الحماسة مقال بقلمي أ. عمر

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي الحماسة مقالة بقلمي أ. عمر

    الحماسة


    بعض الناس متحمسون
    بعضهم يتحمسون إلى أمور معينة، أو مشاعر محدَّدَة، وهذا حقهم، حتى لو بدا لنا أن ما يتحمسون له غير ذي قيمة مثلًا، ولكن ما في أنفسهم غير ما في أنفسنا، ووجهة نظرهم إلى الحياة تختلف عن وجهة نظرنا نحن... ولكنْ، هناك أنواع من الحماسة تثير الاهتمام أحيانًا، لأنك تتوقف عندها متسائلًا عن صاحبها، من أي كوكب أتانا!
    أذكر، في صغري، كنا في مباراة كرة قدم، ومرر لاعب في الفريق الآخر كرة طويلة إلى زميل له ليهاجم مرمى فريقنا، وتمكنتُ من اعتراض الكرة، ثم لحقتُ بها؛ ببعض الصعوبة؛ محاولًا إبعادها من خط الزاوية كي لا تخرج ضربة ركنية تمنح فريق الخصم فرصة جيدة للتسجيل ضدنا.
    حماستي هنا أفهمها، لكنْ... لم أفهم بعد_ رغم مرور أربع وعشرين سنة على هذه القصة_ حماسةَ رفيق لي، في فريقي، كان أبعد مني بكثير عن الكرة، وركض خلفي بسرعة ليثبِتَ أنه يشارك في الدفاع كما يهاجم، مثلما أفعل أنا، بِغَضِّ النظر عن أنه لا يستطيع اللحاق بالكرة من موقعه الذي كان فيه، حتى لو ركب دراجة نارية وأتى بها (رغم صغر حجم الملعب، لم نكن في ملعب دولي...).
    وليت حماسة رفيقي هذا توقفت هنا، فقد لاحظ أنني (أو لم يلاحظ لفرط حماسته لا أستطيع الجزم)، قمتُ بضرب الكرة بقدمي لأرفعها في الهواء، ثم أعدتُ ضربها بقوة شديدة باستدارة خفيفة مني (ليست براعة كروية، ولكن لم أستطع فعل شيء آخر، حتى أني كدتُ ألوي قدمي لأبعد الكرة)، وهكذا أخذت الكرة طريقها بمنتهى العنف لتستقر في وجه رفيقي المتحمس، محولة إياه إلى لون أحمر قاتم!
    في البداية حزنتُ لأجل رفيقي هذا، ولكني غيرتُ رأيي ورأيتُه يستحق ما حصل له، حينما وجدتُه يقفز مكانَه، ويلوح بذراعيه صارخًا بجنون: (ضربة جزاء، بنالتي، بنالتي، ضربة جزاء)، وكأنه يخاطب مزيجًا من أجانب وعرب، بعضهم؛ أي نحن؛ لا يفهمون ما هي ضربة الجزاء، حتى يترجمها لنا، أو أننا نحن أجانب قليلو الاستيعاب، ويجب أن يترجم الكلمة لنا ويكررها مرتين، بِلُغَتين!
    لم نفهم كيف طالب الأخ المتحمس هذا بضربة جزاء؟ رفيقه في الفريق _أنا بلا فخر_ هو الذي ضرب الكرة بوجهه، بل حتى لو افترضنا أن من فعل ذلك لاعب في الفريق الآخر، فالخطأ حصل في منطقة جزائنا نحن، فكيف تكون ضربة جزاء؟ (بنالتي، لمن لم يفهم منكم معنى الكلمة، وفق حماسة هذا الأخ)!!
    حاولنا كثيرًا أن نُفْهِمَه، وقد ركب رأسه، وظل يصرخ كل لحظة وأخرى مطالبًا بحقه في تنفيذ ركلة الجزاء، وأفراد الفريق الآخر يتمنون أن نمنحه هذه الفرصة لينفذ هذه الركلة من نقطة جزاء فريقه، لعله يسجل لهم هدف التقدم ضد فريقنا.
