[منقول] °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

[ منتدى اللغة العربية ]


النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1

    الصورة الرمزية هالة

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,808
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي [منقول] °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°


    أهلا بالجميع و خاصة بمحبي القصص والروايات
    هذه مختارات مترجمة من الأدب التركيّ, وهيّ للكاتب الساخر / عزيز نسين,





    عزيز نسين أديب تركي بارع في فن السخرية،ما أن تقرأ له كتابا واحد
    حتى تستبد بك الرغبة إلى ملاحقه مجمل أعماله الروائية والمجموعات القصصية.
    ولد سنة 1915، وأنجز أكثر من مائة كتاب في الرواية والقصة القصيرة والمسرح.
    امتازت كتاباته، التي كانت تعكس الواقع الحياتي في تركيا، بالعمق من جهة
    وبالبساطة الساخرة من جهة أخرى.
    عمل كرئيس تحرير لعدد من المجلات التركية،وحاز مرتين على جائزة السعفة الذهبية
    في مسابقة التأليف الكوميدي وذلك في عام 1946 و1957التي نظمت في إيطاليا
    مما ذاع صيته عالميا،كم نال ايضا جوائز تقديرية في كل من بلغاريا والاتحاد السوفيتي .
    أسس مؤسسة خيرية باسمه في السبعينيات، وتنازل لها عن جميع حقوقه الأدبية.
    تُرجمت أعماله إلى كل اللغات المعروفة تقريباً.
    في عام 1993، نجا من محاولة قتل، قضى فيها 37 شخصاً حتفهم، حين قامت زمرةٌ من المتظاهرين بحرق الفندق الذي كان يقطن فيه.
    توفي في عام 1995، ودفن في مكان مجهول، بناءً على وصيته.



    اخترت لكم خمسة قصص .. كلها تحكي بعضا من المواقف التي نعايشها في مجتمعاتنا
    كتبت بطريقة سهلة وممتعة ..
    سأترك لكم إستخراج المغزى من كل قصة..
    أتمنى لكم قراءة ممتعة : )



    هذه القصة تدور حول رجل ذهب إلى قرية من القرى التركية النائية، وعندما وصل إلى القرية، استقل سيارة ليتنزه، وبينما هو في نزهته لفت نظره بيتا جميلا من طابق واحد وقد تجمهر حوله عدد كبير من رجال ونساء وأطفال القرية. . فقال للسائق بيت من هذا؟ فوجد السائق يتذمر ويقول: بيت الزفت السافل ربنا ياخده!!
    إنه الرجل الذي أرسلته الحكومة ليرعى شئون القرية . . فقال الرجل: وما اسمه؟ . . فقال السائق: ليذهب إلى الجحيم هو وإسمه. . إننا ننعته بالرجل السافل الحقير. . سافل بمعنى الكلمة. وأندهش الرجل، فهو يعلم أن السائق رجل طيّب وعلى خُلق فكيف ينعت الرجل هكذا بأبشع الصفات!.
    وفي مساء نفس اليوم، جلس الرجل في المقهى الرئيسي للقرية وتحدث مع صاحب المقهى قائلا: ما رأيك في الرجل الموظف الذي يرعى شئون قريتكم؟ . . فبصق صاحب المقهى وقال: سافل حقير. . قال الرجل بفضول: لماذا؟ . . قال له: أرجوك، لا تفتح سيرة هذا الرجل إنه حقير حقير حقير، لا تعكر مزاجي في هذه الأمسية بهذا السافل.
    وظل الرجل يسأل كل من قابله من أهل القرية نفس السؤال، ولا يتلقى سوى نفس الإجابة : الحقير المنحط أسفل السافلين.
    عندها قرر الرجل زيارة هذا الموظف في بيته ليرى عن قرب ماذا يفعل لأهل القرية حتى وصفوه بكل هذه الأوصاف. ودخل إلى بيته رغم تحذير السائق، فوجد الرجل واقفا وأمامه فلاح يسيل الدم من قدميه الحافيتين والرجل يضمد له جروحه ويعالجه ويمسح الجروح بالقطن وبجواره ممرضته والتي كانت تعمل بكل همة مع الرجل لتطبيب ذلك الفلاح. إندهش الرجل وسأله: أأنت طبيب؟ فقال له لا.ثم دخلت بعد الفلاح فلاحة شابة تحمل طفلا أعطته إياه، فخلع الرجل ملابس الطفل وصرخ في أمه: كيف تتركي طفلك هكذا، لقد تعفن المسكين. ثم بدأ بغسل الطفل ولم يأنف بالرغم من رائحته الكريهة وأخذ يرش عليه بعض البودرة بحنان دافق وهو يدلل الطفل. ثم جاء بعد ذلك أحد الفلاحين يستشيره في أمر متعلق بزراعة أرضه، فقدم له شرحاً وافيا لأفضل الطرق الزراعية التي تناسب أرض ذلك الفلاح. .
    ثم إنفرد بأحد الفلاحين، ودس في يده نقوداً وكان الفلاح يبكي وحينما حاول أن يقبل يده صرفه بسرعه وقال: المسألة ليست في العلاج فقط، الطعام الجيد مهم جداً. بعد ذلك جلست مع هذا الرجل وأحضرت ممرضته، والتي هي زوجته، الشاي وجلسنا نتحدث- فلم أجد شخصاً أرق او أكثر منه ثقافةً ومودةً وحناناً.
    وعاد الرجل ليركب سيارته وقال للسائق: لقد قلت لي أن هذا الرجل سافلً . . ولكنني قابلته هو وزوجته ووجدتهما ملاكيين حقيقيين, فما السيئ فيهما ؟! قال السائق: آه لو تعرف أي نوع من السفلة هما؟! قال الرجل في غيظ: لماذا؟! قال السائق: قلت لك سافل يعني سافل وأغلق هذا الموضوع من فضلك.
    هنا جن جنون الرجل وذهب إلى محامي القرية وأكبر مثقفيها، وسأله:
    هل ذلك الموظف المسؤول عن القرية يسرق؟! فأجابه المحامي: لايمكن، إنه هو وزوجته من أغنى العائلات . . وهل في هذه القرية ما يسرق؟! فسأل الرجل: هل تعطلت الهواتف في القرية بسببه؟! فقال المحامي: كانت الهواتف كلها معطلة، ومنذ أن جاء هذا الحقير تم إصلاحها واشتغلت كلها . . فاستشاط الرجل في غيظ وقال للمحامي: طالما أن أهل القرية يكرهونه ويرونه سافلاً هكذا لماذا لا يشكونه للمسؤولين؟! فأخرج المحامي ملفا ممتلأً وقال: تفضل. . أنظر . . آلاف الشكاوى أُرسلت فيه ولكن لم يتم نقله وسيظل هذا السافل كاتماً على أنفاسنا.
    قرر الرجل أن يترك القرية بعد أن كاد عقله يختل ولم يعد يفهم شيئا.ً وعند الرحيل، كان المحامي في وداعه عند المحطة. وهنا قال المحامي بعد أن وثق بالرجل وتأكد من رحيله: هناك شيئا أود أن أخبرك به قبل رحيلك . . لقد أدركت أنا وأهل القرية جميعاً من خلال تجاربنا مع الحكومة . . إنهم عندما يرسلون إلينا موظفا عموميا جيدا ونرتاح إليه ويرتاح إلينا تبادر الدولة فورا بترحيله من قريتنا بالرغم من تمسكنا به . . وأنه كلما كثرت شكاوى أهل القرية وكراهيتهم لموظف عمومي كلما احتفظ المسؤولون به . . ولذا فنحن جميعاً قد إتفقنا على أن نسب هذا الموظف وننعته بأبشع الصفات حتى يظل معنا لأطول فترة ممكنه، ولذا فنحن نعلن رفضنا له ولسفالته، ونرسل عرائض وشكاوى ليبعدوه عن القرية . . وبهذا الشكل تمكنا من إبقائه عندنا أربعة أعوام . . آه . . لو تمكنا من أن نوفق في إبقائه أربعة أعوام أخرى، ستصبح قريتنا جنة.



