سـألها في اهتمام ممزوج بالدهشة :
ـ متى فعل هذا ؟ أقصد .. أنا أعيش معه منذ عشر سنوات أو أكثر , ولم أسمعه قط يتحدث عنكم .
شملت ابتسامة واسعة وجهها وهي تخرج قلادة ذهبية طوقت عنقها , وتجيب :
ـ زارنا قبيل شهر , وقدم لي هذه .
كانت قطعة ذهبية صغيرة على هيئة زهرة النرجس , تحفة فنية رقيقة .. دهش (ويلي) لرؤيتها , مالبث أن سألها في اصرار :
ـ لماذا يزوركم عمي ؟ ويقدم لك هدية أيضا , ماصلته بأبيك ؟
صمتت لحظة , ثم قالت في بطء :
ـ تدعي السكن مع عمك , ولا تعلم علاقته بأبي ؟
ضاق من أسلوبها المتموج , وقال في ضجر :
ـ أقمت معه قريبا .
غمغمت وهي تداعب قلادتها :
ـ والدي عمل طاهيا في منزل آل (ستيوارت) , حتى قامت الحرب .. فتطوع في الجيش , ثم عاش هنا بعد تركه عمله , ونزوح الاحتلال البغيض .
رمقها في اهتمام , فهذا الجزء جديد عليه , واستحثها على المضي في قصتها فقالت في شرود :
ـ أصيب والدي في المعركة ولم يستطع بعدها ممارسة عمله كالسابق , فقرر السيد (وليم) إعفاءه من عمله , ومنحه هذا الكوخ الجبلي نظير خدماته , وصداقته .
التزم (ويلي) الصمت تماما وان لم تفارقه دهشته من كل ما يسمع ..
ما أروعه من انسان .. رغم الفارق الاجتماعي بينهما , فقد اعتبره صديقا له , وقدم له ما يعينه على الحياة الكريمة , حتى بعد تركه العمل ..
خطر بباله سؤال نقله فورا للسانه , فسألها :
ـ إذن .. لماذا زاركم قبل شهر ؟
ابتسمت في عذوبة , وقالت في لطف شديد :
ـ قدم لأبي مبلغا كبيرا من المال مقابل استضافتك هنا .
وازداد الحنان في نبرة صوتها وهي تستطرد :
ـ أرادها مفاجأة لك , كما أخبرني سرا .
اتسعت عيناه دهشة , وانعقد لسانه داخل حلقه ..
هكذا الأمر إذن ..
عمه يخطط لارساله إلى هنا , من قبل أن يطلب هو ذلك ..
تمنى وقتها انقضاء هذه الفترة سريعا , ليطير لعمه الغالي ..
كم كان مجحفا في حقه , حينما أعتقده لا مبالي بعواطفه ومشاعره ..
كان تفكيره منصبا على راحته .. وهو يحسبه لا يفكر سوى بنفسه ...
وتناولت كفه بين يديها , وغمزت بعينها قائلة في مرح :
ـ ولقد أوصاني بك .
تطلع إليها في عمق , واسترجع كفه في هدوء .. وسار للأمام شارد الذهن ..
لقد رتب لأمر سرا منذ البداية , لهذا السبب لم يمانع في سفره ..
بل إنه انتظر تلك اللحظة ..
التفت إليها ومن عينيه تتواثب السعادة , وابتسم قائلا في بساطة :
ـ مادام الأمر كذلك , لماذ تعامل والدك بصلف معي ؟
اطلقت ضحكة صافية كصفاء النبع , وقالت في دلال :
ـ لأنه يخشى علي من فتيان المدينة .
ارتفع حاجباه في تعجب , مالبث أن خفظهما وابتسم مع استمرار ضحكاتها العذبة , ووقفت بجواره تتأمل قطيعها المنتشر في المرعى , وتمتمت :
ـ كان في موقف محرج حينما طلب عمك منه السماح لك بالعيش معنا لفترة .
وأدارت رأسها إليه وتابعت :
ـ ورغم المبلغ الكبير الذي دسه عمك في جيبه , لم يفكر قط في الترحاب بك أو اعداد الغرفة لك , معتبرا المال للاقامة فقط , بغض النظر عن رداءة الغرفة أو سوء المعاملة .
وركضت لقطيعها في عجل , وتركته يقف صامتا منشغل العقل بوالدها الفظ ..
