روايتي الأولى (آدم)

[ منتدى قلم الأعضاء ]


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 22
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي روايتي الأولى (آدم)

    (الفصل الأول)

    كان ليل المدينة مشرقاً كالنهار ،فقد أضيئت سبلها بمصابيح صفراء قوية ،وشرّعت متاجرها الأبواب لكل سائح ،وانتقل الناس الراكبون من أطرافها حتى الوسط ،واجتمعت أنفاسهم وأبواق سياراتهم في مكان واحد ،وارتفعت أصواتهم تصرخ وتبكي..وتغني وتضحك ،في ليلة الحشر الصغرى. كانت مقاييس الحرارة في سياراتهم تشير إلى درجة غير عادية ،عجزت أجهزة التكييف على تبديدها ،فخلع نفر منهم بعض ما يستر بدنه ،وركن أكثرهم مركبته جانباً ،وكان بوسع من رآهم أن يلحظ احمرار وجوههم والعرق الذي يغشى جباههم ،من خلف زجاج نوافذهم التي انعكست عليها أضواء الطريق الفاقعة. كانت السماء خالية من النجوم..ولم يكن القمر حاضراً أيضاً ،فكان البشر وحيدين في ليلتهم المظلمة ،التي صنعوا لها شمساً لم ترشد حيرتهم ،ولا ءانست وجودهم ,ولم تكن لترحمهم.
    كان يعبر الشارع على قدميه ،شيخ كبير ،يحمل بين يديه نسخة وحيدة من كتاب عريق ،كان بطيء الخطى يترنح في مشيته ،ويتوكأ على عكاز ثخين ،وكانت مصابيح السيارات تسطع بشدة لتبيْن عظامه البالية ولحيته البيضاء الطويلة. كان شاذاً وشارداً عما حوله ،فرأسه وعيناه اللتان لاتبصران إلا قليلاً من معالم الطريق ،يحملان هماً تستثقله ساقاه الضعيفتان ،وفي لحظة ،هب إلى جانبه طفل يركض بسرعة ،ومن الرصيف المقابل كان أحدهم يركض بسرعة أيضاً ،وتم اللقاء ،فتناثرت دماء الصغير في كل بقعة ولوثت قطرات منها ثوب الشيخ الناصع. وثب صاحب السيارة إلى الأرض وهو ينتفض ،وجعل يستنجد بالناس الذين أحاطوا بجثة الصبي ،أنبأه أحدهم أن الأمر قد فات ،وأن الطفل قد مات ،وأنه إن كان ذا شرف فليضع ثوباً على وجهه ،ولينتظر قدوم ذويه. إن الرجل المسن لم يتبين شيئاً مما حصل ولم يكن له في حاله هذا من حيله ،لذا فقد ارتحل بهدوء تاركاً إياهم في الطريق يتناحرون ويتشاورون ويسلي بعضهم بعضاً.
    طرق الشيخ الأرض الصلبة بعصاه وقال بانفعال:"إنهم لايعلمون ..إنهم لايعلمون". كان الرجل العجوز الأعمى يرى شيئاً لايراه الناس ،إذ كانوا غافلين ،جاهلين ،لايدركون شيئاً ،لقد زار ليل المدينة زائر ،لم يره أحد ،ولم يكرمه أحد.
    سلك الشيخ الطريق الوحيد الموصل إلى منزله ،كان يمتلأ بالأشواك والغصون اليابسة ،كانت أحواض النباتات التي تحيط بالمسكن خالية من أية ورقة ،لم يكن هنالك إلا التراب ،وقد كان يقول حين يعبر بها أحياناً:"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى". ثم يضرب براحته على التراب ،ويحفر بإبهامه يلتمس الطين إن كان أصاب المكان وابل أو شيء من مطر ،فإن لم يكن ،كسائر الأيام في تلك المدينة ،فإنه يضرب التراب بيديه جميعاً حتى تتطاير حباته الجافة وتتشبث بلحيته ووجهه فيقول عندها:"سبحان من يحيي العظام وهي رميم..سبحان من يحيي العظام وهي رميم". ثم تهطل دموعه لتروي عطش ذلك المكان ،وتبعث الحياة الحقة - كما يراها الشيخ – في كل ميت. دفع الشيخ الباب بعصاه ،ثم ارتقى الدرجتين المنخفضتين فولج ،ولم يكن ليغلق الباب أبداً ،فكيف يمنع الخير عن سائله ،وكيف يعرض عن غوث عبد تقطعت به السبل !.. كان غرس العصا في الرخام الأغبر عملاً شاقاً للغاية ،فهي تكاد أن تقع في كل مرة لتميد به في فناء المنزل الصغير ،بحثت أنامله المتعرجة بارتعاش بين المفاتيح في جيبه ،وقبضت أخيراً على مفتاح مفرد يدور بحرية في حلقة حديدية ملساء ،أسند عكازه على الحائط وأمسك أكرة الباب بيده اليسرى ،ثم أخذ يتلمس ثقب المفتاح بأصابع منهكة ،مضى على وقوفه أمام الباب دقائق عديدة قبل أن يتمكن من إدارة المفتاح في القفل وفتح الباب.
    كان المنزل هادئاً كما سكنه أول مرة ،خالياً من الأثاث والبسط إلا من خزانة خشبية قديمة قد أتت عليها دودة الأرض فجعلتها خربة لاتصلح لشيء ،وبعض الفرش المهترئة التي ألقيت دون نظام في زوايا البيت ،لم يكن للبيت رائحة واضحة ،بل كان ملجأ موحشاً يفتقر لأركان الحياة. دخل الشيخ مخدعه ثم خلع نعليه وتوجه إلى سجادة منضّدة موضوعة على السرير ،بسطها باتجاه معين وأخذ يتلو كلاماً حلواً آسراً ،بلسان عربي مبين ، كان حين يفتح كتابه الكريم تنتشر في الجو رائحة مختارة من أجود طيب ،كتلك التي يجدها حين تلتصق جبهته بالأرض في سجادته الفاخرة ،أما منزله الموحش وحديقته المقفرة ،فقد وجد فيهما الأنس والحياة بصحبة رفيقه الكريم. ختم صلواته ،ورفع مصحفه إلى كوة في الجدار ،كانت هي الجزء الوحيد الخالي من الغبار في ذلك المأوى ،إذ أن الشيخ ينظفها بخرقة يحتفظ بها هناك. كان يرفع ذراعه بمشقة إليها فينظفها ثم يحط كتابه الجليل فيها ،ويخلد للنوم.
    إن الرجل المسن لا يطيل النوم أبداً ،فقد كان يصحو قبل الفجر كل ليلة ليتم صلاته التي بدأها أول الظلام ،وكان يقول بصوت جهوري حين يواجه صعوبة في الاستيقاظ :"تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً"..وما من ليلة لم يفلح فيها عمله هذا ،كان يؤمن بأن النوم إنما وجد لأجل تقوية الجسد وتصفية الذهن للقيام بالواجبات التي بعث لها. وكان الشيخ يقتص من ليلته ساعة يؤلف فيها الكتب التي يدفع فيها معرفته الزاخرة وخبرته الطويلة بين العلوم ،وحين تدق ساعته لتعلن موعد الفجر كان يقصد قبلته ويشرع في الصلاة. كان الشيخ يمتنع عن الطعام والشراب كل النهار ،يفعل ذلك أغلب الأيام ،فهو يؤمن أن الصوم عن الشهوات يقوي قلب المرء فيجعله متقنا لعمله الذي كلف به ،كان رجلاً لايعرف السعادة ولاتسيل دموعه تحت أي ظرف ،غير أنه يبكي في حجرته كبكاء الأطفال حين يبعثون إلى الحياة مادام قائماً يصلي ،هو امرؤ لم يغضب في حياته قط ،هو إنسان لم يكره لحظة قدره في أن يكون حياً ،هو رجل يكاد لايخطئ ،فهو يقيم الأمور بميزان الكتاب الحكيم ،ويرى الصواب فيما يراه ويرى الخطأ فيما يراه ،هو جسد طاهر لم يصب منكراً ولم يدنس بجريمة. هو قد شهد قرناً من الزمان ،لذا فلا أحد علم خبراً عنه في شبابه ،ولكن شيخا في الحي كان يقول في وصف شباب الشيخ الذي لم يدركه :"هو رجل بمقدوري أن أعهد إليه بابنتي..وأمضي في رحلتي دون أن أشعر بالقلق".
    هم عظيم يقبض على فؤاده هذا الصباح ،أخذ يخط بعصاه الأرض المغبرة ،هي خطوطً لاتتصل وليس لها أية نهاية ،كان جالساً على عتبة الباب حين فعله هذا ،التزم الشيخ هذا السلوك إذا ما يضطرب أو يشعر بالحيرة.
    لم يمكث الشيخ على حاله إلا قليلاً ،حيث دخل عليه الدار غلام حسن الوجه ،يظهر عليه أنه معتاد على المجيء في هذا الوقت ،ألقى التحية على الشيخ وقبل رأسه ،ثم ساعده على النهوض ،وقال متعجباً:
    - ماعساه يكون أصابك ياعم ؟هل كنت تنزف بالأمس ؟
    أجاب الشيخ برزانة.
    - لم يخلق الوقت للعبث يا إلياس.
    - إنني جاد بشأن الأمر..توجد قطرات من الدم على قميصك.
    تجمد ساعد الشيخ فوق كتف الفتى وبرقت عيناه وقال بسرعة:
    - إن كان الأمر كذلك فأتني بغيره..ولا تكثر الكلام.
    قفز الصبي بنشاط واتخذ سبيله إلى غرفة الشيخ ،ألقى نظرة قصيرة على الكتاب في الكوة ،ثم سحب ثوباً من المشجب خلف الباب. سن الشيخ الكبيرة لاتجعله يأبه لحرارة الجو ، فلم تعمل الكهرباء في منزله إلا نزاراً ،فمنزله يبدو من عصر مضى لولا جدرانه الإسمنتية الحديثة. نفض الفتى الثوب بقوة أمامه فاندفع الهواء يحرك شعره وردائه ،فعل ذلك كثيرا ثم ساعد الشيخ في ارتدائه.
    بدأ الشيخ دروسه مع أول قادم ،ووبخ بقية الشباب الذين أضاعوا الوقت في كسل على الفراش. كان يعظهم بصوت صارم يخيف الفتيان ويجعل جلودهم تقشعر،حتى يأخذ كل منهم على نفسه عهداً أن يقدم مبكراً ولو اضطر للطيران. ثم تلين جلودهم من بعد ذلك حين يبشرهم معلمهم بالخير والفتح القريب ،وحين يهنئهم أن عاشوا هذا اليوم ،وحيوا بسلام عقب الموتة الصغرى – وكان يعني بها الكرى الذي قد غشيهم – ثم يقرأ عليهم ليطهرهم من رجز الشيطان ،ويوجه أفكارهم ،ويفسر لهم. إن أيا منهم لم يكن ندا للشيخ ،ولايحلم أحدهم أن يكون في المستقبل كمعلمه ،جميعهم تمنى فقط أن يعرف المجرم الذي يهدده ،والذي وعد بالدمار لكل واحد منهم ،كانوا يعتبرون المعلم كنه مجهول ،ولا يرونه بشري مطلقا ،فهو يعرف كل شيء برأيهم ،ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ،لكن المعلم لم يدعهم في ضلالهم يعمهون ،بل قال بصوت مرتفع:
    - إنه الله..إنه الله..هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء..
    ثم بكى كالرضيع حتى بللت دموعه لحيته ،وقال بانكسار:
    - أنا عبد ضعيف..أنا عبد ضعيف. حتى أشفق عليه تلاميذه ،وطرق الباب طارق عجول.
    كان القادم رجلاً في منتصف العمر ،وقد كان يبدو أكبر من ذلك بعض الشيء ،حين رأى بياض الفتى وحسن ملامحه ،لم يكن بمقدوره أن يحتفظ بالغاية التي جاء من أجلها ،كان ثوب الغلام الأبيض يبدو متناغماً مع ثناياه اللؤلؤية التي تبرزها ابتسامته الدائمة ، وكان جبينه الأغر يظهر بتدرج من بين خصلات شعره السوداء الداكنة التي يرفعها الفتى بأصبعه بملل منتظراً بوح القادم عن سؤال أو هدف جاء به. كان الفتى يقف بالباب يرقب سيارة الضيف المتهالكة محاولاً أن يجيب السؤال بنفسه ،تأكد في سره أنه سائل يريد المال ،حياه بعد فوات وقت التحية وأخذه من يده إلى مجلس الشيخ. دخل الرجل والفتى إلى مجلس العلم المعقود ،فلم يلتفت أحد من الجالسين إليهم ،أجلس الشاب الضيف في بقعة على الأرض مقابل الشيخ ،وهمس إليه باحترام أن يكتم حاجته لحين انقضاء الدرس ،ثم أقبل بعد هنيهة يحمل بعض كؤوس زجاجية رصفت على لوح خشبي عريض ،وضعها الفتى على الأرض بطريقة استعراضية ،أثارت بعض الكؤوس فتمايلت على بعضها وتحدثت ،حتى اهتز حاجب الشيخ الكث الأبيض ،وكان هذا تحذيراً كافياً للفتى اللعوب.
    أدرك الرجل الغريب أن الشخص الذي كان يسير إلى جانب طفله في ذلك الشارع لم يكن إلا شيخاً كبيراً ،وهكذا فلا توجد فرصة للظفر ببعض الحق في البحث حول رجل أشيب ،كان يتمنى وجود بعض خطأ يزج بالرجل الذي حدثوه عنه إلى الزنزانة. فكر باعتراض وهو يلحظ المعلم المسن بدءاً من شعره الأبيض ،ونزولاً إلى جبينه المتغضن وجسده الذاوي الضئيل ،فكر كم قد يكون شهد من السنين؟.. أيحق له أن يعمر سنة أخرى..وابنه بعد لم يعش سنته السابعة؟..لماذا لم يمت فداء لابنه؟.. لم يدرك المسكين أن قوة طفله قد جلبت له الموت!..وأن ساق الشيخ حمته من موت محدق!..
    كان الرجل المعمر ذا حافظة فولاذية ،لم يخلق في شباب حاضره مثلها ،وربما ناظره رجل أو اثنان في زمن مضى ،حين لم تكن الروايات لتضبط ،ولم تكن الأحاديث لتتحد.
    قد جعل الشيخ بعض الفتية يلمسون كتابه المبجل هذا اليوم ،تركهم يقلبون صفحاته بأيديهم العارية ،ويتساءلون عن ماهية كاتب هذه السطور ،ويتعجبون من فيض العلم الذي لم يعبر بهم يوماً من الأيام. كان التلامذة شغوفون بمعرفة كل جديد ،واكتشاف كل عجيب وفريد ،كانت ألسنتهم تعجز عن الجهر بما يقرؤون ،وحين يجربون ذلك يبدو حديثهم كحديث رجل ذو لسان كليل ،أو رجل أثقل العمر لسانة فإنه لايقدر على الفصح إلا قليلاً ،لقد صاروا إلى ذهول وهلع ،وارتجت أركانهم فبدوا كمحتضر يرى الموت قاب قوسين أو أدنى منه ،وما أفزعهم أكثر وأوقع بعضهم إلا صوت الشيخ المهيب حين تلا عليهم بعض ماوجدوه في الكتاب ،كان الشيخ يقرأ عليهم كلما عبروا آية بأبصارهم ،فيجدوه مطابقاً لما يقرؤون ،رغم أن معلمهم كان معرضاً بعينه عنهم ،فضلاً عن كونه أعمى ،فلا أحد منهم فسر الأمر ،ولا أحد يعلم كيف يحدث ذلك!.
    انسحب الرجل الزائر بهدوء من المكان ،وانفض المجلس ،وتفرق الجميع. لم يغش الزائر نوم في تلك الليلة ،وكان يتقلب في فراشه حتى الصباح. أقبل على زوجته حين كانت تعد بعض رقائق العجين في المطبخ ،قالت له بصوت يموجه الألم:"طاب صباحك".رد عليها بغير اهتمام حين كان يلوك قطعة خطفها مما تصنع ،ثم قال لها بصوت متعب :
    - أين تعتقدين ابننا ذهب؟
    نظرت إليه بحنان ،وأيقنت أنه لم يتجاوز محنته بعد. أجاب سؤله بنفسه فقال:
    - إلى رمس تحت الأرض. ثم قال بعد مدة:
    - على الأقل لا أزال أعتقد ذلك.
    أجابته وهي تحل عقدة في حزام إزارها :
    - هل رأيت مصيراً مخيفاً ليلة البارحة؟
    - نعم رأيت شيئاً كذلك.
    اقتربت منه وألقت كفيها على منكبيه وهمت بمعانقته ،لكنه أبعدها عنه وأدار جسدها حتى تحول قفاها إليه ،وشرع يحل الحزام وهو يردد:"لا أقسم بيوم القيامة ،ولا أقسم بالنفس اللوامة ،أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ،بلى قادرين على أن نسويّ بنانه".ثم اعتدل قائماً وقال لها.
    - من تعتقدين قال هذا الكلام؟
    قالت بسرعة وبدون تفكير:
    - شاعر أو كاهن..ثم ما علمك هذا الكلام؟..أهي رؤياك العجيبة..أم هو خيالك الرحب؟
    سكت ولم يعقب ،ثم أطلق زفيراً طويلاً ،وشد قوامه وتحرك خطوتين وقال بوثوق:"بل هو نبأ عظيم ،لايمكن لبشر أن يعلمه".
    كان الزوجان يحسان بحزن عميق ،فالأب يقويه الغضب ،والأم يشد من أزرها صنع الرقائق وتقطيع الخضار ،والأهل والأقارب يتفوهون بكلمات العزاء التي لا تغير مجرى الأحداث ،ولاتعد بشي محدد ،كل الحقيقة أن الطفل الذي مازال في ثلاجة المستشفى غادر جسده شيء لن يعود.
    إلى الفصل الثاني بإذن الله

    التعديل الأخير تم بواسطة أنا واحد ; 12-12-2011 الساعة 11:28 PM سبب آخر: رغبة الأعضاء في قراءتها نصا بدون رابط

  2. #2

    الصورة الرمزية مس ساندرا

    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المـشـــاركــات
    592
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    رائع للغاية .. فكرنك أخي راقية للغاية .. متلهفين لقراءة الفصول الأخرى من الرواية ..
    بالـــتــوفيـــق

  3. #3


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    شكراً للجميع ،ويسرني أن أقدم لكم الفصل الثاني من رواية آدم

    تابعوا بقية الفصل على الرابط

    http://www.mediafire.com/?a7qdmas2hgs7hb2
    (الفصل الثاني)




    كان يوماً ثانياً من أيام شهر رجب ،وكان شديد الحرارة في تلك السنة القمرية ،وكان الإنسان والدواب..كلٌ يلهث ويتعرق..ويسبح. ولكن الماء لم يكن جيداً أيضاً ،إلا من هواء حار كان يمر على سطحه فيجعله منعشاً لمن يغطس. كان الشيخ ينظر من نافذة مخدعه إلى شيء لم يتحدد في مشهد الصباح الباكر ،ولم يكن ليبصره بصير. كان يردد بعض الكلام فيقول وقد انقبض وجهه:"لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ،إلا حميماً وغساقاً ".ثم يرفع رأسه يرنو لشيء في ذروة أفقه ويقول:"متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ،ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ".فتنبسط أساريره ويهتز عكازه تحت كفه الراعشة ،ويضغط بكفه الأخرى على إطار النافذة. كان بمقدور أذن الشيخ أن تسمع صوت نعل يجره صاحبه بهدوء ،رفع كفه عن النافذة وسأل بنبرة عنيفة:
    - ماذا تفعل؟ولماذا تتسلل كاللصوص؟
    جفل الفتى ونكص على عقبيه ،واعتذر بسرعة ،واستدار إلى الدار وعلى وجهه ابتسامة كبيرة. اعتاد الفتى أن يجول كل صباح في فناء الدار قبل أن يطعم شيئاً بصحبة الشيخ يجلبه معه من البيت. سأل بوقاحة:
    - كيف تغلق الباب يا شيخي الجليل وأنت على دراية بقدومي؟ألا تعتقد أنك تسيء إلى مقامي؟
    - إني أعمل بما أمرني به سيدي الجليل.
    - ماذا طلب منك ذلك الرجل؟
    التفت الشيخ بحدة إلى الغلام الذي يسير خلفه - وكانا يتجهان إلى حجرة الدرس – فوكزه في صدره ،وقال بغلظة:"إنه السيد الذي أرشدنا إلى النور ،الرجل الكريم الذي أُرسل من الذي صنعنا ،وأنشأنا أول مرة من صلصال من حمإٍ مسنون ،وليس بذلك الرجل تدعوه أيها الغافل ،ما هكذا يسمى المرسلون ،قل الرسول ،النبي ،والسيد الكريم...". ثم أمسك الشيخ عن الكلام ،والتقط بعض أنفاسه ،وقال وقد غير في نغمة صوته:"ثم لا تخاطبني بهذا الأسلوب..." وهم أن يزيد في اللوم ،ولكنه أعرض ونئا بجانبه ،وتابع سيره إلى المجلس. إن عظام صدر الفتى لا تحس شيئاً ،ولكن ما تحت العظام كان يئن من الألم. لم يحدث أن ضربه شيخه في يوم من الأيام ،ولم يعبر على خاطره أن يفعل هذا ،لكن يد الشيخ قد كَفّت كثيراً ،وكانت احتَجزت الكثير من اللكمات. قد صبر الرجل المسن كثيراً على أذى الفتى وقلة حكمته ،وما فعل فعلته تلك ،وما غفر للفتى حماقاته وألعابه إلا لحاجة أسرها في نفسه. إن الفتى ذو حذاقة وفطنة ،وذو حيلة وفكرة ،وهو صاحب برهان وقوي حجة ،وذلك ما رغب به الشيخ لخليفته في الناس ،إن الزائر قادم وإن تأخر ،وواجب عليه أن يعهد بالنبأ إلى رجل عدْل ،يبثه بين البشر ،ليصل الخبر والخبر ،ويدرك الجميع الأمر العظيم ،والخطب الجليل ،الذي جعل هؤلاء الشباب يحيطون بالمعلم ،الذي نطق فقال بصوت لا يكاد يسمع:"يجب أن يخرج الخبر من هذه الغرفة عاجلاً".لم يسمع كثير منهم توجيه الشيخ ،وأصغى إليه بعضهم ولم يفهم ،وفقه الفتى مغزى كلمات الشيخ ،وافتر ثغره عن ابتسامة شقية.

  4. #4


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أرحب بالجميع ويسرني أن أضع بين أيديكم الفصل الثالث من الرواية

    (الفصل الثالث)

    - إنه رجل مسن ،وقد علمت حديثاً أنه يجمع الصبية حول كتاب غريب.
    - أين يسكن هذا الشخص؟
    - الحارة الرابعة ،في الشارع السابع ،إنه منزل قديم متهالك ليس له رقم ضمن البيوت.
    - حسناً..نريد أن نوافيك لديه..كي نتثبت من شخصيتك ،ونتحدث عن بعض الأمور.
    ألقت أم إلياس سماعة الهاتف في مكانها ،وتنفست الصعداء بعد تنفيذ هذا القرار الصعب المرير ،إن فعلتها ستغضب الشيخ بالتأكيد ،وهي لا تحب أن تحارب نفساً ضعيفة ،ولكنها ستحصل على ابنها على أية حال! لقد عزمت أن تعتني بالشيخ الذي لا أهل له ولا أقارب ،بيد أنه رد جميلها بنكران واختطف ابنها من حياتها الفارغة. لقد آلمها رأسها كثيراً لما أن لامها قلبها الرقيق ،وتمنت لو لم تشتكِ على الهاتف ،ولكنها صرفت بالها إلى عالمها اللا محسوس ،كانت تبحث أمام الشاشة عن أشياء لا تتفق ،وتكتب كل يوم كلمات لا تلتقي ،كان مكاناً مريحاً وكريهاً في آن واحد ،ذلك أن الراحة إن زادت عن نصابها تحورت إلى شيء بغيض ،كريه ،ليس له رائحة ولا لون محدد ،وذلك يزعج الإنسان الذي جبل على حب الحقيقة ،والبحث في سرها الغائر.
    إن بيت الشيخ كان خلواً يوم دخل الرجال والمحقق ،ولأنهم جاؤوا مساء فقد وجدوا الباب مشرعاً على مصراعيه ،وعجبوا لهذا الحادث ،فلا أحد يفعل ذلك من الناس جميعاً. ولأنهم لم يعثروا على جهاز تنبيه قرب الباب ،فقد شقوا دربهم إلى فناء الدار. قال المحقق لرجليه بحزم:"لقد رتبت أن تكون المرأة في هذا المنزل بعد ساعة..يا للهدوء الشاحب؟ أتصدقون أن أحداً يعيش هنا؟"ثم ضرب الباب بكعب حذائه بعنف ،كما لو كان سيقتحم المنزل ،وكانت غايته أن يسمع الشيخ الذي اعتقده أصماً ويقدم ليفتح. لكن الشيخ كان يلهث في الفراش وكان إلياس يستنجد بطبيب الأمس عبر خطوط الهاتف التي لا تستجيب ،وقد كره أن يستعين بأمه ،واستيأس من عنادها الدائب. طال مكث الرجال قرب الباب ،وأمر المحقق بالدخول. فحص المحقق نواحي المكان بعينه ،واستعد الرجلان بسلاحيهما تأهباً لأي طارئ. واضطر الرجال إلى حمل المصابيح اليدوية في أكفهم ليبددوا ظلام المكان ،ولم يكن ضوء الشمس الماضي للغروب ،الذي عبر النوافذ الصغيرة ،مشرعة الستائر ،بمبصّر في السواد العميق ،توقف المحقق في وسط الرواق ،وألقى ضوءه على درجات سلم خشبي يؤدي إلى طابق آخر ،فأمر أحد الرجال بالمضي إلى الأعلى ،وأمر الرجل الآخر أن يحمل سلاحه. واستند هو إلى باب الغرفة المضاءة و أرخى سمعه وانتباهه. كان يسمع لهاثاً لإنسان ،وصوتاً آخر لم يتبينه. أغلق المحقق مصباحه وأمر حارسه أن يفعل. وبينما هدأ الاثنان إذ بالباب المؤدي للفناء يفتح ويقف به جسد أنثوي حسن الملامح. كان الضياء القادم من الخارج قوياً على عيونهم التي اعتادت الظلام ،واستحال لون الآنية الزجاجية تحت السلم إلى مصباح آخر. كان وجود المرأة الشابة بين هذه الأشياء الشاحبة مفارقة عجيبة حقاً. وكان ردائها الوردي متسق تماماً مع بشرتها البيضاء الصافية. تلفتت المرأة بحيرة باحثة عن إشارة أو فكرة ،ثم وضعت كفها على صدرها وارتدت خطوتين ،ونزل الرجل من كان بالأعلى ،وأراد محادثة سيده ،لكن المحقق أشار بيده مؤجلاً هذا الحديث ،وتحرك صوب المرأة بحذر وخفض الرجل الآخر سلاحه نحو الأرض. همس المحقق للمرأة التي لم تتحدث يحثها على الخروج ،ووقف الاثنان على المصطبة ،تكشفهما لبعضهما أضواء الشوارع الفاقعة. تفحص المحقق وجه المرأة وكانت هذه طريقته في التعرف على الشخصيات قبل البدء بأي حديث. قال لها بلطف:
    - لقد اتصلت بالأمس من هاتف محمول ،لكننا تتبعنا الاتصال وعرفنا موقعك بالضبط ،هل لاحظت رجلاً غريباً يجول قرب منزلك البارحة؟
    - لا يا سيدي لم ألحظ أحداً ،إنني امرأة وحيدة فلم أكن لأخرج من منزلي في هذا الوقت.
    - حسن..إنني أعتذر..يبدو أننا جلبناك في وقت غير مناسب..
    - لا عليك يا سيدي ،فالساعة لم تتعد السابعة.. ولكن أخبرني لماذا يبدو المكان مريباً..ألم تجدوا الشيخ في غرفته ؟أم هل غاب ابني عن أعينكم؟
    - "إنها الطريقة المثلى للتفتيش..." وبتر جملته فجأة حين أقبل أحد رجاله وبصحبته ولد صغير. قال الرجل صائحاً بغية جعل صوته فوق صوت الولد الذي يصرخ بهم أن يدركوا الشيخ:"إن الطفل برز من الغرفة يا سيدي..والرجل العجوز قد وجدناه طريح الفراش..لقد أبقيت الشرطي بمعيته". نظر الولد إلى أمه ،وقال لها"ما لذي تفعلينه هنا يا أماه؟". ،وخفق قلبها بسرعة وهي ترى عينيه شبه المغلقتين من التهديد ، كانت نظرة الغضب تلك التي حدجها بها هي التي تجعلها غير قريبة منه ،لقد أدركت أنها تخاف منه. أجابه المفتش عوضاً عنها فذهب مسرعاً إلى غرفة الشيخ وتبعه الجميع.
    تم استدعاء سيارة الإسعاف حالاً ،وثبت المسعف جهاز التنفس على فم المريض وأنفه ،وحملوا جسده الضئيل إلى السيارة. وثب إلياس إلى جانب شيخه ،لكنهم منعوه ،فنزل خافض الرأس كسير الفؤاد إلى جوار أمه والمحقق. قبض على رسغها متودداً فانتفضت ،ثم وضعت يدها على رأسه بتردد. قال المحقق وهو يحك ذقنه مفكراً أنه يقدر تعاونها وأنه سيتابع القضية.
    إن أم إلياس أرادت أن تستوقفه وأن تعتذر عن شكواها ،ولكن هيهات هيهات أن تفعل هذا ! لقد وقعت القضية في أيدي جهاز ضخم ،لا يقبل العبث ولا المداهنة ،جهاز أؤتمن على سلامة الناس من سلب النفس أو المال أو الشرف أو العقل. واستجارت بمرآتها التي تبيْن لها راحة بغيضة أخرى في وجهها الدائري المكتنز. نقضت أم إلياس عقد شعرها ،فانسابت غدائرها بنعومة على كتفيها الممتلئين ،ثم ارتدت لباس نومها باللون الذي لا تحبه. كان إلياس مستنداً بظهره إلى إطار الباب يتابع ببصره كل حركاتها وسكناتها ،قال لها برقة:"أنت جميلة يا أمي". استدارت إليه بكل جسدها بحده ،وعجبت أن صورته لم تنعكس في المرآة ،أدركت أنه يعرف بدقة المكان الذي لا تظهر فيه صورته ،وأنه قاس المسافة جيداً لكي لا تراه. جلس على طرف سريرها وقال:"أمي إن سريرك كبير.." .."لابد أن والدي كان جيداً معك." جلست بجانبه ونظرت في وجهه الجميل"إيه..نحن نعيش على أمواله ،لكنه ليس هنا" قال:
    - أمي هل هو التأمين على الحياة؟
    - إنه كذلك..
    - وهل أمنتي على حياتك أيضاً؟
    نظرت إليه بقلق ،ثم أبعدت الفكرة المخيفة عن بالها ،وعاجلها قائلاً:"أنت لن تفعلي ذلك..أنت لا تحبين ما يبعث الشؤم". عند هذا الحد انتهت محادثتهما القصيرة ،وانبطح على السرير مباعداً بين ذراعيه وساقيه ،أغلقت مصباح الغرفة وأمسكت بيده تريد مرافقته إلى غرفته. لكنه اعترض وأراد أن ينام إلى جوارها ،فقالت توبخه:"إنك تبلغ الحادية عشرة من عمرك..ألا تخجل من هذا الطلب؟!" وحين لاحظت خده الصامت المنير عدلت عن رأيها وحنت عليه.
    كان الإحساس بشعر الصغير وأنفاسه على صدرها مربك جداً ،فالأفكار في رأسها تستقي الحيوية من وجه الصبي الجميل ،لقد جافاها الكرى إلى غير رجعة وحق لها أن تبحث عن وسيلة تشتت بها الأوهام وتجلب خلالها بعض النعاس ،فاستمعت إلى أحد المحطات الإذاعية التي كانت تبث حواراً مع باحث كبير كان يقول بوثوق:"نستطيع أن نقول أن الإنسان قد محا الجهل ووصل إليه كل العلم ،وعصرنا الذي نعيشه لا يحق لأي امرئ فيه أن ينطق بكلمة الجهل.." .تحركت السماعة في أذنها لما أن تململ ابنها فخلعتها وألقتها جانباً ،واستسلمت لليلتها الطويلة.

