إعلان
قصة (خيالية) ساخرة من (واقع) الحياة!
بقلمي: عمر قزيحة _ عام 2003م.
المضطر يفعل أي شيء كان!
قالها وليد لنفسه وهو يكاد يتميز من الغيظ
وليد هذا خريج من كلية الإعلام بتقدير الامتياز الأول
ومع هذا لم يجد أي عمل إلا بالمؤسسة المزعجة هذه
مؤسسة إعلامية عجيبة جدًا
مديرها لا يحمل شهادة إعدادية
لكن الضرورات تبيح المحظورات
والمضطر يركب الصعاب
_ سوف تكون مقدم إعلانات
قالها مديره حميد في برود تام
فانتفض وليد في مقعده صارخًا:
_ مقدم إعلانات؟؟ أنا؟!
رد المدير في ازدراء تام:
_ نعم، أنت.
وأضاف في لهجة استحقارية تامة:
_ هذا هو مستواك الإعلامي يا رجل، وإن لم تكن موافقًا، فتفضل، الباب (يطلع جمل)!!
أحس وليد برغبة أن يقوم من مكانه ويخنق المدير
يا ترى لو فعل هذا، فهل تعتبر هذه جريمة!!
لكن لا يا وليد، اضبط نفسك وتمالك أعصابك
ثلاثة أشهر وأنت تبحث عن عمل ولا تجد
كل المؤسسات الإعلامية مكتفية وممتلئة عن آخرها
وهنا فرصتك الوحيدة لإبراز مهاراتك الإعلامية الحقيقية
ومن يدري بم يأتينا الغد؟
ربما ستصبح أفضل مقدم نشرة أخبار في الشرق الأوسط
أو ربما تصبح _ كما تحلم من أيام طفولتك _ مراسلًا صحفيًا في الدول الأوروبية
_ لن يحصل هذا أبدًا.
قالها المدير، وكأنه قرأ أفكار وليد
وقبل أن يعترض المسكين، وقف المدير يتابع كلامه بصرامة:
_ رفيق طفولتي ومشاغباتي وحياتي كلها ممدوح، سيكون المراسل الصحفي الخاص بنا في المكان الشاغر الوحيد.
وقف وليد ووجهه يتلون بألوان الغضب
لكن المدير لم يبدِ أدنى اهتمام به أو بمشاعره...
وإنما أشار بيده مضيفًا في شماتة تامة:
_ للمرة الأخيرة يا وليد، إما أن توافق على تقديم الإعلانات، أو (الله معك) لا نحتاج إليك!
ما هذا الزمن المقلوب هذا يا وليد؟؟
أنت تتعب وتدرس وتسهر الليالي
وأهلك يدفعون لك المبالغ الجنونية
كل هذا لأجل أن تكون الأول على دفعتك
وبعدها يتحكم فيك ولد مثل هذا لا يحمل أي شهادة؟
وممدوح (الزفت التاني) هذا كان في صفك ورسب
وشهادته الوقت أقل من شهادتك
بأي منطق سوف يكون المراسل الصحفي وأنت تقدم الإعلانات؟!
_ ماذا قررت يا رجل؟!
زمجر المدير في ضجر غاضب للانتظار
فابتلع وليد ريقه بصعوبة بالغة
وتمتم بصوت منخفض مختنق كله أسى ومرارة:
_ مو......موا.............موافق
وابتسم المدير في ظفر
وأشار بيده قائلًا في (تسامح) مصطنع:
_ استعد للتدريبات يا رجل، الإعلان المساء عن معجون الأسنان.
وكاد وليد ينفجر من شدة الغضب.
تضاعف غضب وليد أضعافًا مضاعفة، حينما علم من سيكون مدربه...
يا للمهزلة!!
سعيد الذي درس في كلية الإعلام مثل وليد، ثم تخصص في مجال الإخراج...
ويا له من تخصص!!