    من المؤكد أن حماسة رفيقنا، على قوتها وانفعالها، لم تنفعه شيئًا، فلم يكن أحدنا مستعدًا لمنحه فرصة كهذه، نحن الذين كنا ندرك قوة الفريق الآخر، لن نمنحهم هدفًا بهذه البساطة، ورفيقنا تابع اللعب محتقن الوجه، من كرتي (الميمونة) ربما، ولكنه لم يتخلَّ عن حماسته، وظل يتحدث عن حقه الضائع في ركلة الجزاء!
    ويومًا ما، تحديدًا العام 2002، أيام المونديال آنذاك، كنا في اختبار آخر السنة بدار المعلمين في حلبا، وفي اليوم ذاته، لدينا اختبار آخر سنة جامعية في الجامعة اللبنانية في القبة، وبالكاد نلحق الوقت من حلبا إلى القبة كي لا يضيع علينا الامتحان الجامعي (المسافة طويلة نسبيًا)... المهم، أننا وصلنا الجامعة قبل دقائق معدودة من وقت دخولنا قاعات الامتحان، وأراد رفيقي شراء قلم لنفاد حبر قلمه في اختبار دار المعلمين واستعارته قلمًا هناك، فرافقته إلى المكتبة، حيث رأيت حماسة غريبة من نوعها، ولا أقصد المجاز هنا، أنا رأيتُ رجلًا متحمسًا، ولكن حماسته طَغَتْ عليه وعلى المنطق والفهم بأكملهما، حتى ظننتُ ورفيقي أننا نرى حماسةً متنكرة بشكل رجل!
    لقد كان الأخ المتحمس يصرخ بفرحة جنونية، وهو يتابع الراديو، وصوت المعلق الذي ينبعث منه، يخبرنا بما يحصل في مباراة ألمانيا والسعودية، وصاحب المكتبة يهلل بأعلى صوته: (الله أكبر، الله أكبر، السعودية 7 ألمانيا صفر!! الله أكبر، رُفِعَ رأسُ العرب)!!
    وبِغَضِّ النظر هل يُرفَعُ رأسُ (العرب) هكذا بأكملهم لمجرد فوز منتخب عربي بمباراة كرة قدم، فإنني اكتفيتُ بنظرة دَهِشَة إلى الأخ المتحمس، بينما صرخ رفيقي بوجهه، وقد فقد صبره نهائيًا (من قبل أن يبتدئ أي حوار بينهما، رفيقي متابع جيد لكرة القدم، ولا يتحمل سماع الهراء حول أي أمر يخصها):
    _ وهل أنت مجنون؟ هل (طَقَّ بُرج مخك) لتصدق هذا الكلام؟! فهمنا أنك (أطرش) لا تسمع ما يقول المعلق، لكن لم نفهم أنك (طَرْش) إلى هذا الحد؟ السعودية 7 ألمانيا صفر يا (زلمة)!! نريد كلامًا يصدقه العقل!
    وانفجر صاحب المكتبة بجنون، لم يزعجه أنه قد (طَقَّ برج مخه=لم يعد فيه عقل نهائيًا) ولا أنه (أطرش=أصم) ولا أنه (طَرْش=شديد الغباء)، بل اندفع يعطينا موعظة عن حب العرب بعضهم بعضًا، وأننا متخلفون لأننا لا نحب بعضنا، ويوم نحب بعضنا سنصبح أعظم أمة، ويوم نحب بعضنا سترتمي أمريكا وألمانيا وإنكلترا ودول العالم تحت أقدامنا تطلب رضانا، ويوم نصبح أعظم أمة...
    وجاء دوري هنا لأتدخل، لأسْكِته قبل أن تغلق الجامعة أبوابها ونبقى من دون الامتحان: (يوم نحب بعضنا لن تتغلب السعودية على ألمانيا بسبعة أهداف يا رجل)، وانصرفتُ بسرعة من المكتبة، يتبعني رفيقي، وصاحب المكتبة يهتف من خلفنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله، العرب لا يحبون بعضهم)!
