الحلقة الأولى: بداية الكابوس

بدأ كابوس اللغة الفرنسية يتجلى لنا بأنيابه المرعبة في الصف الأول من المرحلة المتوسطة.
رغم أن الأستاذ كان يقرأ الدرس ويشرح كل كلمة بكلمتها، ما جعلنا نشعر بأننا قد ابتدأنا نضع أقدامنا بثبات في درب تعلم اللغة الفرنسية، إلا أن أمرين اعترضا هذا الأمر، وحوَّلا المسألة إلى مصيبة حقيقية!

إنه أستاذ مادة علوم الحياة ال biologie الذي لعب دورًا تعيسًا في مضاعفة كراهيتنا مادة اللغة الفرنسية، فلقد كانت تلك السنة هي أول سنة دراسية نأخذ فيها مادة العلوم باللغة الفرنسية، والأستاذ كان لديه مبدأ أن الدرس يجب أن يكون كبيرًا، والمسابقة من عشرين سؤالًا (فقط)، لكل سؤال علامة واحدة، وأي خطأ؛ مهما كان؛ حتى لو أنه خطأ إملائي، يُشطَب معه الإجابة بالكامل، لأنه لا يعترف بأنصاف العلامات، بل وكان يعطينا أحيانًا درسًا كبيرًا ويخبرنا أنه سيجري لنا مسابقة اليوم التالي، ويجب علينا أن نكتب الدرس بأكمله! وفي إحدى المرات أعطانا عشرين جملة، وطلب إلينا أن نضع لكل جملة سؤالًا، ونحن قد حفظنا الإجابات ولم نتوقع أن يكون علينا حفظ الأسئلة، وهكذا نال 26 تلميذًا أقل من 10 علامات، أي أن مجموع علاماتنا (جميعنا معًا) لم يصل إلى 10 علامات، وذلك لأن أكثر من 20 تلميذًا (فقط) نال صفرًا! حاولنا؛ رغم ذلك؛ أن نقوي أنفسنا ومستوانا في اللغة الفرنسية، ولكن أستاذ المادة تم تغييره بغتة، تحديدًا بعد عطلة رأس السنة، لنفاجأ بعدها بأستاذ آخر، (يبشِّرنا) بأننا سنخرج من صفه آخر السنة نتكلم اللغة الفرنسية كأهلها، بل لن نطيق أن نشاهد أفلام الكرتون نفسها إلا باللغة الفرنسية (ولا أدري كيف، لم يكن في وقتنا أكثر من محطتين تلفزيونيتين فقط، وبالكاد تعرض واحدة منهما فلم كرتون واحد، وباللغة العربية)! و(المصيبة) أننا صدقناه، وأذكر أننا أخذنا نتصافح بسعادة فيما بيننا، ونهنئ بعضنا على هذا (الإنجاز الرائع) الذي حققناه!

لكن لم يطل الأمر حتى استيقظنا من غفلتنا وأوهام الوعود، فالأستاذ صرخ غاضبًا مستنكرًا حينما وضعنا كتب اللغة الفرنسية أمامنا، وأخبرنا بأنه لن يلجأ إلى هذه الوسائل (العفنة) في التدريس، فأرجعنا الكتب إلى حقائبنا، ليخرج هو من حقيبته دفترًا مهترئًا (ربما كان يكتب فيه، وهو تلميذ، قبل الحرب العالمية الثانية على الأرجح)، وأخذ يقرأ بسرعة خيالية لا تصدق، والأحرف تتداخل ببعضها، عدا عن لدغة غريبة بأكثر من عشرين حرفًا (فقط)! تصبب العرق من وجوهنا، ونحن ننظر إلى بعضنا بِحَيرة شديدة، وما كاد الأستاذ يعلن أنه أنهى القراءة، حتى ارتفعت أصواتنا بالهتاف الفرح السعيد، والذي لم يلبث أن خبا، فالأستاذ أعلن أنه سيقوم بطرح الأسئلة علينا، ليسجل العلامات!
وكما لم يبالِ الأستاذ بالهتافات السعيدة، لم يبالِ بصيحات الاستنكار الحادة كذلك، بل نظر في لائحة الأسماء، ثم هتف بلهجة انتصار بكلمة لم يفهمها أحد، كأنه ينادي تلميذًا فرنسيًا، بل إننا نشك حتى أن فرنسا نفسها فيها مثل هذا الاسم، وكرر الأستاذ الاسم عدة مرات، ونحن نتبادل النظرات المحتارة والابتسامات الشامتة، قبل أن يصيح الأستاذ بلغة مفهومة (أخيرًا):"كلكم هنا، لا يوجد غائب"، وانطلق الأستاذ في وابل من السباب والشتائم على صاحب هذا الاسم الغريب الذي لم يسمع به أحدنا في حياته، ثم هتف الأستاذ بنفاد صبر، مكررًا مؤكدًا: "لا يوجد غياب في الصف، وإذًا هذا الـ... الذي أناديه موجود! فلماذا لا يرد... الرقم 15"؟

اتسعت أعين التلاميذ في دهشة واستنكار، لكني كنت أكثرهم دهشة واستنكارًا، كيف لا أكون كذلك، والرقم 15 هذا هو رقم ترتيبي الشخصي في الصف! أي أن الأستاذ يناديني أنا!! يناديني باسم لم يسمع به أي منا، لا أنا ولا غيري، في هذا الصف!

تابعوا معنا