كان يأتي وليدًا بين حين وآخر يتضرع إليه أن يساعده في فهم الدروس التي لا يستطيع عقله المحدود فهمها، وكان وليد يشرحها له بالفعل مع أن اختصاصه بعيد كل البعد عن الإخراج...
ولولا وليد، ما نجح سعيد...
واليوم، سعيد سيدرب وليد!!
لكن، هناك نقطة إيجابية وحيدة في الموضوع...
ربما يستحي سعيد من نفسه أن يتعالى على من أوصله إلى الشهرة والنجاح...
_ هل أنت مستعد؟
قالها سعيد في برود تام، وهو يدخل الغرفة، فسأله وليد في شرود:
_ مستعد لماذا؟
رد سعيد في ضيق واضح:
_ اسمع، الوقوف أمام الكاميرا ليس مزحة، أستغرب كيف تمكن شخص شارد الذهن مثلك من الحصول على الشهادة في عالم الصحافة الذي يحتاج إلى كل التركيز!!
استيقظ وليد من شروده تمامًا مع هذه الكلمات التي استفزته تمامًا، فَهَمَّ بِرَدٍّ عنيفٍ للغاية، يهين فيه ناكر الجميل هذا، ثم يغادر هذه المؤسسة الإعلامية اللعينة من دون ذرة من الندم عليها، ليبحث عن عمل كزبال في البلدية...
كاد وليد يفعل هذا حقًا، متناسيًا تعب سنين الدراسة والشهادة التي حصل عليها بدرجة امتياز...
كاد وليد ينفجر في وجه سعيد، لولا أن ارتفع صوت المدير حميد عبر جهاز الاتصال يطلب سعيدًا إلى مكتبه...
وخرج سعيد من الحجرة، ووليد يحاول جاهدًا تمالك أنفاسه كي لا يوسعه شتمًا...
وربما كان وليد سينجح في تهدئة أعصابه، لولا أن عاد سعيد بغتة إلى الحجرة، ليقول في صرامة تجعلك تشعر كأنه مخرج فذ:
_ اخرج من أحلام يقظتك، وكن بكل تركيزك حينما أرجع كي أتولى مسألة تدريبك!!
كاد وليد يرد، لكن سعيدًا ألقى بكلماته وغادر على الفور...
وخرج وليد بدوره من غرفة التدريبات، استعدادًا للخروج من المؤسسة بكاملها، لكنه توقف على بعد خطوات من الغرفة...
ثم أجال نظره فيها...
وفكرة مجنونة تسيطر على كيانه...
فكرة مجنونة بحق.
_ دخل سعيد مكتب مديره حميد، فأشار إليه الأخير بالجلوس والانتظار ريثما ينتهي من مراجعة ما لديه من أوراق، فامتثل سعيد للأمر، واسترخى في مقعده من دون صوت ليترك المجال لمديره للتركيز...
لكن الأخير نحى الأوراق جانبًا، ليقول بهدوء:
_ لا أريد منك شيئًا في الحقيقة، لكني استدعيتك لألقن وليدًا درسًا قاسيًا.
صاح سعيد في حماسة، متقربًا إلى مديره:
_ مرني بما تريد، وسأفعل.
رد حميد مبتسمًا:
_ لن تفعل شيئًا.
تمتم سعيد في حيرة:
_ إذًا؟؟
اتسعت ابتسامة حميد، ومال نحو سعيد ليقول له بلهجة من يحدث طفلًا:
_ وليد غاضب لأنه سيؤدي الإعلان، لكن، حينما ينتظر ويطول به الانتظار، سيغضب جدًا، ثم سيزول الغضب ليشعر بالملل، وعندها سيتمنى أن ترجع لتدربه على فكرة الإعلان، ويرتاح من العناء.
اتسعت عينا سعيد عن آخرهما، فشعر حميد بالزهو، إذ ظن أن الأخير منبهر به، لكنه انتبه إلى أنه يتابع بنظره الشاشة الصغيرة التي على يسار حميد، والتي تنقل إليه كل ما يحدث ضمن مؤسسته هذه...