    حماسة صاحب المكتبة قادته إلى نتيجة غريبة، أننا لو أحببنا بعضنا فإن السعودية ستهزم ألمانيا بثمانية أهداف في المونديال (هكذا انتهتِ المباراة 8_صفر)، وربما أدرك؛ من متابعته الراديو؛ إن تخلى عن (طَرَشه وطُشِّيَته) كما وصفه رفيقي، أن ألمانيا هي التي فازت بهذه الأهداف الثمانية، وأكاد أراه بعين الخيال، يتذكر استنكارنا سعادته، ليضرب كفيه ببعضهما، قائلًا بمنتهى الأسى: (العرب لا يحبون بعضهم، لقد حسدوا السعودية فخسرت، أو لو كنا نحب بعضنا لفازت السعودية بالمباراة)!!
    لن يحزننا أن تفوز السعودية أو أي منتخب عربي، وفرحنا بفوز السعودية على بلجيكا في مونديال ال 1994، وفرحنا كذلك باعتبار هدف سعيد العويران، اللاعب العربي، أجمل هدف في المونديال المذكور، وفي مباراته ضد هولندا نفسها، وفرحنا بما قدمته الجزائر في المونديال الأخير، ونتمنى أن يتأهل عدد كبير من المنتخبات العربية إلى المونديالين القادمين (2018)، (2022)، كي لا يقال إن عدد المنتخبات العربية قد زاد في المونديال، بعد ما تم رفع المنتخبات المشاركة به إلى 48 بدل 32، ولولا ذلك ما استطاعوا الوصول إلى المونديال، لكن، أن نكتفي ب(الحماسة) فيفوز المنتخب العربي بثمانية أهداف، أو نستنكر (الطرش) في أذني صاحب المكتبة، فنتحول إلى أناس يقفون في وجه عظمة الأمة العربية، التي ينتظر الأخ المتحمس ارتماء دول العالم تحت أقدامها، فهذه كارثة ما بعدها كارثة، أم أن الحماسة تغفر لصاحبها كل شيء؟! لا أدري!
    غير أن الحماسة لا تتوقف هنا، فمنذ دخولي سلك التعليم عام 2002 وحتى الآن، كان لي أن ألتحق بثمانية مدارس، تكميليات وثانويات، بعضها وضعتُ لنفسي بصمة مميزة فيه، وبعضها الآخر اخترتُ البقاء في الظل تمامًا، بعضها كنتُ مجرد أستاذ عادي تمامًا، ولم يشعر المدير بخسارة لرحيلي، وبعضها الآخر ندمتُ فيه لما أبديتُه بها من البراعة، بفضل الله، لتمسك إدارتها بي بشكل مستفز، جعلني أشعر بإرهاق عنيف وأسعى جهدي للخروج منها... ولستُ بصدد الحديث عن نفسي وأمجادي هنا، ولكنها مجرد استراحة كلامية قبل الرجوع إلى موضوع الحماسة، ففي إحدى هذه المدارس عقد المدير اجتماعًا ذات يوم، كان لدي خمس حصص تدريسية (فقط) وحصة مناوبة آنذاك، أي الدوام الكامل (6 حصص)، (كان نصاب تدريسنا 24 ساعة كاملة في الأسبوع)، واختار المدير الفرصة ليعقد الاجتماع الميمون وقتها، ليقتل وقت الراحة لدينا، وليته تكلم بكلمة مفيدة، لقد ابتدأ صارخًا بحماسة شديدة: (يجب أن يتغير هذا الوضع وفورًا)... واندفع بعدها، بهذه النبرة الحماسية، يتحدث عن الإبداع (الكامن) في نفس الطفل، والذي لا نستطيع نحن أن ندركه، وأن التلميذ (الغبي) هو غبي وفق (اختياره الشخصي) ولكنه شديد (الذكاء)، والمدير يهتف بنا، مكملًا كلامه: (وأنتم لا تعلمون)!