وفي أعماقه دار سؤال واحد .. كيف احتمل عمه سخافته ؟
كيف ؟
مع بلوغ الثامنة صباحا في الجبال , تستطيع رؤية قممها المكسوة بالثلوج رغم حلول فصل الربيع , ومن الطبيعي ايضا أن ترى الوعول الجبلية تتواثب عبر الصخور الملساء , تسابق الريح وتعانق السحاب , ومع هبوب النسائم اللطيفة , تشعر برغبة عارمة في تنقية ذهنك من كل همومك , والتمتع بهذه المناظر العذبة الساحرة ..
استرخى (ويلي) على العشب الطري , مريحا ظهره على صخرة ناعمة , وبين يديه مفكرة صغيرة .. أخذ يقلب صفحاتها في هدوء وهو ينقل عينيه بين سطورها , وثغاء الأغنام يملئ المرعى ...
سمع أصواتا صادرة من معدته فاعتدل في جلسته , وتلفت يبحث بعينيه عن (ليليان) , وهو يربت على معدته متمتما :
ـ نسيت احضار شيئا ألتهمه ..
سمع صوت خطواتها خلفه فاستدار بجذعه الأعلى , فطالعته ابتسامتها الرقيقة وهي تحمل صرة صغيرة , فوضع كتابه جانبا حينما جثمت قربه , وحلت الصرة وافرغت محتوياتها البسيطة , كانت تحتوي على قطعة خبز وأخرى جبن , مع كوب فارغ ..
ازدرد لعابه وهو يرى الطعام , وغمغم :
ـ هل سيكون كافيا لكلينا ؟
ابتسمت في نعومة , وهمست دون النظر إليه :
ـ هذا افطارك .
سألها في حيرة :
ـ وماذا عنك ؟
خفضت رأسها حياء وأجابت :
ـ لقد تناولت افطاري قبل مغادرتي الكوخ .
تطلع لعينيها في احترام كبير , وتظاهرت هي بمتابعة أغنامها , فمس كفها في رفق وغمغم في لطف :
ـ سنقتسمه بيننا يا (ليليان) .
احتضنت كفه وابتسمت , وهزت رأسها نفيا , قائلة في حنان :
ـ كلا .. لست جائعة , ثم أنني مسؤولة عنك حتى تمض .
خامرته رغبة في مداعبة خصلات شعرها الناعمة , لكنه نفض هذا الشعور الجرئ , وقال كالذي افاق من حلم :
ـ ولماذا الكوب فارغ ؟
نهضت تحمله وهي تهتف في مرح :
ـ لنملئه بالحليب الطازج .
وجذبته من كفه لينهض , فتبعها في سعادة , توغلت في المرعى بين القطيع المنتشر , تبحث عن عنزة جدها المفضلة , وجثمت أمامها ورمقت ضرعها وهي تقول :
ـ هل سبق وتذوقت الحليب الطازج ؟
تطلع (ويلي) للذباب الذي يحوم حول أنف العنزة , ويلتصق باصرار على ضرعها , فأصابه تقزز شديد ونفور من هذا الضرع , الذي تصر (ليليان) على اطعامه حليبه ..
وفي مهارة وحرفة , وضعت (ليليان) الكوب أسفل الضرع , وبدأت تسحب الحليب في هدوء , وشعر (ويلي) بعجزه عن مجاملتها في شربه , لا سيما وهي تطرد الذباب بحركة واهية من يدها , وهو لا يفتأ يعود مجددا .. أراد (ويلي) التخلص من هذا المأزق و فسألها في قلق :
ـ (ليليان) .. أخشى عدم قدرتي على شربه .
سألته وهي تحلب العنزة المستسلمة في هدوء :
ـ ولماذا ؟ لو تذوقته هذه المرة فستطلبه دائما .
مط شفتيه في توتر , ورمق الذباب في انزعاج و قائلا :
ـ ولكن الذباب ..
بتر عبارته حينما نهضت حاملة الكوب في حرص , وقدمته له قائلة في سعادة :
ـ تفضل .. مازال دافئا .
شعر أنه في مأزق حقيقي وأن معدته توشك على القفز من فمه , لكن لم يرد قط وضعها في موقف محرج , فمد كفه المرتجف وتناوله , فتساقطت بضع قطرات منه على أصابعه فهتفت به محذرة :
ـ احذر .
