الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً اللهم صلى على سيدنا محمد الذى صليت عليه قبل أن يصلى عليه أحد من العالمين ، وشرفت الصلوات بالصلاة عليه ، فاسعدت من صلى عليه من المخلوقين ،وأرسلته للخلق رحمة من حيث قولك المبين (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين)
أولاً: متن القصة

رُوِيَ عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لقمان كان عبدًا كثير التفكر، حسن الظن، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله تعالى، فمنَّ عليه بالحكمة ونُودي بالخلافة قبل داود عليه السلام، فقيل له: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق؟ قال لقمان: إن أخبرني ربي عز وجل قبلت، فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني، وعصمني، وإن خيرني ربي قبلت العافية ولم أسأل البلاء، فقالت الملائكة: يا لقمان، لِمَ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، فيُخذل أو يُعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ، أخطأ طريق الجنة، ومن يكون في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفًا ضائعًا، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة، فعجبت الملائكة
من حسن منطقه، فنام نومة فغط بالحكمة غطًّا، فانتبه فتكلم بها.


ثم نودي داود عليه السلام بعدُ بالخلافة، فقبلها ولم يشترط شرط لقمان فأهوى في الخطيئة، فصفح عنه وتجاوز.
وكان لقمان يؤازره بعلمه وحكمته، فقال داود عليه السلام: «طوبى لك يا لقمان، أوتيت الحكمة فصُرفت عنك البلية، وأوتي داود الخلافة فابتلي بالذنب والفتنة». اهـ.

ثانيًا: التخريج

الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ح437) قال: حدثنا عبد الكريم عن نوفل بن سليمان عن مالك بن أنس رفعه إلى مسلم الخولاني به.

وأورد هذه القصة الإمام السيوطي في «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» (5/161) قال: «أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لقمان كان عبدًا كثير التفكر». الحديث.

فائدة هامة

قد يتوهم البعض أن الترمذي الحكيم هو الترمذي صاحب السند فيعزو الحديث إلى الترمذي. والذي عليه أصحاب الصنعة أن العزو للترمذي مطلقًا هو عزو إلى الترمذي صاحب السنن، وقد وقع في هذا الوهم أحد الفقهاء المشهورين، رحمه الله، وعفا الله عنا وعنه، وسنبين ذلك – إن شاء الله – عند ذكر القصة التي وقع في تخريجها هذا الوهم في الأعداد القادمة تحت هذه السلسلة، ومن لا دراية له بهذه الصنعة يحسب أن هذا الأمر هيّن، ولكن عند التخريج والتفريق يجد أن هذا الأمر عظيم يُخفي علة القصة الواهية الباطلة، فيجب على طالب هذا العلم أن يعرف مناهج المحدثين فيستبين له التخريج:
1- فالعزو للترمذي: هو عزو لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي صاحب «السنن»، مات سنة 279هـ كما في «التقريب» (2/198).
2- أما العزو للترمذي الحكيم: هو عزو لأبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشير الترمذي المعروف بالحكيم صاحب «نوادر الأصول» كما في «اللسان» (5/348، 1033/7818).

ثالثًا: التحقيق

هذه القصة واهية منكرة، وهذا سند واهٍ جدًا، وعلته نوفل بن سليمان.

1- أورده الدارقطني في «الضعفاء والمتروكين» (553) وقال: «نوفل بن سليمان الهُنّائي».
قلت: وذكر اسم الراوي من غير صفة من مراتب الجرح، فيظن من لا دراية له بمناهج المحدثين في الجرح والتعديل أن الإمام الدارقطني سكت عنه، ولكن مَن الحديث صناعته يعلم أن من أثبت اسمه في كتاب «الضعفاء والمتروكين» للدارقطني فهو ضعيف شديد الضعف كما هو مبين في مناهج المحدثين الذين جاوروا الإمام الدارقطني؛ حيث قال الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني: «طالت محاورتي مع أبي منصور إبراهيم بن الحسين بن حَمَكان لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث، فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات». كذا في بيان المنهج في مقدمة الكتاب.
قلت: وبهذا يتبين أن نوفل بن سليمان الهنائي متروك باتفاق الأئمة: البرقاني، وابن حمكان، والدارقطني.

2- وأحاديثه منكرة غير محفوظة.
فقد أورده الإمام ابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (7/61) (36/1989) وقال: «يحدث محمد بن نوفل هذا بأحاديث غير محفوظة».