    وما الذي درسناه خلال ثلاثة فصول في دار المعلمين إذًا؟! نحن ندرك بأن التلميذ ليس غبيًا، ولا نقول لتلميذ متأخر دراسيًا إنك غبي، فهذا الكلام غير تربوي، وغير أخلاقي بحق التلميذ، أو بحق الإنسان بشكل عام، ما لم يصر أحدهم على التصرف بطريقة غير صحيحة أكثر من مرة، فهنا نضع المصطلحات مكانها الصحيح... ولكن حماسة المدير لم تتوقف عند مسألة الذكاء (المخفي) لوجود الغباء (الاختياري)، بل إنه طالبنا بنتائج ملموسة خلال أسبوع واحد! وأخذ يسألنا بعدها عن (رأينا)! وكان ردي (البارد) أمام (حماسته) أنه كمن يمتلك حجارًا هندسية الشكل، متقنة الصنع، يضعها بين أيدينا لنبني له بيتًا هوائيًا!
    لم يعجَب المدير بهذا الرد آنذاك، فطلبتُ إليه أن ينزل أرض الواقع ويرى، الحماسة لا تكفي، هل يظن أننا لا نحب أن يتفوق التلاميذ ويفرحون بنجاحهم؟ هل حماستنا إلى تحقيق هذا الأمر تكفي ليتحقق؟ لو كانت كذلك، فيكفي أن يتحمس التلاميذ إلى النجاح وسينجحون، وانتهت المشكلة كلها! لقد أراد لنا ذلك المدير أن نعالج مشكلة سببها الترفيع الآلي لتلاميذ الحلقة الأولى، بوصول عدد هائل إلى صف الابتدائي الرابع، لا يعرف أحدهم قراءة حرف واحد، وبالتالي لا يستطيعون كتابة حرف واحد، بل وبعضهم _من دون أدنى مزاح أو مبالغة_ لم يكن يعرف بعد كيف يكتب اسمه! وبعضهم؛ للأسف الشديد؛ لا يعرف حتى أن الكتابة من اليمين إلى اليسار باللغة العربية، لقد جنا أهلهم عليهم كثيرًا بإهمالهم إياهم، وبعضهم؛ أي الأهل؛ كانت عائلاتهم تتكون من الرجل وزوجين أو ثلاثٍ (نقول الزوج للأنثى كذلك)، وجيش من الأطفال يتربى في الشوارع من الصباح إلى المساء، وقد يخطئ الرجل أحيانًا في معرفة أطفاله من أطفال غيره، أما النساء فكان الله في عون كل واحدة منها على مسؤولية أولادها لأن كل واحدة تستطيع البدء بمشروع (قبيلة) بعدد أولادها وحدها!
    ومِنَ الأطفال مَنْ ألقاهم أهلهم في ملاجئ الأيتام المجانية ليتخلصوا من مصروفهم، ولم يجدوا من يقوم بتدريسهم هناك، وكانت هناك حالات أخرى، مثل طفل عبقري فعلًا، غاب ثلاثة أيام، وعاد بعدها إلى المدرسة، يبكي ويصرخ كل يوم يريد الرجوع إلى بيته، يرجو الناظر أن يطرده نهائيًا... وقد ظننا؛ بادئ الأمر؛ أن المشاكل العائلية وجدَت طريقها إلى منزل هذا المسكين، ثم اتضح لنا أننا نحن المساكين آنذاك، فوالد الطفل عانى مشكلة مرض مساعده في صيد الأسماك وبيعها، وأخذ معه طفله ليعاونه (دون اهتمام بالمدرسة والدروس والغياب وما إلى ذلك)، وكان الطفل قد اشترط على والده أن يعطيه أجرته، مثله مثل العامل الغائب، وكانت النتيجة؛ بعد ثلاثة أيام؛ أن الولد، الذي لم يتمَّ الثامنة من عمره، بعد قد نال 96000 ألف ليرة لبنانية أجرة له، في وقت كان راتبنا نحن 474000 ليرة شهريًا! أي أن الولد لو واصل عمله هكذا، لبلغ راتبه 960000 (تسعمئة وستين ألف ليرة، مقابل أربعمئة وأربعة وسبعين ألف ليرة لنا نحن الأساتذة، وكان الناظر، الذي يسبقنا بسنوات طويلة في التدريس، قد وصل راتبه إلى ثمانمئة ألف آنذاك)!!
