[h=2]حكاية قمر[/h]
قمر طفلة عربيَّة! قمر لا أمَّ لها! تركَتْها أمُّها وليس لها سوى شهور، وانصرفَت في طريق حياتها، فنقص في نفس قمر كثير من الحنان والعطف، وليت الأمر توقَّف عند هذا، فلقد تزوَّج والدها، وهذا من حقِّه طبعًا، لكن ليس من حقِّه أن يأتي بامرأة تقهر ابنته وتنظر إليها على أنَّها خادمة لا قيمة لها، وتتكلَّم عليها بكلِّ السُّوء أمام معارفها منَ النِّساء.
فهمَت قمر أنَّها ليسَت سوى خادمة في هذا البيت، وليسَتِ ابنة صاحب البيت، بدا أبوها غريبًا عنها، وبعيدًا كلَّ البعد، بدا أنَّه ليس أكثر من مردِّد لأوامر امرأته هذه، بما فيها من الألم والأسى والقهر والعذاب لقمر، وما أصعبَها من كلمة تسمعها قمر بأذنيها من امرأة أبيها: "لو أنَّ امرأة غيري كانت امرأة أبي قمر، لطردَتها من البيت، ولكنَّ قلبي كبير"!
مع تقدُّم السِّنين باتَت معاناة قمر أشدَّ وأقسى، زادَت أعباء البيت عليها كثيرًا، لم تَعُد خادمة لامرأة أبيها فقط، بل لأولادها كذلك، إخوتها من أبيها، والكلُّ ينظر إليها على أنَّها خادمة البيت، مع ذلك، كانت قمر طالبة مجدَّة جدًّا، وتحصل على درجات عليا في مدرستها، لكن في نهاية المرحلة المتوسِّطة، أعلنَت امرأة الأب أنَّ هذا يكفي، لا دراسة بعد الآن، العلم لا يفيد قمر، ثمَّ إنَّها ليسَت في خان مجَّانيِّ، عليها أن تدفع بدل طعامها وشرابها!
بكَت قمر، حاولَت أن تعترض، لكنَّ كلمة امرأة أبيها كلمة، أولادها الأربعة لهم أطيب الطَّعام، وقمر تأكل ما تبقَّى، وهي التي تُعدُّ الطَّعام، وتقوم بأعمال البيت كلِّها، أمَّا أبوها فلا كلمة له ولا رأي، ما تقوله امرأته هذا هو! وما لا تقوله امرأته هو أمر إمَّا أنَّه غير موجود، وإمَّا أنَّه غير مهمُّ! وفي الحالتين الأمر سيَّان!
إذًا، قمر في الثَّانية عشرة من عمرها، وقد أمرَتِ امرأة الأب بإخراجها من المدرسة، لتعمل وتأتي بالمال لأنَّها تعيش بالمجَّان في البيت، وفي الواقع، كي لا نظلم الأب، نقول إنَّه استنكر هذا، لكنَّ امرأتَه أقنعَتْه بقولها: "اسكت! إمَّا أن تأخذها لتعمل، وإمَّا أن أترك لك البيت والأولاد وأذهب"، فسكت الأب واقتنع كلَّ الاقتناع!
مباشرة أمسك الأب يد ابنتِهِ، ونزل إلى الشَّارع يسأل أصحاب المحلَّات من يُشغلِّها عنده، لكن من سيفعل ذلك؟ الطِّفلة مسكينة ومقهورة، الكلُّ يدرك هذا إلَّا أبوها وامرأته وأولادهما؟ لكنْ، بعض أهل الخير كلَّمُوا صاحبة صالون شعر نسائيٍّ بخصوصها، وافقَت على أن تشتغل البنت عندها، لكنَّها فُوجِئَت بشكلها ولباسها المتواضع، وأنَّها لا تفهم شيئًا في هذا العمل، حتَّى لو تفهم، لا نعتقد أن امرأة قادمة لتسريح شعرها أو قصِّه، وستدفع المبالغ المرقومة، ترضى بأن تسمح لبنت في سنِّها وشكلها الذي يثير الشَّفقة بأن تشتغل في رأسها، لكنَّ صاحبة الصَّالون لم تكسر خاطرها، شغَّلَتْها عندها بتنظيف المحلِّ وكنس الأرض من الشَّعر، وإعداد القهوة والشَّاي.