3- قال ابن أبي حاتم في «العلل» (5/118) ح(1582): «سألت أبي عن حديث محمد بن أمية الساوي عن نوفل بن سليمان الهُنائي عن عُبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بِعُسْفَان فقال: «لقد مر بهذه القرية سبعون نبيًا ثيابهم العباء ونعالهم الخوص»؟ فسمعت أبي يقول: «هذا حديث موضوع بهذا الإسناد، ونوفل بن سليمان هذا ضعيف الحديث».
قلت: الحديث الموضوع: هو الكذب المختلَق المصنوع وهو شر الضعيف وأقبحه. كذا في «تدريب الراوي» (1/274).
4- قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/1/488) (2237): سألت أبي عن نوفل بن سليمان الهنائي فقال: «ضعيف الحديث».
5- نقل الإمام الذهبي في «الميزان» (4/281) (9147) أقوال هؤلاء الأئمة وأقرها.
6- ونقل الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (6/210) (123/886) ما نقله الإمام الذهبي في «الميزان» عن أئمة الجرح والتعديل في نوفل، وزاد عليه حيث قال: «وذكره الخليلي في «الإرشاد»، وقال: روي عن عبيد الله بن عمر أحاديث لا يتابع عليها، وأحاديثه تدل على ضعفه». اهـ.
قلت: وبهذا يتبين أن نوفل بن سليمان الهُنَّائي متروك أحاديثه منكرة غير محفوظة لا يُتابع عليها.
فالقصة واهية خبرها مردود بالطعن في الراوي وأيضًا بالسقط في الإسناد، حيث قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/473): «أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي عابد من الثانية، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه». اهـ.

رابعًا: هفوة الحكيم الترمذي

1- قال الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (8/581) (2595): «الحكيم الإمام، الحافظ، العارف، الزاهد أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر الحكيم الترمذي، كان ذا رحلة ومعرفة، وله مصنفات وفضائل».

2- وقال: «له حكم ومواعظ وجلالة لولا هفوات بدت منه».
قلت: وهذا من أدب الإمام الذهبي عند كلامه على الأئمة الحفاظ حيث قال: لولا هفوة بدت منه. وهذه العبارة تدل على توقٍّ زائد وتحرٍّ بليغ من الإمام الذهبي عند كلامه على الأئمة.

وقد يسأل سائل: ما هذه الهفوة التي بدت من الحكيم الترمذي؟ وكنت لا أريد بيان هذه الهفوة لولا أمور مهمة تقتضي بيانها:
أ- الأمانة العلمية.
ب- ذكرها من هو أفضل مني من الأئمة الحفاظ الإمام الذهبي والحافظ ابن حجر، ولولا ذلك ما ذكرتها.
جـ- كان لهذه الهفوة التأثير في منهج الحكيم الترمذي فأخرج الكثير من الأحاديث التي تؤيد هذه الهفوة، بل صنّف فيها التصانيف، فكان لا بد من بيانها لبيان منهج الحكيم الترمذي عند ذكر مناهج المحدثين.
د- إطلاق الإمام الذهبي كلمة «هفوة» على أمر عظيم رُمِيَ به إمام حافظ يدل على تحرٍّ بليغ في رمي شخص بكفر فضلاً عن إمام حافظ، وهذا يدل على توق زائد من الإمام الذهبي في أمر يقتضي توافر شروط وانتفاء موانع.

خامسًا: «بيان الهفوة»

نقل الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (8/582) (2595): عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: «أخرجوا الحكيم من ترمذ وشهدوا عليه بالكفر، وذلك بسبب تصنيفه كتاب «ختم الولاية» وكتاب «علل الشريعة»، وقالوا: إنه يقول: «إن للأولياء خاتمًا كالأنبياء لهم خاتم، وإنه يُفَضِّل الولاية على النبوة، واحتج بحديث: «يغبطهم النبيون والشهداء»، فقدم بلخ، فَقَبِلُوه لموافقته لهم في المذاهب».

ثم نقل الذهبي عن السلميِّ الردَّ على أهل ترمذ الذين أخرجوا الحكيم الترمذي، وأنه كان معذور بالتأويل، فقال السلمي: «هُجِر الحكيم الترمذي لتصنيفه كتاب «ختم الولاية» و«علل الشريعة»، وليس فيه ما يوجب ذلك ولكن لبعد فهمهم عنه».
قلت: والإمام الذهبي عندما ينقل عن السلمي دفاعه عن كتابي الحكيم الترمذي «ختم الولاية»، و«علل الشريعة» ليس معنى ذلك أنه يقر دفاع السلمي يظهر ذلك من قول الإمام الذهبي أنه كما تُكلم في الحكيم الترمذي لتصنيفه كتاب «ختم الولاية» و«علل الشريعة»، وهذا نص كلام الإمام الذهبي الذي ختم به ترجمة الحكيم الترمذي في «سير أعلام النبلاء» قال: «كذا تُكلم في السلمي من أجل تأليفه كتاب «حقائق التفسير» فيا ليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاجية، والشطحات البسطامية، وتصوف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى: }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (الأنعام:153).

