أين كيانُكَ يا عبَّاس؟
قضيَّة عبَّاس، قضية ذات شجون كثيرة، فيها جرائم فادحة، لم تُدوَّن في ملفات قضائيَّة، لكنَّها ربَّما لا تقلُّ سوءًا وفداحةً عن أيَّة جريمة يُحكم فيها على بعضهم بالسَّجن، ومن يستحقُّ السَّجن في قضيَّة عبَّاس أكثر من طرف، بل ربَّما لو كُنْتُ قاضيًا لحكمْتُ على إحداهنَّ بالإعدام شنقًا، بلا رحمة، ولا هوادة!
تلك الأيَّام، سنة 2001 – 2002، كنَّا ما نزال في دار المعلِّمين، نتابع المرحلة الإعداديَّة لنكون أساتذة في المرحلة الابتدائيَّة، كنَّا نشاهد بعض الدُّروس في تكميليَّة بجانب دار المعلِّمين، في صفوف الحلقتين الأولى والثَّانية، ومن الطَّبيعيِّ أن يلفت انتباهنا بعضُ التَّلامذة، إمَّا لعبقريَّتهم الزَّائدة على الحدِّ، وإمَّا لأنَّهم نائمون كلَّ الوقت.
مادَّة منهج البحث العلميِّ، كان عندنا فيها نشاط ميدانيٌّ، ولنا حرِّيَّة الاختيار فيها، هل نسأل آباءنا وأجدادنا، وعجائز قريتنا، كيف كانَت أيَّام زمان، وكيف صارت الآن، ثمَّ (نكتشف) أنَّها لم تَعُدْ كما كانت، ولا يمكن لها أن تعودَ كما كانت، وإمَّا أن نختار حالة تلميذ متأخِّر دراسيًّا مقدِّمين الفرضيَّات ومتابعين حتَّى نصل إلى الأسباب.
كثير من زملائنا اختاروا العمل الأوَّل، فريق واحد فيه زميل لنا اختار حالة طالبة متأخَّرة دراسيًّا، تقرب له من بعيد (ربَّما)، لكنْ، لم يَرُق لي هذا العمل الجماعيَّ، ليس من دوري إعداد الأسئلة التي سيسألها لأهل الطِّفلة، كأنَّه آلة مسجَّلة لا تحيد عن الأسئلة، فالأسئلة في هذه الحالة - علميًّا – نوعان، أسئلة نحضِّرها مسبقًا، والأفضل أن يكون ذلك بعد بدئنا بالعمل فعليًّا ضمن الإطار المدرسيِّ، وأسئلة تفرض نفسها خلال الحوار المباشر. (طبعًا وقتها لم نكن قد درسنا هذا في مادة البحث العلميِّ، ولكنِّي افترضت هذا من ناحية منطقية بحتة).
لذا قرَّرْتُ الانفراد بالعمل، وتردَّد أستاذ المادَّة قليلًا، هو يدرك قدراتي تمامًا، لكنَّ الوقت ضيِّق، والعمل صعب، لكنَّه أعطى موافقته، وبدأتُ بأن توجَّهْتُ إلى هذه التَّكميليَّة، وقابلْتُ المدير لأخبره أنَّني سأبدأ العمل مع تلميذ في الصَّفِّ الابتدائيِّ الثَّالث اسمه عبَّاس، أعلن موافقته، واقترن صوته بصوت شهقة أنثويَّة جاءت من باب غرفة الإدارة، طبعًا ليس الباب هو من شهق هذه الشَّهقة الاستنكاريَّة، بل إحدى المعلِّمات.
عبَّاس هذا يبدو جامدًا مكانَه في الصَّفِّ، لا يشارك في شيء، ولقد شبَّهَه أساتذته بالحائط، لأنَّهم لم يجدوا فارقًا بين الاثنين، الإنسان والجماد! وكانت معلِّمته هذه الَّتي تقف في باب الإدارة وتشهق في ذهول، تناديه بالحائط الأصمِّ، خرجْتُ من الإدارة، لحقَت بي، يا أستاذ، أرجوك توقَّف، أنت مقدمٌ على عمل خطير لن تضمن عواقبه على نفسِكَ! ماذا؟ ولماذا؟ تصنَّعَتِ الخطورة، وهي تتلفَّت يمينًا وشمالًا كأنَّها لا تريد لأحد أن يسمعنا، ثمَّ همست في توتُّر شديد: سأخبرك بالحقيقة كلِّها الآن، واكتبها بالحرف في تقريرك، عبَّاس هذا يا أستاذ ليس غبيًّا، بل يركبُهُ جنِّيٌّ! ولا مجال لعلاجه! سيبقى كسولًا! هههههه!!
نظرْتُ إليها في سخرية، الجنُّ موجود، لا شكَّ في هذا، لكنْ، هل كلُّ تلميذ لا يشارك في الدَّرس يركبُهُ جنِّيٌّ؟ أمر غريب! ثمَّ كيف سأبرهن علميًّا عن هذا؟ أستطيع أن أبرهن عن أنَّه خارق الذَّكاء، لكنَّه لا يشارك لسبب مجهول، وأقول إنَّ معلِّمته تقول إنَّ هذا لأنَّ الجنيَّ يركبُهُ، لكنِّي لن أتبنَّى هذا الرَّأي أبدًا!