    كان من المرهق أن يسير شخص في ممرات المستشفى المتشابكة ولم يكن مسه نوم ليلة الأمس ولا في الليالي القليلة التي تسبقها ،لذا فليس بمقدور أم إلياس أن تميل إلى غرفة الشيخ التي دلتها عليها موظفة الاستقبال القصيرة ،وكادت أن تقع لولا مساعدة أحد العابرين . أمسك إلياس بيدها ومضى إلى غرفة الشيخ. كان الشيخ جالساً يمد رجليه إلى حائط السرير الأبيض. تقدم إلياس فرحب بالشيخ ،وهنأه على سلامته ووضع كف الشيخ الهزيلة بين كفيه الصغيرين ،ثم اقتربت أم إلياس مترددة إلى السرير وسألت الشيخ عن حاله ،فقال لها :"إنني بأحسن حال.." ,لم تكن تخلصت من شعورها العميق بالذنب الذي ارتكبته ،لذا فلم تنطق كلمة أخرى وانزوت في رقعة بعيدة عنهم ،وتركتهم يتحدثون دون أن تتجسس على حديثهم. أقبل المحقق بعد مدة والتقى بها وبالشيخ. لقد قرر إجراء فحص نفسي للشيخ للتأكد أولاً من خلوه من مرض عقلي تمهيداً للبحث في أمره. ثم تمنى السلامة للشيخ وأشار للأم وابنها بيده مودعاً.
    لم يكن بمقدور الشيخ أن يلقي دروسه كالمعتاد ،وكان صوته ضعيفاً ولسانه ذاوياً ،وكان يردد في سره كلما زاد عليه الوجع"وإذا مرضت فهو يشفين ،وإذا مرضت فهو يشفين". تقدمت أم إلياس من سريره وجثت على ركبتيها وقالت باكية:"إنني أعتذر أيها الشيخ ،أنا التي جلبتهم إليك ،لقد أخطأت أعذرني..". التفت الشيخ ناحيتها وقال بلطف:"كنت أعلم ،إني لا أؤاخذ أما ثكلت ابنها الوحيد ،ليس عليك حرج أيتها الأم ،فاهنئي وقري عيناً ،وكيف لا أصفح وأنا عبد ضعيف ،وربي أمرني بذلك ،وهو يصفح عن أعظم من هذا ،وهو الغني القوي ،وهو الذي يقبل التوب عن عباده فهو التواب الرحيم. ارفعي رأسك وانتصبي واصحبي ابنك معك إلى دارك..شكراً لك على كل شيء". وقفت الأم وقالت وهي ما تزال تشهق بالبكاء :"كنت سأدعه لديك أيها الشيخ..لو لم يكن وقت الزيارة أفل". خفض الشيخ نظره إلى حجره ممتناً ،واستلقى على الفراش. أطلت ممرضة ترتدي الأبيض إلى غرفة الشيخ تتيقن من ذهاب الزائرين ،ثم ألمحت إلى الشيخ المريض وراقبت بعض الأجهزة على عجل ،ورجعت إلى مقرها. أحس الشيخ بخوف شديد و تساءل في نفسه:"هل هذه سكرات الموت الأولى؟..هل سيتخطف ملك الموت روحي وأنا لم أبلغ بعد النبأ الذي بين يدي؟.."ثم شخص بصره إلى سقف الغرفة وتحشرج صوته وهو يقول:"يا رب أمهلني القليل..القليل..يا لله". وأصدرت أجهزة غرفته تنبيهاً مزعجاً في أذن الممرضة ،فهبت من مجلسها إليه ،واستدعت الطبيب ،وعجل بالإنعاش ،وانتهت إجراءات الإنعاش ولما يستجيب المريض. ابتسم الطبيب للممرضة - التي عضت على أناملها من الفزع - وقال مطمْئناً:"هذا المريض الثاني الذي يموت في قسمك اليوم.." لم ترد عليه بل صارت تلقي نظرات مترددة إلى رجل يحتضر ،إلى رجل مات. ربت الطبيب على كتفها وقال:"ألم تعتادي على هذا المنظر بعد؟ لقد لبثت فينا سنة ونيف.."قالت بتوتر:"إنه يخاطب أحدهم..إنه ينظر لشيء" كان الشيخ يرفع سبابته عالياً وقد أطلقت عضلة ذراعه قوة نادرة ،ويتمتم بكلمات لم يسمعها الحاضرون. قالت بفزع شديد:"لقد..لقد سمعت به..كنه يظهر للموتى فقط..شيء موجود هنا..لكننا لا نراه.."وأسقط فكها من الهلع والتخبط ،وصفعها الطبيب على وجهها وصرخ يريد تنبيهها:"عودي إلى رشدك ،لا يوجد شيء كهذا ،إنك تهينين العلم" ثم دفعها من ظهرها إلى الخارج ،وأبت وتمنعت ،وقالت تتوسل إليه:"إنه يحتاج إنسياً إلى جواره..إنه خائف.." دفعها الطبيب بغلظة ،وعنفها وقرعها ،واتهمها بالإساءة إلى العلم التجريبي الحديث ،ونسبها إلى فئة المتأخرين ،الذين يهيمون في الخوارق والخزعبلات ،ويؤمنون بالأديان التي تخبر أن هناك بعث بعد الموت ،وأن هناك حياة ونشور ،وحساب وعذاب ،وجنة ونار. تملصت الممرضة من قبضته وذهبت إلى الشيخ وأمسكت بكفه المتصلبة التي مازال يرفعها ،ولاحظت وجهه الذي سطع لونه ،وابتسامته القريرة ،وأنزل الشيخ يده وعطس بقوة ،وقال بأعلى صوته:"الحمد لك ،الحمد لك" وجست الممرضة نبضه ،واستمعت إلى الجهاز الذي علا صوته مرة أخرى ،ولكنها لم تكن رنة مزعجة كالأولى ،بل كانت كالعزف السعيد في أذنها. وجاء الطبيب وجاء طبيب آخر ،وهطلت على الحجرة المعقمة عشرات الأجساد التي تلبس الأبيض.
    إن العودة للحياة شعور لا يعرفه حي! إن أولئك الذين يرون الموت ولما يقعوا في شباكه ،لا يحصون ضمن من شعر بهذا الشعور ،وكان الشيخ واحداً منهم ،ممن ذاقوا نصف الموت ،فإذا ما اكتمل النصف الآخر ،صاروا إلى رحيل ،وثووا إلى مصير مجهول ،وحتى الشيخ يجهله!.
    لقد تنفس الشيخ نسمات الصباح الأولى ،أذن له أحد أن يشمها ،وأن يملأ رئتيه بها ، وأن يسير الهواء بسلاسة داخل قصبته الهوائية دون أن يرفع صدره ويخفضه بشدة في شهيق وزفير. وأن يعرف اليوم معنى الصحة وأن ينسى معنى المرض..والألم. سأل الطبيب الممرضة بصوت خائب وهما يلاحظانه واقفاً قرب النافذة:"ما أول فعل أتى به عندما تركته؟".أجابته بصوت سعيد:"لقد عطس بقوة يا سيدي ثم تلا كلاماً لا أعرفه"
    - فليس لي من كلامه من حاجة..ولكن أريد خراج عطسته. نحن لم نتمكن من إصلاح كل شيء في الساعات القليلة التي قضينها في حلقه وبين ضلوعه..فلربما خرج شيء لم نره.
    - وفوق كل ذي علم عليم..قال الشيخ الذي كان يسمع كل حديثهم من بدايته.
    - هل يخاطبنا؟
    - يظهر لي أنه يقصدنا أيها الطبيب.
    - إيه..يبدو أنك لم تحظي بساعة نوم واحدة ،ليلة الأمس.
    - كنت أفكر بكلامك..هل تعتقد حقاً أيها الطبيب أنك أمسكت العلم كله بيدك..ألا ترى القمة التي أخذت من أسفلها هذه القبضة؟.
    - وهل تجدين في أدبياتك ما تركنين إليه..فإني أراه أشعاراً وغياً..ليس بعده غي.
    - سأجعلك تقر بوجوده ،إني لا أراه هاهنا ،ولكني أعلم أنه يطلع إلي ،ليس بوسعي أن أصدق أنني سأتحلل في القبر فقط ،إنني آيبة إليه ،إلى الذي أعطاني هذا الجسد ،وخلقني من العدم.
    - أتعتقدين هذا ؟فإني كافر به..أيتها الممرضة أمامي كل السبل لأثبت لك خطأك ،وأمامك الأيام لتقنعيني بمعتقدك ,أما أنا فقد انتهى بحثي ،وكليات الطب الحديث تحتضن كل أدلتي وبراهيني ،إنني موافق على أن انتظر ،سأنتظرك حتى أصبح شيخاً كهذا الشيخ ،إن عملت أعضائي بشكل صحيح حتى ذلك الوقت. أجمعي أدلتك وأريني الحقيقة". ثم أولاها قفاه وخرج. ألقت نظرات حائرة إلى الأرض ،وخاطبها الشيخ دون أن يلتفت إليها:"يظهر أنك قبلتي التحدي". لم تجبه وأدركت أن أذنيه سليمتين. قال لها بحنان:"فإنك إن فعلت فستظفرين بالفوز عليه ،أؤكد لك هذا". نظرت إلى وجهه الذي التفت إليها بحيرة ،وقالت بنفاد أمل:"وكيف السبيل إلى ذلك؟" قال مشجعاً:"لدي الكتاب الذي يدل عليه ،على الذي تعتقدين بوجوده..إن الطبيب لم يستمع لقوله حيث قال:"إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء" ،إنه عالم كبير ،لكنه جاهل أكبر..إن الذي أيقنت بوجوده إنه سيدحض حجته ،ويثبتك بالقول الثابت ،والبرهان الصادق الواثق" ثم قال متعجباً:"يا للإنسان!! تبصّره الشمس بوضوحها لكنه يكذب به ويعمى..ويغفل..إنه جاهل..إنه ظالم !"

    إلى الفصل الرابع بإذن الله

  5. #5


    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    408
    الــــدولــــــــة
    عمان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    لقد قرأة الفصل الأول واعجبت به أشد الأعجاب والفصل الثاني كان قصيرا جدا ولكن به المتعة

    أما الثالث فلقد فقد شيء موجود بالفصل الاول والثاني ..

    سأنتظر الفصل الرابع بفارغ الصبر

    -------------------------------

    بحق لديك أخي الكاتب أسلوب عميق جدا يلامس الروح .. لقد لامست روحي بقوة وبرقة .. ولكن أرجوك .. لا تفقد هذه اللمسة في الفصل القادم

    أسألك بالله أن تحافظ على أسلوبك الراقي .. وأن تبقي على قوة الكلمات في هذه القصة

    ولك جزيل الشكر

  6. #6


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أشكرك أخي على تعليقك اللطيف

    وأريد أن أنبهك إلى أن الفصل الثاني له بقية في رابط أشرت إليه أول المشاركة

    وقريباً بإذن الله سأنزل الفصل الرابع..

    شكراً للجميع

  7. #7
    فيفي-سان
    [ ضيف ]

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    السلامـ

    هلا واللهـ

    روايات روعهـ

    قرأت الثاني فأعجبنيـ

    سأقرأ الثالثـ ابداع كبير

    استمر على هذا الطريقـ

    ونحنـ بأنتظار الرابعـ موفقــ~

  8. #8


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أرحب بالجميع وأتمنى أن لا تكون الفصة ثقيلة على قلوبكم


    ومع الفصل الرابع من الرواية

    (الفصل الرابع)
    كان إلياس يحمل أكياس التسوق في كل مرة يجول فيها المحال مع والدته ،وكان يحمل هذا الظهر كيسين ثقيلين جداً لكنه رفعهما بخفة إلى الأعلى ،رغم تحذيرات أمه. قال لها بنشوة:"إنني سعيد يا أمي لقد شفي الشيخ من علته ،ألم تشاهديه اليوم لقد كان يتنفس براحة..لقد قال لي إن ربه أحياه كرة أخرى ،قال أنه سيحسب عمراً جديداً منذ الساعة الأولى التي رجع فيها إلى الحياة.." وأمسك فجأة عن الكلام حين لاحظ اثنين من رفاقه جلوساً على عتبة باب منزله ،وقد لاحظوه هم الآخرون فهبوا إليه بسرعة ،ورفع أحدهم قبضته ليلكمه في صدره ،لكن الأم تصدت له ،وحالت بجسدها بينه وبين ابنها الذي اطلع إليهم من خلف ظهرها بنظرة انتصار كريهة. صاح الولد قائلاً:"أنت شخص لئيم..لقد أتينا بيت الشيخ بالأمس ولكننا لم نجد أحداً..واعتقدنا الشيخ خرج بصحبتك لبعض حاجته..وانتظرناك في منزله حتى الظهر..ولكنك لم تحضر أيها المخادع.."..وقال الصبي الآخر وكان خشن الصوت :"أين أخذت شيخنا..أيها الحقير؟"..أجابه إلياس قائلاً بغرور:"لا تكن أحمقاً..لدي قصة طويلة لم أكن لأخفيها عنكم ،ولكن الظروف منعتني.."قاطعه خشن الصوت هاتفا:"لم تجب هاتفك بالأمس..وصفحتك(1) لم تفصح بشيء..لقد جاء الرجل الكهل بالأمس وصباح اليوم أيضاً..ولكننا لم نجدك ولم نجد الشيخ..لقد كان الشرطي واقفاً لدى الباب وأمرنا أن نرجع..ألديك فكرة عن شعورنا في ذلك الوقت؟..لقد أحضر آبائنا وتحقق من هوياتنا..لقد فزع الكهل كثيراً.."
    - لماذا لا نكمل حديثنا بالداخل..
    - أريد أن أسمع القصة هنا ،هيا أفصح..هيا تكلم..
    لم تتدخل أم إلياس في الحديث الشائك الذي جرى بينهم ،وظل الولد يقص القصة من خلف ظهرها حتى انتهى. دعاهم إلى منزله فرفضوا ،ولكن الأم رجتهم أن يدخلوا معها. كان وجهها السمح المناقض تماماً لملامح ابنها غير المريحة هي ما دفعهم لقبول الدعوة. حملوا الكيسين الخفيفين من يديها ومضوا إلى الدار.
    نادت الأم صغيرها ليعد معها وجبة خفيفة ،ونهض ملبياً دعوتها ،وتحدث الصبية في غيبته. قال أحدهم للآخر:"لا أدري ما يعجب الشيخ في طفل أناني مغرور..لقد حصل كل ما حصل للشيخ ونحن غافلون..لقد عدنا لبيوتنا بأمر الشيخ ذلك اليوم ..ومكث إلياس لديه تلك الليلة.." ثم قال بسخرية تتوجع : إنه الأحق بصحبة الشيخ لأنه وجده أولاً.." وهنا دخلت أم إلياس إلى مجلسهم وقدمت لهم كأسين من عصير البرتقال مع شريحة ليمون على كل كأس. قاموا من مقاعدهم وتناولوا الكأسين ،وقدموا امتنانهم لها. لحق بها ابنها فدخل حاملاً أواني الطعام ،وقال لهم بتملق:"إنه وقت الغداء..وقد ألفت وأمي الغداء الخفيف" .تركتهم أم إلياس ومضت إلى شاشتها ،إلى حيث الفراغ.
    تناول الأولاد طعامهم بنهم إذ كانوا ينتظرون منذ الصباح ،وتحدث إلياس عن المفتش الذي أحضرته أمه وعن شاربه الكث المضحك ،وضحك الصبية من وصف إلياس ،وطُرحوا أرضاً حين أخذ يقلد صوته الغليظ. ربما تكون عادت المياه إلى مجاريها بين هؤلاء الثلاثة ،ولكن دمائهم الثائرة لم تستقر في مجاريها بعد. وقد بان ذلك في زيارتهم للشيخ في الغد ،لقد صافح الشيخ كل منهم بحفاوة ،ولم يفرق بين يد الكهل القاسية وبين راحة إلياس الغضة. قال لهم:"أنتم أحبابي ،أريد اجتماعنا في الدنيا ،كما أريده في الآخرة..إنني آسف لتقصيري ،أعتذر لأني أقلقتكم علي ،ألا فاعفوا عني أيها الأصحاب ،اغفروا لي زلتي" وكان الكهل هو أول من تحدث فقال بصدق:"لا تعتذر أيها الشيخ الكريم ،لقد كنت في ضعفك لا تدرك شيئاً..إننا أردنا فقط أن يبرق إلينا إلياس بالخبر..إنني لا ألومه فقد كان في حاله من القلق أيضاً" ثم قصد الشيخ وقبل يده وجبينه ورأسه ،وتأسى به الآخرون ففعلوا كما يفعل. ودخلت الممرضة تعلن أن المحقق يريد الانفراد بالشيخ ،ودخل الطبيب أيضاً ،وطبيب آخر لا يضع السماعة. خرج الصبية والكهل مكرهين من الغرفة وتظللوا بأشجار المشفى ينتظرون قرار الطبيب. بدأ المحقق فقال:"أيها الشيخ إنا أتيناك نريد أن نتحقق من عقلك ،فإنك سترجأ للمحاكمة إن ثبت أنك عاقل ،وإنني أخاطبك الآن بصفتك عاقلاً ولا ندري ما تصل إليه أبحاث الطبيب النفسي.."ثم أشار لطبيب الشيخ أن يتلو تصريحه عن حالة الشيخ الصحية ،ففعل ،ونقل الشيخ إلى غرفة الفحص.
    هبت أم إلياس إلى المحقق راكضة بأقصى ما تطيق ،وكان مظهر وجهها الرقيق وهو يحمر من الانفعال يبث اللين في أقسى القلوب ،وكان ساقاها يظهران من تحت ردائها الطويل كلما خطت خطوة سريعة باتجاهه ،وصلت إليه وقصدت وإياه زاوية بعيدة عن عبور الناس عند بوابة المستشفى. قالت وهي ما تزال تلهث:"ما لذي سيحل بالشيخ؟ هل انقضى التحقيق؟" أجابها وهو يتفرس في وجهها:"ننتظر نتائج الفحوصات في الغد..ربما سنستدعيك في الأيام المقبلة". ثم مضى إلى سبيله ومضت إلى سبيلها ولا يدري أحد في صدورهم..من السر..ماذا يخفون.
    لقد امتد الفحص العقلي أسبوعاً كاملاً ،وكان محاطاً بكل السرية والأمان من قبل عناصر الأمن التي ترافق الشيخ من وإلى غرفة الفحص. وقد كان الطبيب النفسي يناقش مع الشيخ بعض أفكاره. قال له بشماتة يريد اختبار ردة فعله:"أيها الرجل المسن ،لقد أتلف الرجال كتابك العزيز ،لقد سعدت كثيراً حين رأيتهم يفعلون هذا. لقد واتتني ورقة مترمدة مما يحرقون ،أتعلم ما فعلت بها أيها الشيخ؟..لقد أخذتها بين يدي ثم قرأت بعض ما جاء فيها..كانت تقول "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"..ثم وطأت عليها بحذائي وسحقتها حتى صارت كالتراب. أي هذاء هذا الذي تحمله حيثما تذهب؟ أيها الشيخ الكبير." أدرك الشيخ أن الرجل يريد استثارته ،فلم يحر جواباً ،لم يغضب. تململ الطبيب في مقعده ثم دون ملاحظة صغيرة ،ونهض من كرسيه واتجه صوب كرسي الشيخ. ثم ألقى يديه بقوة على كتفيه وقال بصخب:"كيف يكون لهذا الجسد خالق..هل تقول أنك حي بعد الموت؟؟..فإنني أقول لك إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين..". نطق الشيخ أخيراً فقال وعلى وجهه ابتسامة صغيرة:"قد قالها من قبل..قد قالها ربي.."ثم دمعت عيناه وقال بحماسة:"سبحانه إنه يعلم ما يقول خلقه..". قال الطبيب بسرعة"كيف تؤمن بشيء لا تراه..إني أراك من الجاهلين!" قال الشيخ رافعاً صوته ،ناظراً بحدة إلى وجه طبيبه:"إني لا أرى بصري كاملاً..فكثير من الأشياء لا أراها ولا أنت تراها..وكثير من الأشياء أراها وأنا الضرير..ولكنك لا تراها وأنت البصير..فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". ثم قال الشيخ بصوت هادئ:"لقد نلت مني..إني لا أحب أن أكون شيطاناً أخرس..أيها الرجل إن الذكر الذي أحرقته..ثم وضع كفه على صدره..إنه هاهنا..فأخبرني هل تصل نارك إلى قلبي!..إن الله متم نوره ولو كره الكافرون"..رفع الطبيب كفيه عن الكتفين الهزيلين ،ثم نادى الممرضة لتأخذ الرجل المسن إلى حجرته.
    كان وجهها بائساً كثيراً ،ويزداد بؤساً مع نظرات رجال الأمن الذين كلفوا بحصار المريض. سألها الشيخ وقد أحس انشغالها فقال بلطف:"إن الله لناصرك عليه..وإن حرقوا مصحفي..إن صدري يحتويه" قالت بتحسر: "لقد أخذوها مني..كنت احتفظت بصفحة منه في جيب ثوبي..لكن أحدهم لاحظني..إنهم يراقبونني الآن..إنني لا أحب نظرات الرجال" قال الشيخ بحنان بينما كانت تساعده على امتطاء السرير:"لا تهتمي أيتها المرأة الطيبة ،إن الله ناصرنا عليهم" "إن نفسك زكية ،وفؤادك مليء بالخير ،إنك نفس طاهرة ،إنك ستكافئين بالمثل ،وربي يضاعف لمن يشاء" تناولت المرأة يده وهمت بتقبيلها تشكره على لطفه ،لكنه امتنع وقال :"إن من خلقك هو من يستحق الشكر ،اتجهي إلى تلك الناصية المباركة ،فقولي الحمد لله الذي هداني وما كنت لأهتدي لولا أن هداني إليه" فعلت المرأة ما اقترح ،ودخل أربعة رجال مسلحين إلى الغرفة. وقف اثنان منهم لحراسة الباب ،وانتصب الرجلان الآخران بجانب سرير الشيخ. قال قائدهم بظفر وبدا مستمتعاً كثيراً بعمله الكئيب:"سنرافقك أيها المختل إلى المصحة ،وهناك ستجد من يعتني بك" ثم أخذا الطبيب بقسوة إلى كرسيه ،فتدخلت الممرضة وقالت بلهجة هجومية:
    - "ما هكذا تعامل شيخاً أيها الرجل"
    - "اصمتي أيتها المرأة ،سترافقينا إلى مركز الشرطة بعد العمل ،لا تتدخلي أيتها الجاهلة"
    - إنك رجل لئيم ،أخبرني هل كل الضباط مثلك؟ إني لا أريد رؤية أمثالك في مدينتنا..يعيشون.
    وكانوا قد تبينوا للناس في الرواق أمام الغرف ،وكانت تسير خلف جسد الضابط الضخم الذي لحف ببزة عسكرية عريقة الطراز. وما كاد الضابط يسمع جملتها الشاتمة حتى استدار إليها ولكمها في وجهها بمجمع قبضته. وقعت على الأرض مباشرة فانتشلها إليه حتى صار وجهها مقابل أنفاسه الغاضبة ،وبدت سيقانها تتدلى مستغيثة من الأسفل ،وكان الحدث على مرأى ومسمع من المرضى والأطباء الذين يعبرون ،فهب مريضان لإغاثتها ،وعندما رأى الضابط بغيتهم ظاهرة على وجوههم دفعهم براحة يده الكبيرة فأوقعهم على الأرض ،وتأوه أحدهم إذ كانت ساقه مكسورة ،وتأهب الناس لمأساة كبيرة وصدوا عن المشاهدة ،وظهر في الرواق رجل طويل عريض المنكبين جميل الملامح يرتدي معطفاً أبيض. نظر بدهشة إلى الحادث وتقدم مباشرة إليه. كان الضابط قد ألقى الممرضة أرضاً ووجه قبضته إليها. وكان أن استقرت قبضته القوية في صدر الطبيب. تحدث الطبيب فقال مستنكراً:"ماذا تفعل..على رسلك..إنها امرأة" قلب الضابط بصره في وجه معاتبه العابس فقال:"لقد كنت سأطرحك معها ،ولكنك وجه معروف" أجابه الطبيب خاتماً حوارهما الشائك:"و لك ظهر يقيك العقاب..أيها الضابط..اذهب في طريقك..فإنك لن تنال العقاب من أحد".
    ساعد الطبيب الممرضة على النهوض ،ثم أخذها إلى مقعد قريب ،وجلس إلى جوارها تاركاً أوراقه على الأرض. قال لها حين أبصرها تتفحص جرحاً في شفتها:"لا أجد نفسي أفضل منه ،لقد صفعتك ذات مرة.." ثم استطرد بنبرة اعتذار:"أعلم أنك لم تردي رؤيتي أقدم خيراً لك ،إننا نتحدى بعضنا..لكننا لسنا في حال حرب.." وقفت بقامتها الضئيلة وقد وضعت قطناً على فمها فلم تخرج كلماتها بشكل جيد:"إنني لا أحاربك أيضاً..إنني أريد أن أهديك إلى النور" قال لها وقد وقف أيضاً :"لا تتدخلي في صراع مع هؤلاء الرجال فإنهم يعترفون بأجسادهم فقط".
    لقد كان الوقت أصيلاً حين رافقها أحد الضباط الى مبنى الشرطة الكبير،لتوقع على وثيقة تتعهد فيها أن لا تقرب ما اقترفت أبداً. وخاطبها الضابط قائلاً:"يمكنك أن تنتظري هنا ،سأستأذن المدير". كانت تحدق بأرضية المكان القاتمة وتفكر بمآل الشيخ. حين دخلت أخيراً استقبلها رجل أسمر ذي نظرات ثاقبة ،قال لها بمرح:"إذن أنت الممرضة الجميلة..أعتقد أنني سأكون مريضاً في قسمك..قريباً"..ثم حول بصره عنها ووضع نظارته أمام عينيه وبحث في ورقة أمامه ،قال لها بغير اهتمام:"إني أجد رجالنا يضخمون الأمور على امرأة شابة..وقعي باسمك هنا..يكفي أن تعديني أن لا تعرقلي سير التحقيق..ثانية" ثم أشار للضابط أن يصحبها إلى الخارج. كانت تسير محاذية للضابط ،وتصطدم بمنكبه مرة تلو المرة كلما ولجوا ممراً ضيقاً ،ولم يبد على الرجل الضخم أي إحساس بالصدمات. وكان وجهه خالياً من أي تعبير حين قال لها:"إنه المخرج..سأذهب الآن" ألقت نظرة طويلة على جسده حين ولى مدبراً ،ووقفت تحدق بالأرضية تارة أخرى. مر بها صبية مع رجل في منتصف العمر ،ذكرت أنهم أصدقاء الشيخ ،فهمت بإيقافهم ،بيد أن موكبهم لم يلحظ وجودها أبداً. ثم أقبل بعض الآباء والأمهات يتحدثون بصخب وتعصب ،وظل صدى صوتهم في بهو المبنى بعيد مغادرتهم ،ثم غادر معهم. مازالت المرأة في مكانها تنقب عن وسيلة تصل خلالها للشيخ ،ثم رفعت رأسها تجيب وقع الأقدام الآتية ،أقدام لحذاء امرأة وشخص آخر. ظهر الشخصان من خلف سترهما ،فعرفتهما على الفور ،وقالت للمرأة حين مرت بقربها:"أنت المرأة عند الشيخ..وهذا الصبي..أوه..هل فعلوا سوءاً بكم؟.." أجابت أم إلياس بتردد:"لقد تعهدنا أن نحسن التصرف..لم يكن سيئا..وأنتِ...." عاجلتها الممرضة بالجواب فقالت:"لقد أخفيت ورقة من كتابه..من كتاب الشيخ..فلقيت جزائي" ردت عليها أم إلياس باهتمام"أتمنى أن لا يكون عقاباً شديداً" وأخذت بكف ابنها تريد الخروج ،وتحركت الممرضة مفسحة لهما الطريق ثم قالت مستدركة:"إنه سيعاقبهم ،لأنهم لا يؤمنون به" التفت الصغير إليها فقال موجهاً نظرة حادة إلى عيونها الصغيرة:"هل تؤمنين به يا أختاه؟" أجابت أمه بحذر فقالت"إنني لا أريد حديثاً كهذا هنا" صاحت المرأة قائلة"هل علمكِ شيئاً من كتابه؟..أفيضي علي بمعرفتك..ولا تبخلي.." فهب الصبي لإجابتها قائلاً بنبرة بغيضة ،وهو يمسح بيده موضع القلب من جسده :"إنني أحفظه عن ظهر قلب" قبضت الممرضة على كتفيه ونظرت في عينيه مباشرة :"هل ما تقوله حقيقي أيها الصبي الجيد؟.." تدخلت أم إلياس فأخذت صغيرها من كفه وقالت تؤنبه:"لا تكذب على الأخت الطيبة ،سنعود للبيت.." ظل الصبي مميلاً رقبته إلى الممرضة بينما كانت أمه تجره من يده إلى السيارة.
    كان المحقق يركن سيارته في الموقف الخاص بالضباط والموظفين ،حين أمكن لعينه أن تلحظ المرأة وطفلها الجميل. أخذ يحث الخطى إلى حيث سيارتها ،وأغلق باب سيارته بعنف خلفه ،ووصل قبل أن تركب. ألقى التحية إليها من بعيد لتنتبه ،فتريثت حتى يصل. قال لها باهتمام:"كيف كان التحقيق؟ أتعشم أنهم لم يغلظوا القول عليك" قالت بنفاد صبر وكانت تريد الخلاص من ملاحقته:"إنني بخير..شكراً لك..سأذهب الآن" ركبت وقادت سيارتها بسرعة هاربة منه. تبعها ببصره حتى نبهه صوت أنثوي صغير. كان الصوت قد سأله شيئاً ،فطن له بعد أن استيقظ من تأملاته في النظرات المخيفة ،للولد الذي غادر مع أمه منذ برهة. فقال دون أن يلتفت:"أنا هو ماذا أردتي؟" أجابه الصوت بنعومة أكثر وكان لاحظ اهتمامه بالنساء:"إنني ممرضة كنت أعمل لدى الشيخ ،لقد استدان مني مالاً ووعد برده ،كيف السبيل للوصول إليه؟" تأمل المحقق في ملامحها الطفولية ،وأدرك أنها تداهنه ،فقال بنبرة تماثل نبرتها:"لا أذكر أننا التقينا سابقاً ،فكيف عرفت اسمي ورتبتي؟" أجابته بغنج أكثر"لا تتحامق أيها المحقق ،إني أراه على صدرك" قال مماشياً لنغمة صوتها:"إني لا أرتديها دائماً ،كيف أرتديتها اليوم؟!" قالت فجأة وبصوت حازم:"أريد الوصول للشيخ لأسترد منه مالي ،لن يعرف أحداً منكم ،لكنه سيتذكر صوتي" قال بصوت صارم أيضاً :"لقد سمعت أن ممرضة تعرضت للضرب من رجالنا ،لعلها تكون أنت ،هل ستكررين عملك ذلك..آمرك أن لا تندسي بين رجال الشرطة" قالت بسرعة:"قلت لك أيها الرجل المحقق إنه مال.. مال" قال لها منهياً حوارهما الطويل:"حسن ،سأساهم في رفع طلبك ،بما أنني مازلت أعمل على القضية" قالت بظفر:"إنك لن تقلق يا سيدي فعيون رجالك في كل جحر تراقب أتباع الشيخ ،ولن تكتفي بعهدهم" "لقد كان عملك هو عين الصواب يوم أن أحلت الشيخ إلى سجن العقول ،بدلاً من سجن الأبدان ،إنك رجل ماكر يا سيدي" قال لها:"شكراً لك" جاوزته بسرعة فاشتم عبيرها وتابع جسدها الصغير الذي تحول إليه هاتفاً:"إن المرأة التي تريد..إن لديها حارس عتيد..إنك لن تحظى بها" ثم غادرت تتراقص في مشيتها حتى اختفت من أمامه.
    كانت الممرضة الصغيرة ،في دارها لما أتى المرافقون. وكانت الشمس تغالب الغيوم لتظهر ،والحرب كانت سجال بينهما ،فمرة تغلب ومرة تغلبها الغيوم. ولم تكن تبصر ملامح الرجلين بدقة في الزقاق الصغير المؤدي للبناء -والذي ظلل بأشجار طويلة عريضة الأوراق- إلا حين تكون الغلبة للشمس على الغيوم. كان أحدهما ملتحٍ جاد الملامح يبدو أكبر بسنوات من رفيقه الصغير. صحبوها في سيارتهم التي زينت بشعار الشرطة ،وبدت خجلة جدا في مقعدها بين الرجلين. أخذوها في ممرات وسراديب ضيقة ومظلمة في أحد الطوابق التي وصلوا إليها بالمصعد الكهربائي. عبروا بها حجرات مغلقة الأبواب فيها أناس يركضون و يصطرخون ويضحكون ،و لربما جاورهم طبيب يحدق في كتاب ،أو ممرض يهرول بسرعة. وأطل عليهم شاب نحيل من إحدى الحجرات وحدق بالممرضة بعينين زائغتين تحيط بهما هالتين سوداوين ،ألقت له نظرة خاطفة وجاوزته إلى سرداب آخر. وصلوا إلى غرفة كانت في طابق لوحدها ،وكان الصعود إليها من خلال سلم يقف عليه عصبة من الرجال ،يتناوبون في حراسته. قالوا وقد شاهدوا المرأة بصحبة الحارسين:"زائر غير مألوف!" أجاب الحارس برتابة:"إنها ممرضته سابقاً..إياك أن تتهاون معها..ولا تجعلها تنفرد بالرجل الخرف". دخلت المرأة إلى غرفة الشيخ ،فألفته ساجداً إلى قبلته ،تقدمت منه وعيون الضباط تلاحقها فقالت بلطف:"إنه ساجد..سأنتظره حتى يفرغ من سجدته " صاح بها أحدهم قائلاً:"إن وقتك محدد..هه..أفعلي ما شئت". جلست على حافة السرير تنتظر فراغه من سجدته ،لكنه لم يأت بحركة. توترت وهي تصغي لدقات ساعة كبيرة علقت فوق مدخل الغرفة. واكفهر الجو في الخارج إذ انتصرت الغيوم على الشمس. أخذت تعبث بأظفارها وتقلبها ذات اليمين والشمال ،حين ارتفع صوت رجل من الخارج ينادي بانتهاء الزيارة. تقدم الرجال ليصحبوها فتمنعت وحاولت إقناعهم ،ولكنهم أخرجوها من الغرفة. وعى ذهن الشيخ بعد تحيته إلى اليمين والشمال ،واستمع إلى صراخ المرأة وتوسلاتها فنهض وفتح الباب الذي لم يغلق بعد ،وقال لها:"لقد أصبح المكان ظلاماً ،لكني أعتقد أن ثمة نور في بيتي ،اذهبي أيتها المرأة قبل أن تعصف الريح العاتية" نظرت الممرضة إليه بحيرة ،وقال الرجل لصاحبه:"إنه يهذي ،لا ريب أنها قد حانت نوبته ،إنه يكون خطيرا فيها". قال الشيخ باطمئنان :"إنه العذاب..عذاب المكذبين..". نزلت الممرضة وحراسها عبر درجات السلم ،ذلك أن الكهرباء تعطلت بسبب صاعقة أخيرة ،وبدأت المولدات الاحتياطية بالعمل ولكنها لم تكن تغطي كل مكان. كانوا يسيرون على هدى من الضوء القادم من النوافذ الكبيرة ،وقد تناهى إلى سمعهم صراخ مفزوع من الأعلى ،ثم صوت أقدام تجري على الدرج ،وأصوات حناجر آمرة ،وقطع أثاث ترمى إلى الأرض. تريث الثلاثة في سيرهم ،ووقع درْجين خشبيين أمامهم ،ثم ظهر شاب نحيل يرتدي زي المستشفى ويقبض على سكين في راحته. تقدم منهم فتراجعوا وقصد الممرضة فلم تقدر على الحركة ،و نادى رجل قد بقر بطنه من الأعلى ،وأنزل ذراعه من بين أعمدة الدرابزين المتينة. قال بصوت ضعيف:"أدركوها..ستموت.." صوب الرجال بنادقهم الآلية إليه ،وتجهزوا للإطلاق ،ولكنهم لم يطلقوا خوفاً من المسؤولية. فتقدم الشاب ناحيتهم وهوى بسكينه على أحدهم ،ولما أن أبصرت الممرضة الدماء المسفوحة ،تحركت ساقاها دون أن تشعر. التفت الشاب إليها وعرف ما عزمت عليه. فترك الرجلين وراءه وجرى خلف المرأة. غادرت المرأة مع باب غير الباب الذي دخلت منه ،فوجدت أمامها حديقة فسيحة يظهر أنها لاستجمام المرضى ،جعلت يدها على عينها تحترس من الفتات الذي تحمله العاصفة ،وأخذت تعدو في الطين تحت السيل العرم الذي لم تعهده هذه المدينة الجافة. والتصق حذاؤها بالطين ،وامتنع عن الخروج ،حتى إذا أدركها الشاب عقدت نيتها فخلعته وأخذت تعدو بقدمين حافيتين. كان المكان واسعا ولم يبد أن لهذه الحديقة الجرداء نهاية واضحة ،وأخذ التعب منها كل مأخذ ،وهي التي تغوص أقدامها كل خطوة ،في هذا الطين اللازب ،وشوشت عوالق الجو الرؤية أمامها فلم تبصر إلا قليلاً. والشاب مصر على اللحاق بها ،ولم تظهر عليه أبداً أمارات التعب. وقعت فتلطخ وجهها وثوبها ،وأحست قرب أجلها ،فتلفتت تبحث عنه ،ولكنه لم يحضر وحضر أربعة من الرجال المسلحين ،أمروها أن تنبطح وأطلقوا رصاصاتهم في غير هدف محدد. سقط الشاب على الأرض فأسرعوا إليها وإليه. قال أحدهم ساخراً وقد رفع غطاء خوذته:"ارفعوه ،وإنا لا ندري أميت هو أو سيعيش ،إن التصويب لليد أو السلاح مع هؤلاء يكون مستحيلاً"ثم رافق المرأة إلى سيارة الشرطة.
    عادت المرأة الممرضة إلى العمل ،وكانت حضرت ممرضة مسنة لتغطي ساعة غيابها ،لقد كانت تستريح في مكتبها وتحتسي فنجاناً من القهوة السوداء. إن صورة السكين والرجل الثائر مازالت نصب عينيها أينما ولت وجهها. إنها أغلقت عينها ،وأخذت ساعة من نوم.
    أيقظتها من نومها صديقة لها ،قالت بصوت متعب:"لقد انقضى النهار..يوجد صبي بانتظارك.." ولم تفهم مقصدها أولا ،ثم نهضت فعدلت هندامها وسارت إلى حيث أشارت لها الممرضة. ألفت صبياً يرتدي قبعة ويحمل حقيبة مدرسية على ظهره واقفاً قرب مقعد إلى جواره عمود إنارة قصير. كانت تحيط بوجهه غشاوة تحجب ملامحه في الجو الذي لم يصفو بعد. حين وصلت إليه أضاء المصباح الأبيض فقرص الشمس جنح إلى الغروب. نبهته ممازحة:"تبدو حقيبتك أكبر منك..هل عدت للمدرسة" ،فرد عليها بالإيجاب ،وقال يحثها على الجلوس:"لقد أردتي الحديث معي..لهذا أتيت. أخبرتك أني أحمل كتابه في صدري ،وأنا صادق أيتها الأخت" "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ،إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ،إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً". ثم نظر في عينيها وقال:"إن هذا في الكتاب..وفي..صدري..وإن شئت تلوته عليك الآن بأكمله" أطرقت المرأة برأسها مفكرة ثم قالت"لديك كلام يخطف الألباب ،إني أريد سماعه كله. ولكن عيوناً تلاحظنا ،فليس بمقدورك إذن أن تكمله ،وليس بمقدوري أن أسمع" ثم نظرت لوجهه ذي القسمات الجميلة وقد علته سحنة من العناد والسخرية. كرهت نظرته وقالت بسرعة"إنني قد زرت الشيخ أريد مالاً كنت سلفته إياه فقال لي كلاماً لم أفهمه.." تغيرت سحنة الفتى وقال بحماسة:"وكيف لك هذا ؟ كيف وصلت إليه؟" أجابت وهي تلحظ المكان بناظريها:"قلت لك إن لدي عليه مالاً..." قاطعها صارخاً وعيونه تكاد تخرج من محاجرها:"أنى لك هذا؟ لقد نفذت بحيلة خبيثة أو شفاعة شافع ". قالت:"لم أفعل ،لقد وعدني أن يعلمني ،ووعد الحر دين" نهض الفتى وشد قوامه وقال بهدوء:"وماذا علمك سيدي؟" قالت وهي تنهض بدورها:"لم يعلمني شيء..لقد قال كلاماً لم أفهمه..وأحسب أنه يلمح لشيء ما.." "لقد قال لي أن الظلام حل ،وأنه يعتقد أن ثمة نور في بيته..ثم نصحني أن أرحل قبل هبوب العاصفة.. " لم ينطق إلياس ببنت شفة ،وكان يفكر في التلميح بكل خلية في مخه. قال بعد فترة:"أعتقد أن الشيخ يريد تنبيهنا لشيء مهم في بيته ،قبل أن تصل إليه أيدي الباحثين.." ثم قال بعد هنيهة هامساً:"ينبغي أن أزور بيته..غداً..كلا..هذه الليلة" قالت بتعجب:"تزوره؟!..إنه محاصر برجال الأمن" رد بسرعة:"سأتسلل بالطبع..إنها رسالة من سيدي لا يمكن تجاهلها" قالت بتردد:"سأصحبك إليه..إنه طلب إلي أولاً". قال الصبي باعتداد:"سأنتظرك قرب الميدان الكبير..إياك أن تتصلي بي..إنهم يراقبون كل شيء". ثم غادر كلٌ منها إلى وجهته.
    لقد أنبأ أمه أنه مغادر ،فصاحت به راجية. قالت وقد انهارت على الأرض ،بين ثمرات متناثرة من عنقود عنب كانت تحمله:"إلياس يا بني ..لا تجعلني وحيدة..إني أعلم بشأن نيتك..إن بالك مشغول به.." ثم أجهشت بالبكاء:"إن الظلام ليس بجيد..لطفل جميل..الكل طامع به" تقدم إلى حيث جثت وهو يلتقط حبات العنب اليانعة ،ثم ألقمها بيده واحدة كبيرة ،ومسح براحتيه دمعتين تشقان طريقهما في خدها الأسيل ،ثم ضمها إليه بقوة ،وقال إذ كان فاه في أذنها هامساً:"أمي ،إنني لست بطفل ،لا تعامليني كابن السادسة" "إنني ذاهب يا أماه ،إنه سيحفظني..لا تقلقي..وكِلي أمرك إليه" ثم فارقها قائماً وما يزال ينظر إليها. منذ متى أصبحت عظام صدره كبيرة؟ منذ متى أصبح صوته شبيهاً بالرجال؟. لقد وجدت عطرها في بدنه ،لقد شعرت أنهما كلٌ متوحد عندما أخذها في حضنه. قالت بغضب باكٍ حين سمعته يغلق الباب مغادراً:"ذلك الشيء الذي تتوهمون وجوده..سيحفظه!!..فليبزغ إن كان موجوداً!..آه..آه..يا ويلتى على ما ثكلت..يا ويلتى على ما ثكلت.." وراحت تجر شعرها وتنتحب..وتصرخ..وتضرب الأرض بكفيها ولا إحساس بأي ألم.
    لقد غادرها إلى مآل لا تعرفه ،في مدينة مليئة بالعيون اللاحظة ،في حفظ كنه لا تؤمن به. وقف الصبي والمرأة على بيت الشيخ ،ودهشت هي من رداءته. وانتظر الاثنان فرصة مناسبة للدخول إلى البيت. قال الفتى يخاطبها:"إني أعرف كل جحر في بيته ،لكنه كان يوبخني كلما حطت قدمي تريد الرقي للطابق الثاني..فإني لا أعرفه" ثم جال حول الدار ونصا جانبها الخلفي ،وقال لها:"لا تُحرس الدار في وقت كهذا ،أمرهم عجيب ،هلمِ إلي لندخل" وتسلق السور كقرد صغير وفتح لها الباب ،فدخلت ،ونبهها إلى أن تحذر ،فلربما كان في المكان فخ مستتر. ثم انسلت أجسادهما الضئيلة من نافذة مخدع الشيخ. قال لها بينما خلع حذائه:"أخلعي حذاءك ،فإن الشيخ يتعبد في كل مكان في الغرفة ،وهو يكره أن يطأها امرؤٌ بنعله. استمعت لأمره وسارت خلف دليلها في دياجير الدار المحرقة. وطأت بقدمها شيئاً فرفعته وقربته إلى بصيص ضوء من النافذة لتفحصه. نظر الفتى ناحيتها وقال:"ضعيه في جيبك إنه عود أراك لطالما وضعه الشيخ في فمه". ثم صعدا إلى الأعلى. كان إلياس متشوقاً كثيراً ليعرف أي شيء يخفيه الشيخ عنه في هذا البرج البعيد ،وكاد أن يقع بدرجة مكسورة إبان صعوده ،قالت الفتاة بدهشة:"إن السلم مليء بالفطور ،يجب أن تحذر". كان المكان بالأعلى خالياً من كل شيء ،فلم يريا في المكان سراً فريداً. كان كل ما هنالك غرفتين فسيحتين ،يفصم بينهما جدار حجري متهالك. تقاسما البحث عن النور ،فتسلم كل منهما غرفة ينبش فيها. وما هي إلا دقيقة حتى خرجا والتقيا في المنتصف عند الحائط المتصدع. قالت الفتاة:
    - إن الغرفة فارغة ،لا أعتقد أننا سنعثر على شيء ،ربما أخطأنا في فهم ما يرمي إليه ،الشيخ الجليل.
    - أنا متيقن أن ثمة نور هنا ،شأن يخفيه الشيخ عن الجميع لأهميته ،لقد كان يفعل شيئاً هنا.
    - ما أريك إلا الذي أرى ،وما أهديك غير سبيل الرشاد. لم يقصد الشيخ بيته...
    رد عليها بسرعة مستنكراً:
    - فماذا إذن قصد بنور بيته؟
    - ربما..ربما الفناء ،وربما دفن شيئاً في أحواض الزرع.
    - أجزم أن النور في عقر داره ،إني أحس بذلك.
    - وهل الإحساس يقطع كل شيء؟
    ثم أدبرت وأرادت النزول وقالت:
    - إني ذاهبة لأتفحص الفناء.
    - انتظري..لقد فطنت لشيء ما..إن سيدي قد قص علي قصة عن رجل صالح أقام جداراً كاد أن ينقض ،أمره الله بذلك. لقد كان تحت الجدار كنز لغلامين يتيمين ،أراد الله أن يستخرجاه.
    قالت بانفعال:
    - هل تفيد أن النور تحت هذا الجدار..هل..هل نحضر فأساً لنهدمه؟
    - تريثي يا أختاه ،ما كان الشيخ ذو مرّة حتى يدفن كنزاً تحت جدار ،لكنه مليء بالشقوق الكبيرة..يتجلى لي الآن أن الشيخ...
    ثم هتفا جميعاً بانفعال:"إنه هنا". واستخرجا أوراقاً ملفوفة إلى بعضها من كل شق. وجمعا في المسافة بينهما الكثير منها ،وتوقفا عن النبش مع آخر شق ،وأخذت الفتاة تنظف ما علق في أظافرها من مادة الحائط. وجمع الفتى بعض الكتب وخلع سترته الخارجية فصرها فيها ،وبقي قرطاس ضخم متبعثر الأوراق كتب عليه بخط متعرج "تأويل كلام الله بما جاء عن رسوله وصحبه وتابعيه ". لم يكن بمقدور الفتاة أن تخلع بعضاً من ثيابها لتجمع فيها شتات الكتاب ،ولم يجد أي منهما حيلة أيضاً ،ولم يكن سروال الفتى القصير رهواً بحيث يحتمل الأوراق. قالت الفتاة للصبي:"لا عليك سأحملها في سترتي..إن المكان مظلم وأنت طفل صغير". تقدم الصبي أمامها وسارت خلفه إلى السلم. تمهلا قليلاً على إثر صوت من الأسفل ،وانقلبا إلى الغرفة تارة أخرى. كانت خطوات ثقيلة تعبر درجات السلم المتهالك ،وارتفع صوت صاحبها يشتم الدهر الذي أرداها إلى هذا الضعف. دب الفزع في عروق الاثنين ،وركنا إلى جدار الشيخ. أقبل شعاع الضوء الذي يحمله الرجل إلى الناحية التي اختبئا فيها ،فأخفت الفتاة الجالسة وجهها بيديها ودست أنفها في كتب الشيخ ،فلم تجد غير رائحة الحبر القوية. وأمرها الفتى أن تكتم أنفاسها ،فأطاعت أمره باستسلام. وقبل أن تبصرهم أعين الحارس ،إذ بالفتى يهجم على الرجل بمدية كان يحملها بيده ،أطلق الرجل حين فات وقت الإطلاق ،فأقبل صاحبه مستعجلاً إليه. وكان يثب في الدرج وثباً ،وطالعته يد الصبي وسكينه ،ثم لم يعِ بعد ذلك من الدنيا شيئاً. نظرت الفتاة بخوف إلى الرجلين الملقين بجانب بعضهما ،وإلى الفتى الذي يضربهما بمديته الضعيفة في كل جزء من جسديهما ،وإلى الدم القاني الذي اصطبغ به وجهه وصدره .ولم يلقي الفتى سكينه حتى استحالا إلى جثتين لا تنطقان. ثم التفت إلى المَروعة فقال بلهجة جافة:"أسرعي..هيا". وكادت أقدامهما تميد بهما في الدم الزلق على الأرض. وغادرا من حيث أتيا ،وفطن الصبي إلى أحذيتهم فآب لأخذها ،واستترت أقدامهم الدامية داخلها.
    لقد أفنى كل منهما ليلته مفكراً ،وكانا اتفقا على طريقة يخفون بها النور الذي بين أيديهم. وأقبلت أم إلياس إلى غرفة نوم ابنها في الصباح الباكر ،وكان سيطر عليها نوم عميق في الليل. قالت تحاول إيقاظه غاضبة:"لا أطلب منك الذهاب ،إذا لم ترد المدرسة فافعل ما شئت.." ثم حركته من كتفه بعنف وقالت:"أخبرتك أن لا تخرج بالأمس ،لكنك لا تستمع إلي..أوه..ماذا أفعل؟ لقد أحاطوا بالمنزل منذ قليل.." ثم قالت صارخة بجنون وهي جاثية قرب سرير ابنها:"أريد أن أموت..أن أتخلص من جسدي..أن أرحل إلى المجهول..". نهض الفتى واستحم وارتدى ثوب المدرسة وأراد الخروج. لكن رجلاً يرتدي زيا عسكرياً أوقفه وأبلغه ووالدته أنهم تحت الإقامة الجبرية في البيت. ثم عرض لهم وثيقة لا تقبل الشك.
    ظل الفتى حبيس البيت وأمه طوال ساعات ذلك النهار ،ثم رفع عنهم الحصار في الليل ،بعد أن وجد التحقيق شيئاً يغير الأحداث. قال الفتى لأمه بمرح:"لقد ذهب الرجال ،نستطيع أن نخرج.." ثم التفت إلى وجه أمه الحزين الذي يتفرج على مشهد الغروب في الشرفة. خرج الفتى ولم تعترض والدته ،ربما لأنها يئست منه ،ومن طبعه المعاند أي من الحياة ،خرج يسير على غير هدى في طرقات المدينة المضيئة.
    عاد قبل العاشرة ،فألفى أمه في المطبخ جالسة على كرسي دون أن تشعل الضوء. قال لها بغضب:"لأي شيء أحضرت رجلاً إلى هنا يا أماه؟ إني لأجد ريحه في المكان " أجابته بصوت مختنق:"إنه صديق والدك..سيترافع لقضيتنا الآتية في المحكمة". تقدم منها وسحب كرسياً جعله مقابلاً لها وتحدث بصوت فخم هادئ:"أمي ،لا تنظري إلى رجل غيري..إني أنذرك أن تقتربي من أجنبي". ولم تدر المرأة ما تقول ولم تدر ما تصنع ،لقد ألجمها فم ابنها ووجهه الذي لم يكتمل. أنى يكون لخده الذي انعكس على سطحه النور ،هذا السلطان وهذه القوة ،ولما تنبت الأشجار في أرضه المقفرة!!