طبعًا الأجر زهيد، والمشكلة الألعن أنَّ هذه البنت تخرج للشُّغل من الصَّباح إلى المساء، تشتغل تتعب، ترجع إلى البيت، ممنوع أن تدخل، قبل أن تمدَّ امرأة أبيها يديها في جيوبها لتستولي على كلِّ المال الذي فيها، ولا تترك لها شيئًا، على الرغم من أنَّها كانت تتوسَّل إليها: "اتركي لي ولو سعر دفِّ شوكولا، أو أيِّ شيء أشتريه ولو كان زهيدًا"، لكنَّ الرَّدَّ: "اسكتي! لن تأكلي شيئًا خارج البيت! لا تحتاجين المال"!
مدَّت قمر يدها، يا للأسف، أخذت تسرق من الزَّبونات، من سترة إحداهنَّ حين تأخذها منها لتعلِّقها لها قبل أن تبدأ بقصِّ شعرها، من حقيبتها اليدويَّة إن استطاعت ذلك، وفي طريق الرُّجوع إلى البيت تشتري كلَّ ما يطيب لها من السَّندويش والشُّوكولا والعصائر، ولكن، سنتوقَّف قليلًا عند هذا الأمر، السَّرقة خطأ كبير، لا نسوِّغه بأيِّ حال من الأحوال، لكن، اللصوصيَّة الأولى والأخطر في سرقة حياة هذه الطِّفلة وإحساسها بالأمان، اللصوصيَّة الأقسى في سلبها حقَّها في التَّعليم والدَّفع بها إلى العمل رغمًا عنها، اللصوصيَّة الألعن في سرقة تعبها بلا أدنى رحمة بها، بعد ذلك نرى هل نلوم الطِّفلة على خطئها أم لا!
المصيبة الكبرى أنَّ امرأة الأب لم تسألها لم زاد أجرها بهذا الشَّكل الكبير فجأة، بعد أيَّام فقط من بدايتها العمل، ولا لماذا كلَّ يوم الأجر يختلف عن الذي قبله، فالمهمُّ المال! و(هكذا! أحسنْتِ! اشتغلي أكثر، وارجعي بمال أكثر)!
لكن بعد أيَّام جاءَتِ الشُّرطة لتعتقل البنت بتهمة السَّرقة، اشتكَت صاحبة المحلِّ عليها، بعد شكاوى الزَّبونات المتكرِّرة عن فقدان المال، متى بدأ هذا الأمر؟ بعد أن شرَّفت هذه البنت لتشتغل في الصَّالون، قمر لم تنكر، أخذت تبكي في قسم الشُّرطة، المحقِّق يسألها: هل أنتِ التي سرقْتِ؟ تردُّ وهي تبكي: والله سرقْتُ لأنِّي جائعة...
ربَّما ليسَت جائعة إلى الطَّعام، بقدر ما هي جائعة إلى العاطفة المفقودة، إلى الرُّوح التي تدمَّرَت في أعماقها بلا هوادة، تمَّ تحويل قمر إلى المحكمة، حكمُوا عليها بقضاء ثلاث سنوات، في سجن الأحداث، مرَّت السَّنوات، كيف كانَت معاناة قمر في هذا السِّجن؟ لا نعلم بالضَّبط، لكن حين جاء أبوها ليتسلَّمَها، بعد اتِّصال ورد إليه من السِّجن، فوجئ بأنَّ قمر صارَت فتاة جميلة طويلة القامة لا تشبه الطِّفلة التي كانَت منذ ثلاث سنين!