    وحالات أخرى كانت في مدرستنا آنذاك، وهي حلم الالتحاق بالجيش، وبما أن الجيش لا يقبل من هم تحت الثامنة عشرة، وبما أن الجيش يعطي الفرصة للمجندين الذين نالوا صف الأساسي الخامس ليخضعوا لامتحان، ترتفع رتبتهم فيه درجة إن نجحوا (كان هذا النظام موجودًا ولا أعلم إن تم إلغاؤه)، إذًا، تمكن بعض الأهالي بعبقرية مدهشة من التوصل إلى نتيجة (رائعة)، وهي أن يتخلصوا من أولادهم وسماجتهم وثقل دمهم في المدرسة (خاصة مع التسجيل المجاني)، وليرسب الولد ما يشاء، المهم أن يحسب حسابه بألا يبلغ الثامنة عشرة إلا وإفادة النجاح بصف الخامس في يده، ولكنْ، على مهله قبلها!
    ومع كل هذا، مجرد احتقان وجه المدير لفرط الحماسة كان كافيًا، بنظر هذا الأخير، كي يتمَّ حل المشكلة من جذورها! ولكم كان حنونًا حينما منحنا أسبوعًا كاملًا! فحماسته كان تكفي ليعطينا يومًا واحدًا أو يومين على أقصى تقدير، ونرى كل التلاميذ؛ وأهلهم من قبلهم؛ باتوا مهتمين بالعلم ويحلمون بأن يكونوا علماء فيزيائيين وكيميائيين، ومهندسين وأطباء ومحامين، ومخترعين، وعباقرة أذكياء، يعلمون كل شيء، بكل المواد، دون استثناء!
    الحماسة، يا صديقي، أمر موجود ومطلوب، لكن في موضعه وحينما يشتغل العقل فيها، أما حماسة الصراخ والتلويح باليدين، التي تطلب فيها المستحيل، فيمكن لك أن تلوح بيديك وتأخذ بــ(الجعير) بدل الصراخ لتحقق نتائج أفضل من ذلك!
    وما زلنا نتكلم في الحماسة والمتحمسين، طلب إلينا أحد الإداريين ذات يوم، عبر فكرة عبقرية للغاية _ وهو يهتف متحمسًا، ووجهه يكاد ينفجر من الاحمرار_ أن نُدخِل التكنولوجيا في التعليم، فنحمل معنا اللابتوب إلى الصف، أو نُخرِج هاتفنا الجوال لنضعه على الطاولة أمامنا ليراه التلميذ، فيشعر بالانبهار!
    الحقيقة أن حماسته هذه أشعرتنا، أو أشعرَتْني أنا شخصيًا، بالانبهار! وجعلَتني أبتسم في وجهه ساخرًا، فيومًا ما أخرجتُ هاتفي في الصف لأرى الوقت (لأني لا أتحمل وضع ساعة في يدي)، وإذ بتلميذ، في صف الثامن، يغادر مقعده ليمسك بالهاتف، وقبل أن أعاتبه على الأمرين (القيام من دون إذن، وإمساكه الهاتف من دون إذن)، انطلق يشرح لي أن هذا الهاتف يحتوي خاصية (المكالمة الزائفة)، وأنني أستطيع أن أقوم بتسجيل اسم ورقم، وهميين أو حقيقيين، وإن كنتُ في مكان ما، وهناك من يؤخرني ويتكلم ولا يسكت، فبإمكاني أن أضغط زرًا معينًا في هاتفي، لمدة ثوان محددة، فيرنَّ الهاتف ويظهر على شاشته اسم ورقم المتصل الوهميين، بل ويمكنني تسجيل صوت مسبقًا، بصوت رفيق لي مثلًا، زيادة في التمويه والخداع، لعل الطرف الآخر الذي يزعجني يسمع صوتًا صادرًا بالفعل من هاتفي يسألني أين أنا ولمَ تأخرت!
