مرحبًا بكم في تحدٍ جديد من المستوى الثالث في مجال المقامة هذه المرة، بين تشيزوكو و Hercule Poirot ^^
لعل موضوع المقامة غريبٌ قليلاً، فهو عن الاحتلال البريطاني للهند ومسيرة غاندي السلمية نحو الاستقلال
وبتحديدٍ أكبر، عن رجلٍ عربي زار الهند وصاحب غاندي في رحلته تلك..
أرجو لكم قراءةً ممتعة، ولا تحرمونا من نقدكم وتعليقاتكم ^^
المقامة الأولى
الناصح الأمين
حدثنا صهيب بن يقظان قال: قلّ بي الزاد، وأنا ببغداد، فخطر لي السفر، إلى خارج أرض مُضَر، فشمّرتُ عن ساعد الجِدّ، وارتحلتُ إلى بلاد الهند، فركبتُ البحر في أسابيع وأيام، حتى وصلتُ بلادهم في سلام.
وكانت الأنحاء آنذاك في هرج ومرج، تستنجد لاشتعالها بالماء والثلج، وما ذاك إلا من سطوة الإنجليز الأشداء، إذ استعمروا الهند وأرغموها على الولاء.
ولما وطئتُ بقدمي التراب الجديد، لم ألبث أن سمعتُ على كل لسان حديد، إذ اجتمع الهنود على رجل حليم، يلقبونه من بينهم بـ ’’غاندي‘‘ الحكيم، فسرتُ أتتبع اسمه من وراء الأخبار، وأتلقف أنباءه من أفواه الثوّار، ويقودني إليه السؤال تلو السؤال، عساني أفوز منه بغنيمة أو مال.
فلمّا لقيته خرستُ عن السؤال، وصدّني عن النطق ما رأيته من حال، إذ ألفيته كهلًا في الدنيا قد زهد، وعن الإكثار من حطامها قد نهى وصدّ، لم يتخذ منها إلا شاةً صحبة، لها من الوبر الغزير ما ينفي عنها العيبة، فهو يغزل من شعرها له كساءً، ويتخذ من لبنها لبدنه غذاءً، فاستغنى بها عن السؤال والحاجة، بعد أن حرّم على نفسه أكل لحم الماشية والدجاجة.
هممتُ عند ذاك أن أرجع على أعقابي، فلا نفع لي في صحبة لا ترتوي منها جيوبي، لكنّه رحّب بي عند لقياي أيّما ترحيب، وقرّبني تقريب الحبيب للحبيب، ودعاني إلى مشاركتهم في مسيرة المِلح، ساعيًا إلى إبدال خسارة قومه بالربح، وهي مسيرة سلمية نظّمها ضد المحتلّ، جراء الضرائب التي أثقلت الصحيح والمعتلّ، فانطلقتُ معهم خاويًا من أمل، ولا ناقة لي في الأمر ولا جمل.
ثمّ عدنا من مسيرتنا بكثير من الجراح، إذ لم يتقبل الإنجليز احتجاجنا بارتياح، فأسبغوا علينا بالعِصِيّ والضرب، وانقضّوا علينا من كلّ حدب وصوب، حتى ما إذا فرّقوا ناحية من شملنا، كما تُفرَّق الأمّ عن ولدها الرضيع، هاجموا المتفرقين كما يهاجم الذئب شاردة القطيع، فأودعوا كثيرًا منهم في السجون، حتى غصّت الزنازن بالآهات والشجون. لكن كان لمسيرة غاندي أثر على الإنجليز، ظلّ على آذانهم منه طنين وأزيز، فأيقنوا أن سلطتهم لم تعد كالفولاذ، وأنه لا بد للهنود منها يومًا من نفاذ.
وفي طريق عودتنا بلا مراكب، بعد انتهاء ما سبق من متاعب، لقينا رجلٌ أراد إكرام غاندي ببعض الطعام، فتبسّم صاحبنا وردّه بطيّب الكلام، فلحقتُ بالرجل خفية عن القوم، وقبلتُ منه طعامه لا أخشى منهم اللوم، وانتظرتُ في المبيت حتى تخطّفهم النوم، فأقبلتُ على حاجتي منه لا أنتوي الصوم.
