ثالثا : الانصراف إلى المزدلفة
1- اذا غربت الشمس وتحقق غروبها فإن السنة أن ينصرف الحجاج من عرفة إلى مزدلفة مخالفين لهدي المشركين الذين كانوا ينصرفون قبل. غروب الشمس لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس مخالفا هدينا هديهم
2- وعليهم أن يتحلوا بالسكينة والوقار لما في الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع زجرا شديدا وضربا وصوتا للإبل فقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع - يعني الإسراع - ولما في صحيح مسلم أيضا عنه رضي الله عنه قال: ويقول- يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بيده: أيها الناس السكينة السكينة . يعني الزموا السكينة والطمأنينة والرفق.
ومن خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بعرفات أنه قال: ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له
ولا شك أن لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بنصحه في هذه المناسك من أسباب المغفرة.- لكن إذا رأى الحاج وخصوصا قادة السيارات فرجة أمامه في الطريق فإنه يسرع فيها قليلا مع الحذر من أذية الحجاج وإزعاجهم، لما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير العنق- وهو سير غير سريع - فإذا وجد فجوة نص- أي أسرع قليلا
3- وعليه أن يشتغل حال انصرافه إلىمزدلفة بالتلبية والتكبير والاستغفار والاشتغال بأنواع الذكر والإلحاح على الله تعالى بالدعاء، يسأله من خيري الدنيا والآخرة، فان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقطع التلبية في مسيره وقال تعالى: فإذا أفضتم من عرفات - يعني صدرتم ودفعتم إلى مزدلفة- فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي بالدعاء والتلبية والتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار.
4- وليحذر الحاج من أذية أحد من الحجاج حال انصرافه فإن أذية الناس وخاصة الحجاج وترويعهم بأبواق السياقات وأصوات محركاتها وآلالات ومضايقتهم في الطريق- مع إمكان الرفق- من أعظم الذنوب وأشد الظلم وهذا يعظم إثمه وتشتد العقوبة عليه في حال الإحرام والبلد الحرام، والشهر الحرام، واليوم الحرام، فإن يوم العيد هو يوم النحر يوم الحج الأكبر فالإيذاء والظلم فيه أعظم وأخطر، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، والناس حال انصرافهم فيهم من الضعف نتيجة التعب والإرهاق ما لا يعلمه إلا الله، فرحمتهم والرفق بهم والإحسان إليهم وكف الأذى عنهم من أعظم ما يتقرب به إلى الله، خصوصا بعد هذا الموقف العظيم- وفي ليلة يوم النحر يوم الحج الأكبر.
5- فإذا وصل الحاج إلى مزدلفة نزل في أي مكان تيسر له منها، فإنها كلها موقف لكن الوقوف عند قزح- وهو المسجد الآن- أولى إن تيسر فإنه هو المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ويصلي ساعة وصوله المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ولا يصلي بينهما نافلة، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى مزدلفة، أسبغ الوضوء وصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئا، ثم اضطجع صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر في أول وقته حين تبين له الصبح بأذان وإقامة .
لكن إن لم يتمكن من وصول مزدلفة قبل نصف الليل فإن الأحوط له أن يصلي المغرب والعشاء قبل الوصول إلى مزدلفة احتياطا للوقت، ولا يشتغل قبل ذلك بشيء، لا لقط حصى الجمارولا غيره، فإن ذلك من الملاحظ على العامة، وهو لا أصل له في الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يلتقط له حصى الجمارإلا بعد انصرافه من مزدلفة في أثناء مسيره إلى منى.
6- وإذا فرغ من الصلاة وما يحتاج إليه، يشرع أن ينام مبكرا ليمكنه القيام آخر الليل نشيطا للصلاة والذكر والدعاء.
ولا يجوزلأحد من الحجاج الانصراف من مزدلفة إلى منى قبل منتصف الليل ومغيب القمر فإذا غاب القمر جاز للضعفة من النساء والصبيان والمرضى وأشباههم- ممن يشق عليه الرمي مع الناس لضعفه أو علته- أن ينصرفوا، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن سودة رضي الله عنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع- أي مزدلفة- أن تدفع قبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة- أي ثقيلة- فأذن لها .وفي سنن أبي داود عنها أيضا قالت:-أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت وأفاضت . وهكذا من يحتاج إليه هؤلاء لمرافقته وخدمته لقول ابن عباس رضي الله عنهما: أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله .
ومثله من يلحقه حرج شديد بترك مرافقتهم من ضياع أو نحوه، أما أهل القوة والجلد ومن لا يحتاج إليه الضعفة ونحوهم، ولا يلحقه حرج بفراقهم فلا ينبغي لهم أن ينصرفوا من مزدلفة إلا بعد أن يصلوا بها الفجر ويسفروا جدا أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلمففي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر- يعني في مزدلفة- حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده رواه مسلم .
فيقفون عند المشعر الحرام أوحين نزلوا من مزدلفة مستقبلين القبلة، ويكثرون من ذكر الله وتكبيره ودعائه والتضرع إليه، رافعين أيديهم حتى يسفروا جدا وحيثما وقفوا من مزدلفة جاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : وقفت هاهنا- يعني على المشعر الحرام- وجمع كلها موقفرواه مسلم .