ونظر حميد بدوره، ثم ارتد كالمصعوق...
فما رآه كان مذهلًا...
إلى حد لا يصدق.
كان الناس يتابعون ذلك البرنامج الشهير في تلك المحطة التلفزيونية، حينما توقف البرنامج فجأة، من دون التنبيه المسبق إلى وجود فاصل إعلاني...
وظن الجميع أن هناك خللًا ما أصاب شريط الفيديو...
ثم اتسعت أعينهم في ذهول عارم...
فلقد ملأت الشاشةَ صورةُ شاب وسيم يبتسم في سخرية...
واتسعت ابتسامة الشاب تدريجيًا حتى ملأت الشاشة كلها...
ثم ارتفع صوته يقول:
_ معجون سنااااان... بيسبب هريااااااااان....بيعملك سعدااااااان.... معفن جرباااااااااااان.... راسك ضربااااااااان......أبو أمْل وسيبااااااااااااان
لا
لم يقل وليد هذا
بل غناه بصوت منكر أجش
كصوت حمار ينهق وقد سدت حلقه ملعقة
مع أنه صوته في الأصل جميل جدًا
ولولا الذهول الذي أصاب الجميع
لم يكن ليصل إلى هذا القدر من الغناء في الإعلان
وبذهول صاح المخرج سعيد، وأنفاسه تكاد تتقطع مع ركضه كالمجانين إلى غرفة الإخراج ليوقف البث:
_ ماذا فعلت أيها الأحمق؟! الإعلان على الهواء مباشرة، وعلى القناتين الأرضية والفضائية يا معتوه!!
نظر إليه وليد بطرف عينه مرفرفًا بجفونه
وكأنه يستمع إلى كلمات الغزل ويستمتع بها
وفقد سعيد أعصابه تمامًا
وضم قبضته واتجه ناحية وليد ليضربه
_ ولييييييييييييد تعاااااااااال إلى مكتبيييي حااااااااااااااالًا
انطلق صراخ المدير المدوي يجلجل في أركان المؤسسة الإعلامية كلها، من دون الحاجة إلى وسائل الاتصال الداخلية...
وقهقه وليد ضاحكًا في شماتة
واتجه نحو المدير وهو يغني:
_ لالالالالا...ترالللللااااااااااااااا.........لالال الالالاااااااااااااااا
ودخل مكتب مديره متابعًا غناءه السعيد
وجلس يمد رجليه فوق بعضهما، وهو يقول في استهانة:
_ خير؟
صاح المدير في جنون:
_ ماذا فعلت أيها التعس؟ من المؤكد أنك مرتشٍ لتدمر مؤسستي هذه، مدير شركة المعجون اتصل بي ويطالب بالتعويضات، سوف ندفع كل الخسائر ونرد إليه اعتباراته المعنوية، بكلمة واحدة، سوف نفللللللللللللللللسسسسسسسسسسسسسسسسس
قهقه وليد، وكأنه استمع إلى دعابة طريفة
وارتجف جسم حميد وهو يفكر أن ينضم إلى قبائل أكلة لحوم البشر!!
وقتها سيلتهم المجنون الجالس أمامه، والذي يحمل اسم وليد!!
_ تررررررررررن
ارتفع رنين الهاتف لحظتها
وفي توتر واضح رفع المدير السماعة قائلًا:
_ من معي؟
استمع للحظات، ثم صاح في ذهول تام:
_ مستحيييييييييل!