ثمّ مضت السنون وغاندي على هذه الحال، يواجه الإنجليز بالسِلم ويقابلونه بالقتال، ولم يفلت هو أو أتباعه من سجن أو مهانة، فما ضعف منه حزمٌ ولا قلّت رصانة، فأردتُ نصحه عن طريقته التي سلك، قبل أن يهلك فيها أكثر ممّن قد هلك، وطفقتُ أستحضر له الأشعار والعبر، وأختار له الأمثال بأبلغ الصور، وأبيّن له في مضافة الدار، كيف أنّ النار لا تُقاوَم إلا بالنار، وأن نبذ العنف لا يرهب الأعداء، بل يكالبهم عليه تكالب الذئاب على الشاء، ثم انتبهتُ من كلامي إلى حيث يجلس الترجمان، فإذا هو غارق في غفوة لا يسأل عن إنسان، فأدركتُ أن ما فُهتُ به بدا كالهراء، وليس إلا حروفًا قد ضاعت في الهواء، فاعتذرت إلى مضجعي أنوي الرقاد، بعد أن نالني ما نالني من عناء السهاد.
ثمّ جاءت الحرب بسنينها العجاف، فانتشرت المجاعة وعمّ الجفاف، لكن الإنجليز احتاجوا إلى مزيد من الجنود، فقدّموا وعدًا بالاستقلال ثمنًا لاشتراك الهنود. وانتهت الحرب بفوز الحلفاء، وآن وقت الوعد أن يكون له وفاء، فحاولوا المماطلة في بداية الأمر، لكن انصاعوا في الختام وذهب المكر، غير أن الاستقلال كان له أثر ثان، إذ انقسمت البلاد بين هندٍ وباكستان، ولم يسرّ ذلك غاندي العجوز، فالانقسام في قاموسه لم يكن يجوز، لكن مسعاه للتوحيد أبدًا ما أفاد، فلم يجد أمام الواقع سوى الخضوع والانقياد.
وبعد سنتين أو ثلاث من ذلك المآل، ذهب غاندي ضحية للاغتيال، صرعته فيه ثلاث رصاصات، وحوّلت أيامه إلى تاريخ وقصاصات، فلم يبقَ هنديّ إلا مشى خلف النعش، وكأنهم خلف مَلِك لم يكن له عرش، وكان لذاك الموقف صدى حزين، دمعت منه العيون وعلا له الأنين، ثم أحرقوا جثته وذرّوها في النهر، وتركوه في مياهه ينتظر القيامة والنشر، فوقفتُ هناك وقفة متصدّع، وألقيتُ عليه تحية المودّع، وذكرتُ منزلته بين الساعين، فختمتُ خطابي له بلسان مبين: يا قاطن النهر بين ماء وطين، يا من سعى للسلام فحُرم التمكين، قد نلتَ من صحبتنا من النصح الأمين، ما نلنا من مائدتك من لحمٍ سمين!
المقامة الثانية
رحلةٌ مع غاندي
حَدَّثّنَا أَحَدُهُمْ فَقَال:
لَمَّا كُنْتُ غُلَامَا فَتِيَّا، صَحِبَنِي أَبِي لِلْقَارَّةِ الْإفْرِيقِيَّة. وَكَانَ تَاجِرًا قَدْ ذَاعَ صِيتُهُ وَاشْتَهَر، وَتَعَاظَمَ رِبْحُهُ وَزَخَر. وابْتَغَى أَنْ أَرِثَهُ فِي صَنْعَتِه، فَجَعَلنِي مِنْ جُمْلَةِ رِفْقَتِه.
كَانَ ذَلِكَ عَامَ ثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَلْف، وَكَانِ تُجَّارُنَا الْعَرَبُ مُنْضَوِينَ إِلَى حِلْف. فَالْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كَانَ مَسلُوبا، وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّصَارَى جَعَلُوا الأَرْضَ مَشَاعًا مَنْهُوبا.
وَعَرَّفَنِي أَبِي أَحْوَالَ الْبِلَاد، وَأَنَّنَا فِي نَظَرِ "الْبِيضِ" مِنْ أَدْنَى الْعِبَادْ. فَلَا نُشَارِكُ فِي سِيَاسَةٍ أَوْ انْتِخَاب، وَمَحَلُّنَا فِي الْقَاطِرَةِ مَعَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الرُّكَّاب. وَرَغْمَ أَنِّي غَرِيبٌ عَنْ تِلْكُمُ الدِّيَار، أَلْفَيْتُنِي مَسْلُوبَ الْكَرَامَةِ مُنْهَار.