    إلى الفصل الخامس بإذن الله

    (1) الصفحة الشخصية على الشبكة.

  9. #9


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أتمنى أن الجميع متابع لي
    ويسرني أن أضع الفصل الخامس بين أيديكم ،يشرفني نقدكم

    (الفصل الخامس)
    عزم المحقق على سن مُثل جديد مذ ألقي في مسؤوليته هلاك الرجلين الحارسين في نزل الشيخ. لقد تحدثوا في مركز الشرطة عن تساهله وشرود باله عن الحقائق التي كانت خلف هذه الوقائع والأحداث ،وعذله المدير على تهاونه مع رجاله الذين كلفهم بحراسة المنزل. وقال المدير ولون سمرته المحمر من الغضب يتلاشى شيئاً فشيئاً:"إنك رجل جيد ،وأنا لا أرغب أن أسمعك هذه الكلمات." "إن القضية تجاوزت حدودها المرسومة لها..وبالنظر للمعلومات التي وردتني..فإني ختمت ملفها بهذا الشكل البسيط..إني أجدك غير أمين في نقل ما تتوصل إليه بعقلك وأبحاثك معي". ولم يذبّ المحقق عن نفسه بكلمة ،ولم يأتِ جسده بأي حركة ملل أو كظم غيظ ،ولم يرغب أبداً في تحطيم رؤوس أولئك الذين حدقوا فيه شامتين على طول الطريق إلى الخارج ،فقط كان دماغه يعمل على تحليل جريمة القتل الشنيعة ،و الوسيلة الأفضل لحصر المشتبه بتورط أيديهم في إزهاق الروحين. كان يعاتب الشيخ في مهجعه بصوت مرهق:"أيها الشيخ..لقد اصطبغت دارك بالأحمر ليلة أمس الأول..لقد ذبح أتباع علمك الذي تزعمه اثنين من رجالي..فإن كان هديك يحض على قتل الناس فبئس الهدي المضل جئت به بين يديك..وبئس الضياء المعتم تريد أخذ الناس إليه " وتحدث فقال بلهجة صارمة:"أيها الرجل المسن إنني أنوي جمع الأسماء المتوارية التي كانت تسمع كلامك..فضلاً عن استجواب لكل الأشخاص الذين نعرفهم من يدعونك بالشيخ الجليل..وسواء إخباري بجحورهم وإخفاء هذا..فإنني سأكشفهم قريباً". لم يبد على صوت الشيخ أي تأثر بالحادثة التي يرويها رجل الشرطة حين قال"إنه علم مهيب ذلك الذي جعلكم تخافون من رجل مسن مسجون ،تقدمون بين يديه فتنشدون بعض المساعدة في البحث عن الجاني..إن الكتاب الذي بين يدي يأمر لساني أن لا ينطق بغير الحق وإن كنت سأقتل لو نطقت به..فأي حكم ذاك الذي يعظم شأن الكذب إلى هذا الحد ويتهاون بروح إنسان بريء!..أيها الشرطي في أي قضية قمت عليها هل كنت تأخذ كلام الناس على محمل الجد؟..لقد كنت تمحص الأقوال لتعرف الحقيقة من الخيال..لكنك أتيتني وسألتني وتعلم أني سأصدقك القول..كما أن جوابي فقط هو الذي سيجعل تحرياتك تسير..وبطريق الصواب..لأنك لا تعرف أي نوع من الناس يمكن أن يجالس رجلاً هرماً..ولم تكن هناك عيون تراقب بيتي فتعلم من دخل إليه ومن خرج. إن الصبية الذين يرافقهم رجل في منتصف العمر قد تعهدوا لديكم بالتوبة من ذنبهم ذاك..ولا أدري لأي سبب اتسعت رقعة أبحاثك وصرت تعتقد بوجود غيرهم!". وتحرك المحقق صوب الباب ففتحه له جندي يحمل مدفعاً آلياً أدى التحية العسكرية ثم أغلق الباب.
    لقد توجه المحقق إلى دار الشيخ مباشرة عقب مقابلته القصيرة معه ،ولم يكن رجال المختبر قد انتهوا من جمع الآثار التي تركها الجناة خلفهم ،وقال كبيرهم للمحقق:"لقد رفعنا آثار الأقدام الدامية ،ووجدنا من النظرة الأولى أنها لطفل وشخص بالغ..سنوافيك بالنتائج بعد مطابقتها ببصمات المشتبه بهم" وأكمل وهو يشير للمحقق على الشقوق في الحائط:"يتبدى لنا أنهم عبثوا بشيء ما هنا..ولم نعثر على سلاح الجريمة" ثم قال وقد بان الضجر على وجه المحقق:"سيفحص الطبيب الشرعي جثث القتلى وسيحدد أي سلاح أراق دمائهم..وأنا يظهر لي أنها شفرة صغيرة كرر الجاني هجومه بها ليؤذي الرجلين..إن خطوطها ليست غويطة وطعنتها ليست بذلك العمق. يعن لي أن أقول أنهما دخلا من النافذة فآثار الأقدام في الفناء الموحل تصرخ بذلك..". "سأستمع إلى تقريرك لاحقاً ،شكراً لك". قال المحقق قاطعاً استنتاج الرجل الذي بدأه للتو. راح المحقق يفحص المكان وفق منهجه الخاص وارتاح كثيراً حين ودعه رجال المختبر. كان من الطبيعي ألا يلقى الرجال شيئاً ليرفعوا البصمات من على سطحه ،إذ أن المكان خواء إلا من الجدار المتصدع الخرب. وقد فحصوا بعض بصمات مبعثرة لأنامل تنبش في الجدار وتستند إليه ،وقد أدرك المحقق أن فحص البصمات لن يجود بشيء ،لذا كان عليه أن يستحضر المشاعر التي كانت حاضرة الغرفة وقت حدوث الجريمة ،وكان رفاقه يسخرون من أسلوبه التأملي الحالم الذي لا يمكن أن يأتي بدليل مادي يحيل مجرماً إلى العدالة. غير أنه أكثر من مرة استطاع أن يودع سارقاً إلى السجن أو يسوق قاتلاً إلى حبل المشنقة باعتماده على عاطفته الحية.
    لقد تحسس براحته شقوق الحائط الكبيرة وأدخل سبابته في ثقوبه الصغيرة ،وأغمض جفنيه مستسلماً للقصة الوهمية التي راحت ترويها مشاعره التي تسلمت معطيات القضية من أصابع كفه الخمسة. غير أن إحساسه المرهف لم يجد بشيء هذه المرة ،لقد أيقن في قرارة نفسه أن جريمة القتل في هذه الغرفة حدثت مجردة من أية مشاعر. فلا نظر القاتل إلى وجه ضحيته ،ولا المقتول نظر إلى عيني قاتله ،ولم تكن تتكون المشاعر التي يذرها الأفراد في موقع الجريمة ،إلا باتصال حواسهم المادية التي تصنع جواً من الحزن أو الفرح أو الغضب. إن المحقق دخل كل الحجرات في بيت الشيخ وانتهى إلى حجرة نومه والنافذة التي تسلل منها المجرمون ،وخرج من الباب الذي يحرسه رجاله الثلاثة ،فألقوا إليه تحية عسكرية طويلة ،وتمنوا له التوفيق.
    كان يستقبل الكهل في غرفة صغيرة وقد حضر نفسه لتحقيق دقيق غير رفيق. قال للرجل الذي تهدلت أكتافه من الأسى:
    - أين كنت وقت الجريمة؟ لقد قدرت بالثامنة من ليلة أمس الأول.
    - لقد كنت في بيتي ،وإلى جواري زوجتي فقط..أحسب أنكم لن تأخذوا بشهادتها.
    - حسن..وممن علمت بحدوث الجريمة؟
    - من رجالكم ،لقد أخبروني أني أحد المشتبه بهم وطلبوا مني أن أصحبهم.
    - أنت متأكد أنك لم تتلق اتصالاً من أحدهم..أو رسالة على بريدك الإلكتروني؟
    - لم يحدث ،ويمكنكم أن تراجعوا ذلك..فأنتم تراقبون كل شيء.
    - أنا لم أعن خطاباً يخبرك بالواقعة ،إنما محادثة من شخص قد انقطع عنك منذ أمد ،أو شخص لا يتصل كثيراً.
    - لم يحدث.
    - شكراً لك..أرجو أن تسمح لنا بمقابلة مع زوجتك على انفراد.
    - لكم ذلك. ثم أدبر بجسده المترنح ذات اليمين والشمال ،وأقبلت زوجته عابسة المحيا. سألها المحقق بلطف محاولاً أن يشتت الخطوط الصغيرة بين حاجبيها الدقيقين. قال:
    - لقد كنت مع زوجك في الثامنة من تلك الليلة ,هل هذا صحيح؟
    - ليس من عادتي أن أنظر للساعة إن لم يكن لدي موعد.
    - إذن..دعيني استفسر عما كنت تصنعين في ذلك اليوم.
    - لقد كنت أقبّل زوجي.
    - عفواً أنا لا أقصد هذا ،إني....
    - لقد كنت أطهو الطعام..كيف لي أن أذكر كل شيء! لقد أخبرتك بالأعمال التي آتي بها كل يوم..نعم..إني أقبله قبل خروجه إلى العمل..وأقدم له الطعام عند عودته إلى المنزل.
    - إنني ممتن لك ،هل كنت تعلمين أين يولي زوجك في الصباح؟
    - لم يخبرني..لكن مشرفه في العمل اتصل أكثر من مرة يسألني عن غيابه..أيها السائل اللحوح هل تعلم أين كان يذهب؟..لقد كان يأتيني بعلم غريب..وأحسب أنه يخفي به عبثه مع بعض النساء..
    - ولكن ،ألا ترين أن وقت البكور غير مناسب لهذه النشاطات؟
    - إنه يسلو بهذا عن ذكرى وفاة ابنه الوحيد ،إنه يحبني ،ولا يريد تركي وحيدة في الليل ،و لربما وجد إحداهن تفتح أبوابها في هذا الوقت.
    - لقد قلت أنه يحبك ،فهل يعقل أن يخون المحب حبيبته!
    وسيطر على المرأة ضحك هستيري صاخب ،وأجابت وهي تقهقه ساخرة:
    - أيها اللحوح لا تتصنع اللطف ،كلكم هكذا ،معشر الرجال ،لا تنظرون لامرأة واحدة.
    - يمكنك أن تغادري..إني آسف..لقد أطلت عليك. ونهض من مقعدة وشرب كأس الماء أمامه دفعة واحدة ،وقال لمن عنده من الرجال:"أسوأ شيء أن تحقق مع زوجة غيورة ،أو رجل كبير عاشق". ودخل المتهم الثاني وجلس ،ووضع المحقق كأس الماء ونظر في وجه الصبي البليد أمامه مطولاً ثم بدأ الحديث:
    - ما اسمك أيها الشاب؟ وهل تتمنى رؤية الشيخ؟
    - سعيد..وأنا سأسعد برؤية سيدي.
    - كيف قابلت الشيخ؟ وكيف دعاك إلى داره؟
    - لقد كنت أشتري دمية لأختي الصغيرة ذات نهار ،ورآها الشيخ بين يدي ،فسألني ماذا أحمل ،فقلت له إنها دمية بهيئة طير صغير ،فقال متحسراً"إنما أضل أقواما قبلكم تماثيل نصبها آبائهم ليبقى ذكرهم ،فاتخذها أبناؤهم آلهة يعبدونها من بعدهم". فأجبته بالنفي ،فدعاني لمنزله لأعلم أكثر ،أن أعلم عنه ،إلهي الذي فطرني ،ومنحني الحياة.
    - جيد ،أخبرني هل تؤمن بإله الشيخ؟ هل تراه موجوداً؟
    - إني مؤمن به. ويعتري قلبي ضعف الإيمان من حين لآخر. إن شيخي على دراية بعلل القلوب ولقد بشرني دائماً أن ربي سيثبت وجوده في قلبي.
    - أنت تذهب للمدرسة وتلتقي بأولاد آخرين ،هل تنوي دعوتهم إلى معتقدك؟
    أطرق الفتى برأسه مفكراً ،ثم أجاب بحذر:"أريد ذلك ،ولكن بعد عهدي لديكم فإني لا أقوى على نقضه".
    دخل الصبي الثاني ،ورقمه الثالث بين المتهمين ،كان هادئاً لا يبدو على وجهه أي تعبير. أجاب المفتش باسمه وكيف التقى بالشيخ:
    - لقد ساعدت الشيخ في حمل متاعه إلى داره ،فشكرني وقبض على كفي وسألني"هل تريد أجراً على هذا العمل؟" فأجبته بالنفي ،فقال لي:"ما لذي يجعلك تقدم المساعدة للناس دون أن تكسب مقابلها شيئاً؟" ،فلم أتفوه بشيء ،وأجاب على سؤاله بنفسه بسرعة:"ألا أدلك على أحد يجزيك ثواب عملك..إنه ما تعمل مثقال حبة من خير أو شر إلا ويسجله في صحيفة عنده ،معرفة باسمك (غسان) ،محفوظة في حفظه ،لا يضل ربي ولا ينسى" "إني أدعوك إليه ،فهل ستجيبني؟" فكنت طالباً في حلقته التي ينشأها كل صباح.
    ودخل الصبي الثالث وكان فارع الطول ،يلقي نظرات على كل شيء بطريقة حذر حيوانية. قال له المحقق بلطف وكان لاحظ جلسته الوجلة وأنفاسه المتوترة:
    - ماذا أحببت في الشيخ؟ وهل ستنشر ما جاء به؟
    - إني شغوف بالخوارق يا سيدي..وتشتاق أذنيّ إلى سماع لغة كتابه الفخمة.
    - إذن أنت تراه كاهناً..ولا تؤمن بربه؟
    - تستطيع أن تقول ذلك..إني غير جدير بمعرفة من خلف الكون والحياة..أحب شعور الغموض فقط.
    - كم تبلغ من العمر أيها الشاب؟
    - إني جاوزت الخامسة عشر..قبل يومين يا سيدي.
    - هل ترغب بمتابعة غموض هذه القضية؟
    - لا يا سيدي..لأنها ليست غامضة..فأنا أعرف القاتل.
    - أنت تشك بأحدهم..ما اسمه أيها الشاب؟
    - إنه الفتى الذي يلزم الشيخ ولا يفارقه أبداً ،إن بينهما من الود الشيء الكثير ،والفتى يحب الشيخ بطريقة مريبة. إنه إلياس.
    - ماذا تعني بمريبة؟.
    - أعني أن إلياس لا يحب الشيخ ،ولكن يريد شيئاً كامناً في داخله.
    - شكرا لتجاوبك ،يمكنك أن تنصرف.
    خط المفتش في مفكرته بعض الملاحظات ،وكان يحط يراعه جانباً حين دخل عليه المتهم قبل الأخير. سأله كيف التقى بالشيخ فأجاب بأنه لم يلتق به ولكن أحداً قدمه إليه.
    - لقد سألت غسان عما يفعله صباح أيام العطلة فأخبرني عن شيخه ودعاني إليه ،ولم أحضر يا سيدي غير المجلس الأخير الذي قبض بعده على الشيخ.
    - أراغب أنت بسماع علم الكتاب الذي يحمله الشيخ؟
    - نعم يا سيدي ،فلم أكتف بمعرفة الثقلين وممن خلقوا ،أريد أن أعلم لأي شيء لا نرى الجن؟ وما هو النور الذي خلق منه الملائكة؟ إني أريد أن أرحل للجنة ،وأنا لا أريد أن أذوق شجرة الزقوم ،لدي مسائل كثيرة لن يجيب عنها غير شيخي الجليل.
    - سأبدد حيرتك ،نحن لا نرى الجن ولا الملائكة لأنه لا وجود لهم ،وما أخبرك به الشيخ كذب وافتراء. دعني أرشدك إلى الوضوح ،إن الرجل المسن فقد اجتماع الناس حوله في عمره هذا ،فابتكر حيلة يجمعهم فيها إليه. وما كتابه وما حديثه إليكم إلا ليجذبكم إليه.
    - أنت مخطئ يا سيدي ،إن الشيخ رجل صادق.
    - قد أسرني ببعض الكلام ،مثلك تماما ،وكاد يخطفني بريق عينيه ونبل خلقه. أشكر لك تعاونك ،ولا تنس عهدك لدينا أن لا تعود لمثل ما قلت وفعلت.
    - لقد سمعت أن شخصين كانا في منزل الشيخ ليلة الجريمة ،تمنيت أن أدلي بأقوال تساعدكم. إني حديث معرفة بالشيخ وليس باستطاعتي الشك بأي أحد.
    - سؤال أخير أيها الشاب الطيب ،كم تبلغ من العمر؟
    - إنه في الوثيقة أمامك يا سيدي ،إني عشت أربعة عشر سنة من الجهل.
    سأل أحد الضباط المحقق بتردد لما أن غادر المتهم فقال:"أنت لم تسأل أحداً غير الرجل وزوجته عن حجة الغياب ،هل لديك خطة ما يا سيدي؟" أجاب المحقق بعدما أخذ رشفة من كوب الشاي الذي وضعه رجل قبيل لحظة:"لا أحب أن أكون رجلاً فضولياً ،إني لا أسأل إلا من أعرف بتلوث يده في الجريمة". وأقبل المتهم الأخير الذي أرجأه المحقق بإرادته المطلقة ،كرر النظر إلى وجهه الجميل ،وأرسل نظرات تحد نحو مقلتيه رداً على نظرات مثلها أصابه بها الصبي. وأفصح فقال:
    - لقد التقينا من قبل ،وأحسب أنك مسرور با للقيا مرة ثانية.
    - ..............................................
    - من كان معك في منزل الشيخ ؟ وهل ساعدك في التخلص من حرسي؟
    - لم أكن هناك.
    وهم أحد الضباط المرافقين للمحقق أن ينطق منبهاً ،بيد أنه أعرض وراح ينظر إلى معركته الحامية. وعلا صوت المحقق وهو يقول:
    - لقد قتلتهم لأنهم رأوك ،أين أخفيت الشيء الذي سرقته؟
    نظر الصبي بغضب إلى المحقق ،وشعر المحقق بلظى نظرته يكوي كل جزء في بدنه.
    - أسمع ،أنت القاتل دون شك. لقد جعلتك حبيس المنزل يوم أمس لأني لم أرد أن تهرب. إن هذه قضيتي الأولى التي أحكم على أحدهم خلالها دون الرجوع إلى أدلة مادية ،ليقيني التام أنك القاتل. ليس لدي أسئلة أخرى ،سأنتظر نتائج البصمات وسأدخلك إصلاحية المراهقين قريباً. نهض الفتى وخرج ولم ينبس ببنت شفة. وأعرض المحقق عن استجواب أمه وأولياء أمور الأولاد الآخرين ،وآب إلى مكتبه وراجع أعماله الرتيبة.
    لقد تصفح بعض عشرات من ملفات قضايا القتل التي تسلمها منذ سنتين ،كان الجناة فيها أطفالاً لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من أعمارهم. كان يشعر بقليل من التعاطف معهم ،ولكنه يريد قتل المتهم الصغير هذه المرة ،وهو قد جعله نداً خطيراً يتهدده ،رغم فارق السنوات والخبرة بينه وبينه. وبينما أخذ فكره في التأمل إذ بشرطي مبتدئ يقترب إليه ،وقبل أن يعلن عن بغيته بادره المحقق فقال:"إني آتٍ ،شكراً لك". ثم شد قوامه وعدل من هندامه ،واصطحب مفكرته معه. كانت الممرضة تتحين وصوله بهدوء ،وكان رجلان ينظران إليها ويتناجيان ثم يتبسمان ،كان أحدهما يخبر الآخر عن ميل المحقق لهذه الفتاة الصغيرة ،وأخبره صاحبه أنه استمع لحديث بينهما ذات مرة ،وأن الفتاة كادت للضابط ورحب صدره بكيدها. وحين أطل المحقق بقامته المربوعة أمام الباب ،حياه كل منهما بطريقة الشرطة ،وتلهفا للحوار الفريد الذي سيجري الآن أمام ناظريهما مباشرة. قال المحقق بلطف متكلف وهو يستقر على كرسيه مقابل الفتاة:
    - أرجو أن لا نكون أثقلنا عليك بالحضور..بعد ساعات العمل المضني.
    - لا يا سيدي..أنا التي أقدر لكم إقامة التحقيق في وقت يناسبني.
    فابتسم بخبث وسألها:
    - هل نلت حاجتك من الشيخ؟
    - لم يتسن لي ذلك ،شكراً لاهتمامك.
    فاتسعت ابتسامته وهو يقول:
    - وهل ستطلبين مني زيارته مرة ثانية؟
    - ربما.
    قال وهو يرخي رباط عنقه ببعض الصرامة:
    - تعلمين طبعاً عن القارعة التي حلت في نزل الشيخ ،أين كنت في ذلك الوقت؟
    - إني على بينة منها ،لقد كنت خارجاً في ذلك الوقت.
    - هل لديك شهود؟
    - لا أعتقد قبول شهادتهم لديكم.
    - هل الشاهد صديق..أو حبيب؟
    - شيء من هذا.
    - حسن ،إني أشك بتورط يديك في هذه القتلة ،فماذا تقولين؟
    - لن أنكر هذا.
    - إذن أنت تعترفين؟ّ!
    - قلت بأني لا أنكر لكن هذا لا يعني مطلقاً أني أصرح بذلك. إن الحكم يستند على أدلتكم التي تجدون.
    - كيف كانت علاقتك بالشيخ؟
    - تماماً كعلاقتي بك.
    - إني لا أعرفك.
    - كذلك كان لي الشيخ.
    - هل تشوهين الحقائق.
    - لا يكذب سوى الجبناء ،ولا أعد نفسي فرداً منهم.
    - والصفحة من ذلك الكتاب؟
    - لقد أذهلني ما جاء فيها ،فأنشأت علاقة معها وليس مع الشيخ.
    - مازلت تنكرين!
    - لقد سلبتونا إياه قبل أن نشرع في عقد صداقة معه.
    نظر المحقق في وجهها كثيراً ثم أزجى ضحكة قصيرة:"إن التحقيق معك ممتع للغاية ،ولو أومأ وقتك إلي لاستنفدته كله". ثم تخلص من أثر ضحكته المنفعلة قبل قليل فتنهد بقوة وشكرها وشكرته. صاح الشرطي الصغير الذي كان ينبه المحقق لساعته مع الفتاة وهو يهرول صوبهم:" قفوها..إن الفحص كان إيجابياً..قفوها إنها المسؤولة..". تضايق المحقق من صخب الشرطي فهب إليه وأبلغه أنه مخطئ وأن الأمر لا يتم بهذا الأسلوب ،وحانت منه التفاتة إلى حيث غرفة الاستجواب فوجد الفتاة قائمة ترقبهم بشيء من توتر ،فخاطبها قائلاً:"هل تريدين أن نتحدث الآن؟ أم أهبك ليلة تودعين خلالها منزلك؟". قالت بابتسامة ترتعد بوضوح:"أصنع ما شئت يا سيدي". "أذهبي ،قد آتي لاصطحابك في الغد".قال لها ثم نظر إلى جسدها المنتفض وهو يخطو خارجاً وقال للشرطي الذي سقط فكه من صدمة الموقف:"أما تلاحظ ساعة راحتي أقبلت! أذهب وتمدد في سريرك أيضاً!".
    نظر المحقق في هاتفه النقال للحظة ثم حطه في جيب سترته ،وتوقف عند بيت يعرفه. فتحت له الباب المرأة الأم وسألته بخوف عن سبب مجيئه. قال لها وهو يتباطأ في سيره إلى المكان حيث دعته:"ليس وراء زيارتي فأل سيء ،لقد مررت بمنزلك بعد العمل ،فخطر لي أن أشد من عضدك بعد الذي حصل". أطرقت برأسها وشكرته بحذر ،وعلم..ما في شكرها من روح ،وأقر بثقل حضوره على نفسها ،وتحدث بعد فترة من الصمت فقال:"ما يفعل إلياس؟". أجابت بنفاد طاقة:"إنه يدرس في غرفته". رد عليها بفعل هذه المرة ،وكان أبصر دمعة تومئ بالنزول من جفنها الأدنى ،فنهض وقعد جانبها وأقر يده على كتفها ،فلم ترد بشيء. وهمس إليها قائلاً:"أريدك أم إلياس..لنفسي..خالصة لي من دون الرجال". لم تعطه إشارة بالإيجاب أو الرفض فتابع حديثه بنفس الصوت الهامس:"أراهن أنك تفكرين بابنك..هذه اللحظة..سأنقذه من سنوات السجن ،إن أكرمتني بسنوات الهيام". حركت رقبتها ونظرت ليده على كتفها ولم تجترئ أن ترفع عينها إلى وجهه القريب ،وأرادت الحديث ،لكن ذراعاً قوية جذبتها من يدها وصوت ثائر قال:"ابتعد عن أمي أيها السافل ،أخرج ولا تقربن هذا المكان ثانية". تحرك الضابط إلى الباب وما يفتأ يتابع عيونها الناظرة إليه ،قال بحزم:"استمعي إلي ،إن شئت فاتخذيني خليلاً وإن شئت لا تفعلي ،لن أعلق ابنك في عذاب لم تجنه يده ،إني لست واطياً حتى أفعل هذا". وقال قبل أن يغلق الباب:"سينجو ابنك لأنه قاصر ،وستنجو حينها روحك التي أحببت". نزل الدرجتين المنخفضتين عند الباب بتثاقل ،وكان يستخف بهما قبلاً ,وخطرت على قلبه صورة الصبي وهو يشد أمه من خصرها إلى جسده الذي يبلغ نصف قامتها ،وتعجب ما لوجهه من هيمنة ،إن له قلب أسد ،وعيني ثعلب ،وريش طير.
    إن الشمس أشرقت على المدينة كالمعتاد ،وكان لها أناس منتظرون ومعادون كالمعتاد أيضاً ،فلم تكسف لحزن حزين ،ولم تزد من نورها لتوافي حفلة سعيد."إن الشمس كائن عادل". قال أحد الحراس لزميله وهو يتثاءب في كسل. أجابه الشيخ قائلاً:"وخالقها أعدل منها ،وهو من ألهمها ألا تبغي على أحد". التفت الحارس إلى الشيخ وتمنى أن يسمع المزيد لكنه استنكف وصد عنه. ولحق بهم موكب من الشرطة أُبلغ بوجود الشيخ في ساحة راحة المرضى ،فأوقفهم. حيا الرجال بعضهم بطريقتهم ،وأمر كبير فيهم أن يجهز الشيخ للذهاب إلى المحكمة. وتم لهم ما أرادوا وتحدث الشيخ جاهراً بصوته في المحكمة:"أقسم بربي الذي خلقني ،وإليه مردي أن العلم بين يدي وأن الحق ما تنظرون إليه أنه الباطل". وأذن القاضي للصبي الذي استأذنه الحديث فقال ساخراً:"وكيف تأخذون بكلام شيخي العاقل وأنتم صنفتموه ضمن من فقد لبه؟!". وارتبك القاضي في مقعده المشرف على المتهمَين ،وتنحنح فتحدث المدعي بنبرة وثوق:"إنا لن نأخذ ما يقوله في الحسبان ،فقط أحضرناه ليراه القاضي". ولم يقتنع إلياس بالتبرير الواهي ومط شفتيه في تكذيب. وأومأ القاضي للممرضة أن تدافع عن نفسها فتحدثت بصوت هادئ مستقر:"إن الدليل في أيديهم يا سيدي ،لقد كنت هناك لكني لم أقتل أحداً". وعاجلها القاضي بالسؤال فقال:"فمن قتل الرجلين؟ ولماذا لم تخبري الشرطة باسمه؟".قالت بكبرياء:
    - لأني لا أريد.
    - أليس الصبي بجانبك؟
    فتدخل جالس في القاعة قائلاً:"أجزم أنه هو يا سيدي...".فقاطعه القاضي صائحاً:"ومن أذن لك أنت بالحديث؟ إني أسأل المتهمة".
    - أعذرني ،لن أخبرك يا سيادة القاضي.
    - وهنا توقف القاضي عن الكلام ،ومضت فترة قبل أن يتلو أحدهم حكم القاضي:
    "تسجن المرأة حتى تعترف بالفاعل ،ويطلق صراح الصبي لحين إشعار آخر.
    يتم فحص الرجل المسن في المستشفى ،ويحال إلى المحاكمة إن كان صحيح العقل ،أو يعاد إلى المصحة النفسية إن ثبت العكس.
    يحدد تاريخ اليوم بعد سنة لجلسة آخيرة يحكم فيها بالإعدام على المرأة إن لم تعترف بقاتل الرجلين.
    رفعت الجلسة."
    لقد تم الأمر ،وتفرق الجمع ،وولوا الدبر ،وسمع بكاء نساء وأطفال كانت اعتنت بهم الممرضة ،وصد جنود القاعة هجوماً من بعض المرضى الذكور ،وتم توقيف بعضهم ،وخرج الصبي حراً يقبض على كف أمه ،ولم يبادل الممرضة بأية نظرة. وأقبل رجلان فأعدا الأغلال بين يديهما ،ولم تتراجع الممرضة إلى الوراء وشدت جسدها في اعتداد ،وصفق لها أتباعها من البعيد ،واستوقف المحقق الرجلين لحظة وسأل المرأة الممرضة:"هل تصافحيني؟". فمدت يدها إليه ،وقبض عليها بشدة ونظر إلى حدقتيها الصغيرتين فقال:"إنني صديق لك برغم كل ما حصل". أجابته وهي تبتسم :"إنك كذلك". ثم ألقى الرجال سلاسلهم في رسغيها الصغيرين وقادوها إلى خارج القاعة. وتحدث متغضن الجبين حين نقلت أذنه الحكم ،من القاعة وهو يغادرها:"هكذا إذن" ،وأخذه الحراس إلى البعيد. و قال المحقق لضابط مر إلى جواره:"إن الجوارب لتخفي كثيراً من ملامح القدمين ،ليت الصبي خلعها ذلك اليوم". سأله صديقه في حيرة:"أما زلت مصراً أن الصبي هو القاتل؟". "نعم ،إنه مجرم حمته جواربه!". قال الضابط بخيبة أمل.
    لقد غادر المحقق إلى قضية أخرى لن يلقى فيها الصبي الخبيث ولا أمه الطيبة ولا الممرضة المشاكسة ،وسيترك ملف القضية معلقاً حتى تعترف الممرضة بعد أن تيأس من عذاب السجن. سار الرجال بها إلى المدير الذي رحب بها هاتفاً:"مازلت جميلة كما عهدتك" أجابته بمرح أكثر:"وأنت ظلت أسمراً على ما أرى". وثق المدير بعض الأوراق ،واستأذن رجل ضخم بالدخول. أذن له المدير ،وما كاد يبصر المرأة إلا وقال بظفر:"ألم تنسني ! لسوء الحظ سأصحبك إلى السجن". أجابته وهي توجه نظرات جريئة إلى وجهه العالي:"كلا لم أنسك ،أنت من علمتني أن الضباط رجال حقيرون!". وتبسم المدير من قولها ،وصر الضخم على أسنانه يريد أن يبرحها ضرباً ،ونصحها المدير قبل أن تغادر ،أن لا تتحمل العذاب في السجن وأن تعترف بالجاني ،فأجابته في صوت مهيب اقشعر له جلده:"سأتحمل العذاب ،حتى يشع الكون نوراً على يد غلام صغير". ثم ولت برفقة جلاديها الثلاثة.

