**
خرجَ هائمًا لا يُبصرُ طريقًا ..
كيفَ له أن ينقُل خبرًا كهذا بكل بساطة !
عشقَها مُنذ نعومة أظفاره .. وحين تزوّجها تسبب لها بالمرض ..!
وأيّ مرض !
إنهُ سرطان الرئة !
لطالما طلبت منه الإقلاع عن التدخين ، ليسَ من أجلهَا !
بل من أجله ..!
- عزيزي ما تُريد بهذه الملعونة ؟! صدقنِي إنها تُدمّرك وتدمّر صحتك !
تُردّدُ على مسامعه كلما رأته يُدخن تلك الملعونة (على حدّ تعبيرها)
(لا تقتل نفسك) ، (ولا تُلقُوا بأيديكم إلى التّهلكة) ...
وغيرَها من العبارات والأحاديث والآيات ..
ولكن لا حياة لمن تُنادِي !
'
كانت تُريد إبعاده عن تلك العادة من أجلِ صحته !
تُثرثر دائمًا عن أنواع السرطانات التي قد تُصيبُه -لا سمَح الله-
ربّاه !
ألم يخطُر ببالها أن تُصاب هي به ؟!
ألم تقرأ عن التدخين السلبي !
ألم تخشَ على نفسِها منه ؟!
كيفَ تسبّبَ لهَا بسرطانٍ كانت تخشَى أن يُصاب بهِ هُو !!
أوانُ النّدم قد فات، فاتَ وفاتت معه فرصة إصلاحُ نفسهِ ..
'
كيف سيُواجهها بالحقيقة !
مرت ساعتان !
ساعتان وهو يجوب الطرقات ذهابًا وإيابًا ..
حتّى توقّف عند ذاكَ المقهَى !
ترجّل من سيارتِه الفارهة واتجهَ صوبَ بوابة المقهى ..'
صعدَ درجاتِه درجة فدرجة !
ومع كل خطوة ودرجة تنهالُ عليه الذكرياتُ من هُنا وهناك !
'
على هذهِ الدرجَة تبادلا أرقام الهواتف ..
وهنا كادَت أن تسقُط، ولكنّه أحاطها بذراعِه قبل وصولها للأرض ()
أثبتَ لها أنهُ أسرع بحمايتها من جاذبيّة الأرض !
أوه، هذهِ هي الطاولة التِي اعتدنا الجلوسَ عليها ..
كلّما ولج للمقهى وجدها فارغة !
وكأنها تأبَى أن يجلسَ عليها أحد غيرهما !
'
تذكّر أولَ لقاءٍ لهمَا بعد الخطبَة ..
شعر وكأنهُ يراهَا لأول مرة ..
لقد كانت مُختلفَة ، مختلفَة جدا ..
جميلة، فاتنة، تلكَ هي معشوقتُه !
ولكنّهُ أفسد جمالهَا وفتنَتها ..
'
لقد كان محطّ أنظارِ الجميع ..
اعتادَ على تلك النظرات المُعجبة !
طولٌ فارع، بشرةٌ سمرَاء، وعيونٌ عسليّة !
لطالمَا كانَ فارسُ أحلامها يُشبهه ..
أما هو فلم يكن يرغب بسواها ..
إلهي !!
هل تزوجتها لأقتلها !
كيف ستكون نظرتُها له ؟!
هل ستغفِر له ؟
أم أنهَا ستُعاقبه بالحرمان !
قطعَ عليه سلسلة أفكاره صوت النادل:
- ماذا تريد أن تشرب أيها السيد؟ (خاطبهُ النادل)
أجابه بشرود: أريدُ كوب قهوة !
- حلوة أم سادة؟
وكأنه أفاقَ لتوه من كابوسٍ ما ..
قال له: لا .. لا .. أحضر لي كأس نسكافيه مُركّز !
- حـاضر ..
واستدارَ النادلُ ذاهبًا لتحضيرِ النسكافيه ..
'
أشاح بوجههِ ناحيةَ النافذة ونظَر طويلا ..
سيارات ذاهبَة وأخرى عائدة ..
أبٌ يودّع طفله قبل المُضيّ إلى عمله .. ورجلٌ هناكَ مع زوجته يستقبلان ابنهما العائدَ من بعثته الدراسية لتوّه !
كل لاهٍ في دنياه .. ولا أحد يعلم ما بقلوبِ البشر سوى ربّ البشر !
إلا هُو !
قد لهى في حياتِه كثيرًا .. وكثيرًا جدا !
شعر بأن وقت لهوه قد ولّى . .
ولكنه انتهى بنهاية لم يكن يتوقعها !
ولم يكن يريدها !
كيف له أن يكون السبب في موتِ أحب الناس إلى قلبِه !
وأم طفلتِه ذات الثلاثِ سنوات !
'
وصلتِ النسكافيه التي طلبَها ..
أخذَ رشفةً منها علّها تُعيدُ إليهِ قليلًا من توازنِه !
توازُنه الذي فقدَه بمجرّد التفكير بأنه سيفقِدها .. وللأبد !!
شربَ النسكافيه .. وتبعهَا مثلُها اثنان وثلاثة وأربعة ..!
لكن ما مِن جدوَى ..
جسدُه يرفُضُ التوازن !
أثقلهُ الشعور بالذنبِ والنّدم !
لكن ما يُفيد الندمُ الآن ؟
شربَ الكأس السّادس من النسكافيه، ثمّ وقف !