وَفِي غَدَاةِ يَوْمٍ جَلَل، اعْتَرَضَتْنَا حَاجَةٌ فَرَكِبْنَا الْقِطَارَ عَلَى عَجَل. فَأَبْصَرْتُ فَتًى هِنْدِيًّا مُشْرِقَ الْجَبِين، يَتَقَدَّمَ أَنِيقًا بِوَقَارٍ رَزِين. وَأَمَامَ نَاظِري صَعَدَ الدَّرَجَةَ الأُولَى، فَعَجِبْتُ فَلَمْ أَخَلْهُ أَمْرًا مَقْبُولَا. وَلَمْ يَدُمْ عَجَبِي فَنَشَبَ نِزَاعٌ فِي الْحَال، وَأُلْقِيَ الْفَتَى خَارِجَ الْعَرَبَةِ فَكَأَنَّهُ أَسْمَال. وَتَقَدَّمَ رَهْطٌ كَانُوا مَعَهُ فَأَعَانُوه، وَسَمِعْتُهُم بِاسمِ غَانْدي دَعُوه. وَأَبْصَرْتُ فِي مُقْلَتَيْهِ وَمِيضَ الْعِزَّةِ مُتَّقِدَا، وَحُفِظَتْ نَظْرَتُهُ تِلْكَ فِي فِكْرِي أَبَدَا.
وَلَمْ يَطُلْ بِنَا الْمَقَامُ فَقَفِلْنَا عَائِدِينَ إِلَى الدِّيَار، وَأَخَذَتْنَا الْحَيَاةُ وَتَنَاوَشَتْنَا الْأَسْفَار. فَلَمَّا انْقَضَتْ أعْوَامٌ عَشْر، وَفَدْتُ ذَاتَ الْمُقَامِ بَعْدَ أُفُولِ دَهْر. وَكُنْتُ قَدْ وَرِثْتُ التِّجَارَة، وَلَمْ أَجِدْ الْحالَ تَبَدَّلَ بَلْ ازْدَادَ مَرَارَة. غَيْرَ أَنِّي أَلْفَيْتُ صَحِيفَةً هِنْدِيَّةً مُرِيبَة، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عُرْفِ الْبِلَادِ عَجيبَا. وَمَا لَبِثْتُ أَنْ عَرَفْتُ اسْمَ صَاحِبِهَا، وَرَأَيْتُ صُورَتَهُ تُجَمِّلُ مَتْنَهَا. فَهَاجَتْ الذِّكْرَى وَحَارَ الْفِكْرُ وَتَاه، فَلَمْ يَكْنْ سِوَى غَانْدِي رَفِيقَ الْقِطَارِ إِيَّاه!
وَتَرَدَّدَ اسْمُهُ حَوَالَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّة، فَقَدْ أَقَامَ مُسْتَعْمَرَةً وَقَدّمَ احْتِجَاجًا وَاعُتُقِلَ كَرَّةً تِلْوَ كَرَّة. وَعَرَفْتُ أَنَّهُ مُحَامٍ قَدِير، يُنَاضِلُ الظُّلْمَ دُونَ عُنْفٍ أَوْ تَدْمِير. فَزَادَ إِجْلَالِي وَاحْتِرَامِي للرَّجُل، غَيْرَ أَنَّ تَكَسُّبِي دَفَعَنِي عَاجِلًا لِأرْتَحِل. وَلَزِمْتُ تَتَبُّعَ أَخْبَارِه، وَاسْتِقَاءَ حَالِهِ وَأَسْرَارِه. وَكْنْتُ أَسْمَعُ الْعَجَبَ الْعُجَاب، وَتَبْلُغُنِي أَنْبَاءٌ تُذْهِلُ الْأَلْبَاب.