    ولقد بدا لي هذا خيالًا علميًا وقتها، رغم أن ما أقوله كان من سنين قليلة جدًا في مر الزمان إلى الوراء، وليس في العام 2000 مثلًا! فهل مجرد وضعي اللابتوب أو الهاتف أمام أعين التلاميذ سيعني أنني أدخلتُ التكنولوجيا إلى التعليم، وسيجعل التلميذ يشعر بالانبهار! مسألة غريبة فعلًا أن نظن أن التلاميذ سافروا عبر الزمان من القرن السابع عشر إلى قرننا الحالي، لينبهروا برؤيتهم اللابتوب والهاتف المحمول! هذا عدا عن مسألة أخرى، هل الانبهار سيجعل التلميذ يتعلم مثلًا؟ في هذه الحالة علينا استدعاء لاعب خفة من السيرك، ليبهر التلاميذ بحركاته، فيتعلموا اللغة العربية! هذا عن المادة التي أدرِّسها، ويجب أن تصلح في سائر المواد، وفقًا للمبدأ الحماسي عند الأخ العبقري هذا!
    ولا تنتهي الحماسة عند هذه الأمور، فبعض الناس يتحمسون حماسة قاتلة، فأنت تقود سيارتك على الأوتوستراد الدولي، على الخط البطيء، وإذ بسيارة مخالفة للسير تنطلق نحوك بسرعة جنونية، وعليك أنت أن تدعو الله تعالى أن يكون خط السرعة الآخر خاليًا من السيارات، حتى تنطلق إليه بأقصى ما يمكنك من السرعة، قبل أن تتحول سيارتك إلى ما يشبه الكبة النيئة، أو تكون تقود سيارتك على خط معين من خطوط السرعة، فيتحمس سائق ما، أو سائقة ما، وهكذا تجد سيارة قد انقضت كالوحش لتمشي أمامك بسرعة تقل عن سرعتك بضعفين مثلًا! (ولا يعني هذا أنك تطير بسيارتك، بل ربما أنتَ تسير بسرعة 70_80 كيلومترًا)، وليس عليك هنا سوى أن تضغط بوق السيارة ودواسة الإيقاف لتخفيف السرعة، وأنت تدعو الله بالستر والسلامة، قبل أن تأتي سيارة من خلفك تحوِّل سيارتك طائرةً تحلق في الهواء، بسبب حماسة السائق الذي احتل طريقك من دون تنبيه أو إنذار أو حتى تأمين طريقه هو، فقط ليثبت لك أنه متحمس.
    هذه الحماسة فيها الاستهتار بأرواح الناس، وربما تسبب لهم هذه الحماسة الحمقاء إعاقات يعانونها حتى الممات، وأذكر هنا أني انطلقتُ مرة في سباب سائق، ولم أشعر بأني قد ارتكبتُ أي خطأ في السباب، ولن أشعر بذلك، فلقد كنتُ أقود سيارتي على الخط البطيء، ومعي أختي وابنها الصغير في السيارة، وإذ بسائق متحمس يأتي من خلفي، يقود ما يشبه البيك آب بسرعة خيالية ينطلق بها على الخط البطيء! وكانت مخاطرة جنونية مني أن أضغط دواسة الانطلاق عن آخرها، لأن سيارتي تغص ثانية أو اثنتين ثم تنطلق، فالتوقف لجزء من الثانية قد يعني أن تُفرَم السيارة بأكملها، لكن بقائي بهذه السرعة، أو حتى زيادتها قليلًا، لن ينفع شيئًا، وبالتالي لم يكن أمامي مفرٌّ من المخاطرة، ومرت لحظات من المطاردة الرهيبة، والأخ الأحمق يضغط بوق الوحش الذي يقوده بقوة، وأنا أضغط كذلك منبهًا أي سائق قد أُفاجَأ به أمامي، داعيًا الله ألا أتعرض إلى هذا الموقف، والتوتر يملأ كياني خوفًا على أختي وطفلها قبل أن أخاف على نفسي، وخط السير بالسرعة المتوسطة كانت تمرُّ فيه السيارات، والبيك أب الأحمق، وسائقه المتحمس، لا تنخفض سرعته خلفنا، ويكاد يدركنا! لا أدري هل حماسة هذا المتحمس جعلته ينسى وجود دواسة الإيقاف ليخفف بها سرعته تدريجيًا، أم أن حماسته لا تسمح له بأمر كهذا؟! ولكن الله رحمنا، وخلا خط السرعة المتوسطة، مما منح اللعين المتحمس فرصته ليذهب إليه، ومنحني فرصتي لأهتف به عبر النافذة المفتوحة بأقصى ما أستطيع رفع صوتي إليه، ناعتًا إياه بكلمة واحدة، وليست كلمة (الحمار) طبعًا، فقد رأيت أن (ابن الحمار) يناسبه أكثر!
