الحمد لله الذي أسكن عباده هذه الدار، وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار ، وجعل الدار الآخرة هي دار القرار، وجعل بين الدنيا والآخرة برزخا يدل على فناء الدنيا باعتبار، وهو في الحقيقة إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار .
فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار ، ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار، وسبق رحمته بعباده غضبه ، وهو الرحيم الغفار.
أحمده على نعمه الغزار، وأشكره، وفضله على من شكر مدرار،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار ، الرسول المبعوث بالتيسيير والإنذار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار.
أما بعد:
إنه الموت.............ذلك الواعظ
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه فرأى أناسا كأنهم يكتشرون ( أي يضحكون) فقال: " أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لأشغلكم عما أرى ، الموت، فأكثروا ذكر هاذم اللذات ، فإنه لم يأت يوم على القبر إلا يتكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود.
فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا، إن كنت لأحب من يمشي على ظهري، فإذا وليتك اليوم ، وصرت إلي، فسترى صنيعي بك- فيتسع له مد بصره ، ويفتح له باب إلى الجنة .
وإذا دفن العبد الكافر أو الفاجر قال القبر: لا أهلا ولا مرحبا ، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري، فإذا وليتك اليوم ، وصرت إلي ، فسترى صنيعي بك- قال- فيلتئم عليه القبر حتى تلتقي وتختلف أضلاعه "
كفى حزنا أن لا أمر ببلدة---من الأرض إلا دون مدخلها قبرُ
إنه الموت................ذلك الواعظ
ألا يا عسكر الأحياء---هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى---وهم منتظروا الكبرى
يحثون على الزاد---وما زاد سوى التقوى
يقولون لكم: جُدوا---فهذا آخر الدنيا
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، حتى يبعثه الله يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة "
{النار يُعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} سورة غافر.
اللهم لطفك يا الله.
{فلولا إذا بلغت الحلقوم .وأنتم حينئذ تنظرون.ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. فلولا إن كنتم غير مدينين. ترجعونها إن كنتم صادقين . فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين . فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم. وتصلية جحيم. إن هذا لهو حق اليقين.} سورة الواقعة
أتيت القبور فناديتها---فأين المعظم والمحتقر؟
وأين المذل بسلطانه؟---وأين القوي إذا ما قدر؟
فأجابهم التراب اعتبارا:
تفانوا جميعا فلا مخبر---وماتوا جميعا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا---أمالك فيما ترى معتبر؟
تروح وتغدو بنات الثرى---فتمحوا محاسن تلك الصور
إنه الموت..............ذلك الواعظ
الموت بحر غالب موجهُ---تضيق فيه حيلة السابحِ
يا نفس إني قائل فاسمعي---مقالة من مشفق ناصح
ما استصحب الإنسان في قبره---مثل التقى والعمل الصالح
دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو أمير على فلسطين، فقال له: ما أعظك أصلحك الله ، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمك ، قال : فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته.
وكان أحد السلف إذا رجع من جنازة لم يتعش تلك الليلة ، وكان لا ينام إلا في بيت فيه سراج، قال: فطفئ سراجه ذات ليلة ، فخرج هاربا فقيل له: ما شأنك ؟ قال: ذكرت ظلمة القبر.
القبر أول منازل الآخرة
فيا من أصبح يعتني بمظهر وجهه كالنساء ، ويخشى على وجهه من الشمس حتى لا يسمر وعلى شعره الملطخ بالأصباغ والمواد الكيميائية إليك:
من كان حين تصيب الشمس جبهته---أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته---فكيف يسكن يوما راغما جدثا
في ظل مقفرة غبراء مظلمة---يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به---يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
إنه الموت................ذلك الواعظ
تأمل أبو العتاهية شخصا فقال متمثلا شعرا:
يا مربي شبابه للتراب---سوف يلهو البلى بغض الثياب
يا ذوي الأوجه الحسان المصونات---وأجسامها العضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا---سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعيا صحيحا---لفراق الإخوان والأحباب
فقال أبو العتاهية : قل يا حامد ،قلت: معك ومع أبي الحسن؟قال: نعم ، فقلت شعرا :
يا مقيمين فارحلوا للذهاب---لشفير القبور حط الركاب
نعموا الأوجه الحسان فما---صونكموها إلا لعفر التراب
والبسوا ناعم الثياب ففي الحفـ---ــرة تعرون من جميع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتو---ن قد استنظروا بماء الشباب
نظر ابن مطيع يوما إلى داره فأعجبه حسنها ، فبكى ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورا ، ولولا ما يصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ، ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته.
يا أصحاب القصور المشيدة ، أذكروا ظلمة القبر الموحشة، يا أهل النعيم والتلذذ ، أذكروا هاذم اللذات ، أذكروا الدود والصديد، وبلي الأجساد في التراب.
وبكى أبو العتاهية على نفسه في مرثية فقال:
لأبكين على نفسي وحُق ليه---يا عين لا تبخلي عني بعبرتيه
لأبكين لفقدان الشباب فقد---جد الرحيل عن الدنيا برحلتيه
يا نأى منتجعي يا هول مطلعي---يا ضيف مضطجعي يا بعد شقتيه
المال ما كان قدامي لآخرتي---ما لا أقدم من مالي فليس ليه
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ولعن الله مبغضيه وكارهيه، كان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"
أما ترى الموت ما ينفك مختطفا---من كل ناحية نفسا فيحويها
قد انقضت أملا كنت تؤمله---وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم---بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا منها وما ادخروا---بين الأقارب يحويه أدانيها
فاجهد لنفسك في أيام مهلتها---واستغفر الله لما أسلفت فيها
إنه الموت...............ذلك الواعظ
وكان أبو بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه ، ولعن الله مبغضيه وكارهيه، كان رضي الله عنه يقول في خطبته: " أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب، أين الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحيطان؟ قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا في ظلمة القبور، الوحا الوحا، النجا النجا"
رويدك يا ذا القصر في شرفاته---فإنك عنه تستحث وتزعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشه---وإن غرك البيت الأنيق المدمج
ولقد علمت بأن قعر حفيرتي---غبراء يحملني إليها شرجع
تبكي بناتي شجوهن وزوجتي---والأقربون إلي ثم يصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها---تسفي علي الريح حين أودع
يسعى ويجهد جاهدا مستهترا---جدا وليس بآكل ما يجمع
حتى إذا وافى الحمام لوقته---ولكل جنب لا أبا لك مضجع
إنه الموت..............ذلك الواعظ
تزود قرينا من فعالك إنما ---قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
وإن كنت مشغولا بشيء فلا تكن---بغير الذي يرضى إلهك تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته---إلى قبره إلا الذي كان يعمل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله---مقيم قليلا عندهم ثم يرحل
آخره والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
وقبل الرمضان وقبل يوم الرحيل وقبل أن تبلغ التراقي وتلتف الساق بالساق ، أعتذر لكل من في نفسه شيء علي ، أعتذر منكم جميعا وأكرر اعتذاري لكل الإخوة والأخوات فردا فردا .
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام ، وأسأله سبحانه أن يعتق رقابنا من النيران .
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .
أخوكم ومحبكم في الله : عثمان بالقاسم
المفضلات