    إلى الفصل السادس بإذن الله

  10. #10


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أجدد التحية لجميع المتابعين
    وهذا الفصل السادس من رواية آدم
    تمنياتي لكم بقراءة ممتعة

    (الفصل السادس)
    إن المشاهد الطبيعية الرتيبة ،التي يراها المرء في كل ساعة في يومه ،تصبح محببة ومشوقة إلى نفس من أبلغ أن هذا آخر يوم سيراها فيه في حياته. يصاب بعض الناس بالعمى ،وينفذ على بعضهم حكم الموت ،وقسم آخر يوارون خلف حجب تفصل بينهم وبين ما يحبون. فأما من كف بصره ،فإنه يعيش في ظلام سرمدي في وضاءة من ذكريات. وأما من فقد روحه فهو في جدثه في حياة برزخ لا يمكن أن يصفها حي. أما القسم الذين قضوا عمراً في السجون فيصبحون ويضحون ويمسون بصور أعمدة صدئة ،وجدر بلون الزمان ،ووجوه عليها قترة ،ترهقها غبرة ،لا يملون الصراخ ،ولا يكلون من التعذيب. فأنى لمن عاش بين هذه الحجب البشرى بذكرى ماضٍ ،أو الحلم برؤية مستقبل!.
    سلم الضابط الضخم مديرة السجن ،مفاتيح وثاق الممرضة ،وخاطبها قائلاً:"ننتظر الاعتراف بفارغ الصبر". أجابته وهي تأمر سجانة أن تفتشها في غرفة جانبية:"هل تعني أن نزيد من جلسات التعذيب؟". "ذلك ما عنيته". أجاب وهو ينظر في وثيقة تدخل كلماتها إلى شاشة عريضة ،امرأة على مكتب صغير. خرجت الممرضة ترتدي لباس السجن القاتم ،وخاطبت السجانة مديرتها فأبلغتها أن الأمر قد تم. تناولت المديرة سيجارة فأشعلتها وقدمت أخراً للضابط ورجليه ،ثم نفثت دخانها عالياً وقالت:"هل من شيء آخر؟". أجابها الضابط وهو يهز السيجار بين أصبعيه:"ألا يمنع التدخين في هذا المكان ،أيتها المديرة؟". قالت وهي تشير بيدها بغير اهتمام:"لا تكن متشدداً ،لا أحد يعلم..فضلاً عن أن السجينات يزعجن شعورنا فنضطر لمثل هذا". ابتسم المحقق بسخرية وقال:"إني أريد أن أدري كيف تجري اعترافات النساء للنساء تحت سياط العذاب!". ثم لوح لها بيده وغادر ورجاله تاركين خلفهم صوت خطواتهم الثقيلة. دب الذعر في قلب الممرضة مع آخر صدى لخطوات الرجال ،ونظرت إليها المديرة بكثير من الفضول ،قالت:"أعتقد أن الاعتراف سيكون جاهزاً بعد جلستين من الآن. يظهر لي أن هذا الوجه الرقيق لن يصبر على أكثر من هذا". ثم ساقتها سجانتها إلى زنزانة بعيدة في طرف منعزل. قالت لها وهي تدفعها من قفاها إلى الداخل:"توجد رفيقتين بانتظارك". ثم ابتسمت بسعادة شامتة وقالت:"سأسعد بمرافقتك صباح الغد". دخلت الممرضة إلى الزنزانة وسمعت الباب يوصد خلفها ،وفكرت للحظة في سجانة تستمتع بالتعذيب النفسي لسجيناتها ،ثم ألقت نظرة طويلة على ما حولها قبل أن تجلس في أقرب زاوية مظلمة. نظرت إليها رفيقتها السجينة نظرة فضول مفضوحة ،ثم قالت لها بلطف :"أنت نزيلة جديدة؟ أتمنى ألا تطول إقامتك هنا". أجابت الممرضة باقتضاب:"شكراً لك ،أتمنى أن تخرجي باكراً أيضاً". ردت بسرعة:"أيه..إني مقيمة هنا منذ أمد ،فالمحكمة تؤجل النظر في قضيتي كلما آن أوانها". نظرت الممرضة إلى امرأة نائمة بعمق في وسط الزنزانة ،ففهمت المرأة الأخرى مرادها فابتدرتها القول:
    - هذه..إنها هناء ،واسمها كما ترين لا ينطبق على حياتها مطلقاً. إنها تنام في النهار وتستيقظ في الليل ،وهي نادراً ما تغادر فراشها.
    - لأي شيء هي هنا؟
    - إنها أم لثلاثة أطفال وقد قتلت أحدهم في الخريف الماضي. يقول الناس أنه مشاكس ،وأن تصرفاته أثارتها كثيراً. يقولون أنها تعتقد بوجود شر مستطير داخله وأنها لطالما رددت ذلك.
    نظرت المرأتان إلى المرأة التي انقلبت إلى جانبها الآخر ثم تحدثت رفيقتها فقالت وهي تنظر لساقيها الممدودتين أمامها:"أما أنا فقد حبست بأمر من أبي".سألتها الممرضة بلهفة:
    - ماذا تعنين بهذا؟
    - إن..إن والدي هو نائب المدير هنا ،وقد انزعج من أسئلتي التي تهدد الأمن بحسب نظره. قال لي إن أفكاري غريبة وأني شخص خطير. وأنذرني أن السجن موعدي إن لم أتوقف عن هذا الطرح.
    - كيف يفعل أب بابنته مثل هذا؟
    - لا تستغربي يا صاحبة السجن ،فهناك آباء مخلصون لأبنائهم ،كما هنالك آخرون مخلصون لسادتهم. لقد ارتفع صوت جديد هذه الأيام وكل علية القوم في المدينة يعملون لإزهاقه.
    - ما هو العلم الذي انتشر؟
    - كتاب يقول أن لأبداننا خالق ،وأننا جميعاً صائرون إلى فناء ،وأنه لمبعوث من في القبور.
    - وهل كنت لمثل هذا تسألين؟
    - نعم يا صاحبة السجن ،لم أكن وحدي الحائرة ،لقد اتبع ملتي آخرون ،وقد اعتقل من اعتقل ،وسرح من سرح. لتجدين الذي يجوبون المدينة بسياراتهم الفارهة كل ليلة ،في فراغ يملؤه جهل ،وفي غنى يفتقر لعلم. إن أبي يعتقد أن حياة السجن ستصد فؤادي عنه ،إنه لا يدري أن قلبي يزداد تعلقاً به ،وأنه إن كان صنع شيئاً فهو منحني هذا الوقت الطويل للتأمل الهادئ ،والتفكير المتزن. يا صاحبة السجن هل تعرفين الذات التي أعني؟ إنها ليست بشراً أو حيواناً ،قد تدهشين إذا قلت لك أني لا أعرفها ،وأجد أنها أكبر مني بكثير.
    تأملت الممرضة في وجه الفتاة وقالت لها:
    - مازلت في عمر الزهرة ،هل أنت في السادسة أو السابعة عشرة من عمرك؟
    - إن لي سبعة عشر ربيعاً ،عجباً كيف علمت ،أما تلحظين آثار الخريف على وجهي؟
    - إن لك وجها ينضح بالصبا البشوش ،إن الذي تعتقدين بوجوده ،إني رافقتك لأني آمنت به.
    تحركت الفتاة على ركبتيها نحو الممرضة وأمسكت برأسها بين راحتيها ،وقالت بحماسة:
    - هل لديك بعض العلم ؟ يا صاحبة السجن ،بشريني!.
    أنزلت الممرضة يدي الفتاة ،ورفعت ساعديها إلى رأسها ،وراحت تحل بعض العقد في شعرها ،وسقطت ورقة مصفرة مطوية ،التقطتها الفتاة وراحت تبسطها على الأرض باهتمام ،وسقطت ورقة أخرى ،تلتها أخرى ،ثم ركعت الاثنتان على الأوراق المفروشة على الأرض ،وأخذتا تلاحقان الكلمات المتلاصقة فوق سطوحها. تحدثت الفتاة بعد ساعة من التحديق فقالت بتأثر:"إنه هو ،من قال هذا الكلام ،إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ،وإن خبره لا يجدر بإنسان أن يعلمه ،ولا لشاعر إن يكتبه ،لأنه من عنده وحده ،إنه هو". ثم ارتعدت فرائصها وتحول لونها إلى الأزرق ،وطبطبت على ظهرها ،الممرضة وقرأت ملحنة بصوتها الرقيق:
    "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ،الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً ،واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً ،وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً ،وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ،قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً".
    ولجّت الفتاة في جزع وصياح ،وأخذت تضرب برأسها الأرض من الانفعال. في هذه اللحظة كانت نفسها تصرخ وعقلها ينبهر وروحها تنتحب. لقد استولى عليها ذهول عنيف وأسكرتها كلمات سطرت على ورق بال مصفر ،بمداد قد تغير لونه ،ولكن الذات الكبرى لا مبدل لكلماتها ولا محول ولا مغير. ولقد اعترتها برهة من سكون ،وكانت ساجدة بين يديها الصحف ،ورفعت رأسها فقالت باطمئنان:"إني أجد روحي هدأت ،يا صاحبة السجن ،عندما يلامس جبيني الأرض". ثم طوت الصحف باهتمام وقالت:"يا أيتها البشيرة ،أتوسل إليك أرشديني لمن وهبك هذه الألواح". أجابت الممرضة وهي تعيدها إلى رأسها:"لا تتوسلي إلي ،أيتها الروح السامية ،لقد أخبرني البشير الذي منحنيها لا أتذلل إلا لذات من أنزلها. يا وزيرتي في أمري إنه مستور في غياهب الظنون ،وورثت منه بعضاً من علمه. إن الأحرار سيحرررونا وسيقيمون دين الذات التي أنت بها مؤمنة". واتصلت أبصارهما تتعلق بحديث ،واجتمعت أكفهما تؤكد ميثاق الوزارة ، سيبصرون العذاب الأليم ،قطعاً سيلحقهم الأذى ،عندئذ ستؤنس أرواحهم بعضها ،أرواح مؤمنة برب وحيد.
    و أصغيتا لصوت امرأة تدفع عربة في الممر ،وصرحت الفتاة وهي تقفز من فراشها:"هذه المأمورة ،أتت تلقمنا عشاءنا" "إني أترقبها من أول النهار. إن الحبس يكون مملاً حين لا تجدين أحداً لمحادثته". ودخلت المأمورة تتبعها سجانة حاولت الممرضة أن تبصر ملامحها في ضوء الممر الضعيف ،مالت الفتاة إلى أذن رفيقتها وقالت :" لا تغرنك بسطة جسمها ،إنها سجانة جيدة ،هي لا تسمعنا كلاماً جارحاً". وصفق بالباب بقوة بعد مغادرة الزوار ،أمام ناظري الفتاتين ،فاستدركت الفتاة وقالت بسرعة:"إلا أنها لا تحسن التعامل مع الأبواب". وابتسمت كل منهما في وجه الأخرى ،ومضغتا طعامهما بهدوء. نظرت الممرضة بتساؤل إلى المرأة النائمة ثم إلى وجه الفتاة تترقب جواباً. وفاجأها الوجه الغائب المتأمل الذي يسقي ذقنه وحضنه ،شرابه الذي يحتسيه!.
    "إن طعام السجون لا يشبع أحداً ،ولا يظمأ إلى شراب السجن أحد. وليس يجد المستريح في أريكته كسلاً يؤخر فجره إلى ضحاه ،أو سمراً يؤجل رقاده إلى صباح. بين القضبان تنصت النفوس إلى وعظ العقول ،ومن قبل كانت تنفر من سماعه. وبين السياط الحامية يولد العزيز ،مارداً غاضباً ثائراً واثقاً يركض خلف الذليل الضعيف".
    تلك قصيدة صادقة شاكية ،فاضت بها قريحة الممرضة السجينة ،ولم تك يوماً شاعرة!. كان النعاس قاب قوسين أو أدنى منها حين لمحت رفيقة السجن ،التي جعلت نهارها لباساً ،محتبية في فراشها تَلقم وجبتها في إناء عميق. كانت تلتمع على الأرض الرمادية ذؤابتين شقراوين من شعرها الطويل الأجعد ،وبدت هيئتها كأميرة كاسفة في عين الممرضة الصغيرة. كانت الفتاة تشخر بصوت أزعج سكون الأم السجينة ،فعلت وجهها الجميل سحنة عبوس ،كانت شديدة الوطء على نفس الممرضة التي لا تحب الجمال الغاضب أو المتألم. وبزغ في ذهنها الغلام الجميل وذكرت..ما عزاها بكلمه ،وأمه من خلفه تجره إلى خارج قاعة المحكمة. والشيخ الجليل قد أخرج قبل أن يتلى حكم القاضي فيها وفيه. تململت الممرضة في مرقدها تريد انتباه الأم لها ،لكن نظرة الأم لم تنحرف عن الجدار المتصدع أمامها ،فأمسكت الممرضة بخصلة من شعرها وجذبتها بلطف ،وألقت إليها الأم نظرة واحدة ثم آبت لجدارها.
    في منتصف الليل ،لقد عبر ضوء القمر أرضية الزنزانة فتبدت وجوه النائمات واضحة لمن يرى ،وداعب نسيم لطيف قادم من فتحة صغيرة مطلة على الفضاء ، وجناتهن وأهدابهن ،وحركت رياح أقوى أغطيتهن الخفيفة ،وامتزجت بانسجام مع أجسادهن الدافئة. وتكشّف خسف في زاوية المكان كان لاحقه بصيص النور الخفيف ،ثم استتر متظللاً على استحياء بحجب السواد الداكنة. وتأست به بعض معالم الزنزانة فاختبأت في الظلام حتى جلاها سراج وهاج ،اتحد مع نوره نور ثلاث جباه مشرقة ،لا تميل لغروب ولا يراودها كسوف. لقد رحل ضيف الليل المنتظَر ،وودعت جفونهم التي يقطر منها الماء هذا الضيف العزيز على أمل تجديد الزيارة في حال أفضل ،واستعدت أفواههم لطحن طعام قاس ليس ذي لذة ولا نكهة ،وزيد إلى رصيد الحزن والأمل حزن متأمل له رقم بعيد.
    إن السجانة صدّقت ما وعدت به الممرضة ،وسمعت النساء وقع حذائها الجلدي الثقيل قادماً نحوهم.قالت
    الصبية للممرضة:"أيتها البشيرة ،لقد حانت ساعة العذاب ،فثقي به وتصبري واذكري دعمي". أجابت الممرضة شاكرة:"إني تاركة ما ورثت بين يديك ،فإني أخاف أن يظهروا عليها فيحرقوها ،ويسومونني سوء العذاب". ونظرت الممرضة نظرة ذات معنى إلى الأم السجينة التي تتقلب في فراشها ،وقالت:"إني أجد لديها مخبئاً مدهشاً لن تطوله أيديهم". ثم استأذناها فأخفيتا الورق في خصلتين كبيرتين من شعرها الطويل. وكن يشكرن لها سعيها حين وصلت السجانة لاصطحاب الممرضة. تبعتها الممرضة باستسلام وراحت تفحص بعينها ملامح المكان الذي تمر فيه. وسلمت السجانة الممرضة إلى مسؤولة أرفع ،وقالت بسخرية قبل أن تذهب وتذر آثاراً لحذائها المتسخ:"لا تبحثي كثيراً أيتها الممرضة ،فجميع المخارج هنا مؤمنة بتيار كهربي صاعق". حضر طبيب وفحص الممرضة ،وقال وهو يحك أنفه بكسل:"لياقتها عالية ،بإمكانها احتمال الصعق لعشر دقائق متوالية..على الدرجة الثالثة". ثم قام بتثاقل يحضر كوباً من الشاي. رحلت المسؤولة بمعية الممرضة فأدخلتها حجرة لها سقف بعيد لا يكاد يصله الناظر بعينيه بسهوله ،ثم أقعدتها في كرسي ضيق وحزمت عليها الأربطة المثبتة ،وسألتها بصوت يخلو من التعبير:"ربما تودين الاعتراف قبل تجريب الشوط الأول من الألم". "لا أريد" أجابتها الممرضة بعناد سيطر على صوتها الرقيق. استدارت السجانة تريد تشغيل الآلة ،وسرت موجات متدرجة في الأسلاك حول الممرضة ،وأغمضت عينها من الوجع ،وتحركت سبابة المعذِبة بسلاسة إلى زر آخر ،وزاد ورود الذبذبات حول جسد الممرضة ،وتشنجت أطرافها فلم تقو على الصياح ،وازرقت شفاهها ،ثم أطاح الألم ببقايا الوعي في ذهنها. وصفعتها سجانتها فرجعت إلى الدنيا. سألتها ببرود وهي تحضر أصابعها لنوبة ثانية:"من قتل الرجال؟ هيا تحدثي". ولم ترد السجينة بكلمة هذه المرة ،فأصابتها نوبة ثانية ،تواترت بعدها أخريات. ثم سحبت سجانتها جسدها الواهن فألقته على منصة إسمنتية منخفضة وقالت وهي تقبض بكفها البارد على ذقن المعذَبة:"سيكون هذا ضريحك إن لم تعجلي بالاعتراف ،في المرة القادمة". وفتح الباب الحديدي بعنف وتقدمت السجانة إلى الممرضة الراقدة على الضريح ،فانتزعتها من ذراعها وقالت تفسر الأمر لرئيستها وهي تهرول خارجة:"لقد طلبتها المديرة". ولم يسع الممرضة أن تسير على ساقيها الخائرتين كل هذه المسافة فتوقفت عن السير ،نهرتها سجانتها وسحبتها على بطنها الذي انحسر عنه الرداء إلى غرفة المديرة. كانت المديرة تصرخ على الفتاة الصغيرة والسجينة الأم وهي تقبض على الكتاب في يدها المكتنزة الكبيرة. لما أن لاحظت وجود الممرضة ابتسمت بعصبية وقالت بغضب:"جلبت هذا الشيء معك هنا أيضاً أنت جريئة جداً". ثم نظرت إلى السجانة التي لم تزل تمسك قيد الممرضة:"لولا أن تداركنا فطنة الفطينة ،للبث في شعرها بضع سنين" ثم حطت قدمها بالتتابع على رؤوسهن إذ كن جاثيات ،وداست بكعب حذائها فوق كف الممرضة على الأرض ،وقالت وهي تطبق فكيها في شراسة:"قد جاوزت التفتيش بيسر ،وأضمن لك أن لا تجاوزي العذاب أبداً". وعلت ذراعها بأ لكتاب فألقته بين قدميها ،ثم ألقت سيجارتها فوقه حتى انتشر دخان الورق الممزوج بفوح الحبر الخفيف ،وسحقت الرماد بقدمها تعلو وجهها نشوة النصر. لم تحتمل الممرضة ورفيقتها إهانة الكتاب المقدس ،فهبتا من مقعديهما قائمتين ،ونطحتا المديرة برأسيهما فخرت على الأرض وأحسوا لوقعتها زلزلة في أرض الحجرة. وفقدت الفتاتان توازنهما فانبطحتا على متن الأغلال في أيديهما ،وتدخلت السجانة فضربت الممرضة بكعب مسدسها الذي تحب رفقته ،وخرت الممرضة على الأرض تحيطها بقعة من دم أحمر. تقدمت رفيقتها الصغيرة ملبية نداء وثيقة الوزارة ،والصداقة ،والتواصي بالحق ،وهمت السجانة الغليظة أن تجلدها بسياطها النفاض ،وأوقفتها المديرة متعللة بأن السجينة ابنة النائب ،ثم أمرتها أن تأخذ الممرضة إلى زنزانة فارغة وتأتي في الحال. وتحركت السجانة طوعاً لأمر مديرتها ،ولكن الأم السجينة هجمت عليها بيديها العاريتين ثم استولت على سياطها فجلدت به كل شيء أمامها ،فحطمت قوائم الكراسي فضلاً عن العظام وبعثرت ما على المكتب من مستندات ووثائق ،وكسرت زجاج النوافذ وألقت بمنفضة السجائر على الحائط فانتشرت قطع الزجاج في كل جزء في الغرفة. صرخت المديرة بأعلى صوتها وكان فوج من العاملات اجتمع حول غرفتها:"لقد أصابتها نوبة الصرع ،اجلبوا الطبيب بسرعة". وجاء الطبيب ولم يسعه ضبط الموقف ،فاستعانوا بنفر من السجانين الرجال ،وأسروها فثبتوها إلى الأريكة ،وحقنها الطبيب بمهدئ دسه في ذراعها ،وسرى الخدر في أطرافها ،وأصبح بإمكان الرجال أن يسحبوا أيديهم فيفكوا أسرها. حدث كل ما حدث والممرضة وجلادتها لم ترحلا ،والفتاة الصغيرة إلى جانب المديرة والحاشية يشهدون ثورة الأم السجينة. وتيقظت من سنتها ولم تستطع تحريك إصبعها ،فاعترفت بهدوء وهي تنظر ببلادة إلى وجه الطبيب :"لقد قتلته من دون إذن قلبي ،إنه طفل شرير. كيف فعلت ذلك؟ كيف قتلته؟ إني لا أذكر وجهه حين طعنته بسكين المطبخ ،آه..آه ماذا أفعل ماذا فعلت..". وسيطر عليها حزن عميق وتحدثت بصوتها المبحوح:"و أسفاه عليك يا بني ،و أسفاه". وصارت إلى نوبة نواح ،وحقنها الطبيب بأخرى قوية الأثر ،واعتدل قائماً ثم قال:"سنريحها في عنايتنا هذا اليوم". ثم عاد الرجال من حيث أتوا،وقامت امرأتان بتنظيف الفوضى العارمة ،وتبادلت الممرضة والفتاة نظرة طويلة ابتسمت خلالها الممرضة وقد احمر وجهها وتلونت أسنانها من الدم. ثم مضت كل منهما إلى سبيل كئيب مع سجانة لا ترحم.
    رقدت الممرضة على الأرض وضغطت على جرحها بخرقة قطعتها من ثوب السجن القاتم. و أجاءها النوم فلم تمانع ،وقضت غفوات كثيرة فاتتها بالأمس. وأتتها عاسة الليل تنبأها بوجود زائر ،ودخل الزائر فعرفته على الفور ،قال لها حين ألفاها راقدة على الأرض القاسية بادية الضعف:"أيتها الممرضة ،لا تصبري كثيراً ،لا تصبري كثيراً". ثم جثا على ركبتيه وشاء أن يقعدها فقالت بصوت يكاد لا يظهر:"أنا ماضية في التجلد أيها المحقق ،قد أتيت إلي تسألني عن الصحف ،فإني لن أجيبك بحرف ". وتقرب ببصره إلى وجهها المعاند ،وقال هامساً:"إني دعيت محققاً في ما حصل ،غير أني لن أسألك شيئاً. أحذري أيتها الممرضة فسياط الغد لا ريب تزيد عن سياط اليوم ،أخبرينا بالقاتل ،لقد شج راسك اليوم ولا ندرين غداً ماسيحدث ،هل تجدين هماً غير حفظك لحياة جسدك؟.." قاطعته بسرعة:"أجد غيرها ،بل إني لا أجد نفسي مهمة بدونه ،بدون نور ربي ،إني لا أعبأ بعذابكم ،إني لا يضعفني إرهابكم ،إني لن يبدل جَلدي إكراهكم. سأصبر من أجل الذات التي أنتم بها كافرون". وانتصب المحقق على قدميه وربت على رأسها مواسيا ،ثم خرج.
    إن الممرضة في حزن عظيم ،أخذ بكل عزمها فأصابتها ساعة من بكاء. لقد ورطت نفساً بريئة ،أم كسيرة الفؤاد ستعذب بسببها. وصديقة ءازرتها في أمرها ستجلد حتى تتراجع أو..تموت. وذكرت كلام صديقتها أنها لم تقاس كثيراً من العذاب ،وذكرت أن الأم لم تتلق غير جلسة واحدة. والآن مس المديرة غضب غاشم ،فإن لم يتدخل والد الفتاة الذي يعمل نائباً وينهي الأمر ،فستنقلب الفتاة إلى ألم شديد لا تعلمه. والأم المريضة ليست بمفازة من العذاب ،سيصلها الشواظ تلو الشواظ ،وستجني عقاب ذنب لم تقربه. وهداها فكرها أن تحتمل عذاب الاثنتين ،وهي على معرفة بحكمهم ،أنهم لن يقبلون. ونزلت دموعها تسيل دماً متجلطاً على وجنتيها ،وتفطر قلبها ،وتوقفت العبرات في حلقها ،فلم تقدر أن تصدر صياحاً يخرج بغيض من فيض الوجع في صدرها ،فهو كظيم. فنادته بمقلتين تشعان من الدمع في زنزانة لا يدخل جوفها النور ،وختم على لسانها وحدثه جلد ويدين وقدمين بما كان يُصنع بها ،وأمّن هتون الدمع على الشكوى الصادقة ،ونطق لسانها من بعد ذلك فقالت بصوت يسلبه الكمد قوته:"يا من أنا مؤمنة به ،أنجدني. وهب لي من لدنك قوة ،وهب لي من لدنك هداية. يا سيدي قد جار الحظ على امرأتين بائستين ،يا سيدي فضع عنهما العذاب. يا سيدي واحمله إلى الوزر الذي أحمله." ثم ذكرت قد أراح الصبية سجود ،فاعتمدت على راحتيها ولكن لم تسطع على رفع جسدها ،وسجدت بعد أن وقعت على الأرض مرتين. وأطلت حارسة الليل على إثر تكرر السقطة ،فما وجدت غير جسم ضئيل يلقي رأسه إلى الأرض ،في ظلام الزنزانة الدامس. ،ورحلت من المكان.
    ناجته مرة أخرى ،فقالت:"يا ربي أنجد امرأة بذلت شعرها لحفظ كتابك ،يا ربي واجعل بركة كلماتك تهدي عقلها وتضع إزرها وتشارك". واستقرت أمام عينها صورة صديقتها الوزيرة ،وأحست بروحها تطير لترتبط بروح الوفية ،وتنعقد. وقد صدقت الرؤيا إذ التقت الروحين المؤمنتين في سقف بناء الحبس ،وتظللت وضلت أسفله الأرواح الكافرة.
    إلى الفصل السابع بإذن الله