صارَت؟ لا تشبه؟ هل تركْتَها ثلاث سنوات في سجن الأحداث، تعاني مرارة الوحدة على مرارة السِّجن؟؟ المهمُّ أنَّه الآن يحتضن طفلته، يبكي تأثُّرًا، ويعاتبها على فعلتها – هل عاتبْتَ امرأتَك على كلِّ ما فعلَتْه بها؟ *– عاد الأب بابنته إلى البيت، أخيرًا ستشعر قمر بالأمان، أخيرًا هي في بيت لا في سجن، وإذ بامرأة أبيها تصرخ في غضب شديد: "حراميَّة في بيتي؟ حراميَّة تتربَّى مع أولادي؟ ستعلِّمهم السَّرقة؟ أخرجها من بيتي، في هذا البيت يا أنا يا هي"! وتسبُّ وتلعن وتُهدِّد بالطَّلاق وترك الأولاد، فخطرَت في بال الأب فكرة (ذكيَّة) وخطَّة (عبقريَّة)، وبمنتهى (الدَّهاء) قال لامرأته إنَّ قمر ستنام فقط اليوم في البيت وترتاح، من الغد تذهب وتشتغل وتأتيكِ بالمال!
ألم تتعلَّم شيئًا ممَّا حدث من قبل يا رجل؟؟ عمومًا لا نعلم ما كانَت ستردُّ امرأة الأب، إذ إنَّ قمر صرخَت في لوعة ومرارة، سالَت دموعها كالسُّيول، وهي تفتح باب البيت وتجري بأقصى سرعة لها، بعيدًا بعيدًا وسط الليل الذي بدأ يفتح أنيابه الظَّلاميَّة المخيفة، وصوت أبيها من خلفها يصرخ: لاااااااا، قمر، ابنتي، ارجعييييي، باباااااااااااااااااا!!
دعونا نختم الأمر في زاويتَينِ اثنتَينِ مختلفتَينِ تمامًا، في الزَّاوية الأولى، قمر مرهقة جدًّا، مستلقية على رصيف ما في مكان بعيد، ومنها تقترب فتاتان متشرِّدتان، تبدو عليهما الخشونة والقسوة...
في الزَّاوية الثَّانية، أبو قمر كلَّ ليلة يغلق دكَّانه، ويتمشَّى حوله، يجيل نظره في الحارات، متوقِّعًا أنَّ قمر ستبرز فجأة من بين خيوط الظَّلام، فيبتسم في سعادة!
وهل نحن في أفلام الكرتون يا رجل؟ تغلق دكَّانك، تنظر في الحارات، فتبرز قمر فعلًا وتنطلق نحوك، فتفتح ذراعيك هاتفًا: قماااااااااااااار، وتلقي نفسها بين ذراعيك هاتفةً: باباااااااااااا، وتعود بها إلى بيتِكَ، فتستقبلُها امرأتُك، وقد نبت لها جناحان، وصارَت من جنس الملائكة كما تبدو في أفلام الكرتون؟؟
لكنْ، حقًّا، هل تنجو قمر من مصير التَّشرُّد الأسود، وتعود إلى البيت، حيث بعض الأمان، ولو أنَّه كُتب عليها الشَّقاء في العمل حتَّى ترضى امرأة أبيها المتسلِّطة؟؟
أو أنَّنا قد دفنَّا الآمال جانبًا، بعيدًا في أعماق الصَّناديق الحديديَّة المغلقة، تحت أطنان من الصُّخور التُّرابيَّة؛ لتقع قمر فريسة حياة رهيبة، في أعماق التَّشرُّد، بكلِّ مخاوفه؟
لا نعلم الإجابة...
أو لعلَّ الأكثر دقَّةً أن نقول: إنَّنا لا نريد أن نعلم الإجابة!
فقط لنا الأمل في أن يتلاشى الألم...
هذا لو أنَّ الأمل وحده يكفي!!
المفضلات