عشر ذي الحجة : فضائلها و العمل فيها .. و أعمال غير الحاج
الحمد لله ذي الجلال و الإكرام .. له ملك السماوات و الأرض ثم إليه تُرجعون ..
و الصلاة و السلام على مبعوثه الأكرم .. و مخلوقه الأعظم .. محمد بن عبد الله عبده و رسوله و خليله حبيبنا و قرة أعيننا - صلى عليه و آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين - ..
أما بعد ..
فكما أن خير الليالي و أعظمها كانت لياليَ العشر الأواخر من رمضان .. فخير الأيام هي أيام العشر الأوائل من ذي الحجة ..
و عشر ذي الحجة قد حازت بين سويعاتها و خفقاتها أفضل الفضائل و أعلى المكرمات ..
و يكفيها شرفًا و كرامةً إقسام الله - عز و جل - بها في سورة الفجر إذ قال - جل من قائل - :
" وَلَيَالٍ عَشْرٍ " ( الآية 2 )
كما روي أنها عشر ذي الحجة ..
و قد روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما و أرضاهما - عن النبي - صلى الله عليه و سلم - :
" ما العمل في أيام أفضل منه في ذي الحجة ، ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه و ماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء " ( صححه الألباني )
و في رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه و أرضاه - :
" ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشرذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر " ( حسنه ابن حجر - رحمه الله - )
و قد قالوا في فضلها أنها اجتمعت فيها أمهات العبادة ..
فالصلاة و الصيام و الصدقة و الحج ..
و ما اجتمع ذلك في غيرها ..
فحريٌّ بالمؤمن إذ يعلم هذا أن يعد لها العدة و يشحذ لها الهمة و يصفي النفس و يطهر القلب ..
و من أهم ما يُذْكَر في استقبال هذه العشر :
* أن يضع أولاً في قلبه تعظيمها و إكبارها .. فهذه العشر هي موسم للتقرب إلى الله و الوفود إليه من أقاصي الأرض و أدانيها ..
و عليه أيضًا أن ينوي و يُضْمِر - مستعينًا بالله - تعالى - - أن يجتهد فيها بالعبادة طلبًا لرضوانه الله و كرمه في هذه العشر ..
و من أقبل على الله - عز و جل - أقبل عليه .. و من صدقه صدقه .. و من تقرب إليه تقرب إليه أكثر ..
كما في الحديث :
" يقول الله : من تقرب إليه شبرًا تقربت إليه ذراعًا ، و من تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا ، و من أتاني يمشي أتيته هرولة " ( صحيح )
و الله - عز و جل - حيي كريم .. لا يخيب من رجاه و لا يضل من دعاه و إليه لجأ و به لاذ ..
كما في الحديث عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه و أرضاه - عن النبي - صلى الله عليه و سلم - :
" إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا ( أي خاليًا ) " ( صحيح )
و الباب في هذه العشر مفتوح على مصراعيه لأبواب الخيرات و القربات ..
*فعلى المؤمن أن يحافظ فيها - في المقام الأول - على الفرائض و الواجبات - كالصلاة لوقتها - ..
*و بعد ذلك جدير به أن يستكثر من النوافل ..
فيأتي بالسنن الرواتب و غيرها من نوافل الصلوات .. كالأربع قبل الظهر و بعدها و قبل العصر و الاثنتين قبل المغرب و العشاء .. و قيام الليل و الوتر ..
* يلي ذلك الصدقة .. و الإنفاق في سبيل الله قرين الصلاة ..
قال الله - تبارك و تعالى - :
" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ " ( سورة البقرة - الآية 3 )
و أيضًا :
" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " ( سورة النمل - الآية 3 )
و أيضًا :
" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " ( سورة لقمان - الآية 4 )
و كل تلك الآيات و غيرها في مواضع الثناء على المؤمنين .. مما يدل على فضلهما - الصلاة و الإنفاق في سبيل الله - و عظمتهما ..
فهما في هذه العشر من أحرى ما يكونان .. إذ يحبهما الله فيها ما لا يحبهما في غيرها ..
* ثم بعد ذلك يأتي الصيام ..
و قد قال الإمام النووي - رحمه الله - أن الصيام في هذه العشر مستحب استحبابًا شديدًا ..