تطلع للكوب في تقزز , وضايقه الذباب الي لم يكتفي بالضرع , إنما يحاول اقتسامه معه ملتصقا بأصابعه , فسد فتحة الكوب بكفه وقال في ارتباك :
ـ عزيزتي .. هل استطيع احتساءه وأنا أتجول في المرعى ؟
تطلعت إليه في دهشة وتمتمت :
ـ بالطبع , ولكن تناول افطارك أولا بينما أراقب القطيع .
كانت عبارتها بمثابة طوق النجاة , فركض بعيدا عنها ليتخلص منه قبل أن تتخلص معدته من محتويات الليلة الماضية ..
ابتعد (ويلي) بما فيه الكفاية عن أنظار (ليليان) , وتلفت حوله ليتأكد من أنها لن تلمحه , وسكبه على العشب والحرج يكسو وجهه , فهو لا يستطيع مجاملتها في شرب حليب لا شك أنه ملوث , يكفي ما رآه من ذباب يحوم حوله , وعاد أدراجه ليتناول إفطاره وبراءة الأطفال في عينيه ..
اختفى قرص الشمس خلف سحابة رمادية كبيرة , ملئت صفحة السماء الزرقاء , و(ويلي) يتابعها بعيني عاشق , وهو متمدد على الأرض المخضرة , واضعا كتابه على صدره , ويسند رأسه على ساعده الأيمن , ويسراه على سطح كتابه الصغير ..
تراقصت على رأسه فراشة صغيرة , فابتسم في سعادة لرؤية كل هذا الجمال الفريد , وتنهد مغمغما في أسى :
ـ ياأبي الحبيب , ليتك بقيت حيا لتشاهد ما يشاهده ابنك من روعة .
واحتضن كتابه في حنان , سمع (ليليان) تهتف به وتشير إليه من بعيد :
ـ (ويلي) , حسبك من خمول واقترب .
نهض جالسا في هدوء , وتثاءب في عمق .. فكل شيء هنا يساعد على النوم القرير , وبخطوات متأنية تقدم منها , فابتسمت وأشارت لحقل أزهار رائع , وهي تقول في فخر:
ـ هل سبق وشاهدت جمالا كهذا ؟
تألقت عيناه فرحا مما يراه , فعلى مساحة شاسعة زرعت أزهار من مختلف الألوان , ورائحة العبق العطري تفوح في دفئ ونعومة ..
تعلقت (ليليان) بساعده وقالت في بساطة :
ـ أراهن أنك لم ترى جمالا يضاهي ماتراه الآن .
كان ينظر للأزهار وفي أعماقه حيرة من جرأة هذه الفتاة , على الرغم من أنها فتاة جبلية , إلا أنها تجاوزت حاجز الزمن , وتصرفت كما لو كانت تعرفه منذ أمد طويل , بتعلقها به على هذا النحو , صحيح أن الأمر يسعده , لكن مع أب صارم كوالدها , فعليه الحذر .
أخذت (ليليان) تتطلع للكتاب في يده في اهتمام , وانتزعته منه وهي تقول :
ـ ماهذا ؟
أجاب بابتسامة باهتة :
ـ مفكرة .. كتب فيها والدي أولى قصائده , ولم يتسنى له الوقت لنشرها .
صمتت برهة , وأعادته إليه متمتمة :
ـ ولماذا ؟
جلس في هدوء على الأرض , وتنهد في عمق قائلا :
ـ برحيله انتهى كل شيء .
اتسعت عيناها دهشة , وافترشت الأرض بجواره , ورمقته في تعاطف .. خيل إليها أنها ترى التماعه دموع في عينيه , فالتزمت الصمت تماما , عاجزة عن مواساته .. لكن (ويلي) أكثر صلابة مما يبدو عليه , فقد رسم على وجهه ابتسامة حزينة , وقلب صفحاته قائلا في خفوت :
ـ أترغبين في سماع احدى قصائده ؟
همست :
ـ لا بأس .
تنحنح ليتخلص من مرارته , وبدأ يقرأ قصيدة والده الراحل ..
(( اشتقت إليك شوق السنونو لوشوشات الربيع ....
وضحكات النسيم في وسط الغدير ..
أيتها الفاتنة فتنة العذارى ..
ضعي عقدا من النجوم على شعرك ..
وطوقي عنقك الجميل بشذى البنفسج ...
وسابقي الريح إلى الحياة ..
إلى الحب ..