ثمَّ إنَّ خاطرًا ما تراءى لي وقتها، هل هناك أمر ما تريد هذه المرأة إخفاءه عنِّي بالكلام عن هذه الفرضيَّة المستحيلة كأنَّها حقيقة علميَّة؟ ربَّما! وربَّما هي تؤمن كما كان سائدًا قديمًا في بعض القرى أنَّ المرض سببُهُ واحد من ثلاثة: البرد، الجوع، ركوب الجنِّيِّ ابنَ آدم! وجدْتُها تحدِّق بي، كأنَّها تمثِّل الرُّعب، وهي تهمس في صوت مثل الفحيح: ماذا قرَّرْتَ؟ حاولْتُ تقليدها بأن وسَّعْتُ نظراتي بقدر المستطاع، وتصنَّعتُ التَّوتُّر، وأنا أجيب: ربَّما!
بدأْتُ العمل مع عبَّاس عمليًّا وعلميًّا، ماذا عندك يا عبَّاس، وماذا تخفي من الأسرار؟ بدا لي ولدًا ذكيًّا، لَمَّاحًا، لا ينقصُهُ شيء، لكنِّي لن أعتمد على حدسي وحده، لا بدَّ من اتِّباع العلم وحده، أخذْتُ أدرس كلَّ ما يمكن لي استخدامه من الأدوات العلميَّة في سبيل اكتشاف كلِّ الغموض وتحليله بغية الوصول إلى حلٍّ يفيد بحثي، ويفيد عبَّاسًا قبل بحثي.
لكن فوجئْتُ بأنَّ هذه المعلِّمة ترجوني أن أعطي الدُّروس بدلًا منها، ربَّما يتجاوب عبَّاس معي، بينما لا يتجاوب معها لأنَّها أنثى! رفضْتُ هذا العرض الحاتميَّ الغبيَّ، ليس من صلاحيَّاتي إعطاء أيِّ درس الآن، بعد أيَّام يبدأ الفصل الثَّالث ويحقُّ لي إعطاء الدُّروس، لكن وفق تراتبيَّة بيني وبين زملائي، وبتحضير المواعيد مسبقًا بيننا في دار المعلِّمين وليس بهذه العشوائيَّة السَّخيفة.
بدأْتُ العمل على الرَّغم من ضيق الوقت، عندنا حضور في دار المعلِّمين، بالكاد ألتقي بعبَّاس عشر دقائق قبل بدء التَّعليم عنده وعندي، ودقائق قليلة وقت الفسحة عنده، لا أكثر ولا أقلَّ، أخذْتُ أحاول أن ألتقي بأساتذة عبَّاس جميعًا، هذه المعلِّمة الخرقاء تعلِّمه اللغة العربيَّة والتَّاريخ والجغرافيا والتَّربية (فقط)! أستاذ الرِّياضة قال إنَّ عبَّاس (سعدان حقيقيٌّ) يجب أن يأخذوه إلى مجاهل إفريقيا ليتسلَّق الأشجار أو يقفز من شجرة إلى أخرى، فهذا هو المجال الَّذي يبرع فيه تمامًا، وغير ذلك تضييع الوقت!
طلبْتُ من عبَّاس أن يرسم لي أكثر إنسان يحبُّه، وقد جلس في غرفة فارغة في الطَّابق الأرضيِّ، وإذ بهذه المعلِّمة تندفع لتدخل؛ لأنَّها تريد أن (تقف فوق رأسه) وترى ما الذي يرسمُهُ و(توجِّهه وترشده)، فزجرْتُها ومنعْتُها من تنفيذ هذا الغباء.
يجب أن أدرس العناصر التي حقَّقها عبَّاس في رسمته؛ لأدرس قوَّة التَّركيز عنده، لا ينبغي لأحد أن يكون بجانبه الآن، بالأخصِّ معلِّمة أشكُّ في أنَّ لها دورًا سيِّئًا جدًّا في حالة عبَّاس، ولا يجوز لأحد أن يوجِّهه ويرشده؛ لأنَّ النَّتيجة ستكون خطأ، ولن يُبنى عليها شيء علميٌّ صحيح، غضبَت هذه المعلِّمة، وقالت إنَّها ستجعلني أندم، لم أهتمَّ بها، هناك ما يشغلني أكثر، أشعر بمن يحدِّق بي في غضب شديد!
ما هذا؟ بل من هذه؟ طفلة (مفعوصة) تنظر إليَّ وملامحها تنطق بالغضب! ما شأنُكِ يا فتاة؟ لقد رسم عبَّاس أكثر من يحبُّ، رسم أمَّه، خرج من الغرفة يخبرني بأنَّه أنجز العمل، وأخبرني في فخر أنَّ هذه أمُّه، لكنَّه طلب منِّي طلبًا غريبًا جدًّا، قال لي في حماسة نادرة: انظر يا أستاذ إلى الرَّسم، لكن أغلق عينَيك قبلها، فهذه أمِّي، هذا عِرضي وشرفي! أغلق عينيك وانظر، هل ترى هذه؟ إنَّها (الحجاب) الذي تضعه ماما، رسمتُهُ كما رسمْتُ شعرها، ذلك لأنَّها محجَّبة، انظر كما ترى، لكن لا تفتح عينَيك!
بغضِّ النَّظر كيف أنظر ولا أفتح عينيَّ، عبَّاس تكلَّم في هدوء وأدب، أمَّا تلك الفتاة فجاءت مسرعةً نحوي، تقول لي في غضب هادر: أعطني ماما! سألتها متهكِّمًا: لماذا؟ هل تظنِّين أنَّني أضعها في حقيبتي؟ أجابت وهي تكاد تصرخ: أظنُّ؟ أنا متأكِّدة! رأيتُكَ تضع ماما في حقيبتك! هذه جريمة شرف! ستسيل الدِّماء! دماؤك يا أستاذ!
يتبع إن شاء الله
المفضلات