  11. #11


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    مرحباً بكم ،

    (الفصل السابع)
    "في كل إنسان ،يوجد قلب ضعيف ،مقسم إلى غرفتين كبيرتين ،تظهر إحداهما بلون الصباح ،وتستتر الأخرى بلون الليل. ويتبع كبرهما وصغرهما فصول عقل الآدمي الذي يحمل هذا القلب ،كما يتبع طول الليل فصل الشتاء ،وطول النهار فصل الصيف ،وبينهما وقت قصير ،في كل يوم ،يلج خلاله الليل في النهار ،والنهار في الليل. والليل في قلب المرء لا يقوى على صده إلا برزخ يفرُق بين الاثنين ،يسمى بالفرقان".
    ليس قلب الشيخ بدعاً من القلوب ،فإن فيه ظلام يعتقد جلاءه بالنور الذي في النهار المجاور. وقد أحيي ليل قلبه ويكاد لا يعتم أبداً. كان يجلس بصحبة حارسه هادي يتحرون إذناً بالدخول على الطبيب ،وستعتمد نتيجة هذا الفحص الأخير ،التي ستجعله إما عاقلاً حكيماً ،وإما رجلاً أخرقأ لا يفقه شيئاً. وأبصرت عيناه بعض صور من بياض ،مشوب بصوت يأمر وينهى لعمال المستشفى. فتهلل وجهه ،وتبسم عن لثة لا تحمل الأسنان ،وقال وهو يعقد كفيه بشدة:"اصبري ،الحق ظاهر بنوره ،ظاهر ،أيتها النفس الزكية ،اطمئني لتكوني نفساً مطمئنة ،وترجعي إلى ربك راضية مرضية ،فتدخلين في عباده وتدخلين في جنته" نظر إليه حارسه نظرة حيرة وإشفاق ،وساعدته ممرضة ليجلس في كرسي متحرك ،فقال مستبشراً:"الله ،الله كم تتحرك يراع كاتب الحسنات! وكم تكف عن السير يد ملك السيئات! وأنت راكعة تحت سوط العذاب." واقشعر جلد المرأة وهي تسمع كلمات الرجل المسن ،ودفعته إلى مكتب الطبيب ثم ولت هاربة. خرجت فثقفت الرجل الحارس واقفاً ينتظر. سألها وهو يطيل النظر إلى وجهها الجزع:"هل كان يعنيك؟" ثم استطرد بسرعة:"أوه انتظري إنه خرف" لم ترد عليه فسألها بسرعة وقد جاوزته بخطوتين:"هل تعرفين المرأة التي كانت ترعاه؟ يقولون أنها امرأة شقية" أجابته بلهجة نافرة:"قد كانت في قسم آخر..ونأيت عنه بسبب القضية" قال متحفزاً لحديث:
    - هل كنت صديقة لها؟ هل تعرفين عنها شيئاً؟
    استدارت إليه حتى واجهته تماماً ،وقالت:
    - تلك المرأة كانت متلهفة لكل غريب..هي تفكر كثيراً..وتدخل عقلها في متاهات الأوهام. وقد أوذيتُ كثيراً لأني أحد من حدثها ،يوم الجريمة.
    - هكذا إذن. أصدقيني القول ،هل أنت مهتمة بتحريرها؟ هل ترقبين عودتها؟
    هربت حدقتها إلى غرفة مجاورة حيث طفل صغير ،وأم رقيقة. تمثل الحارس أمام نظرتها وحاصرها فتحدثت بنفاق مكشوف:"أريد خروجها ،هذا مؤكد". لم يصدق قولها وأعرض عنها إلى زاوية قريبة. تقدمت الأم وصغيرها إلى حيث الممرضة ،وسألتها الأم ببعض الإحراج الظاهر في وجهها:
    - من فضلك ،هل تعرفين شيخاً مريضاً يتبعه بعض الحراس؟
    - إنه مع الطبيب ،ولا يسمح لأحد برؤيته. إنه التحليل النفسي ولا ينبغي حتى لي أنا بمقاطعته.
    قالت ذلك ولم تنظر إلى الصبي أبداً ،ولم تحيه رغم أنها تعرفه. تحدث الصبي فجأة فأكرهها هذا إلى النظر ناحيته ،قال وهو يبتسم:
    - أنت الأخت التي أعلمت الأخت الأخرى بقدومي ذلك المساء ،شكراً لك.
    - لا عليك. قالت وهي تتظاهر بمتابعة حدث مهم.
    جلس الصبي وأمه أمام العيادة مباشرة ،ولم يكن الحارس متوفراً وقتها ،وتابعت عيون الصبي المخيفة كل شيء تفعله أو تقوله. وانتبهت بعد مدة إلى الحارس الذي استند خلف أحد الأعمدة ،فتضايقت من فكرة غياب الحارس المجنونة ،التي أبزغها في لبها طفل صغير. وتولت ساعة تلتها أخرى ،وأخرى ،خرج بعدها الشيخ بشوش الوجه كعادته ،وقد خدعت ابتسامته الجميع غير طفل وحيد. تقدم الحارس من الشيخ تبعه رجال يلبسون ما يلبس ،لا يدري أحد من أين يظهرون. وتقدم الصبي أيضاً ،ومنعه ضابط بذراعه ،فقال الصبي وهو يرسم تعبيراً متوسلاً على محياه:"إني أريد تحيته ،وأمي ،سنتحدث أمامكم" أجابه بعنف:"إنكم تستخدمون رموزاً وكلمات ولا نعلم أي رسالة تحمل له ،ثم من أنبأكم أنه هنا؟" تحدث الشيخ فقال بهدوء:"ربما كان رجلاً من قومك ،إن فيكم قلوباً تشتاق إلى الهدي الذي بين يدي ،إني أكاد أراها قلوب يريد الصبح أن يجليها ،ولهون لبعض الخير" ألقي في الرجال الستة فزع من أثر كلمات الشيخ ،الذي خاطب الصبي وأمه مبتسماً: "صبراً ،صبراً ،آل إلياس فإن موعدكم الجنة" وأخذه الرجال إلى الخارج ولحق بهم الصبي وألقى نظرات وداعية لوجه الشيخ ،قال لأمه بعد مدة:
    - أمي لا ريب أنهم سيرمون به خلف الجدار مرة أخرى.
    - ألن تستسلم يا بني؟ إن المحقق يعلم عنا وقد يأتون إلينا مرة أخرى.
    - لقد أنبأك بملء إرادته ،وهو اقترح عليك أن تلاقي الشيخ في العيادة هنا. لا تقلقي يا أماه ،لا تقلقي ،فإني هنا لحمايتك. ثم قبض على أصابعها بقوة ،ونزل وإياها درجات السلم القصير في هدوء وروية.
    قال أحد الحراس لرفيقه هادي:"ألا يمكن لهذه الأفواه أن تخرس. لا أعتقد المدير مستأمناً ببقائهم على قيد الحياة. حتى لو حجر على الشيخ ،فإن عشرات العقول تحمل علمه. إني أتعجب من إطلاق سراحهم" أجابه رفيقه وهو يرقب الحراس يعيدون الشيخ إلى عنبره:"إن العقول تطير بالأفكار ولا يستطيع أحد منعها ،إلا..إلا إذا أمر سيد المدينة الجليل بقطف هذه الرؤوس اليانعة. ولكن ،أخبرني هل تجد في ما يقوله الشيخ شيئاً؟ هل تعتقد أنه على حق؟" أجاب الحارس متعجلاً:"إن هي إلا أساطير الأولين اكتتبها ،فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ،وما أرى في علم الشيخ هدياً لأتبعه" أجابه هادي وهو يلقي نظرة أخيرة على الشيخ :"فإنك ترى هذا ،أعتقد أنك على حق". ولحق بالشيخ قبل أن يوصد الباب ،فدخل وأوصده. قال الشيخ وهو يبسط سجادته إلى ناصيته المباركة:"إن القلب يقر ويقوى به. بالفرقان بين الحق والباطل. بالنذير عن يوم التلاق. وإن القلب صائر إلى الظلام بغير كتاب يتبعه " لم يخرج الحارس هادي طوال عبادة الشيخ وراح يصغي إلى تلاوته متأملاً في معانيها ،متفكراً في حكمها وقصصها ،وأمثالها وأوصافها ،وأحس في جنانه استقراراً وطمأنينة فلم يبرح مقعده تلك الليلة. وناداه الشيخ فلبى النداء وجلس جانبه. وضع الشيخ راحة يده على صدر الحارس وتمتم بكلمات قائلاً:"اللهم حبب إليه الخير والطاعة والإيمان ،وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان" "اللهم اشرح صدره لتقبل هديك. اللهم واجعل نورك يجلو ظلام قلبه". ثم قال وهو يربت على كتفه:"اخضع لربك يا بني ،الذي خلقك وخلق والدك وأمك ،ولم يتخذ زوجة لنفسه ولم يلد ولداً" "إني أتوسم في اسمك هادي خيراً ،وفتحاً قريباً" كان الجسد الشاب المستسلم لأفعال الشيخ ،وأقواله يظهر واهناً ومهموماً. وبدا أن وجه الشيخ هو الذي ينضح بالحيوية والعنفوان. تحدث الشاب المهموم فقال :"أيها الشيخ ،إني أستمع إليك إذ تتعبد ،وإني يريح قلبي صوتك وكلامك ،وإني أجد في ذلك بلاغاً صادقاً غير كاذب. أيها الشيخ أريد اتباع ملتك ،فهل أنت مرشدني؟" أجابه الشيخ قائلاً:"إنك تقر بوجود من خلقك وخلق كل ما ترى ،أنت مؤمن به. فما عليك سوى أن تشهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمداً رسول الله".سأل الحارس باهتمام:
    - ومن هو محمد؟ إنني أسمع إشارات كثيرة إليه في تلاواتك.
    - إنه رسول الله إلى العالمين ،إلى كل إنسي وجني. بعثه الله هادياً إليه ،بشيراً ونذيراً وختم ربي كتبه بالكتاب الذي تسمعه ،بالفرقان ،بالقرآن ،الذي أوحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
    - أيها الشيخ أيصح لي أن أتبع سنتك ولما يثبت الإيمان في قلبي؟
    - إنها سنة الحبيب ،سنة محمد وليست سنتي. عندما تسلم أمرك لربك أيها الطيب ،تجد سكينته وتثبيته يتغلغلان فيه دون أن تشعر. ولكني أنذرك أن تخبر القوم بأمرك ،وأحضك أن تجعله سراً حتى يأذن الله بنصر قريب.
    - فإني مسلم له. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
    ثم بكى وعانق الشيخ ،ولبثا كذلك حتى ابتعد الحارس عن جسد الشيخ إذ أحس ضعفه ،وخاف أن يؤذيه. قال له الشيخ:
    - يا بني لقد ولدت من جديد ،كل الذنوب فعلتها مغفور لك كبيرها وصغيرها. اذهب فطهر بدنك بالماء ،فلا يصح وجود روح طاهرة في بدن نجس.
    وذهب الشاب فاغتسل ،وأتى الشيخ فبشره أنه يجد فوح المسك في قربه ،رغم أنه ضعيف الأنف. قال له:
    - إن روحك بعثت رَوحاً ورياحاً طيبة. أسأل الله أن يديمها على دوام حياتك.
    - أيها الشيخ الكريم ،أعذرني إذ أغلق خلفي الباب ،سأفتحه أيها الشيخ ،وستبرز منه يوماً ما. أعدك بهذا. إنني جندي صغير ،وربما لا أملك في يدي ما يساعدك ،لكنني..أحمل الآن قلباً غير قلبي ،قلب يضيء باسمه الكبير ،قلب يضخ القوة في الأعضاء التي تتصل معه.
    ثم قبل الشيخ في جبينه بإجلال ،ونهض مستأذناً الشيخ ،متشوقاً للعودة إليه مرة ثانية. وقابله زميله المناوب في الخارج فسأل باستغراب عن سبب لزومه غرفة الشيخ ،فابتسم هادي إليه وولى إلى الخارج.
    لقد أحضر الشيخ بمعيته في الغد ،إذ قرروا له جلسات فحص متكررة ،وتكررت مجالس المشاورة بين الأطباء النفسيين من تعاملوا معه من قبل ،وبدا أن الموضوع لن ينتهي ،ولم يرقب أياً من الناس أن يخرج الشيخ من المصحة مسجل على جبينه عاقل ،فالجميع عرف أن هذه الجلسات تحقيقا لتوجيه سلطات القضاء ،التي أمرت بإقامتها. ختم رئيس مجلس الشورى الطبية كلامه فقال:"يظهر لي أن النتيجة واضحة ،إنها كسابقتها ،غير أني سأرجأ رفع القرار النهائي إلى وقت لاحق" وتفرق مجلس الأطباء ،وغاظ الحارس هادي من القرار ،وأرسل الشيخ نظرة قريرة. لقد ارتفع صوت الشيخ في المدينة كلها ،دون أن يقصد ذلك ،ودون أن يكون له معاون بث أمره. وأصبح يدعى باسم المعمر في أحاديث من كان عرفه كأهل حيه ،ومن لم يعرف ،ونشر الناس خبره وآراءه وتدبروا فيها ،وتفكروا وكانت قضية كل مجلس. وأضحى له معارضون ومفكرون ،وأناس أسلموا ولما يتمكن الإيمان في قلوبهم. وأناس آخرون يجدون متعة في تتبع خبر قضيته. وكانت الوجوه تتجه قِبَل السماء علها تنظر لرب الشيخ ،وكانت وجوه أخرى تضحك وتستهزئ بهم. قال حارس لصاحبه هادي حينما كانوا يعيدون الشيخ إلى حجرته:"يا هادي ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب ،أسباب السماوات فأطلع إلى إله الشيخ ،وإني لأظنه كاذباً." ثم قهقه وتولى إلى سيارته ،وألقى تحية بيده إلى رفاقه.
    يعتقد الحارس هادي أن مفاتيح الشيخ وأسراره ،محبوسة مع قلب المرأة التي اعتنت به أيام مرضه ،وشد عقدة ظنه ،وقرر موافاتها في زنزانتها وهو لا يدري سيستطيع الدخول عليها ،أم سيمنع. وقدم طلباً بالأمر وفوجئ برد صريح يرحب به لزيارة السجينة. فذهب إلى مبنى السجن الكائن في طرف المدينة ،وألقى نظرة طويلة على المكان. كان محاطاً بأسوار عالية في ظاهرها وباطنها أسلاك معقدة صاعقة ،وللحصن بوابتان لا تفتحان إلا بإذن من لوحة مفاتيح إلكترونية ،يتناوب على حراستها بعض الرجال. تقدم من أحدهم فعرض هويته وختم المدير الصريح ،فدخل. قادته إحدى السجانات إلى جوف المبنى وجال وإياها حول عدد من الزنزانات قبل أن يصلا إلى زنزانة الممرضة. تخيرت من بين المفاتح في يديها ،ثم ذكرت بسرعة فأدخلت يدها في جيبها وأظهرت مفتاحاً وحيداً ،وفتحت له الباب. قالت له باحترام غير عادي:"أرجو أن تنتبه للوقت يا سيدي" ثم أغلقت الباب وتركته في حيرة شديدة. تبادل والسجينة بعض نظرات التعارف ثم تحدث أولاً فقال لها بينما حاولت هي القعود:"أنا..أنا حارس سيدي ،أعني الشيخ الجليل" لم يتغير في وجهها شيء يدل أنها فهمت بعض كلامه ،وأحس في نفسه شفقة عليها إذ بدت لتوها خارجة من تعذيب. فاقترب منها وأعاد جملته ثانية ،فردت عليه بصوت واهن:"هل أرسلك لتقول شيئاً ؟"قال بسرعة وقد لاحظ الوقت يمضي:"كلا ،لقد أتيت من تلقاء نفسي. أنت ممرضة الشيخ السابقة ،لذا اعتقدت أنك تملكين شيئاً يمكن أن يساعدنا.." قالت وقد بدا في صوتها قصور الفهم:"في ماذا..؟ يمكن أن أساعدكم" أجاب وقد جثا قربها:"في نشر حكمة الشيخ ،إني أسلمت منذ أسبوع وأريد أن يعاونني أتباع الشيخ في إطلاق سراحه وتبيان الحق الذي لا باطل بعده". "إني أسيرة ،إنهم منعوا جسدي من الخروج ،ولكن هل تعلم! إن روحي تطير كل ليلة لتأتم بالشيخ حين يصلي. إني لا أعلم عن صدق نيتك أيها السائل ،ولكني مرتاحة لإخبارك. إني أقول لك أن الشيخ كريم مع الجميع ،يفيض من علمه ولا يفرق بيني وبينك. لقد أسلمت أيها الرجل ،وأنت تعلم من أمر الإله ونهيه الكثير ،فأنت ملازم لعبده الصالح. إن في المدينة عشرات الأرواح الهائمة تريد من أحد أن يهديها إلى الصراط القويم" قالت وصوت نفسها يزيد مع كل كلمة تقولها. واستدركت في قولها قبل أن يغادر:"استمع إلي إني أعرف فتى كان يصاحب الشيخ ويحمل بعض علمه ،يقال له إلياس. إن استطعت إليه سبيلاً فسيشرق الكون نوراً في العاجل القريب. لا تهتم بالأسرى ،لا تهتم بمن كمموا أفواههم ،أجمع حولك الأتباع وقد ثورة ضد أناس هذه المدينة ،ضد الملحدين ،من لا يعترفون بإله ولا فناء ولا بعث بعد الموت. إني أجدك رجلاً رشيداً أكبر في عيني من طفل صغير." أومأ برأسه لها ثم قال معزياً:"إن عذاب السجن سيجعلك قوية ،سنحررك ،انتبهي لنفسك حتى ذلك الحين". وخرج عائداً من طريق آخر غير الذي سلكه عندما أتى قاصداً زنزانة الممرضة. وشاهد غرفاً لمكاتب المسؤولات يلجن إليها ببطاقات متطورة ،وأجهزة تفحص الأعين والأصابع ،وفكر كم طلاء الجدر هنا مختلف عن هناك!! وازدحم المكان فجأة بجنود أجلاف ،واستقبلتهم مديرة السجن ودعت قائدهم إلى مكتبها ،فصاح بها قائلاً:"أيتها المرأة أين الزائر الذي أدخلتموه قبل قليل؟" وارتبك الحارس في مكانه وأشارت السجانة التي كان يتبعها إليه ،فهب الرجل صارخاً:"أنت ،أيها الجندي لا يحق لك الدخول" وتعجب هادي وأخبره أنه استلم رداً صريحاً من مدير السجن ،فقال الرجل بانزعاج:"ذلك تصريح لم يقصدك أنت..لقد ابتغينا به طبيباً معروفاً" قالت المديرة وهي تلقي سيجارتها في منفضة تحملها مرافقة لها:"كان خطئاً إذن ،لقد دخل الرجل ،يجب أن تحققوا معه". وتقدم منه رجلان فألقيا الأغلال في رسغيه وأخذاه إلى الخارج. سأله قائدهم بعصبية:"ماذا أخبرتك المرأة؟ بماذا تحدثتما؟" رد هادي بهدوء:"لم نقل شيئاً ذي أهمية ،إن الشيخ طلب إلي أن أتفقد السجينة وفعلت هذا تقديراً لشيبته" نظر إليه القائد مطولاً ومط شفتيه في انزعاج ملحوظ ثم قال لرجاله:"لقد أمرنا بإيقافه فقط ،في حال أنه لم يدخل. غير أنه دخل ولا أجد التحقيق من اختصاصنا" "اتصل بالمركز وأبلغهم النبأ ،ستكون وصاحبك حارساه إن استلزم الأمر". واتصل الرجال بالمركز فأجابهم صوت يتثاءب لرجل ،أخبرهم أن ينتظروا قليلاً ،ثم تحدث صوت أجش أفادهم أن يتركوا الحارس وشأنه ،وختم حديثه بقوله:"لو قبضنا على الجميع فستفيض سجوننا منهم. سنجتث الرؤوس فقط ،حظاً موفقاً". وبرز هادي من طرف المدينة الحبيس إلى حيث وسط الحرية ،ولم يخطر بباله أن يسلم من شرهم.
    لقد دخل بعد الحارس بيوم واحد ،إلى سجن النساء ،رجل يحمل حقيبة طبية في يده ،ويرتدي ثياباً سوداء تزيد من وسامته. واطلع إلى رسالة الإذن التي يعرضها رجل قال له:"هذا صحيح ،إنها صالحة لمدة ثلاثة أيام من تاريخ الإصدار،يمكنك أن تدخل" والتقى في طريقه طبيب السجن ،فعرفه إذ ثقفه في أحد المؤتمرات ،التي يحضرها بانتظام. صافحه بسرعة وتبادلا بعض كلمات الترحيب ،وارتحلا من المكان ،طبيب يسعى لإغاثة أنفاس الناس ،وطبيب يسعى لإخمادها. دخل الطبيب زنزانة المعذَبة ،وكانت تأخذ غفوة قصيرة تحت ضوء شمس الأصيل القادم من النافذة. تركته الحارسة وانحنت له باحترام. خطى خطوتين إلى حيث رقدت الممرضة ،ورفع دثاراً أثار غباراً فآثر أن لا يغطيها به. قالت له وهي ترفع جفنها بصعوبة:"إني أحب هذه النسمات الباردة ،إنها تخبرني أنني أشعر" أجابها الطبيب بإشفاق:"هل بدأت تفقدين إحساسك في بعض أنحاء جسدك؟" أجابته وقد فشلت في محاولة النهوض:
    - إني قريبة من هذا. لكن لا تقلق فروحي حية لا تفقد الإحساس.
    - لماذا لا تعترفين؟ هل تعتقدين أنك ستصبرين؟
    - أيها الطبيب المنصف ،إن السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ،وسيصرف ربي عني بقية العذاب.
    - مازلت تهذين بهذا الهراء!. أخبريني أي شيء تخفينه خلف الضمادة؟
    وارتفعت يدها إلى الشج في الجبين ،وحط هو يده وتحسس يدها الباردة فشد عليها بيده ،ونظر إلى الجرح. قال بلهجة الأطباء الرتيبة:
    - لديك شج عميق ،لم يعتنى به جيداً. سأعقمه وأرتقه ،وإن جادلوك فأخبريهم أن طبيباً أدى مهمة إنسانية هنا. أبعدي يدك قليلاً.
    وأحست بوخز الإبرة مع كل غرزة يعقدها الطبيب ،وكان جسدها يرتفع إلى الأعلى من الألم. وأخبرها الطبيب أن الجلد لا يتقبل الرتق بعد فترة وأن هذا سبب الألم الذي توجسه لخرق الإبرة. قال لها مهنئاً:"لا يزال جرحك مفتوحاً ،كنا سنتركه يلتئم على هواه لو كان غير كذلك". ثم أدار الضمادة حول رأسها مرتين ،وختم نهايتها بشريط لاصق. وخاطبها بلهجة حازمة وهو يقول:"إني لا أجد لعنادك مبرراً ،لماذا ترفعين الوزر عن أحدهم؟ يجدر به أن يحتمل جزءاً من العذاب" أجابته وهي ترسل بصرها صوب السقف المتشقق:"لأنه النور" نظر إليها متسائلاً وجمع عدته وقال:"كيف ستقنعينني بمعتقدك وأنت بين القضبان؟ يجب أن تخرجي لتجمعي الأدلة" ردت عليه بهدوء:"إنهم يجمعونها الآن ،لقد ضربت معي موعدة بعيدة ،إذا صار ليل رأسك إلى النهار ،ذلك ما اتفقنا عليه"
    قال بنفاد صبر:"حسن ،سأنتظرك. إنني رجل غير صبور" قالت له بعد مدة من الصمت:"إني مرسلة إلى أحد الأحرار ،هل تقبل أن تكون وسيطاً بيني وبينه؟" أجابها وقد عبثت به الظنون:
    - أي نوع من الرسائل؟
    - رسالة لطفل صغير.
    - هل تعنين المتهم ،صديق الشيخ الصغير؟
    - هو بعينه. إن معي خبراً التقطته روحي من روح الشيخ. إن الشيخ يريده أن يعجل بالرحيل من هذه المدينة.
    قال متعجباً:
    - هل هو التخاطر؟ تصدقين به أيضاً! حسنا سأبلغه ،هذا من أجل الفصال الذي سيجري بيننا.
    - شكراً لك ،إني قريبة من الشيخ لدرجة أني أحس دفء أنفاسه.
    وقف وألقى إليها نظرة عطوفة ،وأومأ برأسه موافقاً وقال:"سأكون حمامة حذرة". ثم خرج. دخلت عليها بعد ذلك سجانتها ,وأخذتها إلى غرفة التعذيب وأخبرتها أن الجلسة ستكون مختلفة عم اعتادت عليه. ودعتها بسخرية إلى الاعتراف الذي سيريحها ويريحهم.
    أصبح الحارس هادي في وجه المنزل الصغير الذي استدل عليه من أحد الجيران ،فطرق بابه متردداً ولم يلبث أن فتح له الباب ،وبدت له امرأة جميلة بعينين حمراوين ،سألها عن الغلام الذي يسكن هنا ،فقالت وهي تغالب البكاء:"لقد رحل ،هذا الصباح عندما صحوت لم أجد ابني في المنزل."طمئنها فقال:"لابد ذهب يشاهد الشروق ،لا تقلقي أيتها الأم." قالت باكية:"أنبأني في رسالته على هاتفي أنه مسافر إلى مكان بعيد ،وعندما حاولت الاتصال به سمعت رنين هاتفه في غرفته..وهو أخذ سيارتي أيضاً ،إنه لا يعرف القيادة..أوه لا أدري ما أفعل. هل أنت شرطي؟"
    - تستطيعين قول ذلك. لا عليك سيعود بالتأكيد.
    - هل أستطيع الاعتماد عليك؟ سأزودك برقم هاتفي أيها الشرطي.
    - عفوا أيتها الأم ،بإمكانك تقديم طلب لدى الشرطة. لا تقلقي سيلتقونه على أطراف المدينة.
    قال ذلك وابتعد تاركاً إياها على عتبة الباب. كان هادي حريصاً أن لا يدع خلفه أدنى أثر يجعلهم يشكون في أمره ،وقد دهش من الفعل الذي جاء به الصبي هذا الصباح وعقد النية على انتظاره حتى يحضر. وانصرف إلى بعض شأن أهمه ليلة البارحة ،وقرر أن ينفذه اليوم حيث أنه يوم عطلة من حراسة الشيخ. اطلع إلى ساعته فوجدها لم تتعد السابعة فانطلق إلى المكان وجهته في لهفة مفضوحة. كان الوصف مطابقاً تماماً للذي سمع ،وأبصر لوحة باسم صاحب البيت النائم معلقة يمين الباب. اقتحم المكان من جهة مستورة بفروع شجرة لم تقلم وقفز إلى فناء الدار،وعالج قفل الباب بطريقة متعلمة وولج إلى المنزل. كان يبدو مرتباً كأن لم يقربه بشر أو كأن المدبرة خرجت للتو. تعرف الحارس ببصره على أركان المكان واختار سبيله إلى غرفة النوم الرئيسية وكان ينبعث من الغرفة هواء بارد ورائحة قهوة مكتومة. تسلل بهدوء إلى الداخل وخطف هاتف الرجل النائم وعطل التنبيه ،ثم وضعه على مكتب في زاوية الغرفة بعجل فأسقط كوب القهوة المنتصف وأزعج صوت الزجاج المتحطم سمع النائم ،فأزاح جفنيه في انتباه وطالعه وجه متلثم. أمسك الحارس بتلابيب ثوب الرجل وقال له مغيراً في صوته:
    - أين تحتفظ بتقريرك عن الشيخ؟ قم بتعديله وإلا سلبت حياتك.
    أجاب الرجل بوثوق مصطنع:
    - ومن أنت يا هذا؟ ثم كيف تقتحم بيتي بهذا الشكل؟
    سحب الحارس الرجل إلى المكتب وأرغمه على الجلوس ،وقال مهدداً:"إذا كنت تريد الحياة ،فاستمع إلي. ويسعدني أن أجلب لك الموت إن كنت تريده" وأحس الرجل خطر المقتحم ،فرفع غطاء جهازه المحمول وأشعله ،وأطبقت كف الحارس على كفه ففزع ،قال له الحارس بنبرة مخيفة:"إنني ألاحظ كل شيء إياك أن تستغفلني" وظهر التقرير الذي لم يكمل أمامهم ،وتحدث الحارس آمراً إياه أن يغير خطابه إلى المنحى الذي يريد. وقال له بنفس النبرة المخيفة:"كنت سأقتلك أيها الطبيب ،ولكنك تجاوبت بشكل طيب معي. الآن أرسل الرد إلى المحكمة وأحذرك أن تستغفلني" واستدار الطبيب بسرعة إلى المقتحم ،ولكمه في وجهه فخر على الأرض ،وعاجله بلكمة أخرى أتت في عينه فلم يبصر الحارس من بعد ذلك جيداً. وأجهز الطبيب عليه و استوى على صدره وسعى لإدراك هويته ،فسحب الوشاح الأبيض الذي غطى فمه ،وأمسكت به ذراع الحارس المفتولة وألقته إلى الأرض. وانقلب الحال وصد الحارس لحظة يعدل لثمته. واستسلم الطبيب لجسد جندي ضخم. قال الحارس بصوته المكتوم:"إنك عديم الحيلة وأنت مع هذا تقاتل." وقال وهو يثبته على الكرسي:"لقد كدت تجني على نفسك ،لو كنت رأيت وجهي لما سعيت على قدميك ثانية". وأحكم وثاقه ليؤخر استنجاده بأحد ووصلت الرسالة إلى القاضي ،وكاد الرجل يصطدم بالمرأة في غرفة المعيشة وهو يسلك طريقه صوب باب المنزل ،ولم يلحظ أن وجهه كان ظاهراً لها. وارتدت هي إلى الخلف وسدت فمها بيدها ووقعت على الأرض. وتساءل في نفسه هل البقعة الزرقاء في عينه أرعبتها إلى هذا الحد! و ادكر بعد مدة وجهه الذي رآه في مرآة أعلى الدرج قبل قليل. فهب إليها وانتزعها من كفها وهي الخائفة لدرجة لا تقوى فيها على الصراخ. وأعاد لثامه وجرها إلى الخارج. كان السير مع فتاة تنتفض من الخوف أمراً لا يمكن لأحد أن يفسره بغير الشر. قال لها وهو يعيد وشاحه حول كتفيه:"لقد أبصرت وجهي وإني أمام حلين إما أن أقتلك أو أذرك حين آمن شرك" لم تتحدث فقال لها :"تظاهري بالهدوء كيف أفسر الأمر للمارة؟". ثم انقلب إلى مسكنه وبصحبته ضيف ثقيل ،سألها حين جعلها تتخذ لنفسها مكاناً في الأريكة:"ما سمك أيتها المرأة؟ وهل تعرفين الطبيب من قريب أو بعيد؟" أجابته بصوت يتموج من الفزع:"إنني ابنته ريحانة ،وأنا أسكن معه مذ تركته أمي" قال وهو يجلس على الأرض قبالتها:"اعتقدتك مدبرة منزله ،هل كنت هناك قبل أن أدخل" لم ترد عليه وظلت تحرك ساقيها ذات اليمين والشمال ،فنهض وقال بلهجة لطيفة:"قد لا يعجبك المكث هنا ،ولكني مجبر على هذا" وعقب :"لن أسيء إليك ،لن أصنع شيئاً يوجعك ،لا يمكنني إن أخبرك إلا أنك ستبقين هنا حتى أجد لنفسي مخرجاً" ثم تولى إلى المطبخ يحضر شيئاً حطه أمامها فلم تقربه. قال لها ساخراً:"لا تقلقي ليس في الطعام سم مميز ،إنه خبز محمص مع بعض قطع الجبن ،اعتقدت أنك لم تطعمي شيئاً" وحين رآى ماء عينها ينزل بهدوء ،قال يخاطب نفسه:"لقد حظيت برؤية امرأتين تبكيان هذا اليوم" ثم خاطبها قائلاً:"استمعي إلي ،تبدين فتاة صادقة ولهذا سأطلق سراحك" "سأعتمد على وعد بيني وبينك ،فهل أنت موافقة؟.. إن لقيت منهم من أحد فقولي لا أعرف شيئاً..ماذا تقولين" قالت بصوت كالهمس:"أعدك بذلك" فنصب إصبعه الخنصر ورفعه أمام عينها مباشرة ،فأبرزت إصبعها وأحاطت بإصبعه. قال وهو يشد عليه:"إنه وعد بيننا ،لا أحب أن أؤذيك فلا تشيري إلي بكلمة" ثم قادها إلى الباب وراقبها وهي تستأجر سيارة وتمنح سائقها المال الذي أقرضها إياه. لقد ضرب موثقاً معها ،وافتضاح أمره ليس ببعيد. واستقبله مديره في النهار التالي يأمره بأخذ الشيخ إلى السجن انحناء لأمر وردهم يوم أمس. وفعل الحارس هادي ما أمر به ،ودفع كرسي الشيخ مع بعض رجال آخرين. في منتصف الطريق الوعرة إلى الحبس ،استعد هادي لتنفيذ خطته فقال لهم أنه سيرافق الشيخ ليقضي حاجته ،فأذنوا له وانتظروا. انطلق الحارس مع الشيخ حتى إذا تواروا عنهم بصخرة كبيرة حمل الحارس جسد الشيخ على ظهره وهرول باتجاه المدينة. استتر الحارس بظلل من الغبش الذي يسبق الغروب ،وآوى إلى سقيفة قديمة ودفع بابها بقدمه فحيته امرأة بجسد ضخم ورحبت بالشيخ. قال لها الحارس أن تعد متكأً وتعطي الشيخ طعام العشاء ،وقال للشيخ وهو يغادر:"قد وعدت أن أفتح لك الباب ،وها أنا أفي بوعدي أيها الشيخ الجليل" وابتسم الشيخ بسرور صادق ،ورفع يديه يتمتم ببعض الأماني لرجل حارس شهم. وآب الحارس إلى رفاقه فثقفهم ذاهلين حائرين ،وحين أبصروه قادماً نحوهم ،ترجلوا من المركبة وهبوا لملاقاته ،قال لهم بذهول:"أين الشيخ ألم يأتكم؟" وصاح به أوسطهم لائماً:"أنت الذي تركته يذهب أيها المندس" فقال بنغمة انتصار:"والآن ماذا ستقول لهم ؟لست بالشخص الذي يثق به القائد وما فعلته كان خِطئاً كبيراً. ليس من المسموح أن تتوقف سيارة السجن مهما كان السبب وليس ترك السجين مع جندي صغير بالعمل الحسن" وجحظت عينا الرجل وانتفخت أوداجه وقبض أصابعه إلى كفه بشدة ،ثم أدبر وألقى نظرة تهديد إلى هادي وقال:"سأجعل هذه الأرض السبخة قبرك يوماً ما" ونظر الرجال إليه شزراً ،وتركوه واقفاً وانطلقوا يبحثون. ولم يكن بحثهم ذو معنى ،ذلك أن ظلام الليل خيم على المكان ،ونادى بعضهم بعضاً أن ارجعوا فلا شيء يرجى من ليلة أخيرة من شهر قمري ،وقالوا معذرة إلى ربنا ولعله يدركنا برحمته. وروى كبيرهم لربه ما كان منهم من إهمال وصاح به ليسجننه لو لم يأت بخبر عنه خلال ثلاثة أيام ،وتولى الرجل غاضباً يضرب بحذائه الأرض. لشد ما تمنى أن يدق عنق الجندي المكار ،وحاك مع بعض الموثوقين من رجاله مؤامرة يحصل بها على الانتقام من الحارس الماكر. وحادثه الأخير بصوت مطمئن:"لم أقصد أن أسيء لك ،إذ كنت أحرس النور أن يختلط بظلام الليل حتى يشتد وتقوى شوكته" وعقد الرجل بين حاجبيه وابتعد.
    إلى الفصل الثامن بإذن الله

  12. #12

    الصورة الرمزية مس ساندرا

    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المـشـــاركــات
    592
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    جميل للغاية .. أسلوبك فائق المروتة .. تدل على تبحرك في العربية وأساليبها ..
    دمت متالقا ..

