.1.
لا أدري حقيقة كيف يمكن أن أعبر عن الكـاتب الذي ملك قلوباً من البشر يعلم الله تعدادها..
عن الذي حمل خُلاصة تجـاربه وخبرته على ظهره وهو يجتـاز دغل النفس البشرية..
إلي الذي طاوعته حروف اللغة وصادقه الإحساس الطيب، فكان كُل ما قرأته له سلسـاً جذابـاً حميمـاً، حتى ليخيل إليك أنه يعرفك معرفةً شخصية وهو يخاطبكَ على الدوام : صديقي !
الكاتب الكبير (عبد الوهـاب مطاوع).. المعذرة منك على اقتطاع رائـعة من روائعك وإيرادُها هُنـا..
يعلم الله ليس للسرقة أو مـا شابه، لكن لأنك في موضعٍ كهذا أنت أجدر من يكون فيه.
كل التقدير وعظيم الاحترام !
اسم الكتــاب : ساعـات من العمر
اسم الكاتب : عبد الوهـاب مطاوع
دار النشر : الدار المصرية اللبنانية
النقل : بتصرف
كم كان عمري حين أقدمت على هذه التجربة الخطيرة ؟.
مؤكد أنه لم يكن يتجاوز الرابعة عشرة، إن لم يقل عنها.. فكيف واتتني الجرأة إذن للإقدام عليها ؟. أما التجربة، ، فهي - ولا فخر - تأليف أة الاشتراك في تأليف كتاب وطبعه ، بهدف "تثقيف " الشباب، و" إثراء " الفكر الإنساني بثمرة عقولنا " الواعية" !. ولم لا أفعل والقلب غض.. والأحلام عريضة لا تعرف الحدود ؟
ألم نقرأ بعض الكتب، فشعرنا بعد قراءتها بأننا نختلف عن غيرنا من زملائننا، إلي الحد الذي قد يسمح لنا بتوعيتهم بفكرنا ؟، وألسنا نقرأ على غُلاف بعض كتب القراءة المدرسية أسماء ثلاثة أو أربعة مؤلفين اشتركوا في وضع الكتاب؟، وألا يحمل الكتاب المفضل لدينا وقتها لا يختلفون عنا كثيراً سوى أن أسماءهم " معروفة " بعض الشيء، كطه حسين وأحمد أمين ؟..
إذن فماذا ينقصنا لكي نكرر تجربتهم، ونشترك في تأليف كتاب وطبعه ونحن أربعة من الأصدقـاء كُلنا أو " معظمنا " له إبداعه الأدبي الخاص ؟
فأنا مثلاً أراسل كل مجلة إقليمية تطلب مراسلين لها، وأرسل إليها صورتي، ورسوم استصدار البطاقة الصحفية الخاصة بها ، وهي غالباً مصدر الدخل الرئيسي لهذه المجلة ، فيأتيني بالبريد خطابٌ خطير من إدارة المجلة يبشرني بإعتمادي مراسلاً لها في مدينة دسوق العامرة، ومعه بطاقة صحفية ممهورة بختم المجلة، أزهو بهـا كثيراً، وأطلع إخوتي وأصدقـائي عليها.
ثم أغرق هذه المجلة بكتاباتي وقصصي القصيرة الساذجة، فتنشر القليل منها، وتلقي معظمها في سلة المهملات، وإذا نشرت لي شيئاً صدًّرته بهذه العبـارة المهيبة :
للأديب الناشيء فلان الفلاني.. طالب ثانوي !.
أما صديقي إبراهيم فيكتب الزجل، ويلقيه علينا في الحفلات المدرسية، كما أن له مقالاً يتيماً بعنوان " كيف يصل الشباب إلي السعادة والغنى ؟" نشره في مجلة الحائط بالمدرسة، ولقي " رواجـا " ملحوظـاً، فراح يعيد كتابته، ويضيف إليه، أو يحذف منه، ويعيد نشره في كل مكان تصل إليه يده من مجلات الحائط المختلفة، إلي مجلة المدرسة المطبوعة، إلي بعض المجلات إقليمية.
ومع أني لم أعذ أذكر من وصفة صديقي هذا للوصول للسعادة والغنى شيئاً الآن، إلا أنها لم تكن تخرج غالباً عن إطار النصائح المدرسية الشائعة في زماننا، من نوع : من جد وجد..، ومن طلب العلا سهر الليالي، فماذا يمنعه إذن من أن يعيد كتابة هذه " الدرة اليتيمة" ويضيف إليها الجديد ، فيصبح هو إسهامه الرئيسي في مشروع الكتاب الجديد، مع بعض أزجاله الأخرى ؟
وماذا يمنع صديقنا الثالث جورج من أن " يثري " هذا الكتاب أيضاً ببعض أشعاره المماثلة وأزجاله ومُختاراته من كُتب القراءة ؟..
