رثآاء المشيب،،
خلف الأسوار جلس القرفصاء..افترش ركناً في الظلمة قصيا ..على رفاتِ شمع ذبول يبكي بين قبور الليل ..يبصر مداد فراغ أمامه ،،
يتراقص لهيب الشمعة على حاجيات هنَّ له سِراجا..نُثرت مجلسه..وريقة متجعدة الثنايا ،قلمٌ فوق صفحتها مُلقى،ينزف في سكونٍ حبره..بقايا كتبٍ تراصت بعضها فوق بعض ؛مهترئة صفحاتها..ذابلة جلودها..شوهاء البريق طياتها،،
ندت منه تحت أستار الظلمة حركة..اتكأ بمرفقيه،وشبك كفان فطر راحتيهما المشيب،وأراح عليهما رأساً أحالتها تواتر السنون ،وتثاقل الهموم بيضاء..تنهيدة لا فحة صدره وُلدت جائلة حياة الظلماء ..يتنا هى إلى إذنٍ عليلة صوت قطراتٍ مياه تدافع إحداها تاليتها ..اقتطعت لها من جيد الظليل حِضنا..ومضت من رحمها تسقيه فراتاً..تصنع له من رقعتها مرآة..تعكس زجاجيتها وجهاً..حفرت فيه معاول الدهر أخدايدا..وعينان دعجاء كليلة ..أطفأ أنواؤهما البكاء ،،
ذاكرة أسقمتها الأيام..ذكرى مع مضي ضحى وآصالٍ تخبو..فؤاد فلقه قرب المنية شظايا..روحٌ بالداخل تقبع،تنظر..لربها تسليماً،،
عالِمٌ هو أن باقٍ بينه وبين القبر خطوة فسواها هباءً..دقيقة أو ثانية هما بينهما فيصل...ساقان إحداهما تتأهب للرحيل ،على مشارف الدنيا تتوكأ،والأخرى واراها ثرى المماتُ،،
آنٍ يسير من بعده يضحى كيانه رُفاتا،"جثة ماتت فيها أنفاسها"..هكذا وجد نفسه كلما أبصرها،،
هنا..أرسل إليه الليل قطعاً من جوفه ..شطرا من ضيِّ بدره..يضيء فراغ سجنه،وعلى أرضه الباردة ترسم ظلالاً سوداء..فضاء خالٍ..إلا من بقاياه.وحطاماً بُعثر أمامه،كم من الزمن مرَّ عليه وهو في مجلسه هذا؟!!..
يطالع كتبه..ويحشد الكلمات في أوراقه ..هدير ذكرى الأمس..بضاعة احتواها ماضٍ بعيد..عبَرات وأدمعا..نفحات رواها المهدُ..سقاها الصبي..لفظها الشاب..ذكاها الرجل..فاحتواها المشيب،،
غصةٌ اعترته تجرح حلقه..تجرعه مرارة الحسرات..تطرح سؤلها؛"يا أيها المسكين الكسير..ماذا جنيتُ في دنياك؟!!..لمَ هكذا فعلتَ؟!..لمَ كذا هناك افريتَ؟!!....فلَبرزخٌ أنت عليه مقبل..فلَعفرٌ فرشك سبيتُ..ولَأفاعيلٌ عليها أنت محاسب!!"..
يبكي في صمتٍ يبوح ..تنحدر دمعاته من وجهٍ كظيم..يُجهش قلبه..تستوطنه الأشجان..وتسوَد من بعد بياضٍ روحه،،
هاهو ذا قد رُد إلى أرذل العمر .. هاهو ذاقد صار لا يعلم من بعد علمٍ شيئا ..عجوزاً سقيما..الشيب كاسٍ شعره..السويداء قابضة قلبه..العجز غاشٍ جسده..ورمضاءً معتلية روحه..حقاً إن الإنسان جهولا ،،
ثم وبكف تتلاعبُ الرجفة بأصابعها..يتناول قلمه..وككل ليلة..يبدأ نزف كلماتاً..يلطخ بدمائها وريقته..ويندب أتراحه بسيل حبرٍ..ولتعود..دوامة الصمتُ..تبتلع جدران سجنه..تطويه صحائف النسيان,,وتحيله إلى عالمِ بلا ألوان..عالم.."أتراح الأزمان"..وليبدأ ...."رثآاء المشيب"،،
وبعد حينٍ لا فارق بين يسيره وكثيره،تنفس صبح حبيسه..وقُبضت روح ساكنه..رحل أنيسٌ له حِبَّا..وخلفت اليدان من ورائهما كتباً ..بضع صفحاتٍ..تذكر اسم ساردها عمرا..عقود عجْسدٌ..تعرج بناظمها..سموات الرقيِّ!!
المفضلات