  13. #13


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أشكر لك متابعتك الدقيقة ،ويسرني تلقي الآراء منك ومن الجميع

  14. #14


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أجدد التحية


    (الفصل الثامن)
    في نزل صغير على طرف المدينة استفاق الشيخ حراً فوق متن فراش من الحصير ،وطلع يمشي بصحبة عصاه قبل طلوع الشمس في الفلاة الجرداء من الأنس بإنسان أو حيوان ،غير جحر لنمل وطأه الشيخ بقدمه الحافية واعتذر إلى ساكنيه بسرعة فقال:"لا تهربوا مني ،لا تدخلوا مساكنكم ،لن أحطمنكم برجلي". وجاوز جحور النمل بحذر فهبطت نملتان من ساقه إلى الأرض ولاذتا بجحرهما. عبر الشيخ على ثلاثه الضعاف صراطاً مستقيماً لا ميل فيه ولا انحراف ،ثم عاد منه إلى بدايته لما ارتفعت الشمس في السماء قيد رمح. واستشعرت أطرافه الدفء الخفيف فتلكأ في سيره وقال هو يدخل إلى الدار:"وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. إنما وهج الشمس أصابني فأردت أن استتر عنه ،فماذا إذا لظى النار أرادني من يحجبني عنه؟.." ثم بكى ورفع كفيه إلى الذي يعتقد أنه سينجيه ،قال:"اللهم اجعلني ممن تظلهم في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك ،يومئذ تدنو الشمس من الخلق ولا يحجبها إلا أنت. اللهم فاجعلني منهم". واستقبل سمعه صوت الباب يصفق بقوة وخطوات ثقيلة سريعة ،ثم حياه الداخل وقدم له بعض الطعام ،وسأله الشيخ في اهتمام:"لابد تجدين مشقة في الذهاب والإياب ،هل تعملين في الليل؟". أجابت المرأة وهي تضع بعض طعام للشيخ:"هذا صحيح تبدأ نوبتي في الساعة السادسة" أزاح الشيخ الملعقة جانباً وحثا بأطراف أصابعه بعض حبات الأرز وحملها في يده ومضغها بهدوء. اقتربت المرأة من الصحفة وحطت يسراها في الوسط تريد الأسوة بالشيخ ،فقال الشيخ ببعض الصرامة:"يا أمة الله سميه وكلي بيمينك وكلي مما يليك" كفت المرأة يدها في حياء وقاربت أناملها حافة الصحفة فكانت تأخذ في اللقمة حبة أرز أو حبتين. وتلمس الشيخ بيديه طلباً للماء واستفسرت عن بغيته فأجابها وحظي بجام منه. قالت المرأة بنبرة اعتذار:"ربما جلبت طعاما لا يناسبك أيها الشيخ الجليل ،استميحك عذراً". رفع الشيخ رأسه إليها وقال :"كل الطعام رزق من ربي ،وما اعتدتِ عليه ليس يستثنى منه" وشكرها الشيخ بعد أن شكر ربه ثم التمس درباً إلى إبريق من الماء. نادته المرأة إنك لم تطعم الكثير فرد عليها وقد غلفت وجهه غشاوة من الوقار:"حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ،وإنني قادر على السير". نظرت إليه المرأة بحيرة ثم انتبهت إليه وهو يرفع الإبريق فهبت إليه. غسل الشيخ وجهه ووصلت قطرات منه أذنيه وأقصى لحييه ،وأدخل الماء في أنفه وفيه ،ثم أسبغه على ساعديه النحيلين ومرفقيه البارزين ،ومسح بالأثر في راحتيه على رأسه الأبيض وصوان أذنيه واعتمد على عكازه بيسراه ،وخلل بصبيب البارد أصابع قدميه ودفعه بيمينه حتى غمر كعبيه ،ثم استقام وشهد أن إلهه هو الله ،وأن رسوله هو محمد وخطى خطوات قليلة إلى محراب بيّنه بحجارة صقيلة بالأمس ،ورفع كفيه مفارقاً بين أصابعه ففعلت المرأة من خلفه ما فعل ،واستمعت إلى الكتاب المسطور في أنحاء قلبه ،وانحنت معه لربه. سألها الشيخ لما أن فرغ أتحس نفوراً أو اطمئناناً في قلبها ،فأجابته أنها تتحرى الآية تلو الآية قالت له:"إني أتمنى أن تطيل في سجودك ،سجدة لا يرتفع جبيني بعدها أبداً. إن الجبين سر من الأسرار فيه شرف الإنسان وعزته ،وإنا نهين أسرانا بضربهم على مقدمة رؤوسهم" قال لها الشيخ وقد أحب حديثها:"وإن للناصية علامات ،بها يعرف الخيّر من الشرير ،وإن الدجال لن يوق من فتنته إلا امرؤ أراد الله له أن يبصر الكفر محفوراً في جبينه" أجابته وهي ما تزال عاقدة كفيها على صدرها باطمئنان من أثر عبادتها مع الشيخ:"لقد عرفت هادي من مسحة النور في وجهه ،وهو أرشدني إليك" قال الشيخ بصوته الحكيم الهادىء:"إن الأخيار يعرفون الأخيار بسيماهم الظاهرة في وجوههم" ثم سألها ببعض التردد:"أخبريني ما حل بالممرضة في سجنكم؟ وكيف تبلي تحت السياط؟" أجابته بسرعة:"إنها بخير وهي تطمح للحرية يوماً ما ،غير أني لا أستطيع وصف صورتها بشكل مقرب فزميلة لي هي من تشرف على جلساتها". أومأ الشيخ برأسه مرتين وصمت. كان النهار بساعاته الطويلة غير كاف على الإطلاق لمجالسة شيخ بحكمة الشيخ وحلو حديثه ،ووجدت المرأة صعوبة شديدة في الإياب إلى العمل وترك الشيخ. كانت تلبس بذلة ثقيلة وتعتمر طاقية يميزها شعار صغير ،وعلى كتفيها استقرت حلقتان معدنيتان كبيرتان وفي أحد جوانب صدرها تعلق كل يوم صورتها ورتبتها واسمها الثلاثي. شاهدتها سجانة الممرضة ذات الجسد النحيل والتعبير الشرير والصوت الذي يشبه الصفارة فقالت:"يتبدى لي أنك لم تنمي هذا النهار" ثم غيرت صفارتها إلى نغمة تطفلية ماكرة:"ماذا كنت تفعلين؟" نظرت السجانة الطيبة تجاهها والتفتت ثم أكملت طريقها ،لكن الأخرى منعتها من النفاذ بذراعيها الطويلتين وقالت:"تعلمين أن المعلومات تشترى بثمن بخس هذه الأيام..ذلك لاعتمادها على الكذب والاشتباه في أغلب الأحيان..(ثم غيرت صفارتها إلى نغمة أخرى وهي تقول) لكن معلوماتي مستثناة منها على أية حال!" أمسكت الطيبة ذراعي الخبيثة وهصرتهما بما أوتيت من قوة عظيمة فصرخت الأخرى من شدة الألم واندفعت بعيداً مع أول فرصة منحتها الشديدة للإفلات ،وبرقت عيناها في شهوة للإيقاع بها وهي تبصرها ذاهبة إلى العمل. شعرت السجانة الطيبة ببعض الخوف من انكشاف السر ذاك أن الثعلبة النحيلة ترمي عيونها في كل مكان ولا تدع أحداً بحاله. ولكم تساءلت إن كانت تعمل بالسر لمصلحة سيد المدينة أو لمن وراءه من الأسياد.
    إن الحراسة الليلية في السجن عمل ممل ورتيب ،فجميع النساء نائمات هادئات ونائبة المديرة تتثاءب في مكتبها. وفي مثل هذا الحصن لا يفكر أحد بالهروب وإن فكر فلن يقدر أن يخطو خطوتين خارج زنزانته. كان نفر من حارسات الليل راقدات إلى النصف من أجسادهن في الممرات ،غائبات عن الدنيا. وحارستان أو يزيد يترنحن في مشيهن ويكدن يقعن لولا عصيهن النافضة ،وفي الحقيقة أن رفيقة (السجانة) لم تكن تسير سيراً بل تثب وثباً بين الأعضاء المتناثرة في دهاليز غير واسعة. انقضى من الليل أكثر من نصفه ولم تقعد رفيقة أبداً إبان جولتها حول زنزانات سجيناتها ،واستمعت إلى حوار بين سجينتين من وراء بابهما الفولاذي. كانت إحداهما تقول للأخرى:"يظهر أن الممرضة قضت تحت العذاب الأليم ،إني يغيب عن أذني صوتها هذه الأيام" "أتعلمين ،لقد اشتقت للحرية ،رغم شهور الحب مع **** الحديد" ولم يأت لسان المخاطَبة بأية كلمة فأجابت المخاطِبة نفسها:"إني أظل إنسية أحمل الشر في صدري ،هه أريد الخروج!" وهنا تحدثت الصامتة ببعض الحماسة المبالغ فيها ،قالت:"هل ،هل تعنين أن ابني حمل الشر في قلبه؟؟" أجابت المرأة بشيء من السخرية:
    - أنت تحملين شيئاً منه.
    - إني لا أقصد شراً آدمياً ،أريد به شر مجهول.
    - لا أفهم غايتك ،لكن رجلاً واحداً يمكن أن يخبرك ،إنه سجين أيضاً.
    - وهل يعرف ضروب الشر؟
    - يعرفها كما يعرف ضروب الخير. ولكنه مسجون ،لا شيء يرجى من وراء القضبان.
    وسكتت المرأتان عن الحديث ،وعادت المتنصتة إلى أول الدهليز تنهي شوطاً آخراً في مسعاها الليلي. وأتى الصباح ،وجلت خيوط النور مسالك المبنى المظلم ،وأزعجت جفون النيام فقاموا إلى الحياة. ودخلت أفواج سجانات النهار وأزاحت جموع سجانات الليل ،وبقيت لرفيقه مهمة واحدة. أقبلت المأمورة بعربة الطعام ،وصاحت بالميتات أن يتيقظن قائلة:"طعام الإفطار ،طعام الإفطار" وانتهت إلى زنزانة منعزلة ممنوعة النور دخلت إليها بمساعدة رفيقة التي تسمرت في الممر قبالتها. وانتبه بصر الممرضة المرهق إلى الجسد الضخم أمامها ،فتذكرت هذه الملامح التي عرّفتها بها رفيقتها الصغيرة أول أيام السجن. خرجت المأمورة بعد أن حطت كسرة خبز وقَدَر ضئيل من الفول ،وتابعتها رفيقة ببصرها حتى غابت فدخلت إلى الممرضة وجافت الباب. هبطت بجسدها الكبير حتى صار وجهها قريباً من وجه الممرضة ،وتعجبت الأخيرة من ضخامتها وطولها الذي استحال إلى شيء صغير جلس جانبها. تحدثت رفيقة بصوت متوتر على عجل حتى أنها أدغمت الكلمات ببعضها:"إن الشيخ حر وهو يذكرك دائما." ردت الممرضة بصوت هامس وهي تحاول النهوض:"حقاً! ما أعذبك وما أعذب هذه البشرى! هل أنت متصلة معه؟" قالت رفيقة وهي تنتصب واقفة:"وحارس الشيخ معنا ،اسمه هادي ،قريباً ستكونين معنا يا أختاه" ردت الممرضة بنبرةٍ طموح:"نعم ،أخبريه أنني بخير وأقرئيه مني السلام". أومأت السجانة برأسها وسمعت الممرضة نافذة النور توصد خلف الطيبة ،وغمر الظلام الزنزانة من جديد.
    انطلقت رفيقة إلى سبيل النزل فاعترضها أحد الرجال وقال لها هامساً بحيث استغربت لهجته:"إني مرسل من هادي هل أنت ذاهبة للشيخ؟" ردت عليه ببعض الحذر وبأسلوب قاس تعلمته من مهنتها:
    - ما اسمك أيها الرجل؟ وكيف علمت الطريق؟
    - اسمي نادر ،كنت أدرس لدى الشيخ. قد أرشدني حليفك إلى نزل الشيخ لكني تهت المكان. وكنت سمعت عنك منه.
    - أنت أحمق تماماً ،هل تعتمد على حدسك بالتعرف على الناس؟ فماذا إن وصلوا للشيخ وقتلوه؟ إن الوضع ليس بمستقر ،والعيون تلاحقنا في كل مكان ،فما يدريني لعلك تكون جاسوساً آخر. أرجوك كن حذراً.
    واعترف بخطئه في نفسه وعرف أن حماسته أوقعت به في الخير هذه المرة ،وقد توقعه في الشر مرة تالية. وسارت المرأة وإياه فجاجاً وعرة لا تعبرها السيارات ،واطلعوا إلى النزل الصغير ،فهبطا التل مهطعَين إليه ،ولمن فيه. واستقبلهم الشيخ جالساً على عتبة الباب فلم يتمالك الكهل نفسه وأوى إليه وبكى ،وتأثر الشيخ من صدق عاطفة الرجل وارتسمت في محياه آيات رقيقة. تحدث الكهل أولاً فقال:"لقد اشتقنا إليك يا شيخ ،وإننا لم نعاني فيك مثل البعض فنتلذذ بالعذاب المريح ،ولم نقدر على دفع الحق ليظهر على الباطل. إننا عشنا الأيام في حيرة وضياع ،فكأننا لبثنا أحقاباً من الزمان طويلة" وأمسك الشيخ بيده ودعاه للدخول وقال الكهل وهو يسند الشيخ إليه:"إني شغوف بالكتاب حين تتلوه علينا بصوتك الرخيم" وتبسم الشيخ من قوله وقال:"ستسمعه بإذن ربي حتى تحفظه ،فتكون متعلماً ومعلماً له". أدركت المرأة من حديثهما أن الاثنين يعرفان بعضهما جيداً ،فاستراحت ظنونها واطمأنت ،وقالت تحدث الرجل:"أيها الغريب القريب ،قد حضرت طعاماً للشيخ فإن شئت فاستأذنه ،إنك ضيفنا اليوم ولكن الشيخ ضيفنا على الدوام. أعتذر منك يا صديق الشيخ الكريم" وقرب الشيخ إناءه إلى الكهل فقال:"ضع كفك في إنائي ولا ترفعها حتى تشبع. فو الله لا يأتيني رزقه إلا وأكرم خلقه منه" ودعا المرأة فاقتربت ،ومد الثلاثة أيديهم إلى الطعام الذي خصص لرجل واحد ،وما كفوها إلا وهم شبعون. قال الشيخ حين كان يغسل كفيه تحت الماء يسكبه الكهل:"قد طرح ربكم البركة في طعامكم ،لسعة نفوسكم وخلوها من الشح ،أيها الطيبان". وجمعت المرأة الآنية وجعلتها في زاوية الغرفة وجاءها الكرى يطلبها حقه ،فاستندت إلى الحائط وقالت. وتحدث الكهل والشيخ في الخارج حيطة من إقلاق راحتها قال الكهل للشيخ وحمْل من الهم في صوته:"لقد فصلت من عملي أيها الشيخ لأني أحمل فكراً غريباً على القوم ،وزوجتي الغيورة اتهمتني بمصاحبة العاهرات -سموت وسما مقامك- ولايهمني لمزهم إذ يتحدثون ،ولا يهمني ما وصلتُ إليه..أيها الشيخ إني حزين لأجلك تلقى في الصحراء في سقيفة فقيرة من الزاد إلا قليلاً ،تنام متيقظاً وتصحو متيقظاً ،لو أن لي قوة أو أوي بك إلى ركن شديد ،لو أن لي قوة..." فقال الشيخ بنبرته الهادئة المعتادة:"لا تقلق أيها الرجل الطيب فإن مع العسر يسرى إن مع العسر يسرى. ثم لا تبجلني لتسمو بي عن إماء ربك ،ما يدريك لعلهن أفضل مني عنده." وارتفع صوت الكهل متعجباً وهو يقول:"مالذي تقول أيها الشيخ؟ أبائعات الهوى خير من رجل يقرأ كتاب ربهن!!" وعاجله الشيخ بالإجابة وما من عادته الاستعجال:"فإنك لا تدري عن حالهن ،أنت تعلم ما يجرحن في الليل ،ولكنك لا تدري ما يصنعن في النهار. وربما رجعن إلى ربهن بتوبة لو وزعت على أهل المدينة لكفتهم. كف عن تزكية من تعرف ،ولا تزكي نفسك ،فقد يغلبك غيرك وغيرهم عند ربك" وأمسك الاثنان عن الكلام إذ أقبلت قافلة من الرجال نحوهم. وأوجس الكهل خيفة منهم ،وطمأنه الشيخ أن الرجال أنصار لهم ذلك ما يسمعه في خطواتهم المهرولة قِبل الحق ،وللروح صوت تغنيه القدم يفضح مبتغاها. ووصل خمسة من الرجال وسادسهم هادي ،الذي تحدث فقال:"أيها الشيخ ،إنهم رجال أشداء على الكفار رحماء بينهم يبتغون علماً ينجي أبدانهم من دودة الأرض في أجداثهم بعد الموت" وزع الشيخ نظراته عليهم بالتساوي وقال:"فإنكم حزب الله ،ألا إن حزب الله هم الغالبون" وتقدم رجل منهم وتحدث باحترام شديد فقال:"إنا نتوق للكثير من العلم ،وأتيناك لأن هادياً أخبرنا عنك". "ستجد الكثير يا ولدي فاطمئن ،يلزمك ويلزم الجميع عزيمة قوية ،وصبر جميل" رد الشيخ متبسماً وأشار الكهل لهم على السقيفة فنبهه العجوز الفطين إلى المرأة النائمة داخلها ،فاستقروا في ظلالها متحلقين حول الشيخ. كان جميع الرجال يعملون في السلك العسكري وقد تعرف هادي إليهم بعد مناوبة حراسة أو حفلة تكريم أو تدريب جماعي. وتحدث هادي بوثوق قائلاً:"إنما نحن جنود ذوي بأس شديد وقوة ،وإن أجسامنا قادرة على حماية علمك أيها الشيخ ونفسك الكريمة" فقال الشيخ:"ليس الجسم يجدي يا ولدي إذا غاب عن أعلاه حكمة العقل الذي يسيره. إني أريد أن أؤمر عليكم من أنفسكم رجلاً فمن ترشحون؟" وتبادل الشباب النظرات ثم تحدث هادي فقال:"أنت أميرنا أيها الشيخ". "فذلك في صلاتكم وحلقات علمكم ،وإني أريد جندياً خبيراً بخدع الحرب وحيلها فهم سيدركونا بعد مدة ،ولسنا بمأمنة منهم. أريد قائداً لجند الله حصيفاً صبوراً ثابتاً باسلاً ،وكلكم كذلك إن شاء الله". قال الشيخ لهم ، فقال رجل منهم:"فإن هادي رجل رشيد ،أعلم بهضاب هذه النجد وأوديتها منا" وخاطبهم الشيخ بصوت عال:"فهل أنتم موافقون؟ وهل تذعنون لأمره ونهيه؟ هل تطيعونه في المنشط والمكره؟" فأجابه الرجال بصوت يماثل صوته العالي ،وهبوا إليه مصافحين ،وقالوا له:"إنا نبايعك أيها الشيخ على السمع والطاعة في ما نحب ونكره حتى نهلك ونموت". وتقبل الشيخ كلامهم بقبول حسن ،ونهض فتوضأ لما أن زالت الشمس ،وتبعه الشباب ففعلوا ما فعل ،ووقفوا خلفه صفاً كالبنيان المرصوص. واستمعت المرأة النائمة إلى تكبير الرب وتسبيحه خارج السقيفة ،فهرولت إلى الصوت الخاضع والجمهور الخاشع وركضت إلى إبريق الماء فألفته فارغاً وجزع قلبها الصادق فهي تريد أن تدرك الصلاة معهم ،وشاهدت أجساد الجنود المتلاصقة فآثرت أن تجلس خلفهم ، وانتظرتهم حتى قضيت الصلاة. التفت الشيخ إليهم وأبصرها وأبصر حزنها بقلبه ،فنادها أن لا تخافي ولا تحزني وقري عيناً ،فاضربي على الصعيد بيديك وامسحي بوجهك منه ،وقومي طاهرة فصلي لربك. وسعدت المرأة بالرخصة وقامت تصلي متباعدة عن القوم. وسأل بعضهم بعضاً من تكون المرأة ،وأخبروا بعدئذ أنها داخلة في دين الشيخ تكتم إسلامها. وتفرق الرجال بعد أن اتفقوا على بعض الأوقات يزورون فيها الشيخ ،وقالوا لبعضهم إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ،ولن تفلحوا إذن أبداً. فلزم كل منهم طريقا يسلكه.
    صاحت المرأة بحارس الشيخ لما رأت الرجال غادروا ،فقالت:"أيها الرجل الغافل كيف تدل رجالاً مثلهم على مكان الشيخ؟ وما يدريك لعل أحدهم يحيك غلاً في نفسه ،ويريد أن يوقع بنا" قال لها بغضب استثارته ظنونها في رجال يعرفهم:"إني رفيق لهم ،وأنا من دعوتهم إلى الشيخ وإلى رب الشيخ" نظرت إليه المرأة بغضب ،فبادلها غضباً بغضب وقال لها وهو يوليها ظهره:"أسمعي ،لا تجلبي متاعك إلى هذه السقيفة غداً ،وانقلي ما فيها إلى الدار التي سأرشدك إليها" حدجته بنظرة تساؤل طويلة ثم رحلت ،ورحل.
    اجتمع رجلان إلى أميرهما هادي في مقهى الجنود المزدحم ،واتخذ رجل سبيله إلى المجموعة التي تتحاور بلغة الإشارات الهامسة. حياهم بتحية الجنود لبعضهم خارج العمل وخاطب هادي بصوته المستكين الهادئ ،قال:"أيها الجندي لدينا طلب بحضورك ،يعتقد اشتراكك في شيء ما. يجب أن تصحبني لتبدد شكوكهم" وانقبضت عضلات وجه الحارس هادي بعد انبساطها إثر حديث بث أملاً مع صاحبيه ،وقام إلى الرجل وأشار لرفاقه أن يذهبوا قبله. سلك الرجل الهادئ بصحبة الحارس وسط المقهى حتى وصلا إلى مائدة في الهواء الطلق تجلس عليها امرأة عسكرية ورجل بدين. تفحصت المرأة بعينيها الضيقتين وجه الحارس الوديع ،ورحبت به للجلوس. أفصح الرجل البدين بعد أن انتظره الجميع أن يفرغ كوب قهوته ،الذي كان يتجرعه مصدراً صوتاً كريهاً ،قال:"أيها الحارس ،هل ترتبط بأية زمرة إرهابية ،هل تذلل لصديق ما طريقاً لا ترضاه الحكومة؟" تحفزت المرأة للكلمات التي سيخرجها لسان الحارس ،واتكأت على مرفقها في راحة نادرة. قال الأخير ببعض التردد:"لا أملك علاقات من هذا النوع ،إن وقت العمل انتهى وليس لديك حق لتحقق معي" قال البدين وشحوم وجهه تتهدل كلما أخرج عبارة من فمه:
    - إنها المعلومات..المعلومات أخبرتنا أنك تحاول حماية أحدهم. وقد شوهدت تحادث سجانة تشرف على ممرضة مجرمة ،وبحسب ما أعرف فأنت حارس الشيخ ،إن في رأسي الكثير من التكهنات.
    - تكهناتك في غير موضعها الصحيح ،أنا رجل شريف لا أخون عهد الوظيفة التي أتمنت عليها...
    - وما تقول في حادث هروب الشيخ؟ كنت أحد الرجال الذين رافقوه إلى الحجز...
    قاطعه هادي صارخاً وهو يدفع كرسيه إلى الخلف:
    - كانت مسؤولية الجميع ،وعلى القائد يقع الحمل الأكبر...
    هاج الرجل البدين أيضاً ،فرفع صوته فوق صوت هادي ،قائلاً:
    - وردتنا معلومة مفادها أنك من صحبت الشيخ لبعض حاجته ،قل..قل وشى بك بعض صحبك.
    نكس هادي رأسه في خضوع ،فلم يحر جواباً يسكت به الرجل ،تحدثت الثعلبة بسعادة قائلة:
    - إنه ليس فطيناً كما أرى ،لم يخبرنا أحد رفاقك بشيء ،قد ابتغينا اختبارك فقط وها أنت تقر بالحقيقة. إنك تملك عقل الجندي الحقيقي ،عقل لا يفكر إلا بالطاعة ،أنت جندي ،أنت جندي!.
    وقهقهت بصخب فنظر إليها الرجال من حولهم وتساءلوا عن حضور امرأة في مقهاهم ،ووقف البدين ورفيقه الهادئ وقال الأول للمرأة:"سنذهب الآن ". ورحل الرجلان بصحبة هادي إلى مديره الذي ينتظر.
    رغب هادي ببعض السؤال لكن لسانه انعقد فلم يتحدث ،إنه مدرك لضعفه أمام السلطات وفي ذات الوقت عالم بالقوة الروحية التي تسيّر بدنه. هي المرة الأولى التي يدعى فيها إلى مكتب المدير المهيب ما سبقها غير مرة تقابل فيها معه ،في سنة عمله الأولى. قال المدير وملامحه متصلبة كدأبه في الحديث إلى الناس:"سجلك أبيض تماماً ،أي رجل هذا الذي تريده أن يأخذك إلى الهلاك؟" "أنت تعلم علاج الناشز في الجند ،يصلب على الوتد ويتوافد رماة الرصاص على قبره العالي" ثم أمسك عن لهجته المؤدِبة وقال لائماً:"ألن تدرأ عن نفسك بعض ما تهمتك به؟" أجاب هادي وهو يصد بعينه عن عين المدير:"أنا لم أفعل". طلب المدير دنوه منه ،وأخذ ذراعه بين كفيه ،وقال:"إنه سوار مسجل حديثاً لدى البوابات ،إني مضطر لاحتجازك حتى يردني مبدل للأمر". تيقن هادي أن جسده محجور هذا اليوم ،فجلس في كرسي الممر محبطاً يفكر. عبر به بعض الأشخاص وحدقوا في سواره في استغراب ،وجاوزه بعضهم دون أن ينظر إليه. واصفر لون الشمس الذي تلاعبه ظلل الأشجار فوق قدميه ،وخلا المكان إلا منه ورجل يحمل مكنسة في يده وعدة تنظيف. وسكنه شعور أرعش أصابعه وهو يرنو إلى جذع الشجرة الطويل من النافذة أمامه ،ويتخيل نفسه مصلوباً تأكل الطير منه.
    لقد ورد على مكانه عشرات الرجال الذين أيقظوه من غفوته ،بعضهم يأمر وبعضهم ينهى ولم يفهم من ضجيجهم إلا أنهم في معترك لا يدرون أي سبيل ينفذهم منه. غادروا وهو راقد على الكرسي البارد يريد الخلاص من أوهامه التي صدقت إذ سمع رجلاً يصرخ:"إن الإرهابيون في الجهة الشرقية من المدينة قد حدد الرجال موقعهم بالضبط ،إنهم يحتمون بمنزل قديم". وانتفض الحارس من مقعده وسأل الرجل ببعض الغلظة:"من تقصدون يا رجل؟" نظر إليه الرجل وإلى سواره بارتياب ،وقال:"إني أحدث الجنود. هل أنت موقوف أو ما شابه؟ إننا في منتصف عملية مهمة". وترك هادي الرجل والرجال وراءه ،وكره صورة السوار في معصمه وتمنى لو ستره ردن طويل ،ومشى خارج المبنى نحو آخر نقطة ينفجر بعدها السوار ببدنه ويلقيه أشلاء متناثرة. أخرج من ثيابه خنجراً صغيراً وأقره على يده. إن السوار حساس للمعادن التي تقترب منه ،فقد أبعد الخنجر عنه إلى منتصف ذراعه ،ولم يصدر الجهاز أية أصوات أو تنبيهات ،وبدأت روحه الحرة تطلق دما ثائراً في جسد حبيس ،وتحفزت يمناه لتقتل يسراه وشخص بصره ،وتشنج جذعه ،ودفع بالسكين فجرحت وسكبت دماً ودفعها فزاد سيلان الأحمر وصرخ بأعلى صوته حين كانت يده تلفظ الأنفاس الأخيرة. وعلم بعض البعيدون ما يفعل ،فهرعوا إليه وهم يتساءلون ،ووقفوا على المكان فما وجدوا غير رائحة الدم ،ويد حبيسة. انطلق الحارس إلى محروسِه بكل السرعة التي تصلها سيارة عسكرية بغير علامات ،ويد واحدة تحرف دفتها صوب قارئ الكتاب ،وترك مركبته وراءه هابطاً تلالاً صخرية تفصله عمن يحب ،وطوى الأرض النجد بوثباته العالية يغطي جانبه الأيسر دم يتناثر من جرح يده ،أضحية روحه الحرة.

    إلى الفصل التاسع بإذن الله

  15. #15

    الصورة الرمزية مس ساندرا

    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المـشـــاركــات
    592
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    رائع للغاية .. يالفكرتك الجبارة .. ماشاء الله تبارك الله ..
    كتابتك تلامس شغاف القلب .. وتحثنا على التفكير .. العميــــق ..
    شكــــــــــرا لك .. وننتظر إبداعاتك ..

  16. #16


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    شكراً للجميع

    وهذا الفصل التاسع من رواية آدم

    أتمنى لكم قراءة ممتعة

    (الفصل التاسع)
    تحلق الرجال الستة حول الشيخ في سكون شديد ،واعتزلتهم المرأة إلى كثيب قريب ،توحي صوت المحدّث وأسئلتهم وتحرسهم بعينها وتسمع الطير البعيد. كان الشيخ يلقن اثنين منهم كلمات التوحيد ،والدخول في دين الله الذي بلغه محمد ،وهتف الرجال مسرورين بالنعمة التي نزلت على صاحبيهم ،وابتسمت المرأة ونهضت تنفض التراب عن ثوبها ،إذ جاء الغسق بواجب العمل. وأبصرت مركبة تتجه قبلهم تحت غيمة سوداء كبيرة ،وضيقت جفونها أكثر فلاحظت مشاة يسبقون الركبان يسيرون في مناحي متفرقة. هبطت من عليائها وهي تصرخ بالرجال:"عليكم أسلحتكم ،قد أتى موكب مقاتل" ولم يصنع الرجال شيئاً ،فصرخت بهم مرة أخرى فتلفتوا حائرين ،واتخذ بعضهم سلاحه ،وتوكأ الرجل المسن على عكازه الذي غاص في الرمل وقال للمرأة:"هوني عليك ،لن يجديك الصياح" ثم التفت إلى الرجال فقال لهم:"انتخبوا أحدكم يقود المجموعة ،واصبروا واثبتوا فإنكم حزب الله ،ألا إن حزب الله هم الغالبون" وعين رجل منهم نفسه أميراً على الرجال وراقب الوفد القادم وهو يشد على سلاحه. قالت المرأة بغضب:"ذلك الرجل إنه يجمع الرجال حوله بغير انتباه ،لقد كشفونا بسببه" أجابها الرجل وهو ينظر إليهم خلال منظار بندقيته:"إنهم أكثر منا ،لا طاقة لنا بلقائهم". واستعدت سيقان الرجال للهرب وحثهم الشيخ أن يلزموا أميرهم الذي قال بصوت أعلى:"جهزوا أنفسكم للهرب يا رجال ،وليحمل حسن الشيخ"ووصلت الغمامة الكبيرة وسترت الجمع عن الجمع الملاحِق ،وتأبطت المرأة مدفعها وجرت خلف الرجال. كان الكهل مدنياً لا يعرف العدو السريع لأمتار كثيرة كرفاقه ورفيقته ،وتجلطت الدماء في باطن قدميه فتأخر عنهم مسافة طويلة. تفقدت المرأة رفاقها وقالت بدهشة:"مالي لا أرى الكهل أم كان من الغائبين؟" وانتبه لها الأمير فارتدا على آثرهما قصصاً فوجداه قائماً يتخبط في ظلام الصحراء الشاسعة. قدم الأمير ظهره رَكوباً للمدني العاجز فامتطاه من غير سؤال ،وسار الثلاثة أقرب للجري يقتفون سبيل رفاقهم والشيخ. تبادل الجند جسد الشيخ وعاد الكهل ماشياً بعد استراحته القصيرة ،وكان القوم يقيمون ساعة ويسرون الساعة التي تعقبها ،وبلغ النصب بهم كل مبلغ وغشّت عيونهم سحائب النعاس والغفلة ،قالت المرأة لما أحست فتورهم ،وقلة وعيهم:"أيها الرفاق دعونا ننزل في المكان هاهنا ،فإني لا أجد للتابعين ريحاً ،دعونا نريح شيخنا ونحل عن الوسط هذه المدافع الثقيلة" واستحسن الأمير فكرتها ،وكان بوسع الباقين أن يلقوا أجسادهم على الرمال ولا يحركوا شفاههم بأية كلمة ،وخلع حسن سترته فدثر بها الشيخ ،وجلست المرأة والأمير ساهرا العين يعسان المكان في كل قطع من الليل ،قالت له بصوت مسح حباله عطش شديد:"فماذا نفعل في الغد؟ نحن قضينا مسافة طويلة ،ولا نحمل على أكتافنا ميرة المسافر" أجابها وهو يرقد على الأرض الدافئة:"ليست لي معرفة بهذه البراح القصية ،ماذا لو تفضل علينا رب الشيخ ،أليس يرانا ويعلم حالنا؟؟ لعلنا نشبع ونرتوي بمائدة ينزلها من السماء.." قالت شاردة بنظرها في تفكير:"لا أعتقد الأمر يتم بهذه الطريقة..إن أريد إلا بئراً تبل عروقنا وصيد بر سمين" رد منكراً ببعض الغلظة:
    - وما لذي يمنع نزول المائدة وفيها ما تقولين؟
    - إنه أمر أشبه بأسطورة قديمة ،أو وعد ساحر. إن الله لا يشابه فعلهم ذاك.
    - إنه كرامة وجزاء حسناً لعباد أخرجوا من ديارهم لأنهم آمنوا به..هل يجزون إلا الحسنى.
    وأقامت المرأة صلبها وخطت خطوتين ،وحدثته بنبرة ختامية:"إن أفضاله غمرتني حين كنت كافرة به ،لما أخرجني أبي من منزله ،إني مؤمنة بفرج قريب لكنه لا يبدو كما تقول " نظر إليها الرجل وهي تعتلي نشزاً صغيراً ثم نظر إلى السماء الدهماء فوقها راجياً رؤية النجوم ،ثم انتفض لما أتته المرأة مسرعة وهي تلقي وحياً هامساً إليه:"إنهم خلفنا أيقظ القوم ،يجب أن نهرب قبل أن يجدونا ،أسرع" وعوت سباع من مكان قريب ،وانقلبوا إلى النيام يريدون إيقاظهم ،فبصر بهم سبع كان يتشمم الجثامين الملقاة تحت قدميه ،ثم تولى عنها دون أن يطأها وواجههم مباشرة. تحفز إصبع الرجل للإطلاق ،ونهته المرأة معللة سماع التابعين صوت الرصاصة ،واقترب السبع مكشراً عن أنيابه مخرجاً غضباً هائلاً من صوته وعينه الضيقة. وتراجع الحارسان وأمر الرجل المرأة أن تسري مع القوم ولا يلتفت منهم أحد إنه مطلق على المفترس ومتصدٍ لملاحقي الصوت خلف التلال ،واستمعت المرأة لأمره وأذعنت ،ونهض الرجال على عجل وهربوا واستمعوا للرصاص يرمى من ورائهم ،ولحق الرجل الأمير بهم وهو يصيح:"قفوا عندكم إنهم يحاصرون المكان". وأزجى القوم الذين اتَبعوا للذين أتُبعوا رصاصتين صاح بعدهما صوت تحذيري من أحد التلال:"سلموا أنفسكم أيها الإرهابيون دقيقة ونفجر المكان" فأصاب الرجال هلع وأسقط في أيديهم وهم الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ،وبال الكهل في ثوبه من غير بلل ذلك أنه عن بطن لا يختزن الطعام ولا الماء ،وارتفع صوت الشيخ ينفث العزيمة والطمأنينة فيهم ،قال:"أيها الرجال ،إن ربكم يطلع عليكم ،إنه يختبركم ،فاصبروا واثبتوا ،أيها الرجال من يعش منكم منتصراً فذلك خير ،ومن يمت منكم مقتولا فذلك الشهيد وله من الأجر قراب هذه الصحراء والله يضاعف لمن يشاء. من يرد منكم اليوم أن يلقى ربه الذي أحدثكم عنه في الليل والنهار ،من يرد ذلك ،من يرد ذلك! إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" ثم أشار للأمير أن يقود المعركة وبدأ الجند من خلفهم يذرؤون الرصاص ويرمون القنابل ،وانفجرت إحداها قريباً من الجند المهاجم الذي يحرس الشيخ وأعوانه الهاربون. صاح الأمير بالرجال الثلاثة خلفه وهو يتجلى للعدو ويشير لربعه بسلاحه:"إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله" فأجابته المرأة المولية من البعيد:"وددت لو أكون معكم ، لكن..امتثل لأمرك أيها الأمير. غطِ بطيورك الفرجة التي سنخرج منها" وابتسمت ورأى ابتسامتها تحت لهيب النيران وكشافات العدو فابتسم لها ابتسامة واسعة وأخذ يحرس إسراءهم. كان ورجل معه يحتمون ببنادق الرجلين الآخرين خلفهم ،وسد رشاش الرصاص سمعه وسمعهم فقال بصوت أيقظ أهل المدينة:"أيها الشيخ إنني مسلم لربي ،أليست التوبة لا تقبل إذا بلغت الحلقوم ،فإني أشهدك أنني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ،إلى اللقاء أيها الشيخ!" وسمع الشيخ الساري شهادته وأنصت لشهادات زملائه من بعده ،ثم غابت صيحاتهم وهدير رشاشاتهم بابتعاد رهطه عن موقع التشابك إلى بسيطة هادئة. وعجز الكهل عن المسير ثانية ،فاستند إلى المرأة الجندية ذات البنية القوية ،لكنها تباطأت عن صاحبها وحمْله الشيخ ،فعرض عليها أن تهتم بالشيخ وتذر الكهل البدين يرتاح عليه ،ففعلت وانتقل جسد الشيخ الهزيل إلى ظهر المحارِبة.
    لقد ظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ،فأناخ القوم في أرض صخرية ،وقرأ الشيخ بمن معه بصوته المطَمْئن:"فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّنذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْمِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّعَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ" وانحنى جسده ،ثم قام من ركوعه فأتم الكهل والمرأة من خلفه صلاتهم ،وسلموا وتسلموا مركز الحراسة من الجندي الحارس ،فوقف يمين الشيخ وركع معه ثم أتم صلاته بمفرده وألقى السلام مع الشيخ القاعد على الأرض ،ثم قام إلى أصحابه وقد أظهر ملامحهم نور الصباح. تخير الجند بقعة تظللها صخرة عالية واستندوا إلى قساوتها مقبلين على يوم عصيب. وتلا الشيخ على الأجساد الصريعة آيات الكتاب يحيي أفئدتهم بها ،وإن صوته ينقطع حين يغادر البلل فمه:"إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّلَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَوَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْأَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمبِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أرادت المرأة أن تحرك لسانها بحديث ،وابتغى الرجل الراقد أن يعلم ما لتوراة ،ونام الكهل على كلمات الشيخ بملء جفنيه ،وسكت فو الشيخ عن الحديث وسقط رأسه على الأرض وتخضبت لحيته البيضاء بلون التراب ،وفجعت الجندية فهبت إليه وحطت راحتها على جبينه وقالت للجندي بكلام ليس يتضح من بين شفاهها اليابسة:"إنه محموم ،والآخر محموم أيضاً ،إنني لا أبصر جيداً ،هل تسمع ندائي يا حسن؟". ولم يجبها جثمان الرجل بكلمة ووقعت على الأرض وهي تشاهد سراب الماء أمامها ،وأرادت أن تقعد فلم تقدر فراحت تلعق بلسانها النبع الوحيد الذي لم يجف في بدنها ،وكان مالحاً زادها عطشاً على عطش ثم توقف بعد برهة ،وغلت مقلتاها ورمدتا كالجمر ،ولم يبق في أناملها قوة لحت الحصى عن وجه الشيخ ولحيته ،فبكى قلبها. قلب عسكري تحمله رفيقة بين أضلاعها الاثني عشر ،قلب ضامر من كثير مشاهدة العذاب والتعذيب ،قلب عليه أكنة فلا يتنفس ،قلب ميت. وقد رفع غطاءه ما سمعت من العلم و أدهق رهباً ورغباً في مد عاطفي مدهش ،يجعل جسدها الذي عافته السباع يزحف بحثاً عن الحياة. في وعي عقلها وحواسها نصف جهل ،تم بعد يوم ونصف ليلة ،فبكرت في جهل كامل ،في باحة ما فيها شجرة واحدة تتخذ في رقدتها هيئة جنين ،وتبتعد شفتاها عن فرجة تحلم بالماء..أو قطرة منه. في المكان غير بعيد عنها ،يضطجع جثمان الحارس هادي في عطش إلى الدم وإلى مجري الدم ،يعتقده الرائي كبش ذبيح سلبه الذئب يده.
    في الفجر التالي ،شيء لأحدهم أن يحيا ،ويلحق بأثر رفاقه مثقلاً ظهره بزاد كثير. كان يضع قدميه في أثر حذاء الجندي تماماً ،إذ كانت أخاديده واضحة لم تدفنها الرياح ،ولم تطمسها أيادي العابثين. سار الرجل ببطء شديد يسقط تارة وينهض تارة ،ويهرول بإذن من ضعفه تارة أخرى. وفي وسط الأثر ،على مد البصر ،كانت كومة بشرية متعفرة ،ليس لما يواري سوءتها لون معروف. واقترب هادي منها وعرف هيئتها الضخمة وشعار ثوبها ،وعلتها التي أودت بها إلى هذا المنظر. وأرساها على ظهرها وقطر على لسانها الظاهر من قربته. وتحرك لسانها بشدة يلحس أصابعه فسكب المزيد ،فحيت أطرافها هذه المرة وهجمت على مصدر الماء ،فشل حركتها بساقه وضعها على صدرها ،وشق تمرتين وغمر الأجزاء الأربع بالماء ،ثم أغطش بياض خرقة من القطن في الماء الأسود. وعصر الخرقة في فيّ الظمآنه وسقاها الفرات رويداً رويداً. واختار أن يتفيأ وإياها ظل العوشز على البقاء في الرمضاء تحت الشمس ،ونطقت بعد أن عاد ريق فمها ،وسألت:"هل أرسلك الله إلي؟ تبدو هالكاً أو على شفا جرف من الهلاك" أجابها وأنفاسه تعلو صوته المتعب:"كيف حال القوم؟ ولم أنت منفصلة عنهم؟" قالت وهي تنحني لتنهض:
    - إني ذاهبة إليهم ،إنهم هالكون.
    - تريثي حتى تبتل عروقك ،لن يسعف المريض مريض.
    - إني أتيت زاحفة ،فأي أثر سأتبع؟ ما يكون إن أضعت مكانهم؟
    فقام وأعاد وزره إلى كاهله وسارا في جهة معلومة ،بدراسة موضع الشمس ظهر غادرت المرأة ،وأقرت أن السطوع كان أمامها ،فمضوا إلى الشرق مفترضَين أنها لم تنحرف إلى قبلة أخرى ،في زحفها ولم تبتعد. وكانا يسندان بعضهما البعض مشياً على القدمين أو على أربع ،ومرت لحظات قطعاها بالزحف على البطون ،وبدا لهما بعض متاع القوم وهرولت هي إلى الصخرة حيث تركتهم تحتها ،ونفر خفيفاً إلى صحبه ،وأنعشهم برودة معينه فثارت أجسادهم ،وصاحوا صيحة الوليد حين يقدم للدنيا ،ويضرب الهواء حباله الصوتية لأول مرة في حياته. وحين وعى الشيخ طلب إلى المسعف أن يسقي الرجلين أولاً ثم يأتيه بالباقي ،وأقبل الرجلان على الماء الذي امتنع عنه الشيخ فشرباه عن آخره ،وأتيا على الطعام فلم يبقيا ولم يذرا شيئاً. ودعي الشيخ إلى الطعام فلم يجبه ،وسجد ،وتحدث إلى ربه الذي سقاه وأطعمه يشكره على فيض فضله. وسجد صحبه الذين يتمثلون قوله وفعله ،وشوهد سجودهم من طيار عسكري ،على متن السحب يظن بأنه الأعلى وأن الساجدون ،هم الأرذلون. حام بطائرته فوق رؤوسهم المطلعة إليه ،بنظرة تخوف وترقب سوء ،وتحدث هادي بصوت مرتفع يأمرهم أن يستتروا بظلال الصخرة ،ولكن المدد الجوي القادم من البعيد أخبره أن العدو يقصد مكانهم بالضبط ،فسار بصحبه إلى ناصية ليست معلومة إلى مصير مجهول. قال بصوته الجهوري :"يتعين علينا أن ننفصل ،فسيروا في الأرض حتى تلقوا منحدراً توارون فيه خبركم" وقبض على ذراع رفيقة وابتعدا عن الصخرة ،وعن أصحاب الصخرة. وراودت خطواتهم عيون الطيارَين فوقهم ،فخفضت الطائرتان مقدمتيهما واستعد أربعة من الجنود للهبوط منها على سلم تطير به الرياح ذات اليمين والشمال ،فقال هادي للمرأة وهو يرفع سلاحه:"سأكفيك الرجلين هنا ،وأنت اكفنيهم هناك" وتقابلا بالأدبار وصوب كل منهما على صيده. استطاعت الجندية أن تنال من الرجلين المعلقين في الحبال وأن تفادى طلقاتهم ،لكن الرجل باليد الواحدة لم يرسل نيرانه جيداً ،واهتز السلاح الثقيل على كتفه فطاشت رصاصاته وأصيب ذراعه المصاب ،ولم تتلقى المرأة تدريباً كافياً لتسيطر على هذا الموقف ،واختارت توفير الطلقات لأجساد البشر الذين أحاطوا بهما كزوايا مربع ،وأجبر الاثنان على الاستسلام فرفعا أيديهما وأطاحا بالسلاح ،ولم يحتمل ذراع الرجل أن ينتصب فرفع يداً وحيدة خلف رأسه. كبل الجنود أسيرتهم بالحديد وعاد الوثاق إلى ساعد الرجل الحرة. وجف قلب المرأة من الرهب في اقتراح ورد ذهنها أن ما أصابهم هنا ،أصاب القوم هناك ،وتمايلت على المصعد من الضعف ،وهددها الرجل المرافق لها واضطر ثلاثة منهم أن يمسكوا جسدها الثقيل ،الغائب عن الوعي. وتناهى إلى سمع هادي صوت السيارات المصفحة وأقدام الجنود الذين تهافتوا عليهم ،يرفعون شارة النصر. قال الرجل الذي يحرس هادي لرفاقه:"ليست السماء جيدة هذا اليوم ،من الأفضل لو عدنا مشاة". ولم تمهله السماء ليكمل تكهناته وأرسلت تحذيراً قطرات مطر ونضحت في وجه الغافية الماء ،ثم صفقت غمامتان فوقهما وتعانقت خطوط بيض دون حياء كشعب قارورة ،وتجمع السيل تحت أقدامهم ،وصرخ الطيار أن يركضوا ،فكأنما أوحى نداءه وعي الحارس والجندية وحاول الجند أن يلحقوا بهما ،غير أن الأرض الصخرية مهدت للهارب سبيل الفرار ،وزلقت أقدام الملاحق في رمضاءها المنخفضة فعاد فلول الجيش إلى المدينة يبتغون سلماً من غضب السماء أن تساءلهم عن مبكي غمامة الصيف.
    قطع الهاربان الدرب القصير الذي يفضي إلى مكان افتراق الرفاق ،وعظم على سيقانهما المتمايلة عزوف اليدين الموثقتين عن دعمها ،فوقعا على ركبتيهما مرة أو مرتين في الأرض المبتلة ،فتناثر على وجهيهما من الماء. قالت المرأة وهي تبصر كهفاً في جبل قريب:"إني أجد معتزلاً جيداً" أجابها هادي بصوت غاضب:"وما يجدينا المخبأ إن غاب المخبّأ؟". "سنجدهم ،إن الذات الكبرى معهم" قالت بنبرة وثوق. قال لها وهو يضع كفه فوق عينه:"لعل الصيب خيل لك الصورة ،لو وجد فهو سقف جيد يمنعنا من المطر". وسلكا فجاً إليه وارتقياه بخفة الجنود والتفتا إلى الشق بين الصخور ،وضرب هادي بكعب حذائه بقوة ،ثم دخلا وجلسا قريبَين من بعضهما. وأخذتهما سنة بعد الذي اعتراهما من الوصب ،وتيقظت لواحظ الجندية بعد مدة فأيقظت رفيقها وأدركا أن سواد الليل غمر المكان. قالت رفيقة وهي تنهض:"إني أحس نشاطاً في بدني لا أدري له سبباً". نهض بدوره وخرج ،فلامس أنفه ريح الثرى وهبطا الجبل من الموضع الذي صعداه أول مرة ،وجالا حول المكان الساكن بخطى وئيدة.
    "إن الله أنزل من السماء ماء وأرسلك بزادك إلينا ،فماذا سأطلب غير هذا. لابد أن الجندي حسن هناك قد علم مرادي وشكر ،قد رزقنا بالمائدة" قالت بنغم ساكن. وتبسم هادي ولم تر ابتسامته في الظلام ،قال لها:"إن فؤادي مطمئن والقوم فارقونا إلى مآل لا نعرفه. أجد هذا غريبا" ردت عليه بصوت هادئ مستقر:"لأنهم بخير ،أحبابنا في صيانة الله".وضربت الرياح صدورهما وحملت هواء الحرية إلى القيود التي تبرق خلف ظهريهما ،فتحرك القيد عن اليد الذبيحة وصرخ الرجل قائلاً:"لقد نجحت ،لقد نجحت!". وابتسمت المرأة جواره برقة ،وأخذ القيد يهتز خاوياً على ذراعه اليمنى.
    إلى الفصل العاشر بإذن الله