وتذكري أنني احترق شوقا للقاءك ..
فأناملي دوما تعانق خيال أناملك ))
وصمت (ويلي) ..
وغرقت (ليليان) في احساس جديد ..
صوت (ويلي) الدافئ وهو يلقي القصيدة , حملها بعيدا عن هذا العالم , إلى عالم آخر مجهول ..
رمقته في افتنان , في حين ظل هو شاردا حزينا .. ربتت على كفه في حنان , وهمست في عذوبة :
ـ كلمات ساحرة .. عذبة .
أطرق برأسه وأجاب في خفوت :
ـ لقد غرق والدي في الحب حتى آخر عمره .
صمتت قليلا ثم قالت :
ـ في حب والدتك ؟
هز رأسه نفيا , وتمتم :
ـ بل في حب الأزهار , والعصافير , وخضرة الأشجار ..
ورفع رأسه متطلعا للسحاب , وأردف منتهدا :
ـ وحب الخير .
ومن قلبه انحدرت دمعة ألم , تحمل رائحة الفراق ..
عند المساء , ومع آخر همسات الشفق , الذي عانق قرص الشمس المتحضر , عادت (ليليان) من المرعى , بعد اعادة الأغنام لأصحابها في المنازل المجاورة , يتبعها (ويلي) في صمت ..
عادت حزينة محطمة الفؤاد ..
لقد عرفت كل شيء عن (ويلي) ..
عرفت لماذا أختار المجيء إلى هنا , عرفت بقصته البائسة مع عمه , وصمته الدائم , وحزنه الأبدي ..
وتعاطفت معه للغاية ..
لم يتوقع (ويلي) اخبارها بأمر عائلته الصغيرة بهذه السهولة , ولكنه ندم كثيرا بعد افضاءه بما في قلبه , رغم موجة الارتياح العارمة التي احتوت كيانه ..
لماذا يخبر (ليليان) هذه الأمور الخاصة ..؟
أهو الارتياح ؟
أم هي روحها البسيطة الشفافة ؟
أم رابطة الأخوة التي نسجت خيوطها بينهما منذ الليلة الماضية ؟
أو هو مزيج من كل حسناتها واهتمامها ؟
ربما ...
وجدت (ليليان) والدها بانتظارها على أحر من الجمر أمام الكوخ , والشرر يقدح من عينيه , راميا (ويلي) بنظرة ملتهبة , ثائرة .. فمسحت الحزن عن عينيها , ولوحت بكفها وكأن شيئا لم يكن , وهي تقول في بساطة :
ـ مرحبا .
وقادت عنزات أبيها الأربع للزريبة , في حين وقف (ويلي) بالقرب من العجوز في حرج , غير قادر على النظر لوجهه , فزمجر العجوز قائلا في غيظ جاهد ليكبته :
ـ لو لم تكن من عائلة (وليم ستيوارت) , لتعاملت معك على نحو ملائم .
تضرج وجه (ويلي) بحمرة الخجل , وخفض رأسه معتذرا , فأسرعت (ليليان) إلى أبيها وهي تقول في سرعة :
ـ مهلا يا والدي ..
ووقفت أمام (ويلي) مستطردة في حزم :
ـ أنا من طلب منه مرافقتي للمرعى , لم يتصرف (ويلي) بمفرده ولم يزج بنفسه رغما عني .
قطب الأب جبينه ورمقته بنظرة نارية أخرى , فرفعت (ليليان) رأسها وتابعت في فخر :
ـ انه من أسرة نبيلة , محترمة , والحق يقال .. لم يحاول قط إيذاء مشاعري أو التحرش بي .
ازداد احتقان وجه (ويلي) من كلمات (ليليان) الجريئة , الواضحة المغزى , لكنه ترك الحوار لها ولأبيها الذي أشتاط غضبا من دفاع ابنته عن شخص التقته توا , وأمام ناظريه أيضا , فهتف محتدا :
ـ (ليليان) ...
قاطعته في ثبات :
ـ أنت شخص يحترم وعوده , ولقد وعدت بمعاملته أفضل معاملة لحين رحيله , أليس هذا وعدك للسيد (وليم) .
التقى حاجبا (ويلي) من تصريحها هذا , وشده الحنين ثانية للقاء عمه الحنون , واضغى مجددا لـ(ليليان) وهي تتابع في حزم :
ـ (ويلي) محترم , ليس تافها أو حقيرا , انه شخص تأتمنه على ابنتك .
