الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    الصورة الرمزية سـراب

    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المـشـــاركــات
    917
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,,
    رمضان مُبارك للجميع عسى أحوالكم بخير


    قصة أظنها من نسج الخيال, لها من الروعةِ ما لها, كتبها الشيخ الأديب د. علي الطنطاوي, أحببت قراءتكم لها

    .. في البداية تعريف عن كاتبها ..

    في الوقت الذي دكّت فيه الإمبراطورية العُثمانية أيما دكْ, وسقطت أراضيها جميعها, سقطت سوريا أيضًا وأصبحت مجموعة دول متناحرة, دولةً للدروز وأخرى للعلويين, وثالثهما في دمشق ورابعها في حلب !

    كان هنالك فتىً صغير يُدعى " علي الطنطاوي " يدرس في المدرسةِ حاله حال بقية الطلبة, أُعلنَ في مدرستهم عن مسيرة أستقبال المفوض الجديد الجنرال ويفان الذي حلّ محل الجنرال غورو, رفض هوَ ذلك وقال: " إن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا ولا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم "

    لله درك من فتى! أدركت ما لم يدركه الكبار، فكيف تستقبل الأمة عدوّها الذي سلبها حريتها وكيف تنسى ما قاله قائد هذا, الجنرال غورو حينما دخل الشام وزار قبر صلاح الدين الأيوبي وقال بكلّ سخرية! : " ها نحن عدنا يا صلاح الدين .. الآن انتهت الحروب الصليبية جميعها ! "

    كانت هذه بعد معركة نيسون, والتي كانت نقطة تحول في حياة الطفل " علي الطنطاوي " وأخذ منها درسًا, أن الجماهير التي ليس لديها من أدوات الحرب إلا الحماسة لا تستطيع ردّ جيشًا غازيا !

    كانت ولادة هذا الطفل في دمشق امّا وفاته فكانت في مستشفى الملك فهد بجدة, دُفن _ رحمه الله _ في مكة بعد الصلاة عليه في الحرم المكيّ.

    /

    *الردّ التالي سأكتب فيه القصة الجميلة, قصة الحُب العميق بين " هيلانة و لويس " في القدس المحتلة قبل استردادها من قِبل صلاح الدين الأيّوبي.
    التعديل الأخير تم بواسطة سـراب ; 22-8-2010 الساعة 06:43 PM

  2. #2

    الصورة الرمزية أيومي يوشيدا

    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المـشـــاركــات
    1,828
    الــــدولــــــــة
    الجزائر
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

    شكرا جزيلا أخي على هذه القصة الرائعه
    و أنا بانتظار القصة التالية
    مع تحياتي
    حفظكـ الله
    و السلامـ عليكمـ

  3. #3

    الصورة الرمزية أدولف هتلر

    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المـشـــاركــات
    62
    الــــدولــــــــة
    المانيا
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

    قصة رائعة.. بكل صراحة... لكن لدي تعليق على موضوعك..

    1/المعركة الكبرى في إسترداد القدس: أخي لا يمكن لأي أمة أن تحارب بدون تفكير ومنطق وحسن قيادة وتمسك بالأهداف.. والتمسك بسلاح العلم، لا يمكن أن تخوض الدول حربا دون كيوتشية تسبب إستنزاف الموارد والخسائر بدون فائدة...
    ركز بالله عليك على هذه النقطة.

    2/الحب: إذا أحب الإنسان شيئا فعلا وبكل مشاعره وأحاسيسه فإنه بكل تأكيد سيفعل أي شيء من أجله.
    3/البعد عن الله تعالى سبب كل بلية ومصيبة تحدث الآن.
    التعديل الأخير تم بواسطة أدولف هتلر ; 22-8-2010 الساعة 04:38 PM

  4. #4

    الصورة الرمزية وزيف

    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المـشـــاركــات
    512
    الــــدولــــــــة
    المغرب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

    و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    قصة عن القدس!..ستكون مشوقة إذن
    كنت سأنجرف مع التيار..وأقول قصة راااائعة..لكني لم أقرأها بعد!^^
    نحن بانتظارها
    في أمان الله

  5. #5

    الصورة الرمزية سـراب

    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المـشـــاركــات
    917
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الحُبّ والمعركة الكبرى في استرداد القدس .. !

    ".. هيلانة ولويس .."


    كل شيء ساكن سكون الموت مظلم ظلمة القبر ..
    ولقد أسدل الليل فروعه السود فغطى على المعركة اللافحة الأوار .. وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث وهذه الأصلاد المصبغة بالدم .. وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود .. فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان ..... فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكلال وهجعوا كالقتلى لا يحسون ولا يحلمون وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصم التي تحيط بها من كل جانب.