  17. #17

    الصورة الرمزية مس ساندرا

    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المـشـــاركــات
    592
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    أسلوب فائق الروعة .. متشبع بأساليب القرآن الرهيبة المهيبة ..
    روايتك .. ذات طابع مغلف بالغموض .. الجذاب ..
    وفقت ..

  18. #18


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    (الفصل العاشر)
    تنفس صباح جديد في كسوة الأرض المخضرة الندية ،وسقطت حرارة شمسه على البراعم الصغيرة تنتشلها إلى الحياة ،ووقف طائره على الماء يلقي رأسه فيه في كل آن ،واجتمع الطائر بسربه فوق رأس الشيخ بسلام. فقال بلحن ساكن:"اجمعني بهم ،رب الطير ،يا من جمعت الطير إلى أحبابه ،اجمعني بهم". ثم رفع عنق زهرة خزامية بين أصبعيه ،فساح نداها على يده وغاص في ثنايا عمرها المديد. والتقطت أذنه نفَس الجندي خلفه ،فقال: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج". و رد الجندي بنظرة طويلة للمرج أمامهم ،واستنشق عطره الذي تحمله الرياح ،ثم جلس ناصباً ركبته يفصله عن شيخه خط أصفر يتعرج مرتين من زينة الأرض وزخرفها البديع.
    - إن الذي أحياها لمحيي الموتى - يا ولدي - كذلك النشور،إن الله لباعث الناس من عظم حقير ،كما بعث جسد هذه الزهرة من بطن أمها.
    - أيها الشيخ الجليل ،لقد أوتيتَ من العلم الكثير ،فهل تخبرني عن الساعة أيان مرساها ،في أي سنة كتبها ربي؟ إني أراك من الناصحين.
    قال الشيخ بنبرته المتزنة:
    - سأل من قبلك رجال يا بني ،ابتغى بعضهم تكذيباً وهزواً برسول الله ،وحمل بعضهم نوايا الخير والتزود من الصالحات في صدره. لكنهم أخبروا أن جهلهم كان الأصلح لهم ،وأن الله قد قضى إخفاءها في علمه الواسع ،وليس لي أن أفضي إليك إلا قولي أن الساعة قريب ،منذ عهد المخبر عنها ،وعن ربها فتزود بالفاضل من العمل فساعتك تحين حين يحين موتك ،وترقد في ضَيق أمك.
    فكأن الجندي قد اهتدى بحديث الرجل المسن إذ يبين وجهه ملمح النور ،ولا يؤتى النور إلا من غشيه الرضا الحقيقي وتمكن من جنانه وجوارحه. فاسترسل في تخيلاته عن تلك الساعة الطويلة القريبة ،وأحس الشيخ انشغال خاطره بالذي قال ،فربت على منكبه بلطف مشيراً إليه أن يساعده عقب جعله منسأته حطباً لنار البارحة. قال للشديد القريب :"يا بني خذني إلى الصخرة ،فإني أطمع أن ألقى رفاقنا هناك". واستمع حسن لأمره ،فغدا الثلاثة إلى صخرتهم أرض اجتماعهم قبل أيام ،واعتراهم بعض ظمأ المكان الأول فتحرك الجندي يبحث ببصره وساقه عن غدير سقاه غيث الليل الآفل ،فلم يظفر بقريب ولم يرد ابتعاداً عن ربعه خشية أذى جند المدينة ،أن يغنموا بسيده وصاحبه ،وهو غافل عنهم. ورجع صفر اليدين مخيب الأمل. إن الرجل لاحظ القوم زادوا مثلهم من البعيد وصدق ناظره لما أن اقترب ،فاستبشر. والتئم شمل أصحاب الصخرة تحت اعتقادهم بوجود أكبر منهم أعلم منهم ،يطلع إليهم. وقبض الحارس هادي على يدي الشيخ وعلى الحديث ،فقال:"إنا طمحنا أن نثقفكم هنا ،ولكنا تأخرنا عنكم إذ ضللتنا مسالك الأرض المتشابهة". وتلفت إلى وجوه أصحابه وصاحبته فلم يرجع إلا بإيماءة لطيفة من شيخه ،ولوحات الوجوه الثلاثة الناصبة. فقال بسرعة:"أيها القوم قد وجدت صويحبتي مكاناً آمناً ،فهلموا بنا إليه" فأجابت الجندية بانكسار:"يلزم أجساد الضعاف طعام وماء ،إن في ساقي حياة لأجلب لهم ذلك". فنهاها الجندي عن ما عزمت عليه ،وأطلعها على نيته بدخول المدينة إنه يعرف أحداً هناك. وانطلقت رفيقة بالقوم الواصبين إلى المعتزل البعيد ،وتساقطوا فيه صرعى من الجوع والحمى. وجلس الشيخ بالوصيد رافعاً يديه يتمتم إلى أحد لا يراه ،ولكنه يؤمن أنه يراه. وجعلت المرأة أذنها قريباً من فيه وفاضت عينها بالدمع الصافي وجعلت تمسحه بردن ثوبها ،وتحرك لسانها بانقضاء الشيخ من تلاوته ،فقالت بتأثر:"قد شردنا في هذه الفلاة لأيام وليال ،وأفرغت بطوننا من الماء والطعام ،وألهبت قلوبنا لوعة الفراق ،أيها الشيخ إنه الذي اعتنى بنا وردنا إلى بعضنا وآوى شتاتنا إلى كهف آمن. أيها الشيخ لقد قُدر علينا بالأمس لكنه فك أسرنا وشرّد بماءه القوم المجرمين. أيها الشيخ إنني في شوق لرؤيته ،لرؤية القوي الرحيم ،أما يوجد سبيل غير الموت؟ أيها الشيخ الفاضل إني أريد أن أراه ". فتبسم الشيخ بحبور وقال:"أي صاحبتي التقية ،إني أحس شوقك العارم هذا ،حين أقف بين يديه ،وأتلو كلماته ،وأنظر لأرضه وسمائه. إن نوره ليس كالقمر البازغ ولا الشمس الكبيرة البازغة ،ولو أنزل كلامه على جبل لرأيتيه خاشعاً متصدعاً من خشيته ،قد قال النبي من قبل:"رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين". إن أبصار خلقه عاجزة عن رؤيته في الدنيا ولا يرضى الله لعبد أن يسأله هذه المسألة". وأحس الشيخ هلع المرأة وارتباكها من الوحي الذي ألقي على مسامعها ،فإذا هي لاهثة في جلستها المريحة الهادئة ،وحدث نفسه ليس بغريب أن تخشع لأن حديثه حمل كلمات ربها التي تهوي بصخور الرواسي الشامخة. وادكرت المرأة بعد مدة فقالت وقد هدأ صدرها:"مالذي حل بكم إذ فارقناكم بالأمس يا سيدي؟ إن بي فضول شديد لأعرف الحدث" فأخبرها الشيخ بصوته المتقطع ،قال:"قد أعمى الله أبصار العدو عنا ،ثم همى برَده على رؤوسهم وردهم خائبين". وسكتت المرأة عن أسئلة وأحاديث كثيرة تريد بذلك الراحة للرجل المسن وجلس الاثنان متيقظَين دفع النشاط في عينيهما شوقها لرؤيته. وتحدث الشيخ بعد ساعة من الصمت وهو يسمع اصطكاك الحديد في يدها ،بلهجة ناصحة:"قد يكسر زندك تحت عنف هذه المحاولات ،إني أجد حرارة اللهب خير منها". ثم اضطجع على جنبه الأيمن ولحس بلسانه شفته اليابسة ،ونام. أما هي ،فقد صلت إلى قبلة الشيخ علمتها آلتها المرشدة جهتها الصحيحة ،وخطت صلادة الأرض في جبهتها علامة زالت مع مضي الوقت. قد قصد صاحبهم مدينة عدوه وعدوهم ،فقد رجت القوي الرحيم أن يحفظه.
    سار الرجل طويلاً حتى حاذى موقعة الليلة التي لم يحضرها ،فألفى جثث أصحابه ببزاتهم العسكرية الممزقة ووجد رائحة العفن الرطب من سيل الأمس تقترب باقترابه منها. واكفهر وجهه وهو يبصر أجسادهم أكل منها الجارح وقبح هيئتها ،وسد ثغري الشم بذراعه وعزم أن يحفر لهم قبوراً أربعة. واختار مساحة رجا أن لا تطأها أقدام المشاة وحوافر الدواب ،وحفر بيد وحيدة ،وأحال بذراعه الأخرى دون تهافت التراب الذي لم يبله المطر ،على حفرته. واهتز القيد الخاوي على يده الحافرة منشداً قصيدة من حزن عظيم كظيم ،مع كل تقدم لها وتأخر. وواصل هادي حفره حتى مال وهج الشمس للغروب ،فاستعان بحمرة الشفق إبان ظهوره القصير ،وأرقد الأجساد الباردة في دفء الأرض يقبل كل واحد منها قبلة النظرة الأخيرة ،ومسح براحته قطرة من دمعه على وجه محمر من الدم ،فساح وخدع الناظر بحياة ليست حقيقة وجعل يحثو التراب على القبر الضيق الذي اجتمعت فيه أجساد الجنود الأربعة ،حتى اختفت أنوفهم الواقفة عن ناظره. ونصب على القبر حجراً صغيراً كان وجده بمشقة وخط على الطين جانب القبر أسماء رفاقه وكتب"ماتوا ميتة الشرف مناضلين مع الحق ضد الباطل". فلما فرغ قعد قبالة القبر يتأمل في حفرة كل حي ،واقشعر جلده على هبوب رياح باردة أشعرته بإحساس الضيق المؤلم ،وهو بعد لم يجربه! وحرك أفكاره فناء المكان من صوت إنسان إلا من حفيف خفيف للرياح على التراب. وتأمل قمم التلال حوله تحت ضياء القمر ،ثم نظر للقبر الساكن عند رجله فأصابه رهب وجزع. واحتضن جسده بذراعيه وأغمض جفنيه ورحل عن سماع عاصف أو إبصار كاسف ،ولم يفتحهما إلا مع الفجر. ولقد هاله نور المكان الذي كان نزله أول ظلامه وانطلق معجلاً في طريقه إلى المدينة. واتخذ الحارس مشية سريعة يطوي بها النجد فابتلعت أرضها يومه وليلته. ثم دخل المدينة على حين غفلة من أهلها وانصرف إلى معرفه في أقصى الشرق. كان يسير بثياب الكهل المدنية المتسخة سافر الوجه في الشوارع المزدحمة بالركاب ،وقد وضع يده اليسرى في جيب سرواله الأزرق. وصل بعد الثلث الأخير من الليل ،وانتظر حتى استيقظ أهل البيت إلى العمل. خرجت الفتاة أولاً تلبس ثوباً رسمياً طويل الأكمام ،قابضة بكفها عنق حقيبة حمراء ثقيلة. نظر إلى جسدها الذي يتمايل على بعضه بوضوح من خلف ثوبها الضيق الغامق ،في نزولها درجة بعد أخرى بكعب حذائها الصاخب ،فتعمد أن يكسر غصناً يابساً فالتفتت إليه مستطلعة. وكان أن مالت إليه بحدة فاحتجب وجهها بشعرها القصير ،نسفته رياح الصباح الأول. رفعته بأصبعين من يدها الخاوية ببعض الانزعاج ونظرت في زوايا وجه الرجل التي وضحها النور ،فارتدت إلى الخلف وعلت وجهها سحنة الوجل. فهمس إليها هادي أن تتبعه بهدوء وأظهر لها ابتسامة مطمْئنة. تقدمت الفتاة إلى مجلسه على فرع الشجرة المنخفض فاتكأت عليه وجلس هو قبالتها على ركبته. قال لها وهو يحاورها ولم تغادر بشاشته وجهه:"لقد أذهلتك بظهوري ،إني أتيتك أسترد مالي الذي أقرضتك إياه لسيارة الأجرة في سالف الأيام" قلبت بصرها في نواحي مظهره القذر ،وقالت تحاوره:"كم كان ذلك المال؟..انتظر من حي التجار إلى هنا عشرون ورقة نقدية..هاك إياها.." وأخرجت محفظة نقودها تريد أن تدفع ،فقبض على المحفظة بيده وقال:"أريد كل الأوراق هنا" فسلمته النقود وركنت إلى جذع الشجرة فصدمته بقوة ،وتطايرت العصافير أعلاها وهي تشتمها بصوت مسموع ،وهمس الرجل إليها ببعض كلمات ،وأجابته قائلة:
    - نعم إنه في المنزل ،أبي يخرج في السابعة.
    - اجلسي أيتها الفتاة ،وهذه المحفظة سأردها إليك بعد أن أفي بحاجتي وأستغني.
    ثم أراح على الجذع المنخفض فاهتزت الشجرة وتساقطت بعض أوراقها ،قال:
    - أنت لست مهتمة بالتبليغ عني..فبين إصبعينا ذلك العهد القديم ،وأحسبك لا تحنثين فيه. إني مطلوب هنا ووجهي يعرفه جميع الناس ،أيتها المرأة الفاضلة سأجلب الزاد لرفاقي وأعيد مالك في أسرع وقت.
    - هل ستذهب الآن؟ بهذه الهيئة المثيرة للشبهة ،أنت لست عدوأً لي ،إني سأكرمك كضيف صباح.
    ونظرا جميعاً إلى الأب الذي أخذته سيارته ،فتقدما داخل البيت وحيته في غرفة المعيشة. ولاحظ الرجل نظافة المكان فاستحى أن يريح على الأريكة ،ووقف صامتاً لا ينظر لشيء. وأدركت الفتاة مبلغ حرجه فدلته على الخلاء ،وقالت:"أي الثياب تلبس؟ سأصعد إلى خزانة أبي".
    دخل الرجل واستحم ،وسمع الفتاة وهو يجمع ثيابه تجري مكالمة هاتفية ،مع صديقتها على الأرجح. "أنا آسفة قد أتأخر قليلاً ،أذهبي بالأوراق على مكتبي إلى المدير..نعم قبل التاسعة..شكراً لك".
    خرج الرجل عليها مرتدياً لون الليل ،وبدت خطوط الخياط مشدودة حول كتفيه. واعتذرت الفتاة إليه من الضيق الذي يجد ،ودعته إلى بعض الطعام. وضع هادي يده على ذراع الكرسي فعجبت من هيئتها المشوهة. وصدت عنها بسرعة فكبت له فطيرة مغطاة بالعسل وأترعت كوبه بالشاي ،واستراحت في مقعدها أمامه. سأل عن سكونها الغريب ،واطمئنان حالها ،فقالت:
    - حين أبصرتك ذلك اليوم اعتقدتك لصاً تعبث بحوالات والدي الإلكترونية ،لكني استدعيت للتحقيق واطلعت على حقيقة فعلك ذلك اليوم. أيها السيد هل سمعت عن نور الحق؟ شخص يكتب كلاماً عربياً ليس على لسان بشر ،يقول أنه من عند الإله ،ذلك الشخص يثير الضجة في شبكة الاتصال وقد قرأت بعض نصوصه ،إني أجد اهتماماً في نفسي لدراسة معتقدكم ،فإني أراك أمامي رجل اعتقاد وليس مجرد لص منازل صغير.
    نهض الرجل فارشاً منديله على صحنه إشارة الانتهاء وأخذ المحفظة بيده وقصد الباب ،وقال شاكراً الفتاة:"أحمد لك سعيك ،احتفظي بموثقنا لأطول وقت أيتها المعاهدة الصغيرة" فأسرعت إليه تقول:"إن المال في المحفظة قليل ،دعني أجلب لك المزيد"
    - لا تقلقي إنه كاف.
    - هل ستجعل الجميع يتعرف إليك؟ خذ كمامة الأنف هذه.
    - شكراً لك.
    - حسن دعني أوصلك إلى السوق بسيارة أبي.
    فلم يعترض أو يتمنع ،وانطلقا يشريان ما يجدان أنه يحتفظ بحياته لمدة طويلة دون أن يفسد ،فملئا عربة التسوق بأكياس الأرز والفاكهة المجففة ومن الماء أخذا الكثير. وأوصلته إلى حدود المدينة فغادرها آخذاً مغانم كثيرة إلى أرض سربه ،الخالية ،وعادت هي إلى العمل.
    أعلنت أقدامها حضورها في البيت ساعة المساء ،والتقى والدها بها فحياها ببرود ،ورشف رشفتين من كأس يحمله. قالت له باستغراب:"أليس يبدأ عملك الآن؟ كيف تشرب الخمرة يا أبتاه ،وورائك المرضى؟"
    - إنه المساء يا بنية ،وواجب أن أفصل بعد صباحه بشيء من السكر الجميل.
    نظرت إلى حمرة وجنته بازدراء شديد ،ثم خلعت معطفها القصير ووقفت تحضر كأسا من القهوة. قالت له غاضبة:"لا تحدق بي هكذا ،إني أعظك أن تراني كامرأة " ثم ألقت نظرة خاطفة في مرآة المطبخ الصغيرة على مظهرها بقميصها الأبيض ،وخفضت ناظريها فألفته ما يزال ينظر ،ويشرب. قال لها بصوت هادئ:"هل أخذت حماماً هذا الصباح؟ إني أسمع وقع الماء في المغطس. أنت لا ترخين الحنفية كوالدك" والتقت أبصارهما لوهلة ،نظرات الوالد الماكرة ونظرات الابنة المستسلمة ثم قطعها صفير إبريق الماء ،فنهضت تجيبه. لقد تعلقت الفتاة بالشاب القوي الذي ألبسها إصبعه خاتماً في إصبعها ،وفي نبله ودماثة خلقه ،وتقلبت في مرقدها تحسب ميعاد زيارته الآتية. كتبت تخاطب نفسها في مذكرة هاتفها الجوال:"كنت أعتقد الجنود أولو قوة وبأس ،وقد غاب عن خاطري أنهم ذوو أخلاق كريمة". ثم انقلبت على جنبها الآخر قبالة أستار النافذة الخفيفة التي تلاعب الرياح ،وكأنها تنظر إلى رجلها يخطو واثباً في صحراءه الشاسعة. ولقد أصاب بصرها وما أخطأ ،إذ الرجل بالأحمال الثقيلة قطع أميال كثيرة. وعجز بصره عن التمييز في غسق الدجى فقضى أمياله الباقية مع طلوع الشمس ،وحين رأى الهند تغدو مع حارسها الأبقع عجل إليها وولج بين أفرادها حتى لاحظ رؤوس الأوتاد خلف جرف صغير. واستقبله صاحب النزل بصوته المرحب من البعيد وأدخله خيمته وقدم له شيئاً من الرزق الكريم. ونادى البدوي بصوته العالي أهل الدار فأقبلت امرأة تستفسر عن طلبه ،ولما أراد أن يعلمها تصدى له هادي فشكره على كرمه وقال له:
    - إني أتيتك على عجل ،وأخاف أن يفوتني الذي ينتظرني وراء الأميال.
    - سألتك إلا تمسي لدينا ،وحقك ثلاثة يا ضيف.
    - وإني قضيت بياتا عندكم وأنا جريح ،وخطر ببالي أن أسلم عليكم إذ ألفيت مضاربكم لم تبرحها الماشية.
    فتفرس الرجل المضياف في وجه الجندي طويلاً ثم قال وهو يمسد لحيته ذاكراً:
    - نعم ،أنت الذي عثر عليك الأبقع في تلك الساعة. ثم اقترب منه حتى تلامست أنوفهما فصاح: ولكنا لم نتمك حقك ،ثلاث..ثلاث يا رجل. وصيدك نؤتيك خيراً منه ,تعالي يا امرأة.
    فنهض هادي ولحقه الضيف واختصما حتى اهتدى المضيف إلى فصل بينهما ،فقضى بأن يهبه ناقة من قطيعه تعويضاً عن تقصيره في ضيافته. وتفحص هادي جوانب المكان ومد عينه إلى داخل الخيام ،كان يقيم مع الرجل سبع نسوة وغلام وحيد فاحم الشعر كثيفه ،يلبس ثوباً يكشف ساقه ،جاءه حين طلبه فقال له:"تخير يا فتى ناقة في مقدمة القطيع تسير أماماً لا تنحرف" وغاب الغلام ثم أناب يجر بيده زمام الناقة وسلمها والده ،وضربها الرجل على يديها فأناخت ورغت. سأل هادي قبل أن يرحل أهل الترحال إن كانوا شاهدوا جيشاً أو اقتربوا من خطر ،فأجابه الرجل وهو يرفع المتاع على الراحلة:"هذه الأرض آمنة يا ولدي ،وبعيدة عن الشرور". وتجاوز هادي مرابع القوم مطمئناً أن خبر أصحابه لم ينكشف بمرتزق أو عين حقير. وتلك الساعات قطّعها بدعاء علمه الشيخ إياه إذا أحس كربه وضيق حاله ،أخذ يردد:"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". وقد نعس الرجل فوق ظهر الدابة فقادته إلى أرض لا يعرف رؤوسها ولا بطونها ،فأصابه حزن شديد. واستغاث بسيده في السماء ،وأحنى جسده وبكى ثم استدار يتفقد دابته ولم يحكم لجهله إذ ذاك وثاقها ،فهامت في الأرض بالرزق على متنها ،فأطلق الرجل آهة الرجال وعانق رمل الصحراء يائساً حتى نبهه صوت غريب. خاطبه الصوت باسمه فتعجب ،قال:"إن هذه ربوعنا أيها الغريب ،وعليك أن لا تطأها بغير إذن منا"
    - أنجدني يا هذا ،ذهب الحزن بناقتي وزادي..وورائي خلق يحتضرون.
    - وما تبادل بحثي وكدي؟
    - بكل شيء ،إني في كربة يا رجل.
    - الجزاء أولاً ثم الكلام.
    - ............................
    - حسن ما شرطك وعجل بالخطاب.
    - أما ناقتك فسآتيك بها قبل أن تقوم من مقامك هذا ،وأما الجزاء سفر عتيق.
    - أي كلام تريد؟
    واستقرت الناقة بحملها بين يديه ،فقفز ونكص على عقبيه وأوجس في نفسه خيفة ،ونظر لخصمه في دهشة وترقب. وبركت الناقة فتقدم منها وفحص طعامه وسقاءه ،ثم اعتلاها فقامت على أرجلها وسارت به. وناداه الرجل أن اجزني أجر ما صنعت ،فرد هادي أن قد كلفتني أمراً لا أحتمله ،وأجابه الرجل أن الناقة والسقاء سيوفيهما في يومين ،إن لم يأته بخبر عن طلبه أو يستعين بناصح أمين. وابتعد هادي عن الرجل الأشيب القصير ،وتاه في هضاب الصحراء وسهولها وخذل عزيمته اليأس وأضاع صوابه عرض الفلاة ،فانتبذ من شمسها ظل نشز صغير. وطوق الحارس رقبة دابته واسترخى ،فأحس ظهرها يتحرك تحته فرفع رأسه ونظر. فإذا غانية طويلة الشعر تمسك الرسن في يدها تلتفت إليه. سألها بسرعة:"من أين جئت؟ من أنت؟" فأنشدت المرأة تقول:"من أرض قوم لا تلد نسائهم الرجال ،من جحر نذل نصب حول أهله الأقفال ،إني رضية فافجر بقولك وافعل الأفعال ،لا ترتدد أيها الغاوي وتعال إلي تعال " فتهربت حدقتاه من لقاء محياها الضاحك وأشار إليها أن تخلي سبيله ،فاعترضته وصاحت به أن يمتثل لطلبها ،لكنه ركل دابته فحادت ،حتى إذا همت أن تسير داست المرأة خفها فأرغت وتوقفت. وغضب الحارس واستنكر هدوء الناقة ،وطلب إلى المرأة أن تتركه. فأخرجت المرأة طبلة من بطنها وأخذت تدقها وتغني ،ودارت حوله تهز خصرها وتدعوه إلى نفسها. وانزعج الرجل من لحنها الصاخب فسد أذنيه ،وقال بالذي علمه الشيخ ،فغابت الغانية عن ناظره فلم يهمه غيابها السريع ،وانطلق يبصر طريقه تحت الشمس الراجعة وشفق الغروب. إنه يصول في مكان قريب من قومه ويجول ،فتعبه وانهزام حيلته جعله يتخبط ويتعثر ،وإنه أدرك منزلهم في رأس العلم فنصاه وعقل راحلته والنور يغالب الظلام ،ودخل على أصحابه في غلب الظلام. واستقبله الوهج الدافئ وصوت الحارسة الفرحان برجوعه وهي تقول:"كدت أضربك بكعب البندقية لولا أن شفعت لك النار". وآوت إلى القوم وفم بندقيتها يرسم خطوطاً تمحو صورة خطواتها ،خلف ظهرها الحبيس. أفلت الحارس الأمتعة من يده وأخمد شوق عينه إلى رؤية وجه شيخه الصامت ،خلف لهب النار الراقص وتقدم منه فعانقه وقبله وسقاه المعين وانتزع عوالق الطين من لحيته ،ثم بلغ الأسماع النهمة بالذي مر به:"لقد انتشلني قوم رحل ليلة جرح يدي ،وكنت شارفت على الموت فأكرم سيدهم مثواي ،وهو رجل شديد الجود. ثم قص أثركم فاتبعت السبيل حتى ألفيتكم تحت الصخرة فسقيتكم ما رزقني إياه. إنه أكرم عبوري الآن بهذه الدابة أيضاً ،وعرفت فيه رجلاً خيّراً لا يتجسس لصالح أحد. والشخص أعرف في المدينة أعان يدي في حمل الحاجة ،وما آسى على شيء إلا أن تأخرت عنكم". قال حسن بصوته المرهق:"لا بأس عليك يا هادي ،ما فرطت في أمرنا من شيء. ونحن صبرنا..على ربيع الأرض وفرات نقع قريب". ثم سأل الكهل باهتمام:"كيف وجدت القوم في المدينة؟ هل سمعت من أخبارنا شيئاً؟"
    - يظهر لي أنهم يأتمرون بنا. تحاك خططهم يا صاحبي بالسر والكتمان.
    - رجائي أن لا يكون هدوئهم بادئ الأمر إنذاراً لعاصف في آخرة.
    وتفكر القوم في قول الكهل خافضي رؤوسهم صامتين ،حتى أخمدت النار ولم يتقدم لإذكائها أحد. وتأمل هادي في الجدران وزوايا المكان وفحص ببصره بعض فرجات في السقف ،ونزل منها إلى وجه رفيقة الذي ينظر إليه. خاطبته حين انتباهه إليها ،قالت:"خلفك ترقد شجرة ميتة فامدد بيمينك وألقها يصطلي بحريقها الرجال". وأضرمت النار بالحطب اليابس فاشتعل الشق كله بالنور ،ونظر الرجال لبعضهم نظرات وداعية صامتة فقد خلا المرقد من الحطب ،وديجور ليلتهم طويل. وتولى أصحاب الكهف إلى السكون بعد أن هدأت البطون واطمأنت الأفئدة ،وأرخت الجفون. وأرخى هادي وكاء صرته وأخرج مافيها وقال للحارسة:"قد جمعت أثري هنا" "أعتقد القيد المكسور سيكسر أسرك". واستخرج إبرة دقيقة من حديدته وألقاها في أصل النار ،ثم انقلب إليها وجلس. كان الحارسان لا يتسليان بحديث ولا يجتمعان في رأي ،ولم يكن كلامهما لبعضهما إلا صامتاً وإيماءات أعينهما لا تنيب ولا تجيب. حرك هادي وقود النار وأخرج قبساً من أسفلها ،فثقب ثوبه انفصام لهيب وآذى جلده فصرخ وابتعد ،ثم قفل فأخرج حديدته بحذر شديد ،وسمع الشيخ يسترجع ويطلب المغفرة من سيد السماء ،ويقول:"هذه النار يا ولدي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. قد برد ألم جلدك وتوقف وأنى لناره أن تتوقف وحطبها يلقى إليها في كل آن وكلما نضجت جلودهم تبدل بجلود غيرها. هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن". وانتهى الشيخ من حديثه فانتهرت المرأة الرجل آمرة إياه أن يفلت من يده ،وترك الحرق في راحة كفه علامة مستديمة. و عاد إحماء الحديدة وقربها من المفصل الصغير في قيدها ،وجعلت المرأة تصرخ من القطر المتساقط بين أصابعها وتبكي ،وتخلخلت شدة الأسر وتحرك ذراعا المرأة بعصبية ووقع الشر المعدني وراءها على الحجارة ،ولم يرفعه أحد.
    أمن أصحاب الكهف في هجرانهم أصحاب المدينة ،وامتدت الأيام بهم حتى بلغت الثمانية ،وإذ بالأوعية يبقى نهايتها حتى يعلم مافيها الآكلون. فتجهز الحارس لرحلته واتجه إلى ركوبه بين أصحابه الموصين. نظر في عين الناقة وأنفها ففزع ،والتفت بحدة إلى الشيخ. حدثه وعبرة الخوف تكاد تقطّع بحلقه أنه رأى رجلاً أشيباً خارق الفعل وامرأة بارعة الجمال تظهر من العدم. وصد الشيخ بعينه عنهم للحظة ثم قال:"هؤلاء أهل الأرض ،خلقوا من النار ،وهم مثلنا عند الله تعالى. فإذا رأيتموهم فاستعيذوا بالله من أشرارهم ،وأخيارهم كثير".
    - طلبني الرجل الأشيب أدله على سفر عتيق ،وتوعد أن يرد الناقة في يومين إن لم أخبره.
    قالت رفيقة بدهشة:
    - وقد سلخنا ثمانية أيام حسوماً ،وصاحبك بعد لم يظهر. هل الأيام تفرق من أرض لأرض؟ هل الوقت يمر بصحرائنا كما مثليه عند أهل المدينة وما وراءها؟
    وتناظر الرجال مرتبكين من قولها ،وقال هادي بسرعة:
    - لا تتخبطوا لدينا الشيخ لنسأله.
    وطلعت الشمس من الشرق على خمسةٍ وسادسهم ناقتهم ،إذ ألقت رأسها بين رؤوسهم وأرغت في الحديث حتى لم يجد مسمع سمعاً ،فركلها الكهل يريد سكوتها ،فرفسته بين رجليه فوقع على ظهره وصرخ واستنجد ،وكانت تخفي تحت رموشها الضافية شيئاً يجهلونه. وخطى الشيخ بعصاه القصير اتخذه من جذوع الشجر فابتعد ،ونظروا إليه وإلى الناقة فإذا حدة نظرتها تتلاشى مع آخر ظهور لساق الشيخ يكشفها ثوبه الذي ترفعه الرياح ،خلف ظرِب قريب. واتبع الرجال الشيخ فاستفسروا فلم يزد على أن قال:"لن تراعوا لن تراعوا ،هذه الدابة تخشى رجلاً أشيباً ،وقد اطمأن قلبها." ثم خاطب هادي وضم الجميع في الخطاب:"لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون. نحن تزيد لحظاتنا ولا يكون لها أبداً أن تنقص ،فويل للذي تزيد أيامه وتنقص أعماله ،ويل له" "أما رجلك فقد زل إذ روعك بهيئة الإنسان الذي لا يأتي قول وفِعال إنسان. وأحسب أن كتاب الله العظيم هو ضالته". وتأهبت الجندية لحديث فكفاها الشيخ عناء السؤال وتقدم منها بخطوات وئيدة:"وأما يا أمة الله فصل قولك ،فاعلمي أن أيام العسرة قد حسبتها فلم تزد عن حسبة هادي إذ كان في البعيد يوماً. وإن في الأرض التي نزل إليها آدم أغوار كثار ،وفي بروج السماء أسرار خافية". ثم أمر ببعض الثياب وشيء من الحبر ،فأتاه هادي بثياب المدني البالية جمعها في صرته ،فأمر أن تكتب كلمات الله في أنحاءها النظيفة ،فاعترض الكهل بشدة قال:"والله لا تكتب كلمات الله في بالٍ متسخ" وأوحى الشيخ إلى الرجال أن يكتبوا مكان القلب من الثوب وأعلى ،وأن يقطعوا مكان البطن منه وأدنى. وبحثوا فلم يظفروا بالحجارة واستكرهوا ثقلها. وخط هادي من فَي الشيخ ما يمليه بقلم يرجه طلباً لماءه بعد كل حرف ،كلمات من هدي الكتاب في صدره ،وأجاد كتابته في أقصى مدى يصل إليه قلم الجندي.
    سار الرجال مع راكبهم حتى إذا لم تؤثر أخفاف الناقة في الأرض جعلوها جادة مسافرهم ،وودعوه. وتوجه الشيخ تلقاء الشمس يسأل ربها الحفظ لحبيبهم فيه ،وكثير من الخير. وتلوى فؤاد رفيقة جزعاً وهي ترمق سواد رأسه يغيب في التلال ،واقترحت إليه أن تآزره سالفاً ،فرفض.
    واستمرت صحراءه تقلّبه في الظلام إلى النور ،حتى حاذى موطن قوم فسلم عليهم وما كان لهم أن يردوا عليه إلا أسماءهم مسحتها الرياح ،وإذا سمة القبر أخذته الريح.
    وأتى طرف المدينة الحبيس فحيى الصابرين فيه على أذى الجنود ،وألقى موعدة إليهم أنه مستنصر لهم. وعثر على سور قديم محيط بأرض موات ،كأنه الحصن فأودع دابته فيه ،وخرج. واتصل بأهله من أهل المدينة فعزروه ونصروه ،ونام تلك الليلة تحت سقف عدو له ولهم. ونادته الفتاة التي تناصره في الإصباح وأجاب طلبها فدخل. قالت له بحبور:"إني أتيتك بخبر. إن القوم أتوا خبيراً فرسم لهم تضاريس صحرائكم. يقول المطلعون أنها تنتهي خلال شهر ،وتبدأ مناورتهم للنازحين اتكالاً إلى خريطته". حدق فيها ثم سألها بعد مدة:"أتحشرين نفسك بينهم؟ أتقدرين على هذا؟"
    - إن عملي يا سيدي يخالطني بأصحاب الشأن وأفراد الشرطة ،إني وزميلة لي نحقق في قضية ممرضة أسيرة.
    عاجلها القول:
    - ممرضة؟ التي سجنت بتهمة القتل؟ جريمة منزل المعمر؟
    - نعم..هو سيدك. إننا نسأل كثيراً بشأن طفل هارب ،لا تعلم والدته أين ولى..
    - إلياس ،هل تعرفين منزل والدته..أريد أن اتصل بصبية يعرفهم.
    - كان هذا اسمه. إننا نبحث حول ثائر آخر أيضاً..جندي رافق السجينة كثيراً في جلسات تعذيبها الخارجية..ربما تعرفه..هو فرد ضمن كتيبة كنتَ منها..رجل أجلف غليظ ،لسانه سليط وبذلته يقتسمها اثنان من الرجال الضخام.
    قال وفي صوته رنة سخرية:
    - لدينا جنود كثر بمواصفات بطلك ،فلا أحدد في ذكري أحد.
    وسكتا طويلاً ثم قالت الفتاة:"لقد تبدلت الباعة الذين أشتري منهم إلى سوق آخر ،هل يعجبك هذا؟"
    - أشتريتِ الطعام؟
    - نعم ،خبأته في غرفتي...
    فنهض وأقبل عليها باسطاً كفيه ،وقامت إلى لقائه وقد توترت أطرافها واحمرت وجنتها ،وكان في مرأى وجهه في عينها شعور غير الذي يظهره. واندفعت فتقدمت خطوة منه فارتد إلى الوراء محرجاً ،وقبض على يديها في يديه ونظر في عينيها ،فأخبرها أنه ممتن لها ،ثم أفلت يديها وذهب يريد سماع صوت المدينة. ونظرت المتيمة إلى كوبه الذي لم يمسه ثم إلى الباب الذي أخرجه ،فما رجعت بغير صوت البراد الرتيب ،في المطبخ. لقد تبوأ الرجل منزلة غير هينة في قلبها الواسع ،وصدوده عن نزولها كمالك أعطي مفاتح داره التي اشتراها فرفض أخذها ،فما يكون شعور البائع حينئذ فذلك شعورها!
    ومع تبدل لون السماء إلى حمرة الغروب ،آب إلى ناصرته في عقر دار عادِيْه ،وأزال لثام وجهه وشكرها على ثيابه وطعامه ،قال:"لا أود أن تهترىء هذه الثياب ،لقد أفادتني"
    - دعها ستراً لجسدك وزينة ،إنها ليست من خزانة أبي.
    فلم يتفوه بكلمة ،وقالت له بصوتها البريء:"قد غسلت ثيابك ،إني في فراغ كبير صباح عطلتي". ثم خرجا إلى حديقة المنزل وجلست الفتاة على جذعه المنخفض من شجرة التين وسط أحواض من الغرس. قالت بينا تمسد ورقة بيدها:"قد زرعت أمي هذه الشجرة ذات يوم كنت حينها لا أنطق حاء وخاء". ثم نادته باسمه وانتصبت ،ورفّت أشجار البستان الصغير لتطل على حديثهم وأصغت فسكتت. وسكنت ياقة معطف الرجل وأكمام ثوب المرأة ،وقالت في هدوء:"هل تبقى هنا..يا سيدي..أو تأخذني معك"
    - ليست مواطن الجفاف والخوف مناسبة لفتاة رقيقة.
    ثم سحق ورقة أوقعتها الشجرة تحت قدمه ،وتحدثت الفتاة بحماسة وأمل:"إني معتادة على الظروف القاسية ،إني أرافق الرجال في توثيق الحدث ،ذلك عملي يا سيدي"
    - هل تتركين لفظة سيدي..لا أتفضل عليك بشيء وأدين لك بالكثير.
    فانقبض وجهها وهي تقول:"هل ستعود يا هادي؟"
    - إن أمكن لي ذلك. غايتي الأولى أن أحمي نور الشيخ.
    ونظر إليها وسط طوق أحواض الزنبق الأبيض الذي أحاط بالباسقة ،وتذكر الغانية وشعرها الطويل في خواء الصحراء يومه ذاك ،وتذكر نفوره من ضحكتها ومرحها الصاخب. ثم نظر ،إلى بياض ثوبها الخفيف وبتلات الزنبق الأبيض من حولها ،فألقى كفه فوق رأسها وانسابت أصابعه الخشنة بسلاسة مع شعرها البني الناعم. حظيت يده بلمسة نقية إلى حمامة السلام ،وهناك في صدرها بياض غاشم لا يقدر أن يلمسه.
    إلى الفصل الحادي عشر بإذن الله