    بيت هادئ
    قال: إنك تكتب بشكل ممتاز‏
    خطر ببالي أن أردّ عليه الردّ التقليدي الذي يردّه الكتَّاب عندما تطرى أعمالهم، شكراً لكم لكني عدلت عن ذلك، وقلت‏
    ـ بإمكاني أن أكتب ما هو أفضل، لكن البيت غير مناسب.‏
    ـ كيف؟‏
    ـ أفي ذلك كيف؟ البيت صغير، والأسرة كبيرة، والضجيج والضوضاء دائمين، وكما تعلمون فالكتابة عمل فكري يتطلّب هدوءاً.. في اللحظة التي يأتيك فيها الإلهام تماماً، يأتي الصغير شاكياً أخاه الكبير بابا انظر إلى هذا .. أبعده عني، يصرخ الأصغر منه، أسكته. يبدأ من هو أصغر، أثناءها يدخل الكبار ببعضهم.. ينتفخ رأسي، وطبعاً لا يمكن كتابة شيء مميز برأس منتفخ كالطنجرة.‏
    سألني:‏
    ـ كم ولداً لديك؟‏
    ـ أحد عشر!‏
    كنت أظن أنه سيقول لي (أدامهم الله) عندما ترامت إلى مسامعي كلمة هووش ش ش !‏
    هل توجهون هذه الكلمة لي؟‏
    استشطت غيظاً، وإذا كان قد قالها لي فسوف أدوسه بقدمي.‏
    ـ أنت تأخذ الأمور دوماً على أنها موجهة إليك.‏
    ـ لا يوجد أحد غيرنا، لذلك ظننت..‏
    ـ الانفعال طبع سيء في المرء. فلو صدر صوت قبيح من محرك سيارة مارة في الطريق، يهجم الانفعالي على السيارة وهو يقول (أتوجّه هذا لي أو لك؟) خطر أحدهم ببالي فجأة، فقلت هوش. والآن لنعد إلى موضوع الأولاد.. إن أحد عشر ولداً كثير على الكاتب. بل إن ولداً واحداً كثير عليه.. على الكاتب أن لا يصنع أولاداً لأنهم يشغلون وقته.‏
    ـ صنع الولد لا يستغرق وقتاً، لكن تربيته صعبة.‏
    ـ يجب أن لا يكون للكاتب أولاد، لماذا؟ لأن كلَّ إنسان يستطيع أن يصنع أولاداً، لكن لا يستطيع كل إنسان أن يؤلِّف كتاباً.‏
    ـ ماذا أفعل، لدي الآن أحد عشر ولداً، بل أحد عشر ولداً ونصف.. فهناك واحد على الطريق..‏
    ـ كم من الزمن يستغرق إنجاز كتابك المميّز، فيما لو كنت تعيش في بيت لوحدك؟‏
    ـ في رأسي أفكار كثيرة بحيث أستطيع إنجاز كتاب كل شهرين، لو تسنى لي بيت هادئ كما أريد.‏
    ـ أعطيت وانتهيت.. إني أعطيك بيتي لمدة ستة أشهر.‏
    ظننته في البداية يمزح، لكني صدقته عندما اصطحبني بسيارته إلى البيت، لم يكن بيتاً، كان قصراً فخماً، ذبت وتلاشيت عندما رأيته قال:‏
    ـ نحن نمضي الشتاء في نيشان طاش، وقد انتقلنا إلى هناك البارحة، وهذا البيت لك لمدة ستة أشهر، حتى شهر أيار القادم، هيا أرني همّتك، أنجز كتابك القيّم لأراك.. وأكون بذلك قد ساهمت أنا أيضاً ولو قليلاً في الحركة الأدبية العالمية..‏
    كنت مدهوشاً، قال وهو يغادر البيت:‏
    ـ لي رجاء واحد فقط، إذ يوجد في الحديقة كــلب حراسة كبير، وفي البيت جرو صغير، تعتني بهما، وهناك كناري في بهو البيت.‏
    ـ أنا أحب الحيوانات.‏
    ترك لي الرجل قصره الفخم ومشى. لو رأيت ذلك في الحلم لما صدقت. تجولت في أرجاء الحديقة أولاً، ثم في أنحاء القصر من أوله لآخره، كان يخيّم على المكان هدوء لا يوصف، هدوء تسمعه الآذان، وتراه العين.. هدوء يكاد يلمس باليد.‏
    صعدت إلى الطابق العلوي، كان منظر المروج من فوق، جميلاً آسراً لا يمكن وصفه... بحيث قلت لنفسي عندما جلست إلى الطاولة:‏
    ـ إيه! ولك هنا حتى الحمار يصبح شاعراً..‏
    بهذه الحماسة تشبثت بقلمي، ولم يكن القلم قد مسّ الورق بعد، عندما رنّ جرسٌ. القصر كبير، نظرت هنا، ونظرت هناك، لم أعرف مصدر صوت الجرس.‏
    بحثت في غرف الطابق العلوي أولاً، ولم أجد فيها ما يشبه الجرس، لكن الجرس لا يزال يرن، واضح أنه جرس الهاتف، بحثت ومشّطت المكان تمشيطاً.‏
    أخيراً عثرت على الهاتف في الطابق الأوسط التقطت السماعة ووضعتها على أذني، لا صوت. والجرس لا يزال يرن، إذن فليس الهاتف هو الذي يرن.‏
    أيمكن أن يكون في البيت هاتف آخر؟‏
    ركضت في هذا الاتجاه، وركضت في ذاك الاتجاه، واكتشفت أخيراً أن جرس الباب هو الذي يرن، كان القادم بائع الصحف.‏
    ـ لا داعي! من الآن فصاعداً لا داعي للصحف!..‏
    أغلقت الباب، وعدت ثانية لأجلس خلف طاولتي. وفيما كنت أمسك القلم بيدي، رنّ جرس مرة أخرى، نزلت سلالم الطابقين، ولكن لا أحد بالباب هذه المرة.‏
    أيكون الأولاد هم الذين يقرعون الجرس ويهربون؟ لا أحد بالباب. لكن الجرس لا يزال يرن. كان جرس باب الحديقة الخلفي هو الذي يرن هذه المرة. إنه بائع الحليب.‏
    ـ لا داعي! من الآن فصاعداً للحليب! لا تحضر لنا حليباً!‏
    ـ يوجد حساب أسبوع.‏
    الرجل ترك لي قصره الفخم لمدة ستة أشهر دون أن يأخذ أجرة ولو عشر ليرات.. دفعت حساب الحليب.‏
    صعدت إلى الطابق العلوي، وقبل أن يمس القلم الورقة، رنّ جرس ثانية، ركضت إلى الباب الأمامي أولاً، ثم إلى الباب الخلفي. لا يوجد أحد.‏
    كم باباً لهذا القصر؟‏
    ـ أدور وأبحث، لا يوجد باب آخر.. الجنون ليس باليد. لابد أنهم أولاد عديمو التهذيب! عندما أركض إلى الباب الأمامي، يقرعون جرس الباب الخلفي، وعندما يرن جرس الباب الأمامي، أفتح الباب الخلفي لأفاجئهم، وإذ بعديمي التربية قد هربوا. وفجأة خطر الهاتف ببالي.. أوه.. إنه جرس الهاتف الذي يرن.‏
    ـ ألو، تفضلوا...‏
    ـ نازان خانم من فضلكم.‏
    ـ ليسوا هنا يا سيدتي.‏
    لم تمرّ فترة على جلوسي إلى طاولتي. ترن ن ن .. الجرس مرة أخرى ركضت إلى الهاتف أولاً، ليس هو، هرعت إلى الباب، وإذا بساعي البريد، استلمت منه الرسالة. وفيما كنت أصعد السلالم، رنّ جرس مرة أخرى.‏
    ركضت إلى البابين، لا أحد، نظرت إلى الهاتف، ليس جرس الهاتف، وفيما كنت أصعد وأنزل باحثاً، وإذ بصوت طائر:‏
    ـ غوغوك.. غوغوك.. غوغوك!‏
    إنها ساعة حائط، إذ كانت هناك ساعتا حائط على جداري الصالة المتقابلين إحداهما جرسها يرن، والثانية طائرها يغرّد. انتهت نوبة عزف الساعتين وإذا بجرس الهاتف يرن.‏
    ـ نازان خانم من فضلكم.‏
    ـ نازان خانم ليسوا هنا يا سيدتي، لقد انتقلوا إلى استانبول.‏
    وفيما كنت واقفاً في الصالة حائراً مشدوهاً، وأنا أسبح في عرقي من كثرة ما جريت وراء الأجراس من فوق لتحت، ومن تحت لفوق.. جاءني صوت:‏
    ـ دان... دان... دان!‏
    أنا لا أفهم، كم جرساً يكون في البيت، وكم صوتاً، وكم ساعة تكون فيه! هذه المرة كانت ساعة حائط المدخل هي التي تدق.‏
    تلفت وانتهيت من الجري هنا وهناك!..‏
    تارة يرن جرس هذا الباب، وتارة جرس الباب الآخر... وفيما أنا أركض نحو الأبواب، يرن جرس الهاتف. أصابني ارتباك، بحيث صرت أركض وراء صوت جرس، لأجد أنها دقات ساعة.‏
    في هذه الأثناء رن جرس آخر... كان اكتشاف مصدر صوت الجرس مستحيلاً هذه المرة. إذ كان جرس دراجة طفل صغير مر من أمام البيت بدراجته.‏
    حل الليل، ولم أستطع كتابة كلمة واحدة. لكني أظن أني قطعت أربعين كيلو متراً جيئة وذهاباً داخل البيت، صعوداً ونزولاً جرياً وراء رنين الأجراس..‏
    فقد جاء كل رجال وعمال الخدمات، من البقال حتى بائع زجاجات الماء. ورنّ الهاتف ثلاثين أو أربعين مرة. استلقيت على الفراش متعباً منهوكاً، وتمددت مثل ميت.‏
    قلت لنفسي:‏
    ـ اليوم الأول يكون هكذا، والآن علِم الجميع أن لا أحد في البيت، وغداً لن يرن أي جرس.. وسأكتب كتاباتي,.‏
    لم تكد عيناي تغفوان حتى سمعت صوتاً لكنه ليس صوت جرس، شيء مثل مييك، مييك، مييك، لم أستطع تشبيهه بأي صوت أعرفه. أنا اعتدت رنين الأجراس ورضيت بها منذ زمن. رنين جرس، لابأس، لا تفتح الباب، ولا ترد على الهاتف، يتوقف الرنين بعد برهة، لكن هذا الصوت لا يتوقف أبداً، سحبت اللحاف فوق رأسي، ما صار، سددت أذني بأصابعي دون جدوى، بدأت البحث عن مصدر الصوت.. هذه الغرفة لك، وتلك الغرفة لي.. أخيراً أليس هو صوت الجرو الصغير في الحمام؟‏
    سكت الجرو المسكين عندما رآني، وراح يلف ويدور عند أسفل رجلي. واضح جداً أنه جائع، وضعت ما وجدته في المطبخ أمامه، وعدت إلى الفراش.‏
    توقف رنين الأجراس، لكن دقات الساعات لا تتوقف، والجرو لا يسكت، وبين الفينة والفينة كان الهاتف يرن.‏
    انتصف الليل. حاولت تعطيل الساعات واسكاتها لم تسكت... والجرو يهمر كلما ابتعدت عنه. أحضرته إلى غرفة النوم فصار يهمر كلما دخلت الفراش.‏
    أحببته، داعبته، رجوته، لا يسكت، أخيراً أخذته إلى جانبي في الفراش فسكت.‏
    سكت الجرو، فبدأ كــلب الحراسة في الحديقة ينبح:‏
    ـ عو، عو، عو..‏
    سأجن.. لا، لن أجن، لقد جننت.‏
    ـ اسكت ولك الكــلب ابن الكــلب اسكت.. اسكووت!...‏
    حين أركض إلى النافذة لإسكات الكلب الكبير، يهمر الصغير، أصبح الصباح وأنا منشغل بالكلاب والساعات، وعندما أشرقت الشمس، بدأت أصوات الدجاجات، وبدأ صياح الديكة في الحديقة، كنت على درجة من الإعياء بحيث لم أهتم بأصوات الدجاج.‏
    ـ جييك، جييك، جيييك..‏
    أمسكت قفص الكناري الذي فوق رأسي ورميته في الحمام، وأغلقت الباب عليه. لم أكد أغفو عشر دقائق أو أقل، وإذ بي أهبّ من نومي فزعاً على صوت غليظ ظررر. فكّروا كم كنت مرتبكاً! فقد صعدت إلى السقيفة.. وهناك ثبت إلى رشدي وبدأت أفكّر، أنا لن أستطيع أن أكتب سطراً واحداً في هذا القصر، أين الأولاد. أنا قربان لهم.. على الأقل عندما تقول اسكت، فإن الولد يخاف ويسكت. لكن هل تفهم الكلاب والساعات من اسكت؟ وهل تخاف الأجراس؟ طيب، ولكن هم ماذا يفعلون في هذا البيت؟ إن شخصين لا يكفيان للجري وراء أصوات الأجراس. يا له من بيت هادئ هذا الذي عثرنا عليه!‏
    سأذهب إلى الرجل الذي أسدى إليّ معروفاً وترك لي قصره، وأقول له:‏
    ـ لقد عدلت، عليك أن تستأجر رجلاً لطيورك وكلابك!‏
    أغلقت باب البيت، ومشيت مغادراً، وإذ برجل يقول لي:‏
    ـ أهلاً وسهلاً! هل أنتم الذين ستحرسون القصر هذا الشتاء؟‏
    كنت متضايقاً، ولكي أصرف الرجل عني، أجبته:‏
    ـ نعم!‏
    ـ بكم؟‏
    ـ بكم ماذا؟‏
    ـ إحذر من أن تحرس بأجر زهيد، فقد استأجروا العام الماضي حارساً بخمسمئة ليرة، وكاد الرجل يجن، فهذا القصر اسمه قصر الأجراس.‏
    دخلت كالريح على الرجل الذي أسدى إلي المعروف، وكان عنده في المكتب رجل آخر، وقلت له:‏
    ـ لقد عدلت عن هذا العمل.‏
    ـ لماذا؟‏
    ـ قصر ضخم، لا إنس فيها ولا جن.. إنه هادئ جداً يا أخي سأنفجر.‏
    ـ كنت أعرف ذلك. فأنت معتاد على الضوضاء والضجيج، ولا تستطيع العمل في مكان هادئ..أنا أعرف هؤلاء الكتّاب! كلهم يبررون بقولهم:‏
    "لو تهيأ لنا مكان هادئ لكتبنا كذا، وكتبنا كذا.." وعندما يتاح لهم المكان الهادئ، يقولون لقد تضايقنا.. هؤلاء هكذا، ليس لديهم شيء يكتبونه، ولذلك...‏
    أسرعت بالخروج مغادراً، كي لا أرتكب جريمة.‏
    ذهبت إلى بيتي، وهناك قلت أووووه، قلت ذلك، لكن رنين الأجراس ما زال يرن في أذني.