ولم يكد يضع السماعة
حتى ارتفع الرنين ثانية ومزدوجًا
لهاتف المؤسسة ولجوال المدير
وتوالت الاتصالات، وبدأت آلات الفاكس تستقبل أوراقًا بغزارة
وتصبب العرق من جبين حميد، وهو يتابع كل الضغط المباغت هذا
أما وليد فكان يمر بأحلى لحظات حياته
لا شك أنها إهانات مستحقة يتلقاها (الأبله) المدير
ذلك كي يتربى ويتعلم أن (الناس مقامات)
أما المدير المسكين فما كاد يحظى بثانية لم يرن فيها الهاتف
حتى أسرع هو يضرب الأرقام المرة هذه ليجري اتصاله
وما إن أتاه صوت محدثه حتى صاح في لهفة واضحة:
_ اسمع يا رجل، كل أنابيب المعجون تم بيعها، والناس تهجم مثل الجراد على الصيدليات تريد حصتها من المعجون!! عجل يا رجل وابعث الشاحنات بكل الكميات التي تقدرون على إرسالها.
شعر وليد بالصاعقة
ماذا حصل؟!
بل كيف يحصل هذا؟!
مستحيل
من المؤكد أن المدير يكذب
أو أن الخرف أصابه من هول الصدمة
_ قبل أن أنسى يا رجل، جاءتني عروض من شركات عربية كثيرة، كلهم يريدون كميات رهيبة من معجونك المدهش هذا، لا والله لا أمزح، هم يريدون ردكم الآن، لكن انتبه، يجب أن تطبعوا على المعجون كلمة (السعدان)، كما أسموه هناك!!
وهنا وقع وليد على الأرض مطلقًا شهقة رهيبة
وبدأ قلبه ينبض في بطء مخيف
أولى بوادر السكتة القلبية
والعجيب أنه في حالته هذه، كانت تنطلق صرخة استنكار في أعماقه:
_ ماذا أصاب الناس في هذا البلد؟؟ بل ماذا أصاب العرب جميعًا؟؟
وأنهى المدير الاتصال
واقترب منه ينظر إليه في انبهار تام
وبكل الفخر همس المدير:
_ وليد
نظر إليه وليد في ضعف شديد
والتقت عيناهما
عين وليد النائم على الأرض
وعين المدير الواقف، والذي لم يفكر في الانحناء ولو قليلًا
وبمنتهى الانبهار والإعجاب والاحترام قال المدير:
_ لماذا درست الإعلام يا وليد؟! أنت مجالك الطرب الأصيل يا ابني، آخر العروض كانت من شركة إيطالية تريد أن تكون الوكيل الحصري للمعجون هذا في أوروبا كلها، ولكن لديها شرط، شرط واحد يا وليد، لا تتنازل عنه إطلاقًا.
تمتم وليد في إعياء واضح:
_ أي شرط هذا؟؟
كاد المدير يثب من مكانه، وهو يهتف بحماسة شديدة:
_ أن تكون على الأنابيب صورة المطرب (المبدع)، الذي غنى الإعلان بصوته الشجي الساحر المؤثر!
وشهق وليد مجددًا
شهق الشهقة الأخيرة له في الدنيا
وانتفض جسمه كله وجحظت عيناه
ورغم المنظر المرعب هذا لم يشعر حميد بالخوف
بل بالانبهار
لا بوليد
بل بنفسه هو
وبكل الفخر والرضا قال حميد:
_ هل رأيتم كم إني عبقري؟؟ أذكى واحد أعطيه أتفه عمل، وانظروا كيف يوظف ذكاءه وإبداعه وتخطيطه كله لينجح النجاح الباهر، فكرتي العبقرية هذه جعلت مؤسستي أشهر مؤسسة في الكرة الأرضية.
وغمز بعينه متابعًا الكلام لنفسه:
_ هذا هو سر نجاح بلادنا العربية على فكرة، من لا يعرف كيف يقرأ ويكتب أعطه الإدارة، واجعل تحت يده أصحاب الشهادات العالية، وانظر ماذا سيحصل بعدها، وأي تطور سيصل إليه البلد.
ورفع صوته مخاطبًا (جمهورًا) وهميًا، يتخيل أنه يستمع إليه، هاتفًا:
_ وأنتم، ما رأيكم؟!
تمت كتابتها في 7_1 عام 2003م
وتعديل قليل في سيناريو أحداثها في 8_6 عام 2012م.
المفضلات