بســم الله الرحمن الرحيــم
،،،
الظلام دامس ..
والجو بارد .. بل قارس ..
والصمت يحيط بالمكان .. فلا تسمع سوى صوت صفير الرياح ..
الصحراء شاسعة .. تحيط بي تماماً .. وتمتد إلى ما لانهاية ..
لا أعرف كيف وصلت إلى هذا المكان ..
يبدو أنني ابتعدت كثيراً عن المخيم ..
أحس بأني وحيد فعلاً ، وسط هذا البحر الكبير من الرمال ..
حتى كثبان الرمال .. تبدو وكأنها تنظر إليّ بجمود ..
قشعريرة باردة تسري في أوصالي ..
لابد أن أتحرك ! حتى لا أتجمد ..
أتخبط في هذه الصحراء ..
لعلي أجد أحداً .. أو لعل أحداً يجدني .. لا يهم .. فقط أريد أن أهرب من السكون في هذا الظلام المخيف ..
فجأة .. اشتدت الريح .. وارتفع صوت صفيرها ..
هناك رائحة غريبة حملتها هذه الريح معها ..
إنها رائحة حطب ..
توقفت برهة ..
لكن الريح هدأت ..
أنا متأكد .. لقد كانت رائحة حطب .. نار .. كانت خفيفة .. ولكنِّي أعرفها ..
كلا .. لابد أني أتوهم ..
عادت الريح مرة أخرى ..
وعادت معها رائحة الحطب .. إنها أوضح هذه المرة ..
أسرعت باتجاهها .. نحو كثيب رملي كبير ..
وأخذت أصعد بصعوبة ، فالريح تدفعني بقوة ..
ولكني استمريت ..
ها أنا .. أصل إلى القمة ..
أنظر حولي .. نعم .. هناك ضوء بعيد ..
يبدو أنه ضوء نار ..
الحمدلله .. أشعر بالأمل يتجدد في نفسي ..
أسرعت بالنزول .. وسقطت عدة مرات بسبب الانحدار الشديد ..
ولكن يجب أن أستمر حتى أصل إلى هناك ..
أرى خيالاً لأشخــاص قرب النار .. أشعر بالحماس .. أجري بسرعة أكبر ..
فالبرد يلسعني من كل جانب .. وبرد الوحدة والظلام أشد وأنكى ..
وأخيراً وصلت ..
هناك ثلاثة رجال .. يجلسون ملتفين حول النار .. لا أستطيع تبين وجوههم جيداً ..
كان ضوء النار يتوهج على أجزاء من وجوههم .. بينما هم ينظرون إليها صامتون .. صامتون تماماً ..
اقتربت بهدوء .. ولكنهم لم يشعروا بي .. أو ربما شعروا لكنهم لم يأبهوا ..
اقتربت أكثر .. بدأت أشعر بدفء النار .. وبدأت أتبينهم أكثر ..
ملابسهم غريبة .. غريبة جداً .. وأشكالهم كذلك ..
يبدون تماماً كتماثيل خرجت للتو من أحد متاحف التاريخ ..
أشعر بخوف شديد .. أتمنى لو أرجع من حيث أتيت ..
أهرب بأية طريقة ..
ولكن لن أستطيع فها أنا أقف عندهم ..
استجمعت كل ذرات الشجاعة المتبقية لديَّ ..
وألقيت عليهم السلام ..
رفع الشيخ الذي يجلس أمامي رأسه بهدوء .. وأخذ ينظر إليَّ ..
أشعر أن قلبي يكاد يتوقف ..
مفاصلي كلها أخذت ترتعد ..
-- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
قالها بلهجة غريبة .. ثم عاد ينظر إلى النار ..
إنهم ينظرون إلى النار بشكل غريب ..
أشعر أن مسحة من الحزن تطغَى على ملامحهم ..
ترى .. ما سرّ غموضهم .. لابد أن أعرف ..
وبرغم الرعب الذي يمتلكني .. لم أستطع أن أقاوم فضولي الشديد لاستطلاع أمرهم ..
استجمعت شجاعتي مرة أخرى .. واستأذنتهم في الجلوس ..
استمروا صامتين لفترة .. قبل أن يرفع الشيخ رأسه ويشير إليّ بالجلوس ..
جلست بحذر بين الرجلين الآخرين ..
الذي يجلس إلى اليمين كان شاباً طويلاً نحيفاً .. حاد الملامح .. يرتدي خوذة معدنية على رأسه .. ودرعاً على صدره .. ويتدلى سيفه بقربه ، وكأنه على أهبة الاستعداد للقتال ..
بينما الذي يجلس على يساري كان فتى يافعاً ويبدو أنه أصغر بكثير من الأول ..
ويرتدي هو الآخر لباس الحرب .. وحول معصميه سوارين جلديين .. وفي حضنه سيف لامع ..
أما الشيخ .. فلم يكن يختلف كثيراً في لباسه عنهما ..
لكنه يبدو الأكثر خبرة فيهم ..
وبينما أنا أتأمل وجوههم وملابسهم الغريبة ..
والصمت يطبق على المكان .. لا يخترقه سوى صوت فرقعة النار ..
إذ نسمع من بعيد صوت عدو حصـــان ..
أرى خيالاً لفارس على فرسه .. إنه قادم في اتجاهنا .. يقترب .. يقترب .. ويقترب أكثر ..
وهم لا يحركون ساكناً ..
وصل ..
ترجل عن فرسه ..
قبل أن أنظر إليه .. شدني منظر فرسه .. كان صدرها مثخناً بالجراح .. والدم ينزف منها ..
ها هو الفارس يقترب ..
تَسبقه رائحة جميلة جداً ..
لقد كان هو الآخر مثخناً بالجراح .. و وجهه مغطى بالدماء ..
ولكنه .. لم يكن متأثراً بها .. فقط اقترب .. وسلّم ثم جلس قرب الشيخ ..
بدا الموقف أكثر غموضاً .. في خضم هذا الصمت الرهيب ..
أحسّ بأني أعيش لحظاتي هذه .. في عالم آخر .. زمن آخر ..
المفضلات