مطاردة
غزت همساتٌ مبهمةٌ حلمه..
فتح عينيه ببطء.. ألا يزال نائمًا؟
هذه الأصوات الدخيلة لا تنتمي لأحلامه.. ليست جزءًا من ملاذه الوحيد..
استعاد وعيه التام تدريجيًا.. ما هذا الصوت؟
إنه يعيش وحيدًا في هذا المنزل.. من هناك؟
من الذي يقترب.. يقترب من فراشه؟
لم يطل تساؤله.. فقد ظهر أمام وجهه مباشرة.. بعينيه المتعطشتين للدماء.. منقضًا عليه..!
~
أنا.. أشعر بالبرد..
كم ساعةً مرت وأنا أجري في هذه الغابة؟
العاصفة الثلجية شديدةٌ هذه الليلة.. وأنا لا أرتدي سوى ثياب نومي الخفيفة، وجوربيّ الرثين..
لم أعد أشعر بأصابع قدميّ منذ فترةٍ الآن.. ولكني لا أستطيع التوقف..
إذا توقفت.. فسأموت..!
~
إنني مطارد.. بالكاد تمكنتُ من الفرار عندما هوجمتُ هذه الليلة..
مؤخرة عنقي لا تزال تؤلمني.. لو لم أتحرك في آخر لحظة وألذ بالفرار لكان قد قُضي عليّ..
ولكني وإن نجوتُ من الموت على يد الوحوش، فقد لا أنجو من برد هذه العاصفة..
~
ألا يُدفئ المرءُ نفسَه عادةً بالنفخ في يديه؟
من المفترض أن تكون الأنفاس دافئة..
إن لهاثي صار باردًا جدًا.. لا يبعث أي دفءٍ في يديّ العاريتين..
أريد أن أتوقف.. لقد تعبت.. ولكني لا أزال أسمع أصواتًا دخيلةً على دويّ الريح..
أنا لا أزال مطاردًا..
~
لقد كان هذا الشتاء قاسيًا على فتىً يعيش وحيدًا مثلي..
بالكاد حصلتُ على ما يسد رمقي..
بالكاد احتفظتُ بنفسي دافئًا في فراشي..
والآن.. يحدث كل هذا.. أنا حقًا لا أفهم لماذا..
أعتقد أن تلك الوحوش تقتات على الدماء..
ما الذي سيحصلون عليه من فتى هزيلٍ مثلي؟
الغابة مليئةٌ بالحيوانات، وستكون دماؤها ألذَّ بلا ريب!
صحيحٌ أن الشتاء قارسٌ، ولكنهم سيجدون بعضها إذا بحثوا..
لماذا الإصرار على مطاردتي؟
وأيضًا..
ما رأيته في تلك العيون لم يكن تعطشًا للدماء فحسب..
لقد كانت رغبةً جامحةً في القتل..
~
آه.. أشعر بالبرد..
أرغب في أن أغني لأسرّي عن نفسي قليلاً، ولكن هذا سيستنزف طاقتي دون ريب..
أيبدو غريبًا أن أفكر في الغناء في مثل هذا الموقف؟
إنني أجري وأجري منذ ساعات.. لم أعد قادرًا حتى على الخوف أكثر مما فعلت..
إنني تعِب.. لم أتناول شيئًا منذ أيام..
لأفكر بشيءٍ يلهيني قليلاً وينسيني الألم..
لا تخطر ببالي سوى والدتي..
لقد ماتت منذ سنواتٍ طويلة مع والدي..
لا أذكر كيف حصل هذا..
لقد أفقتُ يومًا لأجد نفسي مرتجفًا ومتكومًا تحت السرير، بينما إدراكٌ غامضٌ في داخلي ينبئني بأن والديّ قد رحلا..
أعتقد أن ذلك كان شيئًا فظيعًا لدرجة أن ذاكرتي قد آثرت محوه..
ولكني الآن.. وأنا أرتجف بردًا ورعبًا وألمًا.. أشعر بأن هذه الرجفة تبدو مألوفةً إلى حدٍّ ما..
~
قدماي تؤلمانني.. تؤلمانني كثيرًا..
أنا أرغب حقًا بالبكاء..
أيّ معجزةٍ ستنقذني مما أنا فيه؟
أنا لم أؤذِ مخلوقًا قط في حياتي، فلماذا عليّ أن أقاسي هذا؟
إنني أتباطأ.. والأصوات تقترب.. ألا يتعبون؟
إنهم ليسوا واحدًا بل مجموعة..
مجموعة تريد أن تقتات على مجرد فتى..
إنهم وحوشٌ مرعبة.. وأنا عليّ أن أهرب.. عليّ أن أنجو..
أمي.. ساعديني!
هذا الثلج يبدو أكثر بياضًا الآن.. ويبدو وكأن الجو بدأ يصبح ضبابيًا..
أو ربما هي رؤيتي التي أصبحت كذلك؟
إنني أهوي أرضًا..
لا تسقط..!
انهض..!
ستموت..!
الزحف هكذا مؤلمٌ أكثر.. مفاصلي تنبض ألمًا.. وهم يقتربون..
أمي..
آه..
إنني أتذكر..
أتذكر صراخًا وألمًا ودماءً..
إنهم يقتربون..
أشباحهم تتراءى لي..
وجوههم صارت مرئيةً رغم العاصفة الشديدة..
إنهم هم..
لقد كانوا هنالك قبل أعوام..
في تلك الليلة..
حين رحلا..
وها هم يكملون ما بدأوه..
فوقي مباشرة..
يحدقون بي بعيونهم الوحشية..
لا..
أنا حقًا.. لا أريد أن أموت..!
توقف..!
توقـ ...
.. فظيع..
ألمٌ فظيع..
فظيعٌ.. جدًا..
إنني.... أشعر بالبرد..
~
- هل مات؟
- أجل يبدو أنني تمكنتُ منه!
- كانت فكرةً سديدةً أن نهاجمه في الشتاء حين تقل موارده ويضعف جسده..
- ربما يبدو صغيرًا ولكنه سيكبر ليشكل خطرًا علينا..
- أجل.. بالتأكيد..
صمت الرجال وأخذوا يتابعون ندفات الثلج وهي تتهاوى ببطء على جسدٍ غضٍّ يسبح في دمائه..
بينما يخترق صدره وتدٌ خشبيٌّ حاد..
~ تمت ~
المفضلات