    عليّ أولاً أن أعرفكم بسعدي بيك بصورة جيدة. ثمة نوع من الناس يقال فيهم إنهم "مثل بعر الأرنب لا يفوح ولا يلوث" إن سعدي بيك هو المثال الأفضل على هذا النوع. لا في العير ولا في النفير، لا للصيف ولا للضيف. فإذا سألته "كم حزباً في البلد؟" فهو لن يجيبك حتى بـ"لا أعرف" بل يكتفي برفع كتفيه وزمّ شفتيه.‏
    هو رجل رزين ومهذب، يكبرني بعشر سنوات لكنه يبدو بعمر أبي لشدة رزانته ورصانته، لا يمكنك اقتلاع الكلمة من فمه إلاّ مثل اقتلاع الضرس الملتهب، فهو يكاد لا يتكلم أبداً.‏
    يقيم مع زوجته وابنته في قصر صغير عتيق في "أرن كوي" ورثه عن أبيه ولا يؤجر أياً من أجنحته على أمل أن يحصل لابنته على صهر يقيم معهم.‏
    ألتقي به كل صباح، فإذا لم يحدث ذلك في القطار، حدث حتماً في عَبَّارَة الساعة التاسعة التي تنطلق من "حيدر باشا".‏
    اضطررت لملازمة الفراش خمسة عشر يوماً بسبب المرض، وفي اليوم الأول لعودتي إلى العمل بعد إبلالي من المرض ترجلنا، سعدي بيك وأنا، سوية من القطار ومشينا باتجاه العَبَّارَة، وإذ بأحد المعارف يمر بنا ويقول لسعدي بيك:‏
    ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏
    ثم تابع طريقه من غير أن ينتظر جواباً من سعدي بيك. ثم لحق بنا واحد آخر وقال وهو يهبط السلالم الرخامية:‏
    ـ مرحباً سعدي بيك.‏
    ـ أهلاً..‏
    ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏
    قال الرجل ذلك وهرب مبتعداً، وكان واحداً من زملائنا. نظرت إلى وجه سعدي بيك، فوجدته شاحباً مثل كلس مزج بطلاء أخضر...‏
    ثم سمعنا أصواتاً ساخرة خلفنا:‏
    ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏
    ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏
    كان غضب سعدي بيك يتصاعد، لكنه يحاول إخفاءه. صعدنا إلى العبّارة وجلسنا في القاعة السفلى. قال رجل يجلس على مقربة:‏
    ـ مرحبا سعدي بيك.‏
    لم أكن على معرفة بهذا الرجل المسن والمتأنق. ردّ عليه سعدي بيك التحية:‏
    ـ أهلاً يا سيدي.‏
    ـ كيف الحال يا سيدي؟‏
    ـ شكراً لكم. الحمد لله.‏
    ـ أوه! أوه! أنعم الله عليكم بالصحة والعافية. كيف الطقس؟‏
    قفز سعدي بيك من مكانه كالسهم، التقط قبعته وابتعد فخرجت معه لأنه رفيق طريقي لسنوات. وقفنا جنباً إلى جنب في مؤخر العَبَّارة. عرفت أنه مستاء جداً من شيء ما لكني تجنبت سؤاله خشية أن يزعجه السؤال. التزمنا الصمت حتى وصلت العبّارة إلى المرفأـ حيث سأله عدد من الأشخاص عن الطقس ونحن نترجل من العَبَّارة.‏
    بدأت أغتاظ بدوري، وأردت التدخل لكني لم أفعل لأنني لا أعرف ما هو الموضوع. ولم يكن الغيظ يناسب هذا الرجل المهذب. سألته بعد أن صعدنا إلى الأتوبيس معاً:‏
    ـ ما الأمر يا سعدي بيك؟ لماذا يسألك الجميع عن أحوال الطقس؟‏
    نظر في وجهي نظرة ارتياب ثم قال:‏
    ـ ألا تعرف؟‏
    ـ لا... لا أعرف.‏
    ـ سأحكي لك هذا المساء على العَبَّارة.‏
    افترقنا عند أول النفق.‏ بقيت متشوقاً لما سيحكيه لي سعدي بيك، ولم يبرح خيالي مشهد وجهه الغاضب وهو الرجل اللبق المهذب ذو الأعصاب الباردة. إذن فقد حدث معه شيء ما في غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما طريح الفراش.‏
    التقينا في المساء عند جسر مرفأ "قاضي كوي". قال لي:‏
    ـ يحسن بنا ألا نستقل هذه العبّارة.‏
    فهمت أنه يريد انتظار العبّارة التالية خشية التعرض لسخريات معارفه اللذين يستقلون هذه العبّارة.‏
    كان ثمة بائعو سمك طازج على القوارب، اشترى منهم سعدي بيك كيلو ونصف من السمك، تمشينا لبعض الوقت على المرفأ، ثم ركبنا عبّارة الثامنة وعشر دقائق. السمك المبلل كاد يثقب أسفل الكيس الورق الذي تشبّع بالماء. وهكذا جلسنا فوق السطح وسعدي بيك يمسك بكيس السمك بحرص. قال لي:‏
    ـ أنت لا تعرف إذن؟‏
    في تلك اللحظة قال أحدهم:‏
    ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك.‏
    نهض سعدي بيك من مكانه دون أن يتفوه بكلمة واحدة. هبطنا معاً إلى الأسفل وقصدنا مؤخّر العبّارة حيث استند سعدي بيك إلى الدرابزين وجلست على المقعد الخشبي المجاور، وقد أمسك بكيس الورق بحرص شديد. قال لي:‏
    ـ إياك وإياك! إذا فتح أحدهم حديثاً عن الطقس فاهرب منه على الفور! فإذا حدث وسألك عن الطقس فلا تنبس ببنت شفة، فليسأل ولكن لا تجبه. ذلك أنهم يبدؤون الكلام بهذه الطريقة أي بالسؤال عن أحوال الطقس ثم يستدرجون المرء ويقحمونه في ورطة. الرجل الذي أمامك يبدأ بكلمة الطقس فلا ترى خطراً في الحديث عن أحوال الطقس. بعد ذلك ينتقل من الطقس إلى الماء وإذ بموضوع الحديث ينزلق إلى الأرض. ثم... وإذ بك متورطاً بلا وعي في حديث... إياك! انتبه حماك الله... ها أنت في ورطة...‏
    حدث ذلك منذ حوالي عشرة أيام... ركبت القطار من محطة "أرن كوي" كعادتي كلّ يوم. جاء شخص وجلس بجانبي. مضى بنا القطار بضع دقائق ونحن صامتان. ثم قال الرجل:‏
    ـ الطقس يزداد سوءاً هذه الأيام.‏
    لم أتفوه بكلمة لأنني لا أحبّ الناس الفضوليين من أمثاله. قال بعد قليل:‏
    ـ الجوّ ينذر بالسوء، أليس كذلك يا سيدي؟‏
    خجلت من الاستمرار بالصمت فقلت له:‏
    ـ نعم.‏
    لعنة الله عليّ إن كنت تفوّهت بأية كلمة أخرى.‏
    بعد ذلك قال الرجل:‏
    ـ يبدو أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏
    الرجل يمد صحنه لالتقاط الكلام من فمي وأنا أجيبه بالصمت.‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟ الظاهر أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏
    لا أخرجني الله حياً من هذه العبّارة إن كنت أكذب عليك، لقد أجبته بكلمة واحدة أيضاً:‏
    ـ نعم.‏
    وكيف أقول "لا" يا أخي؟ فهو يقول لي: "يبدو أنها لن تمطر"، فهل أرد عليه بالقول:‏
    "لا، سوف تمطر"؟ فما أدراني إن كانت ستمطر، أم لا؟ هذه المرة انتقل الرجل إلى الحديث عن الماء، قال:‏
    ـ لدينا شح في الماء... الوضع سيئ جداً‏
    أنا صامت.‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي، لدينا شح في الماء؟‏
