بسم الله الرحمن الرحيم ،,
حديثُ السنيـــــن !
أَ سنيناً متتالياتٍ تتعاقبها الليالي..
أسنيناً أبدية المُضي،دائمة الترحال،ألافة التجوال..
أسنيناً يفني المولود فيها والده،ويلد الوليد من إياه سيفني..
أ صاحبتي قفي قليلاً،كفي الظعنَ ، حلي الرحل ، وحدثيني؛عن ألمكِ الطافح فوق وجهكِ العجوز حدثيني،عن أنينكِ الذي ينشره صرير رياحكِ في جنباتِ الأرض خبريني ،عن صمتكِ طوال عمر الدهر التليد افصحي ولي بوحي..
تُحشرج جذور الشيخوخة سائلة.."من ذا ينادي"؟!
لتهتف مجيبة فخورة.."تلك أنا، إبنة الحبِّ والجمال..جوهر الكون وقطاف ربيعه..مسكٌ أرضي والكافور ثراها..الطهر والذبول..والإيناع فحرُّ القيظ أبنائي..لذة فيض الأجاج مآقيَّ،وعذوبة الملح الشاسع محجريها..إنبثاق خيالات الفجر وانبجاس سَحر الديجور شرابي،وغمر زهرة قمره ولُّبّ ديباج الشمس غذائي،وعناقيد النجم الأبيض أيتها السنين كؤوسي..أيا سنواتِ الترح أما عرفتِني؟..إني أنا الدنيا أناديكِ وأملأ آذانكِ العجوزين بسواقي همسي وقيثارة صوتي..إني أراكِ تجولين بلا انقطاع وتضربين أكناف الكون باحثة عن ضالة لستُ أدركها،العناء والرمضاء أُلبسا أخاديد وجهك، والنور قد قُبض من عينيكِ الضريرتين ،والوجع ينبض بين أضلع أيامك ليس له أفولا،حدثيني أما ترينني..جارة خليقة بحفظ السر؟"..
يرنُّ الصمت في رحب الفضاء أبدي المدى،وتنبجس عيون الكواكب من سرمدية ستاره ترقب الجواب الآتي..
منكسٌ رأسها،ذابلٌ هدبها،منسدل من مفرقيه شعرها الأشيب،يحجب تقاطيع الوجه إلا من فاه متشطر الشفاه ألف التأوه وتَلامس العبرة وندب الانتحاب،تنطق خافضة المقل:"أوااه يادنيا..يالكِ من حمقاء جهولة،الخواء جوفكِ والفراغ قلبكِ!..أوَ تجرئين سؤالي ما بي؟..أفلا تستشفينه دونما إفصاح؟..إنكِ لملهيةٌ بحمقكِ،في شُغلٍ بتعاظمِ كنزكِ وحُلو شهدكِ..وإني_لو تدرين_ أمقتكِ؛أمقتُ ترفكِ وخديعتكِ،أمقتُ دسائسكِ المختبئة وراء صلد روحكِ.."
تبتلعُ الكلم مع ريق تدفع به بحة غصة حلقها..ترفعُ رأسها وتبتسم رغماً عنها لمرأى وجهها الأحمق مشدوها وعيناها المحدقة على اتساعهما،وتقطر شفاها مستغربة بسمتها دما..
تكمل غير آبهة:"أحدثكِ؟ عن ماذا؟..إني شهدتُ خطوباً تفوق مدارككِ القاصرة..إني عشتُ دهور الهول وفِعال الشدائد،واشتداد العظائم..إني شهدتُ موت العصور وعذاب أقوام وهلاك أمم..إني مررتُ بالكثير العظيم الكبير..
إني رأيتُ عباداً أُرسل إليهم النذير،وقُدم لهم بالوعيد،وجاءهم النور يسري،فلمّا ولوا الأدبار وعن الهدى الذي بُعث أعرضوا،أبصرتُ وعيد بارئهم وذارئي يقع،حيناً رأيتُ الرجفة تكسوهم،وحيناً الظلل تغشاهم،وحيناً أمطرت السماء حجارة من نزل من حميم..حتى إذا ما باتوا حُطاماً وذرتهم رياحي في أرجاء الأرض،ومضيتُ ومضى بنوني،إذ بي أرى الغفلة تسير على الثرى الذي واراهم،والإعراض ينام مطمئنا على بقايا صرخاتهم،وذات الذنب يُرتكب بهدوء بين جنبي الأرض التي خسفها العذاب..
إني شهدتُ طي الدهر،وسكرة الموت وذوي البشر..إني شهدتُ اصطراخات الحروب وويلاتها،بضع حين بين شقي البزوغ والغسق،وردحاً طويلاً أحينا أخرى..
وتلك نفسي قد ذاقت مرارة الذل،ومدامع القهر وتباريح النوى..وهاتيك سواكني قد لامستْ تشطر المهج وتقطع الألباب وتفطر الشوق..
إن الأطيارَ في أعالي السماء والحيتان في جوف البحار والراكضات بين ربوع الغابِ تدري أنَّا في فجوة قريبة سنفنى،وسيُؤذن أخيراً لأعمارنا الطويلة ختاماً..لكن "هما"؟..أفينظِرون دليلاً آتٍ بلا ريب؟..أآية واقعة بلا شك؟..أيوم حالٌّ لا محالة؟..أم ماذا؟ وحتّـــــــــام؟!إ
ن أبي الزمنَ وأنتِ أمي وكذا أنا زائلون كلنا..فأمهليني أماه الحطام الذي لي من عمري بقي،وأرقديني ليلاً لا ينبلج،وأسكنيني جوف ظلماء لا تنقشع..فإني قد شختُ وظمئتُ وأبداً سُهد مرقدي، وأريد شيئا من الراحة حتى..يوم من بنيني حتماً يختمُ لي العمر !"
المفضلات