بدأت الأمور تعود لنصابها في عقل الأب , فتغيرت نظرة الغيظ تدريجيا , لتحل محلها نظرة أقرب للطبيعية , وهو يزفر في استكانه , ويعود أدراجه للكوخ .
تنفس (ويلي) الصعداء بعد مضيه , فاستدارت نحوه قائلة في ثقة :
ـ أرأيت ..؟ لقد انتهى الأمر .
رمقها غير راض , وهتف بها في عتاب رقيق :
ـ هل اعتدت على مخاطبة أبيك بهذا الأسلوب ؟
ارتسمت الحيرة على قسماتها اللطيفة , وهي تغمغم :
ـ وماذا في ذلك ؟
ابتسم مشفقا , وأجاب :
ـ انه والدك .. ليس شخصا آخر .
وتطلع للباب المفتوح , وأردف , وصورة والداه تحتل كيانه :
ـ آباؤنا يستحقون منا الأفضل دائما .
وأسبل جفنيه في رثاء ..
وخلف الباب , كان الأب يصغي إليه في اهتمام , وقد تركت كلماته صدى في قلبه , وتأكد أن شكوكه حوله لامكان لها ..
على مائدة العشاء , تناول الثلاثة عشاءهم في صمت تام , أخذ (ويلي) يقلب حساءه في شرود , وقد بدأت مشاعر الشوق تدغدغ أحاسيسه , كان مستغرقا في التفكير ..
كل تفكيره منصبا على عمه ..
ماذا يفعل الآن ؟ هل يتناول وجبة العشاء أيضا ؟ أم انه ينام بمعدة فارغة كما هي عادته ؟
صمت (ويلي) وشروده أثار انتباه الفتاة ووالدها , فقال هذا الأخير في لهجة بدت في اذني (ليليان) حانية , ولم تلفت انتباه (ويلي) :
ـ ألا يعجبك حسائي ؟
هز (ويلي) رأسه نفيا في بطء , وهمس :
ـ بالعكس .. انه لذيذ للغاية .
وتراجع بمقعده للخلف وتابع في خفوت :
ـ ليلة سعيدة .
رمقت (ليليان) طبقه المملؤ وهتفت به :
ـ لم تأكل شيئا .
غمغم بكلمات مبهمة , وصعد لغرفته في صمت ..
رفعت (ليليان) الأطباق وهي تقول لوالدها :
ـ يبدو أنه متضايق مما قلته .
غسل الأب الأطباق مغمغما :
ـ أيتوجب علي الاعتذار منه ؟
مطت شفتيها في ضيق قائلة :
ـ كان سعيدا في المرعى حتى تذكر عمه .
قال الأب يستحثها على المضي :
ـ ثم ؟
تابعت وهي تنظف المائدة :
ـ طفت الكآبة عليه , ولا أحسبه سيمكث معنا طويلا ..
توقف الأب عن عمله , وقال بعد برهة صمت :
ـ سأحاول استبقاءه قدر المستطاع .. انه (وليم) بمظهر آخر .
فعلا .. يشبه عمه في نقاء سريرته ..
أيام مضت و(ويلي) في الجبل , مستمتعا بضيافه (ليليان) , ووالدها الذي غير أسلوبه معه , فأضحى يتحدث معه ببضع كلمات , لم يعد يتجاهله أو يضايقه , بالمقابل .. أصبحت (ليليان) أكثر احتراما لوالدها , وأكثر تقبلا لنصائحه , لقد أضفى (ويلي) بروحه الشفافة , لمسة حانية على الأب وابنته , فاقتربا أكثر من بعضهما البعض .
ذات مساء , وحين عودة (ويلي) من المرعى , سلمه السيد (هاريس) رسالة من عمه (وليم) .
تلقفها (ويلي) في سعادة جمة وهو يهتف من أعماقه :
ـ عمي (وليم) .. يالسعادتي .
رسم السيد (هاريس) ابتسامة خفيفة على شفتيه قائلا :
ـ وصلت قبل ساعة .
شكره (ويلي) في حرارة , وصعد لغرفته ليقرأها في تركيز ..
جلس على سريره وفض المظروف في عجل وقلبه يتراقص سعادة , فتح الرسالة والتهم كلماتها في شوق , رغم قصر الرسالة , وقلة كلماتها ..
عزيزي (ويلي) ..