كما أن الصيام يحوي فيه من الخير الكثير .. فالصائم مأجور حتى بدون عمل .. و الصائم إذا صام حريّ به أن يحسن الخلق و يجود نفسه و يوسع صدره ..
و كل هذا مطلوب في هذه العشر ..
و مثل ذلك مثل كل عمل صالح ..
و على ذلك .. فالمؤمن في هذه العشر عليه أن لا يضيع ساعة واحدة من هذه العشر ..
* فيعمر أوقاتها فيها بالتسبيح و التحميد و التهليل و التكبير ..
إذ في الحديث الصحيح :
" أحب الكلام إلى الله أربع : " سبحان الله " و" الحمد لله " و" لا إله إلا الله " و" الله أكبر " ، لا يضرك بأيهن بدأت ، و هن من القرآن "
* و أيضًا قول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير " ..
كما في الحديث الذي حسنه الألباني :
" و خير ما قلت أنا و النبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ... "
و في هذه العشر يبدأ التكبير المطلق .. و التكبير هذا لا يكون جماعيًّا - فهذا لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه و سلم - .. و يجهر فيه الرجال حتى يصبح فيهم معلنًا ظاهرًا .. و تخفض به النساء أصواتهن ..
و أما يوم عرفة :
فمن فضله أنه أحد أيام الأشهر الحرم و أحد أيام أشهر الحج و أحد العشر الأوائل و أنه فيه أكمل الله الدين و أتم النعمة بفضله و رحمته ..
و قد ورد في ذلك أحاديث :
أن الرسول - صلى الله عليه و سلم - عندما سئل عن صومه فقال :
" يكفر السنة الماضية و السنة القابلة " ( صحيح مسلم )
و قوله - صلى الله عليه و سلم - :
" يوم عرفة و يوم النحر و أيام منى عيدنا أهل الإسلام " ( صححه الألباني و رواه أبو داود )
" خير الدعاء دعاء يوم عرفة " ( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة )
" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة " ( صحيح مسلم )
" إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء " ( رواه أحمد و صححه الألباني )
" الحج عرفة " ( متفق عليه )
و عن صيامه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الناس شكوا في صيامه له ، فأرسلت إليه أم الفضل لبابة بنت الحارث أو ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها و أرضاها - إناء فيه لبن فشرب و الناس ينظرون ( صحيح )
فهذا يدل على أن الحاج لا يصومه ليتقوى على الوقوف بعرفة و الدعاء ... و لأنه عيد لأهل الموقف ..
أما غير الحاج فيصومه صيامًا مستحبًّا استحبابًا شديدًا كما سلف ..
و يُجتهَد فيه بالدعاء ..
و بعد ذلك يأتي عيد الأضحى يوم النحر يوم الحج الأكبر و أيام التشريق :
التي قال عنها رسول الله - صلى عليه و آله و صحبه و سلم - :
" أيام التشريق أيام أكل و شرب و ذكر لله عز و جل " ( صحيح )
و ذلك أنها عيد كما ذُكِر في حديث سابق ..
نسأل الله أن يجعل حج كل من يحج عامنا هذا حجًّا مبرورًا مشكورًا و أن يخرج الحجيج من ذنوبهم طاهرين أتقياء أنقياء و أن يلزمهم المحجة البيضاء و جميع المسلمين .. و أن يردنا إليه مردًّا جميلاً غير مخزٍ و لا فاضح ..
إنه هو الحي القيوم و هو أرحم الراحمين ..
و أن يوفقنا أجمعين لما يحب و يرضى في هذه العشر و فيما قبلها و ما بعدها و أن يجمعنا على البرّ و التقوى و أن يعصمنا بحبله ..
هو حسبنا و نعم الوكيل .. و هو القوي العزيز ..
هذا ما يسر الله و قدر .. نسأل الله أن يتقبل من الجميع و يغفر لنا و يسامحنا و يعفو عنا بكرمه و فضله و رحمته التي وسعت كل شيء ..
و الحمد لله ما بقي .. و صلى و سلم على سيد الأبرار و أكرم الأطهار محمد بن عبد الله مصطفاه المختار و على آله و صحبه و الذين اتبعوهم بإحسان ..
المفضلات