    ـ نعم.‏
    ـ إذا لم تهطل الأمطار سنشهد محلاً. هذا العام لدينا محل. يقال إن الأناضول تحترق من الجفاف.‏
    ثم يضغط عليّ لأؤكد على كلامه:‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    ـ نعم.‏
    ـ سوف نضطر لشراء القمح من الخارج.‏
    عندما رأى أنني لم أقل شيئاً، ألحّ قائلاً:‏
    ـ سنشتري، أليس كذلك يا سيدي؟‏
    ـ وهل أنا وزير التجارة يا أخي؟ مالي أنا إن اشترينا قمحاً أو شعيراً‏
    ـ سنشتري أليس كذلك يا سيدي؟‏
    ـ نعم.‏
    ـ لا يمكن إدارة الأمور على هذه الصورة. إن الحكومة عاجزة عن إدارة هذه الأمور.‏
    بدأنا من الطقس وانتهينا إلى الحكومة. هل يمكن للحكومة أن تخطر على البال إذا كان الحديث يدور عن الطقس؟ أترى من أين وإلى أين؟‏
    ـ إن الحكومة عاجزة عن إدارة الأمور، أليس كذلك يا سيدي؟‏
    بما أن الأمور وصلت إلى الحكومة، لم أجبه حتى بنعم هذه المرة. الطقس... فهمنا، والماء... فهمنا أيضاً، ولكن ما شأننا بالحكومة؟ التزمت الصمت، لكن الرجل لكز خاصرتي وصرخ قائلاً:‏
    ـ أليس كذلك؟‏
    ـ نعم.‏
    ذلك أنه سيلكزني ثانية إذا لم أرد عليه.‏
    ـ الأسعار ترتفع باطراد. ماذا سيحل بهذا الشعب؟‏
    كان بوسعي أن أقول له: لا، الأسعار لا ترتفع، بل تنخفض يوماً بعد يوم". لكن ذلك يقتضي طق الحنك مع الرجل. قلت له بهدف التخلص منه:‏
    ـ نعم.‏
    ـ سوف ننتهي إلى وضع كارثي.‏
    إنه يفاقم من خطورة الكلام باطراد. التزمت الصمت بلا مبالاة، فقال:‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    تابعت تجاهلي فلكزني مرة أخرى، فقفزت من مكاني وأنا أطلق أنّة.‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    ـ نعم.‏
    إذا لم أرد على سؤاله فسوف يوجه لكمة إلى أنفي ويسألني: "أليس كذلك؟". انتباهي منصرف إلى الخارج من خلال النافذة. لكننا لم نصل بعد إلى محطة حيدر باشا، حتى أنزل من القطار وأتخلص من الرجل.‏
    تمادى الرجل وتمادى حتى تجاوز كل الحدود، ومن حين لآخر أردت أن أجيبه بـ"لا"ـ لكن ذلك يعني الدخول معه في جدال بين نعم ولا، في حين أنني لست بوارد جدال من هذا النوع.‏
    يحكي ويحكي ويحكي، ثم يسألني:‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    فإذا التزمت الصمت لكزني فأطلقت أنّة وملت جانباً، وقد حشرني الرجل لُصق النافذة فلم يعد بإمكاني أن أهرب وأنجو بجلدي. لم يبق أمامي إلا القفز من النافذة.‏
    الرجل يحكي بلا توقف، ثم يضرب بيده على ركبتي ويسألني:‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    فأمسّد مكان الضربة وأجيبه:‏
    ـ نعم.‏
    ثم يمسكني من كتفي ويهزني:‏
    ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏
    ـ نعم.‏
    كنت لأفضل لو بطحني على الأرض وضربني.. قصارى القول أننا وصلنا أخيراً محطة حيدر باشا بين لكز وصفع ولكم وشد ودفع وهز، والحمد لله...‏
    عندما ترجلنا من القطار اختفى الرجل في الزحام، أما أنا فلم أرفع رأسي عن الأرض خشية أن أراه من جديد.‏
    في اللحظة التي أردت فيها الصعود إلى العبّارة نقرت يدٌ على كتفي ثلاث مرات، التفتَ وإذ به شرطي، قال لي:‏
    ـ تفضل معي إلى المخفر لحظة لو سمحت.‏
    عندما سمعت كلمة المخفر ارتبط لساني، فأنا لم أدخل قسم شرطة في حياتي، ولا أعرف ما يكون، ولكن ما العمل... ذهبت معه إلى المخفر، وماذا رأيت هناك؟ رأيت الرجل الذي واظب على سؤالي: "أليس كذلك يا سيدي؟" مبتسماً بالإضافة إلى راكبين كانا يقتعدان المقعد المواجه لمقعدنا.‏
    ظننت أن الراكبين قد أشفقا عليّ بعد رؤيتهما لذلك الرجل وهو يلكزني ويلكمني طوال الرحلة فقدما شكوى ضده، والله أعلم. قلت للمفوض:‏
    ـ أولاً أنا لست مدعياً على أحد.‏
    فقال المفوض:‏
    ـ ولكن ثمة من هو مدع عليك، هذا الرجل قدم شكوى ضدك.‏
    يا سلام! أنت تجيب بنعم على كل ما يقوله الرجل، فيقوم هو بتقديم شكوى ضدك! هل سمعت بما يشبه هذا؟‏
    قال الرجل:‏
    ـ نعم، لقد شتم الحكومة بكل ما يخطر على البال من شتائم، وهذا السيدان شاهدان على ما أقول.‏
    ثم حكى كل ما قاله لي أثناء الرحلة ناقلاً إياه على لساني، قلت:‏
    ـ أنا لم أقل هذا الكلام، بل هو الذي قاله.‏
    وقال الشاهدان:‏
    ـ نعم هو الذي قال الكلام، أما هذا الرجل فقد وافق على كل الكلام بنعم ونعم ونعم.‏
    قال الرجل:‏
    ـ لقد تحدثت بتلك الطريقة بقصد اختبار نواياه.‏
    إذن فسوف أهلك بين الأرجل فقط لأنني قلت نعم.‏
    أمسك سعدي بيك بكيس الورق المملوء بالسمك في حضنه وقال:‏
    ـ السمكات تكاد تسقط فقد انفتح أسفل كيس الورق.‏
    كان يمسك أسفل كيس الورق في راحتيه. سألته:‏
    ـ ماذا حدث بعد ذلك يا سعدي بيك؟‏
    ـ سجلوا إفاداتنا، والآن سنذهب إلى المحكمة.‏
    ـ ولكن لماذا قدّم ذلك الرجل شكوى ضدك؟‏
    لقد ثار فضولي مثلك لمعرفة ذلك، فسألته السؤال نفسه عندما خرجنا من المخفر.‏
    فأجابني قائلاً:‏
    ـ حينما كنت تجيبني بنعم لم تكن تفعل ذلك عن طيب خاطر، فخفت أن تشي بي، فسبقتك إلى المخفر بمجرّد نزولي من القطار.‏
    فقلت له:‏
    ـ حسناً يا أخي ما دمت خائفاً إلى هذه الدرجة، لماذا إذن تتمادى في الكلام وتضرب يميناً وشمالاً؟‏
    ـ وماذا أفعل، فأنا غير قادر على ضبط لساني، يحدث هذا رغماً عني.‏
    إذن، إياك ثم إياك! لا أحد قادر على تمالك نفسه في هذه الأيام. كل واحد يبحث عن أحد يشكو له همّه، وليس من المعقول أن يقف وسط الناس ويخطب فيهم بصورة مباشرة. لذلك فهو يبدأ بالحديث عن الطقس مع أي شخص قربه.‏
    الطقس ثم الماء... ثم تنتهي الأمور بهذه الطريقة. هل فهمت؟ إذا حدث وذكر لك أحدهم كلمة الطقس، فاهرب منه فوراً ولا تدعه يكمل كلامه، وإلا وجدت نفسك في ورطة مثلي.‏
    ضحكت، ثم لم أتمالك نفسي عن سؤاله:‏
    ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك؟‏
    لم أكد أكمل جملتي حتى ضرب سعدي بيك على رأسي بكيس الورق المملوء بالسمك. في الوقت الذي ألقيت فيه بالسمك من فوق رأسي وثيابي، كان سعدي بيك قد اختفى عن الأنظار