يبقى المؤلف الرابع، الذي يحتاج إليه غلاف الكتاب، كي تحتل أسماء المؤلفين سطوراً متساوية على سطره، ومادام الأمر كذلك، فلا بد أن يشترك معنا محمد في تأليف المتاب.. صحيح أنه ليس " ملطوشاً" بالشعر والأدب مثلنا، ولا يضيع أوقات فراغه في قراءة هذه الخزعبلات التي نقرأها..
وإنما يستثمره فيما هو أنفع وأجدى للبشرية، وهو حلاقة روؤس الزبائن في صالون أبيه، رغم محاولات أبيه لإبعاده عن المهنة.
فعلى بركة الله مضينا في مشروع الكتاب.. وبعونه ألفنا كل مواده، وراجعناها، واخترنا له اسمه المهيب " وحي الأدباء "، ولم يبق إلا أن نقدمه للمطبعة، لكي تدور عجلاتها وتحفظ هذا التراث الأدبي الخالد للتاريخ !
ثم جاءت اللحظة الحاسمة التي ينبغي فيها أن تقدم مواد الكتاب للمطبعة، وتوجهنا من محطة السكة الحديد إلي مطبعة " المستقبل" التي طالما قرأنا اسمها على بعض الكتب الأدبية لأدباء الأقاليم.
وسرنا في الطريق بوقار يليق بأمثـالنا من الكتابو المفكرين، واستقبلنا في المطبعة كهل يرتدي الطربوش وبدلة قديمة، ولا أعرف حتى الآن كيف واتتنا الجرأة على أن نصارحه بما جئنا إليه من أجله، لكننا صارحناه في النهاية، أو صارحه - على الأصح - صديقنا إبراهيم، فقد كان أجرنا في هذه المواقف، ولدهشتي الشديدة.. فإن الرجل لم يطردنا من مطبعته أو ينهرنا، بل لم يبد دهشة أو انزعاجاً، ولم يرفع بصره إلينا، وإنما مد يده في صمت طالباً الكتاب، فوضعنا الدوسيه في يده.
وقلبه هو للحظات، ثم قال لنا باقتضاب : ستة جنيهات.. والاستلام بعد 15 يومـاً !.
وكأنما قد انزاح من صدرنا همٌ ثقيل، وفتشنا باضطراب في جيوبنا، وأخرج كل منا نصيبه المقرر من العربون، وهو خمسون قرشـاً، فاكتمل الجنيهان وقدمناهما للرجل، فتناولها صامتاً، وانسحبنا نحن بهدوء، ورجعنا إلي محطة السكة الحديد، ونحن نطير فوق السحاب !
وتساءلنا خلال رحلة العودةمتعجباً كيف قدر الرجل تكاليف طبع الكتاب، وهو لم يسألنا عن عدد النسخ التي نريدها منه ؟
وتبادلنا الرأي حول تلك النقطة طويلاً، ثم تركنا الأمر كله لحكمة الرجل وخبرته بمثل هذه الأشيـاء.
وتفرغنا نحن للأمر الجلل الذي ينتظرنا، وهو أن يدبر كل منا مبلغ جنيه كامل خلال فترة الخمسة عشر يوما القادمة، لدفع باقي فاتورة المطبعة.
لم يكن هناك مفر من أن يلجأ كلٌ منـا إلي أهله، مناشداً إياهم أن يسهموا في تشجييع " العلم والأدب" بهذا المبلغ " البسيط ".
ولست أدري كيف كان رد فعل آباء شركائي لهذه المناشدة الخطابية المؤثرة، لكني أتذكر حتى الآن ابتسامة أبي وأنا ألقي بين يديه تلك الخطبة الجليلة.. وهي ابتسامة حرت طويلاً في تفسيرها، ولم أفهمها حق فهمها، إلا حين تقدم بي العمر كثيراً، وأدركت أنها كانت تتراوح بين الرضا عن انشغالي بمثل هذه الأمر التي تصرف فتى مثلي عن الانحرافات الأخرى، وبين الرثاء الخفي والإشفاق المكتوم من أن يكون هذا " الولد" بالفعل " مخبولاً " بعض الشيء.