    وتلك هي الحرب: آفة الحياة وعار الإنسانية.
    تلك هي الحرب: تتفجر الأذهان بالعلوم والمعارف ، وتنفرج الأيدي عن الصانع والمصانع واللطائف والزخارف ، وينفق الوالدان النفس والنفيس لتنشئة أولادهم وتهذيبهم ، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة وأزهرت الفنون وتقدمت ، وارتفعت المصانع وسمت ، وأخذت الحياة زخرفها وازينت ... جاءت الحرب فأودت بذلك كله فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس فيا ويل الحرب !! ويل لها ما لم تكن دفاعا عن دين أو حياة أوشرف !!

    * * *

    كل شيء ساكن سكون الموت .. مظلم ظلمة القبر إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفروجها ضوء خافت ويسمع من جوفها همس ضعيف لو أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان القوم وتقول لصاحبة لها :
    - ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة؟ وما الذي جدد أحزانك وهيج آلامك ؟ أفزعتِ من هذه المعركة العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن " قبر..." المسيح ؟

    أم هو حزن ٌعلى لويس قد خامر نفسك ؟ ..
    لا تحزني يا هيلانة .. فقد كان مقدراً عليه هذا المصير .. ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً.
    فاصبري يا أختاه فإن لويس في السماء .. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية ؟ فلا تدعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد..

    وسكتت المرأة وعاد السكون يغمر الدنيا ومضت فترة طويلة لم يسمع خلالها نبأة..

    ولكن النور الضعيف ما لبث منبعثا من شقوق الخيمة ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف أو ميت محتضر ، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره .. فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها موحشة وهولا ... فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر وكانت في الثلاثين ولكنها لا تزال كالعهد بها فاتنة الطلعة ، لدنة العود ، بارعة الجمال .. كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت على السفوح والصخور .. وتمد البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها وتفكر في هذه الحياة المروعة التي تحياها فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور " الألب" لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحده شرقا منعطف الوادي ، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفاتنة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى.

    لقد كانت ترى من يوغل في الوادي ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلا من الأبطال.
    أما هذه الجلاميد وهذه الذرى المشرفة على القرية فلم تفكر يوما من الأيام في البحث عما وراءها ولم ترتق بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها .... فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً ؟ .. وكيف كتب عليها أن تفقد زوجها الحبيب وأن تعيش وسط الذعر والموت ؟

    واشتد بها الضيق .. وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ وصوّر لها الوهم القرية فرأتها أمامها وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير ، ويذهبوا ظمأ أجسامهم إلى الشراب وليرتووا من " العيون " الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحب ... فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة فأحسست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ على أن تكاشفه بحبها .... وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة ؟

    حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمر في موكب حياتها بهيا مشرقا ( على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات ) فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها المجلس الذي أعلن فيه مولد الحب.

    لقد كانت سعيدة في هذه القرية .. تعيش في جنة الغرام لا تعرف إلا قلبها وربها فهي تصبح فتمشي إلى كنيسة ربها ( لأنها لم تعرف بيت لله خيراً منها ) فتتوجه إلى الله بالصلاة التي حفظتها .. وتمشي فتطوف في الغابة يدها في يد الزوج الحبيب حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة.

    ***

    وكانت القرية كلها في أمن ودعة .. حتى نزل بها ذلك الرجل فنزل البلاء وهبطت المصائب وتعكرت حياتها الصافية ... كأنما هي بركة ساكنة سقطت عليها صخرة من الجبل.

    كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترتشف بقية أحلام الليل لتنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها ، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها ، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان ، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً وسبّحت السواقي فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة .. وأصاخ الجبلان وصمت الوادي .... فلم يفسد هذه الصلاة الخاشعة إلا صرخة تدوي بين الجبلين يحملها صوت مبحوح كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه فيسمع الصوت أحمر قانيا يقطر دماً وتوالت الصيحات الحمر وازدادت شدةً وهولاً فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها وأبدلتها بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّا قبيحاً.