    ! الذئب أصله خروف


    في مكان مجهول لا تعرف موقعه بسهولة يعيش راع وأغنامه وكلابه. لكن الراعي لا يشبه الرعاة الآخرين.. فهو لا يعرف للرحمة معنى. ولا يعتقد أن للألم وجوداً.. كان ظالما. يحمل بدل الناي صفارة.. وبيده هراوة. والنعاج - التي يحلبها ويجز صوفها ويبيع أمعاءها ويأخذ روثها ويسلخ جلدها ويأكل لحمها ويستفيد من كل ما فيها - لا يكن لها شفقة أو محبة.. يحلب الأغنام يوميا ثلاث مرات حتى يسيل الدم من أثدائها.. وعندما تشكو ذارفة الدموع من عينها ينهال عليها ضربا على رؤوسها وظهورها.

    لم تحتمل النعاج وحشيته فكانت تتناقص يوما بعد يوم.. لكنه ازداد قسوة.. فقد كان على العدد المتناقص من الأغنام أن يعوضه عن كل ما هرب أو مات من القطيع.. وقد فقد الراعي عقله وجن لأنه كان يحصل على حليب وصوف أقل مما كان يحصل عليه. وراح يطارد الأغنام المتبقية في الجبال والسهول حاملا هراوته في يده. ومطلقا كلابه أمامه. كان بين الأغنام خروف نحيف كان الراعي يريد حلبه والحصول منه على حليب عشرين جاموسة.. وكان غضبه أنه لا يحصل على قطرة حليب منه.. لأنه ببساطة خروف. وليس نعجة.. وفي يوم غضب الراعي منه وضربه ضربا مبرحا جعله يهرب أمامه.. فقال له الخروف : «ياسيدي الراعي أنا خروف قوائمي ليست مخصصة للركض بل للمشي.... الأغنام لا تركض. أتوسل إليك لا تضربني ولا تلاحقني ». لكن الراعي لم يستوعب ذلك ولم يكف عن ضربه.. ومع الأيام بدأ شكل أظلاف الخروف يتغير لكثرة هروبه إلى الجبال الصخرية والهضاب الوعرة للخلاص من قسوة الراعي القاتل.. طالت قوائمه ورفعت.. فازدادت سرعة ركضه هربا لكن الراعي لم يترك إليته.. فاضطر الخروف للركض أسرع. ولكثرة تمرغه فوق الصخور المسننة انقلعت أظلافه ونبتت مكانها أظافر من نوع آخر.. مدببة الرأس ومعقوفة.. لم تعد أظافر بل مخالب.

    مرة أخرى لم يرحمه الراعي فواصل الخروف الركض فكان أن شفط بطنه إلى الداخل واستطال جسمه وتساقط صوفه.. ونبت مكان الصوف وبرة رمادية قصيرة وخشنة. وأصبح من الصعب على الراعي أن يلحق به.. لكن ما ان يلحق به حتى يواصل ضربه وإهانته. وهو ما جعل الخروف يرهف السمع حتى يستعد للهرب كلما سمع صوت قدوم الراعي أو كلابه. ومع تكرار المحاولة انتصبت أذناه وأصبحت مدببة قابلة للحركة في كل إتجاه.. على أن الراعي كان يستطيع أن يصل إليه ليلا وضربه براحته فالخراف لا ترى في الظلام.. وفي ليلة قال الخروف له : سيدي الراعي.. أنا خروف.. لا تحاول تحويلي إلى شيء آخر غير الخروف.. لكن الراعي لم يستوعب ما سمع.. فكان أن أصبح الخروف يسهر ليلا ويحدق بعينه في الظلام.. ولكثرة تحديقه كبرت عيناه وبدأت تطلقان شررا.. وغدت عيناه كعودي كبريت في الليل.. تريان في الظلام أيضا.
    كانت نقطة ضعف الخروف هي إليته.. فهي ثقيلة تعطله عن الركض. لكن.. لكثرة الركض ذابت إليته واستطالت. وفي النهاية أصبحت ذيلا على شكل سوط. ورغم فشل الراعي في اللحاق به فإنه كان يلقي الحجارة عليه ويؤلمه.. وكرر الخروف على مسامع الراعي : «إنني خروف يا سيدي.. ولدت خروفا.. وأريد أن أموت كبشا.. فلماذا تضغط علي كي أتحول إلى مخلوق آخر ؟».
    لم يكن الراعي يفهم..فبدأ الخروف يهاجم الراعي عندما كان يحصره في حفرة ما لحماية نفسه من الضرب. وغضب الراعي أكثر.. فضاعف من قسوته بجنون لم يشعر به من قبل.. فاضطر الخروف أن يستعمل أسنانه. لكنه لم يستطع ذلك لأن أسنانه داخل ذقنه المفلطحة. وبعد محاولات دامت أياما بدأت أسنانة تنمو. وفيما بعد استطال لسانه أكثر. واصبح صوته غليظا خشنا. ولم يستوعب الراعي ذلك.. وواصل ما يفعل وبالقسوة نفسها.
    ذات صباح شتوي استيقظ الراعي مبكرا ليجد المكان مغطى بالجليد. وتناول هراوته التي سيحث بها نعاجه المتبقية على حليب عشر بقرات وذهب إلى الزريبة. لكن ما ان خرج من الباب حتى وجد بقعا من الدم الأحمر فوق الثلج.. ثم رأى أشلاء أغنام متناثرة.. لقد قتلت كافة النعاج ومزقت. ولم يبق منها ولا واحدة.. وظلل عينيه بيديه ونظر بعيدا فرأى الخروف.. كان الخروف قد مد قائمتيه الأماميتين قدامه وتمدد بجثته الضخمة على الثلج وهو يلعق بلسانه الطويل الدماء من حول فمه. ثمة كلبا حراسة يتمددان على جانبيه دون حراك.. ونهض الخروف وسار بهدوء نحو الراعي.. كان يصدر صوتا مرعبا.. وبينما الراعي يتراجع إلى الخلف مرتجفا قال متمتما : «يا خروفي.. ياخروفي.. ياخروفي الجميل ». عوى الخروف قائلا : «أنا لم أعد خروفا » كرر الراعي ما قال.. عوى الخروف قائلا : «في السابق كنت خروفا. ولكن بفضلك أصبحت ذئبا». وجرى وراءه.