    نعم، الحماسة مطلوبة، قلتها وأؤكدها، لكن لا تبنِ حجارة في الهواء، لتكن حماستك وفق الوجهة الصحيحة، فبرود الأعصاب في بعض المواقف قد يكون خطأ كبيرًا، ينعكس سلبًا لا إيجابًا، أما الحماسة الهوائية هذه، فأمر قد يدل على الغباء يا صديقي، ولكن إن أصررتَ عليها، فأرجوك أن تكتفي بحماستكِ التي تثير ابتسامة السخرية، لا تلك التي تتلاعب بها بأرواح الناس، فهذه قد تنقلب من خانة الحماسة لإثبات براعتك الفذة في قيادة السيارات، إلى خانة الجريمة غير المقصودة، والشروع في القتل الخطأ!


    عمر قزيحة: 18/1/2017: الساعة: 9:55 مساء
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 18-10-2017 الساعة 07:23 AM

  2. 3 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2

    الصورة الرمزية Jomoon

    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المـشـــاركــات
    5,627
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Thumbs up رد: الحماسة مقال بقلمي أ. عمر

    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

    قرأتها قبلاً وحاولت النظر لأسترجع بعض ما أثارني،
    عجبني التلميذ الذي قام متحمساً ناسياً نفسه،
    لا إله إلا الله براءة جميلة،
    لكن نقطة أدخال التكنولوجيا هذه مرا مدهشة،
    وأرى الذي يقود السيارة مجنوناً ولا اعتبره حماساً
    فما أسوأ فعلاً ذلك حين نتهاون في أرواح المسلمين ومن قبلها روحنا،
    ولا تلم ذاك الذي ضرب في وجهه المسكين جيد أنهُ لم يفقد عقله،
    كان الله في عونه،
    وربي يلطف بالحال،
    وشكراً لصاحب المكتبة لشعوره النبيل هذاxD,
    حقاً أدهشني وأفرحني كذلك ربي يبارك عمره،
    ولا ألوم شعورك تجاه المدير فهو قتل راحتكم،
    لكن يعجبني أيضاً حماسته تلك،
    تشعرني بأنهُ واعي وأيضاً يقدر عقول التلاميذ،
    ولو رأيت أنهُ يتكلم بشيء معروف وبديهي،
    لكن حاله كمن يذكر وينبه،
    باركك ربي،
    أحسنت بطرح هذا الموضوع الممتع،
    وفقك ربي لكل خير،
    في حفظ المولى،،
    ~

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,313
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الحماسة مقال بقلمي أ. عمر

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    تلك براءة الأطفال التي لا نستطيع إلا الابتسام أمامها
    والتكنولوجيا موجودة في كثير من المدارس إلا في تلك المدرسة التي طلب منا المدير فيها أن نبهر التلميذ بالتكنولوجيا!
    ومجانين قيادة السيارات لدينا منهم الكثير للأسف
    الذي ضُرب في وجهه... الحمد لله أنه لم يقتلني بعدها
    صاحب المكتبة كان متحمسًا لفوز السعودية لكنه وقع في يد صديقي الذي يستطيع أن يحدد كل لاعب كم دقيقة وثانية لعب، وكم تمريرة مرر وكم تسديدة سدد، بشكل ربما يتفوق به على أجهزة الكومبيوتر نفسها، ويحفظ تاريخ مواجهة أي منتخبين في العالم بالكامل، حتى وصل إلى مرحلة الانفجار التام إذا سمع معلومة خاطئة واحدة فيما يخص كرة القدم...
    ذلك المدير لم يكن واعيًا لحجم المشكلة ربما، وربما لأننا لسنا من منطقته، حاول أن يحملنا ما ليس من مسؤولياتنا، ولكن حماسته وحدها لن تكفي ما لم يتم معالجة الخطأ من جذوره
    كل الشكر والتقدير لمروركِ المشرف أختي ولدعائكِ الطيب، بارك الله بكِ ولكِ

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...