اشتقت لك يا (ويلي) , أرجوك يا عزيزي , حاول العودة سريعا , أنا وحيد للغاية , وأنت عائلتي .
عمك الذي يحبك .
(وليم) .
انقبض قلبه في حزن , وبدى متناقضا مع ابتسامته الحانية على شفتيه , ووجد نفسه يضم الرسالة لقلبه , ويقول في حسم :
ـ لا تبتأس يا عمي , غدا ستجدني أمامك .
سقط دلو الماء من يدي (ليليان) , وهي تقف عند الساقية , حينما سمعت بقرار رحيل (ويلي) , وتحجرت الدموع في مقلتيها وهي تقول مرتجفة :
ـ راحل ؟ بهذه السرعة ؟
تألم (ويلي) مما أصابها , وهز رأسه موافقا وهو يهمس متأثرا :
ـ هذا ضروري .. أنا في ضيافتكم منذ أسبوعان , وأظنه كاف جدا .
أشاحت بوجهها لتخفي دموعها , فربت (ويلي) على كتفها قائلا بابتسامة حنونة :
ـ معذرة .. عمي يرتقب عودتي بفارغ الصبر , لا أحد لي سواه , وهو وحيد الآن .
أبعدت كفه و قالت في حدة :
ـ هل افتقدك الآن ؟
واخفت وجهها لتنخرط في بكاء مرير .. فالتقى حاجبيه في أسى , وأشاح بوجهه عاجزا عن الحديث ..
لقد قربت بينهما الأيام المنصرمة كثيرا , أخبرته عن والدتها الراحلة , وعن افراط أبيها في دلالها , وتحمله لعنادها , واعجابه بقوة شخصيتها ..
أخبرته أيضا برغبتها في دخول المدرسة كأبناء المدينة , وترك الرعي للأبد لولا ظروفهم الصعبة .
أمسك بساعديها في رفق , وقربها منها وهو يهمس في لطف وحنو :
ـ عمي يحتاجني كما يحتاجك أبيك , لسنا وحدنا في هذه الدنيا لنقرر ما هو في صالحنا , ويساهم في الوقت ذاته في اتعاس الآخرين .
غمغمت من بين كفيها :
ـ لا ترحل يا (ويلي) , أتوسل اليك .. أمكث معنا مزيدا من الوقت , لا أتصور منزلنا بدونك .
وبكت في مرارة وهي تجثم أرضا , فرمقها في تأثر , وانسحب في صمت واشفاق , عاجزا عن مواساتها بأقل الكلمات ..
أمام نار الموقد , جلس حزينا على مقعده الخشبي , فوضع السيد (هاريس) قدحا من الشاي له , وجلس بجواره قائلا في خفوت :
ـ لقد حجزت نفسها في غرفتها وترفض العشاء .
تمتم (ويلي) في أسف , وعيناه على المائدة :
ـ معذرة يا سيدي , يبدو أنني مصر على ازعاجك لآخر دقيقة .
ربت (هاريس) على كفه وهو يقول في أبوه :
ـ بل ساهمت في ادخال البهجة لهذا المنزل الهادئ , وغيرت من سلوك ابنتي .. أصبحت أكثر تقبلا لنصحي وارشادي .
هز رأسه نفيا , وهمس :
ـ لم أفعل شيئا يذكر ..
ورفع رأسه متطلعا للنار المتأججة , وأردف بابتسامة حنين :
ـ أشعر بتأنيب الضمير يا سيد (هاريس) , لقد جعلت (ليليان) تتعلق بي , وهأنذا راحل .
ابتسم العجوز في تفهم , وقال :
ـ أنت الآن بمثابة أخ أكبر لها , وعليك كأخ زيارتها كلما شئت .
هتف في حماس :
ـ بالطبع .
عند الفجر ..
حزم (ويلي) حقيبته اليتيمة , ورمق الغرفة بنظرة الوداع الأخيرة ..
سيشتاق حتما لها , وللسيد (هاريس) , و(ليليان) الجميلة .. وتطلع للجبال البعيدة من النافذة , وشعر بمقلتيه تمتلئان بالدموع , فنفض عن نفسه هذا الشعور السلبي , وغادر الغرفة في تثاقل .
وجد الأب ينتظره في الأسفل , فسأله في قلق :
ـ أين (ليليان) ؟
أجابه بعد لحظة صمت :
ـ في الخارج .
