- لا تنسي قراءة الأذكار في الرحلة، فمن يراكِ؛ لا يصدق أنك قد تجاوزتِ الخمسين من عمرك، بعقدين من الزمان!!
فمدّت أمي يدها لتقرص أذني كعادتها:
- قل "ما شاء الله" يا ولد!
وضحكنا جميعاً بمرح..
وبعد أن انهى "رؤوف" عرضه، قمنا واغتسلنا استعداداً لصلاة الجمعة، حيث ذهبتُ إلى المسجد مع أبي وإخوتي الذكور، فيما بقيت أخواتي مع أمي في المنزل، فانشغلن بالتنظيف والترتيب، بعد أن أعدتُ مع إخوتي؛ الطاولة الثقيلة إلى مكانها، ليعود كل شيء كما كان..
لم أستطع النوم تلك الليلة، وأنا أفكر في تلك الأجواء الجميلة، التي لا يمكن أن أنساها ما حييت، وكنتُ أقول لنفسي؛ إذا كان هذا هو عطاء الله في الدنيا، فكيف هو عطاؤه في جنة عرضها السماوات والأرض!!!
وخرجتُ إلى الشرفة، لأستنشق نسائم الليل المنعشة، لكنني فوجئتُ برؤية أبي هناك، واقفاً يتأمل القمر بشرود!!
لطالما شعرتُ بأن هناك علاقة خاصة، تربط أبي بالقمر! وربما هذا ما جعلني أفكر، بأن لانعكاس أشعة القمر؛ دورٌ في حماية أختي "مريم"!
ألقيتُ على أبي التحية، فردها بأحسن منها، والتفتَ إليّ باسماً:
- أما زلتَ مستيقظاً؟
ثم وضع يده على كتفي بحنان، بعد أن وقفتُ إلى جانبه، نتأمل سكون الليل سوياً، ولا أدري كيف خطرت كلمات خطيب الجمعة ببالي فجأة، فقلتُ لأبي:
- لقد تحدث الخطيب اليوم عن "الخبيئة"، وعن فضل من يكون بينه وبين الله أسرارٌ من العمل الصالح، وأنها من أسباب دفع الضر، وجلب الخير..
وصمتُّ قليلاً قبل أن أسأل والدي باهتمام:
- هل لك "خبيئة" يا أبي؟
لا أدري ما الذي كان يجول بفكر أبي في تلك اللحظات، إذ تنهد بعمق، ورأيته يحدق في القمر من جديد، دون أن ينبس بكلمة واحدة! فاحترمتُ صمته، وكنتُ أتمنى لو يحدثني بشيء، أستفيد منه في حياتي، إذ طالما تحدثت عماتي عن أبي في شبابه، وقلنَ بأنه كان مثالاً للاستقامة، وأظن أن هذا هو سر شبابه وقوته، رغم بلوغه سن الثالثة والسبعين، فقد قرأتُ ذات مرة؛ قولاً لأحد السلف، بعد أن رآه أحدهم يقفز من سطح السفينة، وقد تجاوز المائة، فسأله عن سر صحته فأجابه بقوله:"حفظنا الله في شبابنا فحفظنا عند كِبَرنا"، لا أذكر الجملة تحديداً، لكن هذا معناها، ولا أستبعد أن الأمر ينطبق على أبي.. وأمي أيضاً..
وبكل ما يعتري صدري من فضول، أعدتُ السؤال على أبي، بطريقة أخرى:
- ألا يمكنك أن تخبرني بالسر يا أبي لأستفيد؟
وقد نجحتُ فعلاً في إصابة الهدف هذه المرة، فقد تحرّكت شفتاه أخيراً:
- عندما أحببت.. عَفَفْت..
***************