دفعَ حسابَه وغادرَ المقهى !
'
أدار مُحرّك سيارته وذهبَ عائدًا إلى منزله .. ليواجهَ مصيرًا لم يسطِع الهرب منه !
فتح باب منزلِه ودخل ..
هدُوءٌ يعمّ المكان !
صعدَ الدرجَ درجةً تلوَ أخرى ..
وكلما صعد واحدةً زادت نبضات قلبِه ..
حتّى أحسّ به سيقفِزُ من صدرِه !
فتحَ باب غرفتِه لتأتِيَ إليهِ مُسرعة ..
- أين كنت؟ اتصلتُ بكَ كثيرًا ولم تُجب ! (وبرقة) أقلقتنِي كثيرًا !
- لـ ـم .. لـ ـم أكن بمكانٍ مهم .. (قال لها مُتلعثمًا)
أحسّت بضيقتهِ فسألته: ما بك؟!
- لا شيء .. لا شيء ..
أعادت عليهِ مُلحّة: أمتأكدٌ أنت؟!
نظرَ إليها طويلًا ..
تفحّص وجهها الجميل بعينيه ..
أرادَ أن يحفظ تقاسيمَ وجهها قبل أن يُفارقه للأبد !
وبيدٍ ترتعش مدهَا إلى خدهَا . .
انتفَضت من برودةِ يده .. قالت بلهفة: لمَ يدك باردة ؟!
أمسكتهُ وسحبتهُ إلى السرير ..
- انتظرني سأذهب لأحضر لك لحافًا آخر ..
وذهبت مُسرعة مهرولة تَجلبُ له لحافًا يُدفئُ جسده ..
'
- استلقِ يا عزيزي لأغطيك ..
- لا رغبةَ لي بالنوم يا عزيزتي !
آلمهُ لهفتها عليه .. قلقها .. خوفها .. كل ما فيها يُمزقه !
يُقطعه إلى أشلاء !
كيفَ هانت عليه !
كيف يَبدأ الحديث ؟!
أيقول لها أنا قتلتكِ !
أم يقول أنتِ مسرطَنة بسببي !
ملعونتِي هيَ سبب موتك !
وسبب موتِي أيضًا !
هو يؤمِن أن الحياة بدونها موت ..
موتٌ مُحتّم سيواجهه !
'
طلعَ الصباحُ وتسلّلت خيوط الشمس تُداعب وجهَ معشوقته ..'
راقبَها وهيَ تفتح عينيها وتغطيهمَا بيدها لتبعِد أشعة الشمس عنهما ..!
انتبهت لوجوده أمامها جالسًا على الكرسي يتأملها !
- لمَ لم توقظنِي عندمَا استيقظت !
- لم أنم حتى أستيقِظ .. (أجابها بشرود)
قامت من سريرها قلقةً عليه ..
- أتحبّ أن نذهب إلى طبيب ؟ حالُك لم يعجبني منذ الأمس حينما عُدت !
- سرطانُ الرّئة !
رفع بصره إلى وجههَا الذي أحسّ بشحوبه عندما سمعت حروفه التي نطقها بصعوبة !
- س ر ط ا ن ا ل ر ئ ة .. تغيّر لونُ وجهها ..
كان مُخفِضًا رأسه !
لا جرأة لديه ليضع عينيهِ في عينيها ..
وصوته مُتهدّج من كثرة البُكاء ليلًا قال لها: ذهبتُ البارحة إلى الطّبيب فأخبَرني عن نتيجةِ التحليل !
... لحظة صمت !
صمتٌ رهيب خيّم على المكان !
لم يدم سوى دقيقتين أو ثلاث كأقصى حد !
لكنّا مرّت وكأنها ساعات ..'
شهقت شهقة وسقطت على ركبتَيها أمامه ()
وضعت رأسها على فخذيهِ وأخذت تبكي بحرقة !
شاركهَا بكاءها .. حتى اختلطت دموعه النادِمة بدموعها المُنكسرة !
رفعت رأسها وقال بعتابٍ من بين شهقاتها:طلبتُ منكَ كثيرًا أن تُقلعَ عن التدخين، ألم أفعَل ذلك؟!
قل لِي ألم أطلب منكَ أن تَكفّ عن التدخين ! لمَ لمْ تستمِع إلي !
غطّت وجههَا بين كفّيها وتابعت بكاءهَا وشهقاتهَا ..
أما هو فقد كانَ غارقًا في دوّامةٍ من اليأس، النّدم، الخوف، ومشاعرٌ متضاربَة اجتمَعت كلها في آنٍ واحد !
'
استدَار عائدًا من المقبَرة حيثُ تقبعُ معشوقته التي قتلها مُنذُ خمسةَ عشر سنة !
مازال يعيشُ على ذكراها !
قوتُ يومهِ زيارتُها في قبرٍها ..
وماعادَ يرويهِ سوى رؤيا ابنتهما التِي أصبحت في الثامنَة عشر !
يرى فيها والدتَها ..'
صوتهَا، كلامهَا، حركاتهَا، مشيتُها، وكلّ مافيها يشبهُها !!
'
فتحَ بابَ منزِله لتستقبلَه ابنتُه بابتسامة كما كانت تفعلُ أمهَا !
ابتسَم لها وقبّل رأسها، وحمدَ الله أن عوّضهُ بابنةٍ تُشبهُ زوجته لتكون معينًا له على نوائِب الدهر !
'
انتهت ..'
المفضلات