[منقول] بَـسْ دقـــــيـقة "

[ منتدى اللغة العربية ]


النتائج 1 إلى 10 من 10
  1. #1

    الصورة الرمزية روَاء

    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المـشـــاركــات
    896
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Arrow [منقول] بَـسْ دقـــــيـقة "


    مذكرات مغترب

    "بَسْ دقيقة"


    بقلم محمد عبد الوهاب جسري





    كنت أقف في دوري على شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 330 كم، وكانت أمامي سيدة ستينية قد وصلت إلى شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً. فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع. قلتُ لها: هذا يورو وأعطها البطاقة. وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.

    اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالت لي بصيغة الأمر: احمل هذه... وأشارت إلى حقيبتها.

    كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل. بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة، ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور.

    حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة وأقسم بأن يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادة الآن! لكن السيدة منعتني و جلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف، فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي وتحدق فيه، وطالت التفاتتها دون أن تنطق ببنت شفة وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها، فالتفتُ إليها.

    عندها تبسمتْ قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك.

    - صبري على ماذا؟

    - على قلة ذوقي. أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر.

    - لا أظنك تعرفين، وليس مهماً أن تعرفي.

    - حسناً، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغول كيف سأرد لك الدين.

    - الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك.


    - عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لك اليورو، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك؟

    - هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي؟

    - إنها حكمة. أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة.

    - وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟

    - لا، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أرد به دَيني.


    أخرجتُ اليورو من جيبي ووضعته في يديها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها. لا زالت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي. مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها.

    أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت: أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحد زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنه ممنوع. أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك. الموضوع ليس مادياً. ستقول لي بأن المبلغ بسيط، سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير.

    قاطعتُ المرأة مبتسماً: أتوقع بأنك ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ؟ أين الحكمة؟

    - "بَسْ دقيقة".

    - سأنتظر دقيقة.

    - لا، لا، لا تنتظر.
    "بَسْ دقيقة"... هذه هي الحكمة.

    - ما فهمت شيئاً.

    - لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال؟

    - ربما.

    - سأشرح لك:
    "بس دقيقة"، لا تنسَ هذه الكلمة. في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر به وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية.
    هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية؟
    في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرة، ولكن بشرط.

    - وما هو الشرط؟

    - أن تتجرد عن نفسك، وتُفرغ في دماغك وفي قلبك جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجها معالجة موضوعية ودون تحيز
    فمثلاً: إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً.
    دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن هواك.
    دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة قوم بأكملهم...
    هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟

    - صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.

    - تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.


    أعطتني اليورو. تبسمتُ في وجهها واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة، لأنتهبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة: هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب واحد يورو من أحد.

    - حسناً، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة يورو؟

    - سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً.

    علتْ ضحكتُنا في الحافلة وأنا أُمثـِّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي وهي تمسك بيدي قائلة: اجلس، فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً!

    وأنا أقول لها: "بس دقيقة"، "بس دقيقة"...

    لم أتوقع بأن الزمن سيمضي بسرعة. كانت هذه الرحلة من أكثر رحلاتي سعادة، حتى إنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة عندما وصلنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً.


    قبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد. فأعطيتها جوالي لتتصل. المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على الجوال، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن 10 يورو، والثانية منها تقول فيها: كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك. إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك. فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية لكنني لم أتجرأ أن أقولها لك، أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.

    "بس دقيقة"... حكمة أعرضها للبيع، فمن يشتريها مني في زمن نهدر فيه الكثير الكثير من الساعات دون فائدة؟
    --




  2. #2

    الصورة الرمزية طَيْفْ

    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    المـشـــاركــات
    3,603
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    آآآه "بس دقيقة" قلبت حياتي رأسًا على عقب..
    دقيقة اتخاذ القرار.. تليها ساعات، إما ندم.. أو رضى..
    وليتنا نقدّر قيمة الدقائق..!

    شُكرًا لكِ.. موضوع جميل حقا!
    لديكِ ذائقة رائعة
    إلى اللقاء!