هتف في انفعال :
ـ رحلت للمرعى ؟
ابتسم وقال :
ـ قلت في الخارج ولم أقل في المرعى .
وقبل أن يعترض (ويلي) حمل عنه حقيبته , ودفعه للأمام هامسا :
ـ انها هناك منذ ساعات الصباح الباكرة ..
خرج (ويلي) من الكوخ ووجدها تقف قرب السور صامته , وخيطان لؤلؤيان ينحدران في استكانه على صفحة وجهها الناعمة , وثب اليها وأمسك كفها بكلتا يديه وضغطه في رفق , وقال مشجعا :
ـ أهذه دموع الوداع أم دموع الدلال ؟
رفعت عينيها المثقلتان من الدمع , وهاله احمرارهما , وهمست في صوت مبحوح :
ـ أرجوك .. لا تنساني .
داعب شعرها الناعم وهمس في اخلاص :
ـ لن أنساك يا زهرة الجبل الفاتنة , سأظل أذكر رعايتك واهتمامك , وثقي أننا سنجتمع يوما .
وأسرع بالفرار منها قبل أن تخونه عبرة ما , واختطف حقيبته من والدها , وركض بعيدا وهو يهتف في أعماقه :.
ـ لماذا أتألم ؟ ألست راحلا إلى قدري , إلى الشخص الوحيد الباق على قيد الحياة , ويربطني به رابط الدم .
لم يلتفت خلفه أو يرى (ليليان) تلوح له بكفها المرتجف , قبل أن تلقي نفسها بين ذراعي أبيها , وتسكب آخر انفعالاتها على صدره , من حسن حظه أنه لم يفعل , وإلا لم استطاع كبت دموعه اكثر من ذلك
عاد (ويلي) للمنزل ..
ليس الأمر بسرعة قراءة الكلمات , لقد استغرق الأمر منه عدة ساعات بالقطار , ونصف ساعة لحين وصول سيارة عمه , بقيادة السائق , وعندما وصل للمنزل تنفس الصعداء ..
الخميلة الجميلة أعلى التل مازالت شامخة متحدية كما هي , وأزهار الكرز يانعة في اغصانها , كل الجمال الذي تركه رجع إليه , رجع مملؤا رغبة للمكوث مدة أطول مع عمه , وصمته , وحزنه الغامض ...
استقبلته الخادمة العجوز في فرح , قائلة :
ـ حمد لله على عودتك يا بني .
أجابها في وقار :
ـ أشكرك يا (مارتا) .
وأرسل بصره للردهة وسألها في اهتمام :
ـ أين عمي ؟
ابتسمت في حنان , وقالت :
ـ في غرفته .
ابتسم في اشفاق , مغمغما :
ـ في مرسمه ؟
اتسعت ابتسامتها وقد فطنت لمغزى عبارته , وقالت في تأكيد :
ـ بل في غرفته , تركته يتناول الشاي .
سألها ضاحكا :
ـ ساعة الغذاء ؟
هزت رأسها نفيا , وقالت في أسى :
ـ تناول النذر اليسير من الطعام منذ رحيلك , انه يتناول فقط ما يبقيه على قيد الحياة .
عبس (ويلي) في شدة من عبارتها , وترك حقيبته تسقط من يده , وهرع إليه في قلق شديد ..
قرع باب غرفته , وفتح الباب قبل أن يتلقى الرد , ووجده جالسا في شرفة تطل على الحديقة , وأمامه العديد من أقداح الشاي , وأعقاب السجائر المستعملة , فازداد تأثره لرؤيته في هذه الحالة , وأغلق الباب في حرص , وتقدم منه قائلا :
ـ ها قد عدت يا عمي .
خيل اليه أن عمه انتفض مكانه , قبل أن يهب واقفا على قدميه ويلتفت إليه قائلا في خفوت , والفرحة تملئ وجهه :
ـ (ويلي) .
واندفع نحو ابن أخيه واحتضنه في شوق , فأحاط (ويلي) جسد عمه في حنان , وأراح رأسه على صدره قائلا في أسف :
ـ سامحني , تأخرت عليك .
ربت العم على ظهره , وغمغم :
ـ لا بأس .. كان عليك الرحيل لترتاح قليلا .
ابتعد (ويلي) عن ذراعيه في صعوبة , ورأى دمعة فارة من عينيه , فالتقى حاجباه تأثرا , وقال في حرج :
ـ لو علمت مسبقا بمدى تأثرك برحيلي , لـ..