لكن الأمر قد انتهى على أية حال نهاية موفقة، ورجع كل منا إلي أصحابه، ومعه الجنيه المنشود، بغض النظر عن الأهوال التي واجهها في سبيل الحصول عليه.
وفي الموعد المُحدد ركبنا القطار إلي عاصمة النور والثقافة بالنسبة لنا وقتها.. وتوجهنا إلي المطبعة وسلمنا لصاحبها المبلغ الرهيب الذي جمعناه، فتلقاه في صمت، وأشار بلا احتفال إلي رصتين من الكتب في ناحية من المطبعة..
فاتجهنا إليه ورفعناهما.. واكتفنا أن الكتاب الكبير الذي قدمناه في دوسيه منتفخ إلي المطبعة قد تحول بعد الطبع إلي ما يشبه الكراسة المدرسة، حيث لا تزيد صفحاته عن 40 أو 50 صفحة.
وتساءلنا في حيرة أين المواد الأدبية الخطيرة التي قدمناها للكتـاب ؟ وهل سقط بعضهـا سهواً إثناء الطبـاعة ؟
وتصفحنا الكتاب بمزيج من الاضطراب والترقب.. فوجدنا كل المواد الذي قدمناها للمطبعة منشورة في الكتاب.. لكنه الفارق بين خط اليد الذي كتباه به، وبين جمعها بحروف المطبعة الصغيرة،أو أقل..
هو الفارق بين الأحلام الوردية والواقـع..
فإن كان حجم الكتاب وغلافه - الذي لا يختلف كثيراً عن ورق لف اللحم - قد صدمنا بعض الشيء، فإن هذه الصدمة لم تذهلنا عن الإنجاز الكبير الذي حققناه.. ولم يحرمنا من ذلك الإحساس الشديد بالزهو ونحن نرى أسماءنا مطبوعة على الغلاف بنفس طريقة أسماء طه حسين ورفاقه على الكتاب إيـاه، لكننا لم نستسلم طويلاً لهذه النشوة..
فقد آن الآوان لأن نفكر في مسئولية نقل الكتاب في مدينتنا، وتوزيعه على القراء المتعطشين لقراءته.
وانتهينا بعد طول التفكير إلي ترك مسئولية توزيع الكتاب لكلٍ منا، يتصرف فيها كمـا يشاء في حدود نصيبه من عدد النسخ ولنر بعد ذلك ماذا سيكون من أمرنا وأمر الثقافة والفكر في هذا الزمن !
ورجع كلٌ منـا إلي بيته، حاملاً مجده الأدبي بين يديه. ولست أعرف ماذا فعل شركائي في نصيبهم من النسخ، لكني أعرف أن " جمهورنا" من القراء لم يتعد في النهاية بعض الأصدقاء والأقارب وزمـلاء المدرسة، وأن كلا منـا لم ينجح في توزيع كتابه إلا على عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من إخوته وأصدقائه..
فإذا كُنـا قد خسرنا " الجلد والسقط " - كمـا يقولون - في هذا الكتـاب، فلقد كسبنا من ورائه الكثير والكثير.. وهو إحساس الرضا عن النفس لاستثمار طاقاتنا فيما تصورنا أنه مفيد، وكسبنا أهم من ذلك معايشة الحلم الوردي، والاستغراف فيه لفترة ثمينة من فترات العمر، أما ركود الكتاب وعدم رواجه ، فهكذا قد صادف الفشل بعض كبـار الأدباء في بداية حيـاتهم، ولم يفت في عضدهم، فهل نيأس نحن ؟
كمـا أننا قد عرفنـا كل " أشخاص " من اشتروا كتابنا واحداً واحداً.
والآن، وبعد حوالي أربعين سنة من هذه التجربة، فإني أشعر بالامتنان الشخصي لهم.. وأدرك جيداً كم كان كريماً وعطوفـاً كل من اشترى كتابنا هذا.. أو اكتفى بتشجيعنا، دون أن يشتريه.. ودون أن يسخر منا أو يهزأُ بنا..
كمـا أدرك الآن كم كنا نحن حالمين.. واهمين.. ومستغرقين في أحلام وردية خادعة، بدليل أنني لم أصدر كتابي الأول " الحقيقي " إلا بعد أن تخطيت الأربعين من العمر.
لكن من قال أن الفتى في مثل أعمارنا وقتها.. مطلوبٌ منه ألا يكون حالماً، ولا واهماً، ولا مستعداً للاستغراف في مثل هذه الأحلام الجميلة ؟.
المفضلات