  3. #3


    تاريخ التسجيل
    Nov 2009
    المـشـــاركــات
    308
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    رائعة اعجبتني بصدق ..

    هناك سؤال اود ان اطرحه :

    هل القصة حدثت ام انها من نسج خيال الكاتب ؟؟

    خالص تقديري واحترامي لكِ ..

    حفظكِ الله ..

  4. #4

    الصورة الرمزية روَاء

    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المـشـــاركــات
    896
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طَيْفْ مشاهدة المشاركة
    آآآه "بس دقيقة" قلبت حياتي رأسًا على عقب..
    دقيقة اتخاذ القرار.. تليها ساعات، إما ندم.. أو رضى..
    وليتنا نقدّر قيمة الدقائق..!

    شُكرًا لكِ.. موضوع جميل حقا!
    لديكِ ذائقة رائعة http://images.msoms-anime.net/images...3410897571.gif
    إلى اللقاء!

    أحسنت..
    بل الشكر والتقدير لمرورك وذائقتك أنت..
    لا تحرمينا من هذا الشرف..
    دمت بخير







  5. #5

    الصورة الرمزية روَاء

    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المـشـــاركــات
    896
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مدمنة قراءة مشاهدة المشاركة
    رائعة اعجبتني بصدق ..

    هناك سؤال اود ان اطرحه :

    هل القصة حدثت ام انها من نسج خيال الكاتب ؟؟

    خالص تقديري واحترامي لكِ ..

    حفظكِ الله ..




    جميل أنها أعجبتك..

    بالنسبة لسؤالك: لا أعلم إن كانت من نسج خيال الكاتب أم أنها واقعة

    حاولت البحث في الشبكة عن شيء لسيرته الذاتية
    فلم أجد سوى كتاباته في عدة منتديات سورية وعضويته هي ذاتها اسمه بالكامل

    هذه القصة هنا تحمل الرقم تسعة من أصل عشرة في سلسلة مذكرات مغترب وله كتابات أخرى مختلفة

    شكرا لتقيمك ومشاركتك



  6. #6

    الصورة الرمزية روَاء

    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المـشـــاركــات
    896
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    أسعدني جدا مروركم جميعا .. من شكر أو شارك أو اكتفى بالمشاهدة

    لكم جزيل الشكر

    نفعني الله وإياكم وسدد خطانا لكل خير.. آمين


  7. #7

    الصورة الرمزية %jood%

    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المـشـــاركــات
    442
    الــــدولــــــــة
    الامارات
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    بصراحة حكمة رائعة ،، بالفعل عند الانتظار لفترة بسيطة تكون بدون التفكير بالذات و بالابتعاد عن الانانية يمكن أن تنقلب الموازين و تقلب الحياة الى الافضل ،، أشكر بالفعل ..

  8. #8

    الصورة الرمزية هالة

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,808
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    ياالله لَكَم أحب هذا النوع من القصص ^__^

    "بس دقيقة"... حكمة أعرضها للبيع، فمن يشتريها مني في زمن نهدر فيه الكثير الكثير من الساعات دون فائدة؟

    رائعة رائعة بحقّ ..
    شكرا جزيلا لك رواء على إفادتنا بهكذا موضوع
    لم تستغرق منا قراءته سوى دقية واحدة^^
    شوقتني لقراءة كل السلسلة لهذا الكاتب ..
    بارك الله
    فيك

  9. #9

    الصورة الرمزية Fifa san

    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    المـشـــاركــات
    6,249
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    نعم دقيقة واحدة قد تفصل المرء بين الخير والشر

    بين الحياة والموت

    بين اللحاق بالقطار وعدم اللحاق به

    قصة رائعة بحق

    استفدت منها أمور كثير

    شكرا لك على نقلك الرائع

    حفظك المولى من كل شر

    في أمان الله

  10. #10

    الصورة الرمزية أفنـــان

    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المـشـــاركــات
    135
    الــــدولــــــــة
    اليابان
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: بَـسْ دقـــــيـقة "

    هذا الموضوع جميل جدا
    ومفيد للغاية مشكورة أختي رواء


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...