    وذهب القوم يستقرون الصوت ويقصّونه فرأؤا قساً من القسوس مكشوف الرأس منفوش الشعر قد لبس المسوح وطفق يلقي عليهم – باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى – ما يفهمون وما لا يفهمون وكان يتكلم باكياً نادباً ناتفاً لحيته منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين ويدعو إلى إنقاذ " القبر المقدس " من أيدي " الكفرة المسلمين .... " فذهب الهياج بالعقول وأطار الأفئدة وألغت الحماسة المنطق ونسي الناس كل شيء إلا هذه النار التي قد سرت في العروق ومشت إلى الدماغ فألهبته فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون إلى إنقاذ " قبر المسيح " من أيدي" الكفرة " الذي أهانوه وحقروه.


    وصدقت هيلانة وزوجها ما قالوا لهما من أن المسلمين أكلة لحوم البشر وأنهم ذئاب الإنسانية وأنهم عدوا على المسيح .... ونهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به العابثون واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع نحو بيت المقدس.


    وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب فانفجرت باكية فأيقظ صوتها صاحبتها فخرجت تراها

    - مالك يا هيلين ؟ لماذا تبكين ؟ لم لم تنامي ؟.

    فلم تجب واستمرت تبكي فعادت ترفه عنها وتواسيها :
    ماذا عراك يا هيلانة ؟ أجيبي كلميني لا تقتلي نفسك بسكوتك.
    - لويس !!



    وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب غارقة بالدمع وعادت تبكي.

    - إصبري يا أختاه إنه في السماء .. ثم إن عندك لويس الصغير ألا تسمعين كيف يبكي ؟
    إنه ابنه يا هيلين إبن الحبيب فعيشي من أجله أريه ألوان السرور والمرح تسعد بذلك روح لويس ..
    هاك الطفل يا هيلانة ألا ترين أن بكاءك يؤلمه ؟


    فأخذت هيلانة الطفل
    تضمه إلى صدرها وهي مغمضة العينين وتقبله في عنقه الدافئ وتمرغ وجهها في صدره ثم تضع خدها على خده وهي تهمس باسم لويس كأنما تذكر به مولد الحب وقبلاته الأولى.

    * * *
    وهجعت هيلانة وصاحبتها وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة ومرت من الليل ساعات .. وعلى الجانب الأخر كان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من خيمة السلطان.

    في تلك الساعة كان هناك رجلين يتقدمان في الظلام ؛ يريدان معسكر المسلمين وهما يخطوان بحذر ويقفزان على الصخور بخفة وقد حمل أحدهما هنة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق أحاط بها يسراه وأمسك بيمناه السيف، وكانا صامتين فلما جاوزا " اليزك " أيْ الحاجز ودخلا معسكر المسلمين وأمنا وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان وقد أبقى الأول حمله على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به وقال لرفيقه :

    - ماذا ترى السلطان قائلا لنا ؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال وألا نمس الأعزل بسوء وأن ندع القساوسة ، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند ؟ أفلا يكره ما أتينا في هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه ؟
    فأطرق الثاني كأنما يفكر في غضب السلطان ويبحث عن سبيل للخلاص ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له:
    - لماذا يغضب ؟ أليس الله أباح لنا أن نرد العدوان بمثله ؟ أما بدؤونا هم بمثل هذا أول مرة وروعوا نساءنا وسرقوا أطفالنا ؟

    واطمأن الأول إلى هذه الحجة فقاما يسران حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة، فعلما أنه لم ينم ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به لأنه كان يطّلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة ، ومرت ساعة وهم واقفين فسمعا حركة ورأيا رسولا يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطيرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي ثم خرج الرسول على عجل وخرج من بعده ابن شداد معلنا أن السلطان سينام قليلا وكان ذلك في السحر فيأس الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح.

    ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان وكان صديقا له فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروعا هو أن جيشا من الصليبين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه، تفكر السلطان في الأمر ثم جمع الملوك والقادة و كانوا أبطال الحومة وسادة الجِلاد؛ ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل أوروبا ،ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه ولكن لم يكن في تلك النهاية للمعارك كلها ما يشبه هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول .. فغاضت الحماسة في نفوسهم وإن لم تنفد، أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها .

    وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان ؟ فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم ولبث وحده مهموما يفك،. قال الرجل:

    - فماذا فعل السلطان كان الله له ؟ كم يحمل وحده من الأهوال التي تخر تحتها الجبال، قال القاضي ابن شداد: - جلس يدبر أمره ويرسم خطط القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله ، فسألته أن ينام ساعة فيستريح ، فظن أنني نعست فقال لي : لعلك جاءك النوم ، ونهض ... فخرجت أمشي إلى خيمتي فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذن الصبح فعدت لأصلي فوجدته يمرر الماء على أطرافه فقال لي حين نظر إلي: ما أخذني النوم أصلاً, فقلت: قد علمت قال: من أين ؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم.

    قطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد السلطان وهي سافرة تصيح بلسان قومها وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروع فأقبل عليها يسألها ما خطبها !

    وكانت هيلانة أفاقت فلم تجد طفلها ، فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها ، وهي تعدو على غير هدى تسير في كل سبيل تسأل كل من تراه عن ولدها : أين ولدي؟ ماذا أعمل ؟ ساعدوني فتشوا لي عن ولدي... أين ذهب ؟ هل مات ؟ من أخذه ؟ أأكلته الذئاب ؟ وهل تدخل الذئاب على المعسكر ؟ أم قد سرقه اللصوص ؟

    وانطلقت تعدو في أرجاء المعسكر حتى بلغت خيمة القادة فاقتحمتها وهبطت على أقدامهم تولول وتصيح فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها. فرأى القائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين..إن الرجل شهم وشريف وفارس نبيل وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد.. وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم ير منه إلا الإكرام والإحسان خلع عليه وقدمه ورفع مجلسه وسيره إلى دمشق معززاً مكرماً فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به وصنيعه هو بمن أسرهم من قـواد السلطان.

    فسيروا المرأة إليه فانطلقت تعدو حتى تقطعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها، تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها أو يكون فيها حتفها وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر.. حتى بلغت "اليزك" فصاحوا بها : قفي, فوقفت تنظر ماذا يريدون ولم تكن تدري ما " اليزك " وما الحروب .. وما جاء بها إلا إيمانها! وجعلت تصرخ وتخاطبهم بالفرنسية : ابني ابني أيها الجند..! ردوه عليّ أريد ابني فلماذا تمسكونه ؟ لا ، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية إنني ألمح الشفقة على هذه الوجوه فلماذا لا تردون عليّ ابني ؟

    فلا يفهمون منها شيئا فتعود إلى صراخها حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فأخذته الرحمة وتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو .

    فرآها القاضي و قال لها : اذهبي مع هذا الرجل ، وأمره أن يدعها في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان وينبئه نبأها فسارت صامتة مسرعة فلما دخلوا بها إلى الخيمة ورأت الأسرى عادت تصيح فنبه صياحها الأسرى ثم استفاض حتى بلغ خيمة السلطان فبعث يطلبها، وكان في أقصى الخيمة أسير اضطرب لمّا رآها ولبث بصره عالقاً بها.. ثم انفجر بعد دقائق فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها... وراع صياحه الأسرى.

    فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعا وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له وكان يحس فيها الشكر الخالص لما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطويلة التي قضاها أسيراً عنده, ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها قد ردّ إليها وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر، ثم رآها تنهض فلم يعد يتمالك نفسه فأسرع نحوها على غير شعور منه.

    فلما رآه الطفل هتف به: بابا..
    ووقع بين ذراعيه ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما ترى وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم ثم صاحت : لويس أنت حيّ !

    ولما تلـــفّت السلطان وجدهما جاثين بين يديه يحاولان شكره.

    فقال لهما: إنا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا.
    قالت المرأة: أدينك يأمرك بهذا ؟
    قال: نعم فإن الإسلام رحمة للعالمين للإنسانية كلها ..
    قالت: أتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة.. تحب أن تسعد وتحيى بسلام في ظلال الإسلام؟
    فتهلل وجه السلطان وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء
    قالت: كيف أغدو مسلمة ؟
    قال: تشهدين أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله.
    فنطقت بها وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة، وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو والقرية الهادئة.

    - أواه يا هيلانة ! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جنابتها ونما واكتمل؟
    - لا يا لويس إنا لن نعود إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة فإنه قد بعث هنا بعد ما مات، هنا عدت إلى نفسي ، وهنا عرفت الله وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية.. فلنبق هنا يا لويس..
    أليست هذه الأرض التي ولد فيها المسيح ؟ إننا لم نخسر المسيح ولكننا ربحنا معه محمداً !



    وتقدم الجيش الإسلامي بعد ساعة يمشي إلى الظفر مكبراً مهللاً وكان لويس المسلم في طليعة ذلك الجيش!

    /

    من كتاب " قصص من التاريخ " للأديب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -
    التعديل الأخير تم بواسطة سـراب ; 23-8-2010 الساعة 02:51 AM سبب آخر: شكرًا لمن أخبرني :)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...