أسكته عمه بابتسامة باهتة , وربت على كتفيه , ثم أحاطهما وقاده ليجلس معه على الشرفة .
جلس (ويلي) في خجل من دموع عمه التي أهدرها بلا مبرر , في حين ظل العم محتفظا بابتسامته الحزينة , وقال وهو يداعب قدحه :
ـ (ويلي) .
رفع (ويلي) رأسه وتطلع لعمه في تساؤل , فالتقت الأعين في صمت , ثم تنهد العم في حرارة , وقال في تردد :
ـ أريد اطلاعك على سر حزني .
اتسعت عينا (ويلي) في ترقب , وركز أسماعه تماما لعمه وهو يقول في لهجة تحمل طنا من الحزن والبؤس والكآبة :
ـ لقد فقدت شخصا عزيزا جدا أبان الحرب العالمية الثانية .
تصبب جبين (ويلي) بالعرق , رغم نسمات الربيع , وعمه يقول في لهجة شبة باكية متهربا من النظر إليه :
ـ فقدت أبنائي الثلاثة .. وزوجتي التي أحببتها .
ارتعد (ويلي) من هول ما يسمع و وارتجفت أطرافه في شدة , ودون شعور وجد نفسه راغبا في ضم عمه إلى صدره , لاسيما وهو يرى دموعه تخدعه لتفر من مقلتيه دافئة متلألئه ..
تابع (وليم) في شبة شرود :
ـ أعلم أنني آذيتك بصمتي المتواصل , ولكنني لم أجد مخرجا سواه , ولم أرد ازعاجك بحزني ومتاعبي , و..
قاطعه (ويلي) في حرارة وعتاب :
ـ لماذا تخفي عني سرا رهيبا كهذا ..؟ لماذا ؟
انتحب (وليم) رغما عنه , فتركه (ويلي) يفرغ انفعالاته التي كبتها طويلا .. طويلا , إلى أن تمكن من فرض الهدوء على كيانه , وتابع في خفوت :
ـ حينما طلبت مني الذهاب للجبل , عرفت أنه ذنبي , لم استطع توفير حياة أسرية سعيدة لك , كنت انانيا , اعتقد أن الرعاية هي المال .. سامحني يا عزيزي , وعندما رحلت .. شعرت وكأن قبضة باردة تعتصر قلبي , سامحني ..
أخذ يردد الكلمة الأخيرة كثيرا , و(ويلي) يرمقه في أسى , وفي هدوء نهض , وأحاط كتفي عمه من الخلف , وأسند رأسه لرأسه , وقال في ثبات :
ـ لو أخبرتني بالحقيقة منذ البداية , لوفرت علي وعلى نفسك كل هذا العذاب , مازال الوقت أمامنا لنبدأ من جديد .
ضغط (وليم) بكفيه على معصمي ابن أخيه , وتمتم في حرج :
ـ هل تسامحني يا (ويلي) على تقصيري ؟
اعتدل (ويلي) ورمقه بنظرة طويلة , ثم زفر وقال :
ـ أسامحك ؟ أتطلب مني السماح وأنت ترعاني ؟ أتطلب مني السماح وأنا أتنفس طيبتك مع أطلاله الصباح ؟
من الذي يحيطني برعايته وحبه وحرصه طوال السنوات الماضية ؟ من الذي يدثرني حين أقذف غطائي وأنا نائم ؟ من ومن ومن ..
واحتضنه مجددا وهو منخرط في البكاء المرير , الذي يمزق نياط القلوب , وأطلق (ويلي) ضحكة خافته بدت متناقضة مع دموعه الدافئة وهو يقول هامسا :
ـ انتهت الحرب يا عمي , وأنا معك , سأكبر وانا هنا , تحت ظلك , ولن أتركك حتى آخر يوم في عمري .
من الظلم القول أن (ويلي) شخص عادي , بعد تلك المصارحة , عقد (وليم) العزم على بدأ حياة جديدة مع صديقه وابن أخيه الحبيب (ويلي) , الذي ظل مخلصا لعمه , وفيا لوفاءة , وعاش معه حتى آخر العمر ..
.................................................. .....
إنتهى الجزء الأول من القصة
لكن ماراح أحط الجزء الثاني إلا إذا شفت 10 ردود
المفضلات