    كان ذلك في اليوم الثاني من انتقالنا إلى المنزل الجديد، إذ استوقفني شيخ هرم يقطن في الجانب الأيمن من بيتنا قائلاً:
    - ليتكم لم تستأجروا هذا المنزل؟...
    استغربت كثيراً حديث هذا الكهل فرددت عليه قائلاً:
    - عندما يسكن المرء في منزل جديد يقول له الجيران "منزل مبارك"، فماذا تقصد بهذه التمنيات الغريبة؟
    لم يهتم جاري بما قلت، بل تابع حديثه الفظ:
    - تقتضي علاقة الجوار أن أرشدك وأنصحك بالابتعاد عن هذا المنزل لأنه مقصد للصوص.
    - ولمَ منزلنا بالذات دون جميع المنازل الأخرى، هاه؟.
    تركته يثرثر بكلماته واتجهت صوب البقال كي أشتري علية سجائر فقد أستطيع أن ألجم جام غضبي، وهناك سألني البقال عن سبب غضبي، قلت له: بقرب منزلنا يسكن رجل هرم وخرف، قال لي بينما كنت أمر من أمام منزله أن بيتنا مقصد للصوص وكان علينا أن لا نستأجره، بربك قل لي أليست هذه الحماقة بعينها.
    أجابني البقال:
    - نعم جارك محق في ذلك وهو يريد أن يعلمك بوضع المنزل، فعلاً كان من الأفضل أن لا تستأجروا هذا المنزل بالذات.
    انزعجت من البقال كثيراً، فلم أنتظر حتى يتم حديثه، فخرجت مباشرة وبقيت يومي معكر المزاج.
    في المساء أتى لزيارتنا جارنا القاطن في الجانب الأيسر من بيتنا، واستمرت سهرتنا حتى منتصف الليل ، وعندما هم بالانصراف قال لي:
    - منزلك مبارك إن شاء الله، ولكن يجب أن تكون على بينة من أمرك، إن هذا البيت مقصد للصوص.
    لاحظت زوجتي مدى غيظي وحنقي، فحاولت أن تخفف عني قائلة:
    - أوه ـ وه ، ألا تدري أن أصحاب المنزل لديهم ألف حيلة وحيلة كي يدفعوا المستأجر للإخلاء، ولعل هذه الحيلة واحدة منها، هدفهم إدخال الرعب في قلوبنا وبذلك نخلي المنزل وهم بدورهم يعملون على تأجيره لأحد أقاربهم أو أصحابهم.
    .... بهذه الكلمات استطاعت زوجتي أن تهدئ من روعي.
    لقد وترت هذه الحادثة أعصابي حتى إنني بقيت فترة طويلة أحاول أن أغفو ولكن دون جدوى، ثم غفوت، كم دام ذلك لا أدري كل ما أعرفه أنني استيقظت على صوت خربشة غير طبيعية، سحبت المسدس من تحت الوسادة وقفزت في الظلمة الحالكة وأنا أصرخ بصوت عالي...
    - لا تتحرك من مكانك وإلا أطلقت النار.
    ولكن المصيبة التي اعترضتني تتجلى بعدم معرفتي مكان مفتاح الضوء، أخذت أتحسس جدران غرفة النوم، لكن كل جهودي باءت بالفشل، وبينما كنت أ‘مل جاهداً في سبيل إيجاد المفتاح وإذ بقدمي ترتطم وأسقط على الأرض والمسدس يسقط من يدي، ولكن كيف سقطت وبماذا تعثرت قدمي. قهقه اللص بصوت مرتفع وأجش، فارتعبت كثيراً من شدة صوته، لملمت شتات شجاعتي المتبقية وقلت له:
    - "ولك" دعني أراك إذا كنت رجلاً ولا تظن أنني خائف منك.
    أجابني قائلاً:
    - من المؤكد أنك تبحث عن مفتاح الضوء، لا يهم جميعكم هكذا، ولست أولهم.
    صرخت بأعلى صوتي علّني أستطيع إخافته.
    - "ولك" مع من تورطت ماذا سأفعل بك هاه؟.
    - لا ، لا، لا أ‘رف، ولكن إذا كنت بحاجة لمساعدتي ، إسمح لي كي أنير لك الغرفة.
    - تك....
    وإذا بالنور يعم جميع أرجاء الغرفة، أما أنا فقد كنت منبطحاً تحت الطاولة وزوجتي كانت مختبئة تحت السرير. أما اللص فقد كان طويلاً جداً فلو وقفت على قدمي لما أدخلت الرعب إلى قلبه.
    ولذلك قلت بيني وبين نفسي الوسيلة الوحيدة هي أن أصرخ بصوت خشن وقوي:
    - "ولك" من أنت؟.
    أجابني:
    - لص.
    - قلت:
    - لا، لن تستطيع إرهابنا، ولم نترك المنزل ولن نتركه وأنت لست بلص.
    أجاب:
    - الآن ستعرف إن كنت لصاً أم لا.
    - أخذ ذاك اللص يالتجوال داخل المنزل وكأنه يعرف كل تضاريسه ويعبث بأغراضه يقلبها ويرميها حيث يشاء، أما الحاجات التي تعجبه فكان يجمعها في مكان واحد كي يأخذها.
    وفي أثناء ذلك قال لي:
    - حسناً، ما فعلتم، إذاً خصصتم هذه الغرفة للنوم، لكن المستأجر السابق خصصها للجلوس، كذلك الذي قبله.
    قلت له:أظن أنك نسيت ، وأنت تسرق حاجياتنا أنني سأقدم شكوى ضدك.
    أجابني لامبالياً حتى أنه لم يكلف نفسه عناء رفع رأسه:
    - إفعل ما تشاء ولكن لا تنسى بأن تبلغهم تحياتي.
    - بالتأكيد سأقدم شكوى ضدك ولكن كل ما أخشاه أن تنتهز الفرصة وتهرب.
    - لا، لن أهرب.
    - أقسم لك بأنك ستهرب بعد ما جمعت ما جمعته، لذلك سأربطك . وفيما بعد أستطيع الذهاب مطمئناً إلى مخفر الشرطة.
    تجمع الجوار على صوت هرجنا ومرجنا ودخلوا المنزل دون أن يعيروا ما جرى أدنى اهتمام، بل الأنكى من ذلك أن بعضهم أخذ يتهامس.
    - لص آخر دخل المنزل.
    - آه ه ه .. نعم لص، هيا لنتعرف عليه. بعض الجوار استطاع التعرف عليه مباشرة لذلك بدأ السؤال عن حاله وأحواله.
    طلبت من الجوار مساعدتي:
    - ساعدوني يا إخوان كي أربطه بالحبل، وأذهب إلى مركز الشرطة وأتقدم بشكوى ضده.
    أجابني اللص:
    والله أنتم أحرار في أن تتقدموا بشكوى ضدي، ولكن ما أود أن أقوله هو لا تتعبوا أنفسكم.
    جلبت زوجتي الحبال المخصصة لنشر الغسيل وأخذنا نشده إلى الكرسي، كل هذا دون أن يمانع وبعدها أوصدنا الباب واتجهنا إلى مخفر الشرطة. وهناك سألنا الضابط عن موقع المنزل وعندما أبلغته عن المكان قال:
    - هاه _ _ _ اه !! ... إذاً ذاك المنزل؟
    قلت له:
    - نعم ذاك المنزل.
    أجاب:
    - نأسف عن التدخل لأن منزلكم لا يقع ضمن البقعة الجغرافية المسؤولين عنها.
    - حسناً وما العمل؟ وهل قمنا بربطه عبثاً؟.
    أجاب:
    - لو سكنتم في المنزل المجاور لكنا على أتم الاستعداد لتقديم كل المساعدات الضرورية، إن منزلكم هذا يقع ضمن صلاحيات البوليس.
