{{ مدخل :
فالدنيا ليست إلا محطة وداعٍ ومفارقةٍ دائمة،
دموعٌ، وشحيح لقاء }}
اعتادت سلمى على الانتقال من بلدةٍ لأخرى
فكانت كُلَّما اعتادت الحياة في المدرسة الجديدة وأحبتها، وكوّنت صداقات جديدة
حان موعد انتقالها مع أهلها لمدينةٍ أخرى
عشرات المدارس عرفَتها، والبعض منها لم تمكث بها إلا بضعة أشهر
لا تزالُ تذكر تلك اللحظات الأخيرة وهي تمسكُ بأيدي صديقتها
ذاك الإهداء اللطيف الذي لا تزال تحتفظ به في درجها بالرغم مرور سنواتٍ عديدةٍ
والعهد بالحفاظ على محبة القلوب مهما فرّقتهما الأيام
شاءت إرادة الله أن تعود سلمى بعد سنوات لذات المدينة التي أحبّتها
كانت سعيدةً جدًا ومتلهفة للقاء الجميع
كانت تذكر كل شخصٍ في هذه المدينة، كلّ ذكرى.. والعهد الذي جمعها بصديقتها الغالية..
لم تسَع الدنيا سلمى فرحًا وهي تعلمُ أنّها ستلتقيها أخيرًا
بعد مرور أيام.. التقت العينانُ
قالت سلمى وهي تندفعُ بحماس: "أخيــرًا صديقتي، لقد مرّ وقتٌ طويل"..
نظرت إليها الأخرى باستغراب دون أن تجاوب بالمصافحة وقالت أهلًا، أشاحت بنظرها للوجهة الأخرى وأكملت مسيرها بهدوء
أطبقت سلمى يدها
وعلمت أن الوداع الأول كان عهدًا باللقاء
وأن اللقاء الذي لطالما انتظرته.. كان الوداع الحقيقي
لم تستطع كفكفة الدموع الحلوة من عينيها وهي ترى ابنتها تختلج حياءً بثوبها الأبيض
وتجترُّ معها أكاليل الفرح والسعادة
كانت تنظرها وهي تتماهى حسنًا بسعادة وانبهار
وأعينها تُسمي الله
لكنها كانت تبكي حرقة وداع ابنتها في الغد
لحياةٍ جديدة غير حياتها بين أحضان والدتها وصديقتها التي عاشتها طيلة العشرين عامًا ونيفٍ الماضية..
احتضنت ابنتها بدفىء ..
وعدت الفتاة أُمها بالعودة عمّا قريب، فهي لن تُطيق عن أُمها صبرًا
ومع امتزاج تلك اللحظة بالدموع.. وابتعاد الأيدي عن بعضها
لم تدرك أيًا منهما أن تلك هي المرة الأخيرة التي تمسكان بها بأيدي بعضهما البعض
ولم تعلما أن إحداهما لن ترى تلؤلؤ عينيّ الأخرى مغرورقة بالدموع مرةً أخرى
مَضَتْ أشهرٌ تسعة وأملٌ تحملُ بين الأحشاء وهنًا على وهنٍ طفلها
كان متلفهةً جدًا للقاء، والإمساكُ بتلك الأيدي الصغيرة
تحسبُ الأيام بفرح
وتتخيرُ ألوان الملابس أجمعها لأجل صغيرها القادم
وبعد لحظات المعاناة من الوضع
لم تسمعْ أملٌ لطفلها صوتًا
حملتهُ الممرضةُ بين أيديها بحرص
وأبعدتهُ عن أُمه بصمت.. بمعالم وجهها التي تغيّرت.. ولم تنبس ببنت شفة
كانت أملٌ تعلم أنّ فرصته في النجاة ضعيفة
لكنّها ظلت تتمسك بالقوة لأجل أن يأتي
حملت معها للمشفى ملابسه الصغيرة، تتعلقُّ بشظايا الأمل أنّه عائد للبيت معها
لكنها علمت لحظتها أن ذلك لن يكون
رجت الممرضة أن تراه، أن تلقاه ولو مرّة
لم تدرك الممرضة ما تفعلْ، وضعته أمامها لبرهة ثم غادرت مسرعة
سلّمته لمسؤول النقل إلى حافظة الموتى
بكتْ مُطولًا قبل أن تتمكن من العودة إلى الغرفة
طفلٌ آخر.. ودّعته أملٌ اليوم
وبسمَ المُحيّا ينظرُ للسماء
كان أبناؤها اليتامى وقد أصبحوا رجالًا من حولها لم يتركوها طيلة الأشهر الماضية
أهلها هنا.. أحباؤها
نظرت إليهنّ والورمُ قد زاد وزنها أضعافًا
تضاحكت.. تضاحكت.. أنا راحلة، الوداع يا أحبائي..
"مخاطركن يا حبايب"
مضت ساعات وهي على هذه الحال..
والشهادة لم ترحل عن لسانها
حتى فارقتها الحياة.. لحياةٍ أفضل
سكن الجسد.. ووقف اللسان.. وسبابتها بوضعية الشهادة تجاه السماء
:
كُلّما مررتُ من أمام منزلهم.. أجدُ ابنها المُقعد جالسًا أمام البيت
يتأمل المارين في الطريق
تغشاه السكينة.. تملؤه الابتسامة
لكأنها ذاتُ ابتسامة والدته في لحظات الوادع
{{ مخرج :
اللهم إنّا نسألك حُسن الخاتمة }}
شكرًا لروعتكم تسالي بلس
دمتم على خير
المفضلات