سادسًا: قول الحافظ ابن حجر

في الحكيم الترمذي:
قال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (5/348) (1033/7818): «محمد بن علي بن الحسن بن بشر الترمذي المعروف بالحكيم أبو عبد الله، قال ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد: كان إمامًا من أئمة المسلمين، له المصنفات الكبار في أصول الدين ومعاني الحديث، وقد لقي الأئمة الكبار وأخذ عنهم وفي شيوخه كثرة، وله كتاب «نوادر الأصول» المشهور».


ثم نقل عن السلمي: «قيل إنه هُجر بترمذ في آخر عمره بسبب تصنيفه كتاب «ختم الولاية» و«علل الشريعة» قال: فحمل إلى بلخ فأكرموه لموافقته لهم في المذهب، يعني الرأي.. ثم قال: «ومما أنكر عليه أنه كان يفضل الولاية على النبوة، ويحتج بحديث «يغبط به النبيون»، قال: لو لم يكونوا أفضل لما غبطوهم.
قلت: والحديث ثابت أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في «السنن» (ح2390) كتاب الزهد باب (53) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
واحتجاج الحكيم الترمذي أبي عبد الله بهذا الحديث على تفضيل الولاية على النبوة، وقوله: لو لم يكونوا أفضل لما غبطوهم: احتجاجٌ مردودٌ وفهمٌ بعيد من اعتقاد أهل السنة والجماعة الذي بيَّنه الحافظ الكبير محدث الديار المصرية في «العقيدة الطحاوية» (98) قال: «ولا نفضِّل أحدًا من الأولياء على أحدٍ من الأنبياء – عليهم السلام – ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء». اهـ.
والإمام الطحاوي ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة رحمه الله رحمة واسعة، قال الحافظ ابن كثير عنه: «صاحب المصنفات المفيدة والفوائد العزيزة، وهو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة». اهـ.

سابعًا: التأثير على منهج الحكيم الترمذي

لقد نقل الحافظ ابن حجر في «اللسان» عن القاضي كمال الدين بن العديم تأثير رأي الحكيم الترمذي في الولاية على منهجه في الحديث، فقال الحافظ ابن حجر «ذكره القاضي كمال الدين بن العديم، صاحب تاريخ حلب في جزء له، قال فيه: هذا الحكيم الترمذي قالوا: إنه أدخل في علم الشريعة ما فارق به الجماعة، وملأ كتبه الفظيعة بالأحاديث الموضوعة، وحشاها بالأخبار التي ليست بمروية ولا مسموعة، وعلل فيها جميع الأمور الشريعة التي لا يعقل معناها بعلل ما أضعفها وأوهاها». اهـ.

قلت: لذلك نجد في هذه القصة الواهية الباطلة يحاول أن يأتي بهذا الخبر غير المحفوظ ليوافق رأيه في تفضيل الولاية على النبوة، والذي نسب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فأهوى داود في الخطيئة، فصفح عنه وتجاوز، وكان لقمان يؤازره بعلمه وحكمته، فقال داود عليه السلام: «طوبى لك يا لقمان، أُوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية، وأوتي داود الخلافة فابتلي بالذنب والفتنة». اهـ.
قلت: ولقد بينا من التخريج والتحقيق أن القصة واهية.

والمتن موضوع وعلامات الوضع ظاهرة عليه، فختام القصة يدل على أن المتن مختلق مصنوع لأمرين:
الأول: نسبة القول لداود عليه السلام: «طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصُرفت عنك البلية وأُوتي داود الخلافة فابتلي بالذنب والفتنة».
هذا خبر منكر لا يصح، فظاهره أن الله تعالى أعطى داود عليه السلام النبوة وحرَمه الحكمة.

وهذا مخالف لنص القرآن الكريم قال الله تعالى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (البقرة:251).
الآخر: ما نسب إلى داود أنه قال: «وأوتي داود الخلافة فابتلي بالذنب والفتنة». هذا قول باطل؛ حيث جعلوا ذنب داود عليه السلام الوقوع في فتنة امرأة أوريا، وعند داود عليه السلام تسع وتسعون امرأة، ومن إفكهم جعلوها تفسيرًا لقول الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ (ص:23)، ولقد قمت بالرد على هذه الفرية في أكثر من مائة وخمسين سطرًا في سلسلة «تحذير الداعية من القصص الواهية»، وحفظ الله نبيه داود في مقام العبودية، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (ص:17).
والحمد لله رب العالمين.