    لقد كان مركز البوليس بعيداً نوعاً ما لذلك لم نصل إليه إلا مع انبثاق الشفق.
    وهناك سألني الضابط المسؤول عن موقع المنزل. وعندما أجبت عن مكان البيت قال:
    - ها ه ه ه ..!!! ذاك المنزل؟.
    قلت له:
    - نعم ذاك المنزل.
    أجاب:
    - أخ لو كان منزلكم هو المنزل المجاور لكنت قدمت المساعدة الضرورية، ولكن مع الأسف منزلكم هذا خارج حدود صلاحياتنا.
    تدخلت زوجتي بالحديث قائلة:
    - واه ، واه وماذا سنفعل بذاك الذي ربطناه.
    سألت الضابط:
    - حسناً وماذا باستطاعتنا أن نفعل؟ أرشدنا بالله عليك.
    أجابني مشكوراً:
    - منزلكم يقع ضمن حدود صلاحيات الجندرمة.
    اقترحت زوجتي الذهاب إلى البيت خشية أن يصاب ذاك الرجل بمكروه أو قد يكون فارق الحياة وبذلك نكون قد ارتكبنا جناية القتل.
    دخلنا المنزل فوجدناه جالساً بمكانه:
    سألته:
    - كيف الحال؟
    - جيد، ولكني جائع جداً.
    جهزت زوجتي مائدة الطعام لكن للأسف لم يكن اللص يحب "البامياء" لذلك ذهبت إلى القصاب وجلبت له قطعة لحم "بفتيك" وحضرتها وقدمتها للص. وبعد ذلك خرجنا متوجهين نحو مركز الجندرمة وعندما وصلنا إلى هناك شرحت الموقف للضابط إلا أنه استغرب وقال:
    - هاه ه ه !! إذاً ذاك المنزل.
    - وكأن جميع الجهات الأمنية تعرف قصة منزلنا.
    - إن بيتكم لا يقع ضمن حدود صلاحياتنا بل بقع ضمن حدود صلاحيات البوليس.
    قلت له مستغرباً:
    - عجباً يا سيدي! أيعقل ذلك؟! لقد ذهبنا إلى مركز البوليس وقالوا أن منزلنا يقع ضمن حدود صلاحياتكم. وأنتم تقولوا العكس! لكنه يقع ضمن صلاحيات جهة ما دون ريب.
    أخرج ضابط الجندرمة الخارطة من خزانته الحديدية وبسطها على المنضدة وقال:
    - انظر... ولكن هل تفهما بالخارطة؟
    هذا الرقم (140) يدل على السهل وهذا (208) يدل على التلة، من هنا تمر حدود صلاحياتنا الادارية، ولو كان منزلكم أبعد بمترين فقط نحو الغرب لوقع ضمن حدود صلاحياتنا.
    قلت له راجياً:
    - يا عيني، يا روحي كل هذا من أجل مترين؟
    ماذا سيحصل لو غضضتم البصر قليلاً؟ أجابني:
    - ماذا سيحصل هاه؟ أنتم لا تعرفون ماذا سيحصل ولكن نحن نعرف تماماً.
    إنظر هنا، هذا موقع المنزل، إنه يقع تماماً على الخط الفاصل بين حدود صلاحياتنا وحدود صلاحيات البوليس، هل فهمتما؟ يعني أن حديقة المنزل ضمن صلاحياتنا ولكن عملية السرقة كما شرحتم تمت في غرفة النوم.
    لم يكن أمامنا إلا التوجه ثانية إلى مركز البوليس، ولكن طلبت زوجتي الذهاب إلى المنزل أولاً للاطمئنان على اللص.
    سألته عندما وصلنا:
    - كيف حالك؟
    - عطشان، إسقوني...
    وبعد أن شرب الماء وأطفأ ظمأه قال:
    - سأرفع عليكم دعوى حجز حرية وهذا ليس من حقكم.
    قلت له:
    - حسناً يا أخي ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل إذا كان بيتنا يقع على الخط الحدودي.
    - أجيبه!.
    أطلق اللص تنهيدة طويلة وأردف قائلاً:
    ألم أقل لكم منذ البداية اتركوني وشأني. سأرفع عليكم دعوى وأجرجركم في المحاكم . قلت له:
    - اصبر علينا قليلاً، بالله عليك ساعدنا هذه المرة كي نذهب إلى مركز البوليس مرة أخرى.
    - إذا كنتما راغبان بالذهاب فعليكما بذلك، ولكنني أعرف هذا الشيء أكثر منكما. في البداية يجب إتخاذ القرار اللازم حول تبعية هذا المنزل أو تغيير حدود المنطقة كلها. وعند ذلك يلي ضرب...
    ذهبنا إلى مركز البوليس ثانية وهناك بسط الضابط الخارطة على الطاولة وقال:
    هذه حدود صلاحيات الجندرمة يعني أن الحديقة تابعة لهم،.... أي أن قسم من المنزل يقع ضمن حدود صلاحياتنا الادارية.
    سررت كثيراً من حديث الضابط، لذلك قلت له على الفور:
    - إذاً غرفة النوم تابعة لكم، وهكذا فالمشكلة حصرت بمسؤوليتكم عنها أليس كذلك؟.
    - نعم، نعم ولكن هل لديك دليل أن السرقة تمت في غرفة النوم، وهل دخ اللص إلى غرفة النوم من الجو دون المرور بالحديقة، وكما تعلم فإن الحديقة تقع ضمن صلاحيات الجندرمة، هذه القضية ليست جديدة يا عزيزي والمسألة قيد الدارسة، وفيما بعد سنرى تبعية المنزل لأية جهة أمنية. وبعد ذلك سنقوم بإجراء اللازم.
    في أثناء عودتنا إلى المنزل استوقفني جاري الخرفان وسألني:
    - الحمد لله على سلامتكم، سمعت أن لصاً سطى على منزلكم.
    - نعم سطى.
    - ألم أقل لك أن هذا المنزل مقصد للصوص، ولا أحد يستطيع السكن فيه ولهذا السبب بالذات فأجرته رخيصة، حتى صاحب المنزل لا يستطيع السكن فيه، لذلك قرر أن يهدم قسماً من المنزل ويرجع مترين نحو الخلف، في هذه الأثناء ظهرت على الساحة واستأجرت البيت، وبذلك عدل عن فكرته.
    في أثناء حديثنا تدخلت زوجته قائلة:
    - الذنب ليس ذنبك، بل ذنب صاحب البيت فهو لا يحسب حساب الخط الحدودي، عندما قام ببناء المنزل، وهل يعقل أن يبني إنسان عاقل منزلاً كهذا؟
    ولكن وبما أننا دفعنا لصاحب المنزل سلفة لمدة عام فلن نخلي المنزل الآن.
    فككنا وثاق اللص وجلسنا سوياً لتناول العشاء، وبعد ذلك طلب اللص السماح له بالذهاب على أن يعود ثانية.
    لقد أصبح في منزلنا أربعة أو خمسة لصوص زوّار دائمين. وبتنا نقوم ببعض الأعمال المنزلية معاً كي لا يأتي إلينا لصوص آخرون.
    ولكن لا أدري ماذا سنفعل؟!
    إمّا أن نبقى هنا حتى نهاية العام، ونصبح في المنزل ثمانية أشخاص، أو نجد حلا لهذه المشكلة العويصة.
    ولعد انتهاء دراسة وضع المنزل سوف أرفع دعوى على هؤلاء اللصوص. ولكن مجرد التفكير بهذا الشيء معيب جداً بالنسبة لي كيف لا، وقد تناولنا الخبز والملح سويةً. لا، حتى لو تحملت كل المصاريف وحدي.