فَعَامًا بَعْدَ عَام، كَبُرَ الاحْتِجَاجُ وَالْكَلَام، وَكذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالطَّوَام. أَتْبَاعُ غَانْدِي تَعَاظَمُوا، وَبِسِلَاحِ الصَّبرِ قَاوَمُوا. وَضُيِّقَ عَلَيْهِمُ الْخِنَاق، وَشُدَّ حَوْلَهُمُ الْوِثَاق. فَأَرْدَوْهُمْ صَرْعَى فِي الْمَيَادِين، وَمُقَيَّدِينَ فِي الزَّنَازِين. وَإِنِّي إِبَّانَ ذَلِكَ كُلِّه، أَلْفَيْتُنِي مَشْدُودًا لِدِقِّ الشَّأْنِ وَجُلِّه. تَوَّاقًا لِلْمُسَاهَمَةِ فِي النِّضَال، وَنَبْذِ التَّرَفِ وَالْأمْوَال. فَقَدْ اخْتَبَرْتُ امْتِهَانَ الْكَرَامَةِ مَرَّة، وَلَا أَنْزِعُ لِمُعَاوَدَةِ الْكَرَّة.
وَلَمْ تَضِعْ أَوْجَاعُ الُأَعْوَامُ هَبَاء، فَبَلَغَتْنَا يَوْمًا خَيْرُ أَنْبَاء. فَقَدْ تَمَّتْ التَّسوِيَةُ أَخِيرا ، وَاسْتَرْجَعَ الْقَوْمُ الْحُقُوقَ الْمَهْدُورَة. وَقَفِلَ غَانْدِي إِلَى بِلَادِهِ الْمُسْتَعْمَرَةِ مِنْ سِنِينَ طِوَال، سَعْيًا لِلْانْتِهَاءِ بِالْهِنْدِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْاسْتِقْلَال. وَعَزَمْتُ أَمْرِيَ أَنْ أُصَاحِبَهُ دَهْرا، فَارْتَحَلْتُ إِلَيْهِ وَرَافَقْتُهُ فَوْرا. وَقَضَيْتُ فِي الْهِنْدِ سَنَوَاتٍ عَدِيدَة، أَغْنَتْ حَيَاتِي بِالْخِبْرَاتِ الْفَرِيدَة.
أَبْصَرْتُ غَانْدِي يُعْلِنُ الصَّوْمَ حَتَّى الْمَمَات، فَزَالَ التَّمْيِيزُ ضِدَّ الْهُنُودِ فِي الْانْتِخَابَات. أَيَّدُتُ غَانْدِي فِي عِصْيَانٍ مَدَنِي، تَزَايَدَ فِيهَا الدَّعْمُ الشَّعْبِي. رَافَقْتُ غَانْدِي لِنَسْتَخْلِصَ الْمِلْحَ مِنَ الْبَحْر، مُجَابِهًا قَانُونًا أَحَالَهُ لِلْمُسْتَعْمِرِ حَصْر. عُشْتُ مَعَ غَانْدِي سِنِينَ سِجْنِهِ وَنِضَالِه، وَتَرَقَّبْتُ بِمَعِيَّتِهِ دُنُوَّ الْهِنْدِ مِنَ اسْتِقْلَالِه.
غَيْرَ أَنَّ الْهُنُودَ بَدَأُوا بِالْانْقِسَام، وَبَعُدَتْ الشُّقَّةُ بَيْنَ الْهِنْدُوسِيَّةِ وَالْإِسْلَام. وَانْتَهى الْخَطْبُ بِأَنُ انْبَثَقَتْ مِنَ الْهِنْدِ دَوْلَتَان، وَشَهِدْتُ وِلَادَةَ مَا يُعْرَفُ بِالْبَاكِسْتَان. وَتَأَلَّمَ غَانْدِي لِلَّذِي كَان، وَابْتَغَى الْوِحْدَةَ وَالْأَمَان. فَلَمْ تَرُقْ لِلْهٍنْدُوسِ دَعْوَاهُ فَنَبَذَه، وَقُبَالَتِي اخْتَرَقَتْ الرَّصَاصَاتُ جَسَدَه! فَلَمَّا وَقَعَ الْأمْرُ وَاغْتِيل، أَلْفَيْتُنِي أُوثِرُ لِسَلَامَتِي الرَّحِيل. وَرَجَعْتُ إِلَى دِيَارِ الْإِسْلَام، أُلَقِّنُ فَنَّ دَرْءِ الْحَرْبِ بِالسَّلَام!
المفضلات