~
رابعا :الدفع إلى منى
فإذا أسفروا جدا انصرفوا إلى منى قبل طلوع الشمس- إن أمكن- فإنه صلى الله عليه وسلم دفع قبل أن تطلع- الشمس وذلك لتحقيق مخالفة أهل الشرك في الجاهلية، فإنهم كانوا لا ينصرفون إلا بعد طلوع الشمس، يقول قائلهم: أشرق ثبيركيما نغير. والسنة أن تلتقط حصى الجمرات التي ترمي بها جمرة العقبة يوم العيد- وعددها سبع- من الطريق في مسير الحجاج إلى منى فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الفضل بن عباس أن يلقطها له غداة العقبة وهو على ناقته فلقط له سبع حصيات مثل حصى الخذف ومن أي موضع التقطها من الحرم أجزأ من منى أو غيره.
وعليهم أن يكثروا من ذكر الله تعالى وتكبيره واستغفاره في مسيرهم، فإذا وصلوا محسرا- وهو واد بين مزدلفة ومنى- أسرعوا قليلا قدر رمية بحجر.
~
خامساً :رمي جمرة العقبة
فإذا وصلوا منى اتجهوا إلى جمرة العقبة لرميها، فإن رميها هو أول عمل يقوم به الحاج- إن أمكن- فإنه تحية منى والأولى أن لا يشتغل قبله بشيء وهو يوافق صلاة العيد في الأمصار ولذا ليس في منى صلاة عيد على الحجاج. فعن جابر رضي الله عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس .
فإذا وصلوا إلى الجمرة قطعوا التلبية قبل الشروع في رميها، فإنهم حينئذ شرعوا في التحلل، ثم يرمونها بسبع حصيات متعاقبات. ويستحب له عند رميها أن يجعل منى عن يمينه والكعبة عن يساره وجمرة العقبة أمامه ثم يرقيها بسبع حصيات متعاقبات يرفع يده مع كل حصاة ويكبر مع كل حصاة.
وينبغي أن يراعى في رمي الحصى ما يلي:
1- أن تكون كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم، ابن عباس بقوله:القط لي حصى. قال: فلقطت له مثل حصى الخذف . وحصى الخذف قريب في الحجم من حب الزيتون الذي ليس بكبير، وقريب من الأنملة وهي رأس إصبع اليد الذي فيه ظفر.
قلت: وفي الحديث: فجعل صلى الله عليه وسلم يقبضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين .
ومن الغلو الرمي بالحصى الكبار، والله يعلم كم يؤذون بها من عباده عند الرمي.
قلت: ومن الغلو رمي الجمرات بالحذاء ونحو ذلك.
2- أن يكون الرمي من جهة المرمى وهو الذي فيه الحوض فإن ذلك هو الأفضل، ولو رماها من الجهات الأخرى أجزأ إن وقع الحجر في المرمى.
3- أن يدنو من المرمى قدر المستطاع ليطمئن على وقوع الحجر في المرمى، ولو دحرجت الحصاة من الحوض فسقطت خارجه أجزأ ذلك عند جمع من أهل العلم.
4- وليحذر من أن يرقي الحجارة دفعة واحده، فإنهن يكن كالحجر الواحد، فلا بد من أن يرمي كل حجر وحده، يرفع يده عند رميه ويكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال: اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا.
5- وعليه بالرفق عند الرمي، والحذر من العنف، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يكون العنف في شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه وليحذر من أذية المؤمنين أو التسبب في هلاك أحد، فإن الله تعالى قال:والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا . ومن أعظم الموبقات التسبب في إهلاك نفس معصومة محرمة في البلد الحرام، وعليه أن يحتسب في تحمل أذى الجاهلين والصبر عليهم.
سادساً : نحر الهدي
وبعد الرمي ينحر هديه- إن تيسر له ذلك- إن كان عليه هدي لكونه قارنا أو متمتعا. وينبغي أن يراعي في هديه:
أ- تحقق السنن الشرعية في الهدي بأن يكون جذعا من الضأن- وهو ما له ستة أشهر- أو ثنيا من المعز- وهو ما له سنة- وإن أراد أن يشترك مع غيره في بقرة أو بدنة فالثني من البقر ما تم له سنتان ودخل في الثالثة، ومن الإبل ما تم له خمس سنين ودخل في السادسة.
ب- أن تكون سليمة من العيوب التي تخل بالأضحية من عور بين أو عرج أو كسر قرن أو قطع أذن أو نحو ذلك.
جـ- أن تكون سمينة جميلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يستسمنوا الأضاحي ويستحسنوها وأن يستشرفوا القرن والأذن للتأكد من سلامتها من العيوب.
ويستحب أن يقول عند نحره أو ذبحه: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك اللهم تقبل مني رواه مسلم والبيهقي . ويوجهه إلى القبلة، فإن ذلك سنة، ولو ذبح إلى غير القبلة ترك السنة وأجزأته ذبيحته، ويستحب أن يأكل من هديه أو أضحيته، ويهدي ويتصدق لقوله تعالى: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .
ووقت الذبح أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وينتهي بغروب الشمس يوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة، ويجوز ذبح الهدي ليلا ليلة الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر فقط. وحيثما نحر من منى أو فجاج مكة جاز لقوله صلى الله عليه وسلم:كل منى منحر و كل فجاج مكة طريق ومنحر .
وكان منحره صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى بينها وبين الوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة ومنزله بين منحره ومسجد الخيف. وقال: نحرت ها هنا ومنى كلها منحر و انحروا في رحالكم .
~
المفضلات