    تمت.


    التعديل الأخير تم بواسطة هالة ; 5-1-2014 الساعة 03:33 PM

  2. #2

    الصورة الرمزية هلوله

    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المـشـــاركــات
    2,240
    الــــدولــــــــة
    اسبانيا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    رائعه جداً =)

    يبدو انني سأميل الى السخريه قليلاً ^^
    قصص ممتعه تحمل في طايتها عبر جميله =)

    شكراً لكِ عزيزتي ^^
    دمتِ عطره

  3. #3

    الصورة الرمزية هالة

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,808
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    جهاد .. هلوله

    بارك الله فيكما ..
    مروركما عطر صفحتي وأثلج صدري^_^
    جزاكما الله خير الجزاء
    وحفظكما من كل سوء
    وشكر لمن مرّ وشكر
    تحياتي

  4. #4

    الصورة الرمزية Emi

    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المـشـــاركــات
    422
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ...

    أهلاً بكِ صديقتي ... انتقاؤك رائع و ممتع ... بوركتِ ...

    قرأت قصة ( أسفل السافلين ! ) ...

    سبحان الله ... طابقت ما اكتشفته مؤخراً ...

    و هو ان تكذب ... أن لا تكون صريحاً ... ان تقول خلاف ما تفعل ...

    أن لا تكون طيباً ... ان لا تحترم ... و ان و ان و ان ....

    هذه العبرة التي استنتجها من القصة ...

    فحينما تكون سيئاً ... يكن لك ما تريد ...

    و لكن مع كل هذا الواقع ... الذي فهمه العقل و صدقه ...

    يبقى القلب و الحمدلله مصدقاً بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ...


    و لي عودة بإذن الله لقراءة البقية و الاستمتاع و الانتفاع بهذه القصص ...

    حفظك المولى من كل سوء ...


    -------------------------


    " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "


  5. #5

    الصورة الرمزية هالة

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,808
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    أهلا أهلا بالصديقة إيمي
    سعدت جدا بتواجدكِ ..وتعقيبكِ
    دومي بالقرب دائما..
    تحياتي.

  6. #6

    الصورة الرمزية ذكــرى الأيام

    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المـشـــاركــات
    60
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    {...السلام عليكم ورحمه الله
    كيفك هاله ..؟

    أتمنى انكــ بخير

    ماشاء الله لاقوه إلا بالله

    موضوع قمه قمه في الروعه

    بصراحه هذا الأديب جدا رائع

    وقصصة جدا جميلة

    ابدع في كتابته وبصراحهــ أنصدمت بقصصه جدا

    مبدع بكل معنى الكلمهــ

    أيضا ً أختي انتي مبدعه بكل معنى الكلمه

    موضوعك أو بالأحرى تقريركــ رائع جدا

    وفي قمة القمة

    يشكر عليه

    فشكرا لك جزيل الشكر
    بحفظ الرحمن...}

  7. #7

    الصورة الرمزية Emi

    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المـشـــاركــات
    422
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    تمت قراءة القصة الثانية : بيت هادئ ...


    فعلاً الإنسان لا يعجبه ما لديه ... و عندما يجرب شيئا آخر يرى أن مالديه هو الأنسب له ...

    لان الله هو الذي اختار له ذلك ... فأكيد سيكون خيراً له ...


    --------------------

    " سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر "

  8. #8

    الصورة الرمزية هالة

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,808
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    ذكــرى الأيام

    أنا بخير والحمد لله .. ماذا عنكِ؟
    العفو عزيزتي .. الأروع هو تواجدكِ وردكِ
    حفظك الباري من كل سوء
    وجزاكِ ربي خيرا .. على جمال ردكِ
    عطرتي الصفحة




    Emi
    أيا صديقتي .. لكم يسعدني تواجدكِ الدائم ها هنا
    وتفاعلكِ مع القصص
    أسعدكِ الإله في الدارين
    نعم كما قلتِ .. لا نشعر بقيمة الشيء الذي نمتلكه إلا حين نغيره أو نفقده ..
    جوزيت خير الجزاء
    ولا حرمني الله من صداقتكِ أيا غالية
    دومي بخير


  9. #9

    الصورة الرمزية معتزة بديني

    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المـشـــاركــات
    5,036
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: °][مُقْتَطَفَاتْ مِنَ الأَدَبِ التُرْكِي ~*~ مَعَ الأَدِيبْ السَاخِرْ : عَزِيزْ نسِينْ][°

    وعليكم السلام ورحمة الله
    كيف حالك أختى
    ليس لى فى القصص كثيرا ولكنى أحببت أن أطمئن عليكى
    فتقبلى مرورى

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...