  19. #19

    الصورة الرمزية مارلين

    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المـشـــاركــات
    1,116
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    قرأت الفصل الأول بعد مدة من تنزيله رائع و تستحق التميز أعجبني إنتقاءك و إقتباسك من كلمات القرآن و كما أنك بارع في الوصف
    تحمست لقراءة بقية الفصول لحين الإنتهاء من البقية سيكون لي عودة بإذن الله
    موفق و سلمت يداك
    الحمد لله وجدت الرواية لكي يكون لي نصيب في قراءتها
    متابعة للنهاية

  20. #20


    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المـشـــاركــات
    36
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: روايتي الأولى (آدم)

    شكراً لكل المتابعين الأوفياء ،ويسرني أن أنزل الفصل الحادي عشر من الرواية ..أتمنى لكم قراءة ممتعة..
    الفصل الحادي عشر
    سار المحقق في الجادة التي يحفظها عن ظهر قلب وأشار مساعده إلى مجمع سكني قريب ،فابتسم قائلاً:"أعرف المكان أيها الرفيق ،قد أتيته مراراً فاسترح في مقعدك ولا تتكلم". وغاص الرجل في مكانه بحرج إذ هزأ به رجل غير هين في ذكر رجال الشرطة ،ونظر إلى سحنته التي بينتها شمس الصباح الجالسة في شيء من الفضول. ولكن المحقق لم يتركه لإكمال متعته فستر عينيه بنظارته السوداء وقال منزعجاً:"هل تعتقد يا ضياء أن الشمس أنثى؟ إنها تجذبك بجلوسها الهادئ بعد الفجر وتصدك إن أنت اقتربت منها في وقت الظهيرة". وتحرى المساعد الحذر في إجابته وعرف أن رئيسه لابد يختبر فطنته بطريقة غير مباشرة ،وتجلى له بعد حديث المحقق الأخير أن الرجل أتاه شاكياً لا ممتحناً فقد صرح بقول عجيب:"كل رجل لطيف ،وكل امرأة تسوقه إلى وحشيته". وضغط مكابح السيارة فجأة فتوقفا أمام منزل صغير. واستبقا الباب فطرقه المحقق عوضاً عن الجرس. وأجابته امرأة من البعيد وفتحته بعد أن جلس على عتبته بعض الوقت. وعرفت فيه وجه الملاحِق فرجعت ببعض الخيبة وأظهرتها واضحة في هيئتها المنكسرة بثوب طويل. جلس المحقق في غرفة المعيشة التي أتاها ذات أصيل بعيد واستمر مرافقه واقفاً يتبصر في السقف وجدران المكان الفاتحة. وأراد المحقق الحديث لكنه لمح صورة كبيرة للشقي الذي طرده من البيت فانزعج وتوتر ،ووجد نفسه يقف ويقول واضعاً كفه على إطارها السميك:"ندرك عظم مصيبتك أيتها الأم ،ولكنا مكرهون للتفتيش في أثر ابنك راجين الحظوة ببعض الإجابة" ثم أراها مذكرة التفتيش فقالت بصوتها الضعيف:"غرفة ابني بهذا الاتجاه". وتبع الرجلان جسدها الذي يترنح من الهم أمامهم ولاحظ المحقق أرض البيت التي علاها الغبار وكانت تلمع من قبل بشدة. وأصابه شيء من الحماسة الطفولية لرؤية متاع حجرة الولد الصغير وفضول عجيب. ودخل ،ودخل رفيقه وانتظرت المرأة بالباب ناظرة إليهما بغير ما اهتمام. قلب المحقق كتباً مدرسية مرتبة على المكتب وأقلاماً بعثرها بيديه ،ثم اطلع إلى خزانة الثياب وأدخل كفه في بعض أدغالها وبسط أنسجة مطوية ونفضها بقوة. وأطل مساعده تحت السرير ورفع مرتبته فوجد صورة لطفل رضيع. وتساءل الرجلان وهما يرقبان الأشخاص الثلاثة ،فقالت المرأة"إنه إلياس ووالده ،وأنا قبل سنين مضت". فسأل مرافق المحقق المرأة بصوت جاد:"هل أخفاها هنا متعمداً أم كنت تعلمين بذلك؟" فأجاب المحقق بغير حرص وهو يفحص النافذة:"الأطفال دائماً يفعلون هذا". وتلمس الرجلان ألواح الأرضية فلم يجدا متحركاً أو ناتئاً ،واستفسرا عن قطع الأثاث إن كانت نقلت أو غيرت ،فردت الأم أن القطع لم تتحرك خلال خمس سنوات مضت. واكتفى الباحثان من الشك فرحلا من الغرفة بعد أن أخذا جهاز الكمبيوتر للولد وعدداً من الأقراص الممغنطة وقال المحقق للمرأة:"نحتاج أن يفحصه الخبراء عندنا ،استئذنك في أخذه" ثم سألها بسرعة:
    - ألم يتصل بك أحد خلال غياب ابنك؟ رجل يعمل في الجيش مثلاً؟
    - لا يا سيدي...انتظر...أحدهم قدم لسؤالي عنه بعد ذهابه بيوم..
    - ما اسم ذلك الرجل؟
    - لم يخبرني ،لكنه أجابني أنه شرطي.
    فنظر المحقق إلى وجهها الذي عاد إليه النور ثم إلى سطوع الشمس المتمايل على الجدار ،فقال بصوت خفيض:"أنتما متشابهتان". وأطلق تفكيره عميقاً وهو يرمق الرجل المساعد بنظره حين كان يخط ملاحظاته بحرص في مفكرة يحملها في راحته. ثم وجه حديثه للمرأة فقال وهو يعدل ياقته ويتقدم في كرسيه استعداداً للنهوض:"إن البحث ما زال جارياً في أثر ابنك ،وأرسل الرجال إلى البحر كمكان أخير. لا تقلقي أيتها الأم أعرف كثيراً من الصبية يرحلون إليه" "وأما زائرك إذ لم يرسل المركز برجل إليك في ذلك اليوم فسوف نحصر وجوه المشتبه بهم ثم نطلعك عليها..أتعرفينه إن رأيتيه؟" أجابت بسرعة:"من غير شك يا سيدي ،وجه الرجل عميق الوديان رفيع هضابها على رأسه كتلة من شعر أحمر كأنه علم في رأسه نار". وترك الرجلان الدار وردا إلى مركز الشرطة. وتحدث المحقق إلى رفيقه في بهو المبنى المليء بالمراجعين فقال وصوت حذائه على الأرضية الملمعة ينافس صوت حنجرته العالي:"لدي زيارة في المساء ،سأتركك مع البصمات وصور الرجال" "سألتقيك في مثل هذا الوقت من صباح الغد". وأومأ الرجلان لبعضهما ،وافترقا ولكل منهما جهة هو موليها. ووصل المحقق إلى موعده مع المدير فدخل مكتبه بعد أن نظرت إليه امرأة شقراء طويلة تجلس إلى شاشة في ركن قريب الباب. ورحب المدير الأسمر بالمحقق وسحب له كرسياً فجلس ،وارتاح الرجل أمامه وقدم له الشاي. تحدث المحقق قبل أن يأذن له المدير فقال بصوت محبط:"تبدو القضية أعقد من تصورنا عنها ،يشترك في الدم كثيرون" "وليست رغبتي في الحضور هنا لإطلاعك على نتائجها ،ولكني أتيتك أطلبك أن تجد غيري يلخصها لك". فتغير وجه المدير وحرك شفتيه يريد الحديث غير أنه أطبقهما وحرك ملعقته في كوبٍ سكره ذائب. ومرت بالرجلين فترة من السكون الكئيب فأعاد المحقق سؤله مجدداً:"أيها المدير ،كنتُ أغلقت القضية ورفعت يدي عنها وما أعادني إليها إلا هروب المسن مع زمرة من أهل المدينة الذين آمنوا بربه. أيها المدير هل هي قضية قتل؟ أم هروب مشتبه لطفل صغير؟ أم تآلف من أهل هذه المدينة على إقامة معتقد يقلب النظام ويبعد الأمن؟ إن المجموعة التي اتخذت من دار الشيخ مكاناً قصياً لم تكن العاصية وحدها ،فثمة عشرات المجموعات التي شقت عصا الطاعة" "وبرغم وضوح الحوادث بين يدي ،فإني لا أحب أن أطارد الطير في الظلام ،وأبلغك أن يومي هذا هو الأخير لي تحت إمرتك في هذه القضية أو أستقيل من عملي بين ظهرانيكم" فغضب المدير واحمر وجهه كدأبه بشدة ،واسترقت المرأة النظر إليه ولزائره في تحفز. وقال المدير وعينه لا تنظر لمحدثه طوال حديثه:"هل تعني أن الجهد عليك ثقيل؟ أم أنك أدركت مثلي عراقيل هذه القضية؟ أيها الرجل الرشيد لقد مررنا هذه القضية برتابة كأختها وأختها ،ولكنا أدركنا الآن أنها معضلة حقيقية ترتفع عن قدرة هذا الجهاز وجنده من الرجال. يلزم أن يبرز العلماء ويناظرون حكمة الرجل المعمر ،وأن يستأمن الذين آمنوا في أموالهم وأنفسهم وحتى يظهر الحق تبقى السيوف منكسة في أغمادها" ثم قال وهو يرخي صوته:"بعيداً عن هذا المكان ،أخبرني أيها المحقق برأيك في علم الشيخ" رد المحقق بسرعة:"إنما نحن طاقات لها مدى معين ،تحول بعده إلى الركود ولن يسألنا عما جرحنا أحد" وقبل أن يخرج عجل له المدير الخطاب فقال:"اتفقنا إذن..إن علاء مشغول حالياً لكني سألحقه بك فور فراغه". وابتعد المحقق يجر خطاه بإحباط وودعته المرأة بنظراتها الطويلة. ووافه لدى الباب رجل ذو رتبة دانية شديد الأدب قدم له فتاة قصيرة ترتدي ملابس أنيقة. قال:"هذه الفتاة من صحيفة الأخبار سألتني أن أرشدها لك" فتأمل المحقق في وجهها الذي يلقي ابتسامة مرحبة إليه بنظرات واصبة ووضع كفه على رأسه ثم قال:"لابد استلمتِ إذنا في التحقيق معنا" وقال بانزعاج وهو يمط لهجته:"يا للمفارقة العجيبة نُستجوب الآن ومن قبل كنا نستجوِب" فأجابت الفتاة بتهذيب:"لا يا سيدي ،نحن لا نستجوب أحداً ،نحن نريد أن نجعل القارئ على علم بمجريات عالمه ،ولكن لا نجبر لذلك أي شخص" فرد المحقق بنفس اللهجة المنزعجة:"تملكين لساناً يُزلق بعسله. قد أصاب من وظفك هناك" فشكرته وهي تنحني له ،وحياها في مكتبه بفتور ومن قبل كان يتلهف لهذه اللقاءات ويتمعن في وجه مخاطبته بنفس الشغف الذي يخالجه حين يعزم أن يلتهم فطيرة اللحم التي يحبها. وأحست الفتاة نفوره منها فحزنت أن كانت مصدر إزعاج له وختمت لقاءها بسرعة ،وشكرته بانحناءة أطول من سابقتها ورحلت وهي لم تكتب كلمة ،أو عبارة واحدة مجدية.
    وأقر المحقق أن سبب ثورته وجنوحه كان الأسى الذي بعثه مشهد وجه حبيبته المظلم ،وعجزه عن إيتاء الفعل الذي يعيد له حبوره. وليس الضيق الذي وجده في نفسه بعد أن خرج من عندها ،ببعيد ،حين سمع ملعقتها تطرق فنجان الزجاج ،وحدها تتحرك وكل شيء وحيد ساكن من حولها. ونظر المحقق إلى أوراق القضية واستخرج من بينها صوراً لرجل في منتصف العمر ،لازم الشيخ مع الفتية قبل القبض عليه والآن هو مفقود لم يترك رسالة لزوجته. وشد نظارة القراءة أمام عينيه ودقق في هيئة الرجل البلهاء ،وذكر المحقق زوجة الرجل ،عرف فيها امرأة غيورة ضعيفة العقل لم يكتمل جبران قلبها بُعيد فقدها ابنها الوحيد ،حتى فتته الزوج تارة أخرى. وإنها تجد ما يهدئ(1) صرخاتها في الليل فتنام ،ولا مطَمئن لنواحها آخره وأطراف النهار. تلك الأم ضبطت نفسها حين فقد الولد جزعت حين فقد والده ،ولا يجتمع في المرأة صبران. ثم اطلع إلى ملف منفصل أعده مساعده قبل أيام ،وبقي له القليل ليكتمل ،رجل مجهول هجم في الصباح على منزل الطبيب الذي قرر دخول الشيخ مصحة نفسية ،فأجبره أن يعدله. مواصفات المهاجم التي جاء بها الطبيب تتوافق مع جندي موقوف سابقاً تأكد أنه تابع للشيخ. نهض المحقق ومغط ذراعيه بإرهاق وأغلق شاشته على المكتب فخلت الغرفة الصغيرة من النور الذي كان فيها إذ أدبر قرص الشمس ورحل. ورحل المحقق إلى عمله في التحقيق مع جند يستيقظون في جنح الليل. قارب موقف سيارته الجيب فأومضت أضوائها بضغطة زر على الشيء في يده ،ثم ثوى فيها وأشعل المحرك وغادر صخب الأحرار وضجيجهم.
    كانت أعمدة الإنارة في حصن السجن وطرقه كثيرة ولاحظ المفتش آلات التصوير التي تراقبه زادت عن أول مرة أتى بها المكان. توجه إلى مكتب المدير في مبنى الإدارة الكبير ،ففتح الباب أمامه تلقائياً وألفى أمام ناظره مصعداً ينتظر. وعلا به المصعد طوابقاً سبعة ثم فتح بابه في الطابق الثامن. خطا المحقق بحسب لوحة إرشادية سبيل المدير ولاحظ المكاتب عن جانبيه شاغرة تعوي بها الريح. وبعكس الفناء الواضح بالنور كانت الأروقة غارقة في الظلام وكل منعطف يضيئه ضوء صغير ،ورائحة السجائر تملأ المكان. وقرب من الباب المطلوب فأصغى سمعه إلى الرجل المدير وامرأة خلفه يتضاحكان ويتمتمان بكلام ليس يتضح من خلف الحجاب الخشبي العريض. ضغط مفتاحاً إلى شق الباب الأيسر ،فرن جرس هادئ سكتا به فجأة عن ما كانا يفعلان ،وخرجت المرأة وهي ترفع جيب قميصها. ودخل المحقق فحياه المدير بحرارة وقال:"كنت انتظر قدومك أيها المحقق ،تفضل سيجارة"
    - شكراً لك ،لا أدخن.
    فأشعل المدير سيجارة بقداحته ونفث دخانها في غير جهة جلوس المحقق ،ثم قال:"سأتحدث عن الذي أتيت تريده مباشرة" ثم أخرج صوراً ورقية من مظروف كبير لوجه رجل من جميع الجهات ،فقال:"هذا ضالتك الذي تريد ،هذا رجلك الذي تبحث عنه" كان المحقق يطالع الصورة باهتمام ،فقال المدير:"اسمه هادي ،جندي خدم عندنا بشكل جيد لأربع سنوات. تجد بين الأوراق معك تقرير عن خدمته في السنة الأخيرة" "لقد أوقفته لاشتباهنا بتورطه في تدبير هروب الشيخ مع ثلاثة من رجالنا ،وأشارت العيون والأسماع إليه دون غيره فحبسناه. أما الثلاثة الآخرون وهم هؤلاء هنا(وحط إصبعه على صورة تجمعهم في شاشة مكتبه) فقد سرحناهم من الجيش وتم الختم على سيرهم من قبل مكتب الحكومة أن يرفضوا في كل الوظائف التابعة لها. لقد مررناها بالشكل الطبيعي تماماً"
    - أولئك الثلاثة ألم تحققوا معهم بشأن علاقتهم بالشيخ؟
    - ليست الدلائل تشير إلى اشتراكهم في المعارك التي قضاها الجيش على الحدود. ولقد أخبرتنا العيون أنهم لم يغادروا شوارع المدينة حتى هذه اللحظة.
    - إذن أنت لا تشتبه بهم. وماذا تعرفون من أخبار الرجل؟
    - تقصد هادي. رجلك قطع يده وذهب إلى صاحبه في الصحراء ،ولا نعلم من أخباره غير ناره يصلينا إياها في الحرب. ومما أكد ظني السيء فيه أنه قد زار ممرضة الشيخ بإذن غير مقصود ذات مرة ،ولا يعلم أحد ماذا كانا يقولان.
    - لقد نشر الرجل العجوز علمه بين جلاديه أولاً ،فدخل قلوبهم من أوسع أبوابها ،ولا نعلم ما يصنع علمه بأهل المدينة آنفاً.
    - إن الجيش على أهبة الاستعداد دائماً ،ربما يأتي يوم يحارب فيه أهل المدينة أهلها.
    ثم حرك فأرة جهازه فتبدلت الصور بصور أخرى لجنود ببزاتهم العسكرية. قال للمحقق وهو يحدد بظفره على كل منها:"هذه صور للجنود المفقودين ،إنهم ستة مع رجلك حتى الآن وهناك أنباء عن اختفاء جندي سابع في نفس الفيلق الذي ينتمي إليه هادي ،منذ بضعة أيام" وبدل بين الصور ببطء ناطقاً بعنوان كل وجه فيها ،ثم غمرت الشاشة بوجه امرأة في الثلاثينات من عمرها ،قال المدير يعقب على الوجه الأنثوي الصارم:"هذه كما ترى امرأة جندية ،اسمها رفيقة وهي تعمل في سجن النساء قبل حضور رجلك إلينا. إنا وجدناها مرتبطة بالرجل" "لقد كان لنا مطاردة فلول الهاربين بين تلال الصحراء ،وما فتئنا نفعل هذا. ولكم يا صاحبي التحقيق في أمر الجناة حتى يذل شأنهم" رد المحقق وهو يجمع السجلات والأوراق ببطء شديد:"ومتى تبدأ حملتكم التالية؟"
    - حين ينتهي تخطيط ملاذ عدو المدينة. فقد شردت رمالها بالجنود وخسرنا كثيراً منهم ،ربما تكون فرصة للهاربين أن يبتعدوا ولكنهم الهالكون إن فعلوا هذا.
    وقبل أن يخرج المحقق سلمه المدير مجلداً كبيراً وقال:"هذه نسخة من ملفات جنودنا المفقودين ،ستجد الدليل الذي سيثبت تورط أحدهم في جريمة السطو على المدني في بيته" رد المحقق شاكراً وصافحا بعضهما ووعدا أن يتصلا بشكل جيد وفارقا مكانهما. وعرج المحقق على سجن النساء وقدم إثبات هويته ودخل. ولم يعترضه أحد في طريقه إلى الزنزانة التي يعرفها غير سيقان الحارسات مدت في خدر ،أو حارسة تعاكسه مشياً في جهته التي يطلبها. وألقي المفتاح في قفله وأطلق الألحان فهاجت أسماع النائمات بين قضبان قريبة ،وخطى الرجل خطوتين في ضيق المكان وطلب إلى السجانة التي ترافقه أن تهدي سلوكه بمشعل أو تدع الباب مفتوحاً ،فزمت شفتها في استياء وأتته بكشاف صغير. وتأمل المحقق في المحيط بعينه وسمعه فاهتدى إلى أنفاس الحبيسة تحت شق صغير ،تلج منه أبخرة كريهة وقهقهات بعيدة لأفراد مجتمعين. وأسقط شعاع كشافه فوقها لثانية واحدة وقد هاله ما رأى ،وتراجع عن دنوه حتى رده حائط الصلب وأزجت عيونه نظرات الروع المتوجع. وعزم فتقدم فتعثر بذكرى الجثمان النحيل مسند رأسه نازع صدغه من الشعر ،ولقد علم أن عينه لم تخبر الكثير. وأرغمته النظرة الراسخة أن يئوب إليها وبدأ حديثاً فقال:"هل أنت بخير..أيتها الممرضة". ولقد أناب عن لسانها صوت روحها العصامية في نظرة تتحدى بسفور ،اتحدت عيناها بها رغم الحائل يفصلهما من قطع يصل حافة فمها ،ويصب في بحر أحمر جمدته الأيام. ورد حديثه إليها وزاد فلم تجبه شفتاها بشيء واستمر واقفاً ينظر إليها وقد تبدو في عينه تنظر إليه. وأمالت إليه بطرف حسير وأحيت كلماتها لغة اللسان:"في حال أفضل منك". وفهم الرجل خمارها الذي جاء بعد أن رميت قارورته فاستلمه بلهفة واستل جوابها بحديث جديد:"إنك تقتلين نفسك أيتها الممرضة..لا أعتقد خليلك يريد لك هذا"وانتبه الرجل إلى دمعات يابسات وأخر رطبات ينزلن بجرأة من علو ثابت في رده لا يتغير. قالت جوابها بقوة:"وما أدراك عن سيدي؟ إني اسمع أخباره أكثر منك. ثم ما أدراك عن سيدي وبين روحينا حوار طويل" فجلس إلى الحبيسة وهو يسمع طرق نعل المنبهة يقرب جانب الباب ،وقال:"أنت..ماذا.." "لا تفعلي.." وأبت الكلمات في حلقه إلا رجوعاً ،وأثار قلبه فقذف حركة زائدة في أصابع يده وقدميه ،وأدارت العاسة قضيبها المسنن في قفل الباب ،وانتصب الرجل ومرفقاه يهتزان على شطريه ،ثم انتفض جسده دفعة واحدة فوقع يتأوه بصوت خافت ضعيف. وامتدت ذراعه تدفع رأس الممرضة في صدره ،وتشد عليه ،ودخلت التي وراء الحجاب وتقدمت عن صرير الباب وغناء سلاح الحرية المعلق في منتصفه ،وتقدم المحقق ليخرج قائلاً:"ثم أخبري رئيستك بالذي أريتك ،واسعدي!". فلم تعقب بكلمة وأعادت الباب إلى حاله الدائب بوجه جَمود. ونظر المحقق في سبيله فإذا سجانة نحيلة تنظر إليه كأنها تريد أن تحادثه ،قالت بصوتها الحاد:"لدي معلومة تثمر سعيك هذه الليلة ،لكي لا تعود خائباً" وأكملت دون أن يرحب بشيء ،فقالت وهما يتجهان للخارج:"إن للممرضة زائر وفي ،يأتيها في كل خمس مرة ،إنه طبيب أجزم أنك تعرفه" فأشار إليها أن تتم الحديث ،فقالت:"إني أجد غرابة في اهتمامه بممرضة صغيرة" ثم انتقلت إلى حديث آخر بسرعة حين شارف على مغادرة المبنى من بوابته الكبيرة:"والجندية الهاربة زميلتي وقد علمت أنها على رابطة بالجندي الذي يبحث عنه المدير" وخرج المحقق وهو يحاول أن ينسى نظرة الشماتة في عيونها الثعلبية الضيقة ،وحديثها الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وترك السجن وأهله وقلبه وفكره في حال لا تستقر. فلما أن ركب سخريّته ناداه صوت من تحتها فتبصر ،فما رأى إذ رأى أحداً فتعجب. ثم رد الصوت سائلاً:"الذين زرتهم..كيف هي حالهم؟". فطفق المحقق بحثاً بنظره عن اللسان الوحيد وترجل عن مركوبه ثم نظر ،ثم عبس وبسر ،ثم أدبر يعتقد كذب سمعه وشعوره. فناداه الصوت سائلاً مرة تالية:"قد سألتك فأجبني. هل الممرضة حية في هذا الحصن؟" وأطل المحقق تحت عجلات سيارته فألفى جسداً ينسل خارجاً مبتعداً بسرعة ،فقال:"إنها تقترب من نهايتها ما لم ينجدها منجد". فتباعد الظل يحيي محدثه بيده وأدرك المحقق أنها لا تحوي في نهايتها الأصابع ،فاستذكر وهرول نحوه ثم ارتد بقوة ،دفعته ذراعا الفتاة السجينة إلى ألمه ،ويا لقبضة تلك الذراع الهزيلة بين أصابعه من ضعف ،ويا لطاقتها في داخلها من هزال. فارق المحقق الغريب دون أن يلحق به ،أو يقود إليه القوم أو حتى يقذفه بحجر من الطريق ليبطئ من سرعته. لقد كان الرجل الهارب أحمقاً صد عنه وجه الممرضة الجريح عزم رجل ذاو في الألم. وألقى المتألم قدمه على دواسة الوقود بضعف شديد وضغط على المكابح أكثر من ضغطه آله السير. وحين وصل مكتبه بعد منتصف الليل وقد تحول جسمه يأكل بعضه من الجوع ،ألفى فتاة قصيرة لدى بابه يظهر عليها الارتباك. وعرف في هيئتها فتاة الصباح المهذبة وتحدث قبل أن تفتح فمها بحديث ،فقال باستغراب:"ما لذي جاء بك في هذه الساعة؟" ردت بسرعة وهي تلاحظ تورم عينيه الواضح ،فقالت:"جئتك أطلب مفتاح بيتي نسيته في حوزتك" فتقدم وفتح الباب ودخل ولم تدخل حتى أذن لها بالدخول ،فوجدته على الأريكة وشكرته وأرادت أن تخرج إذ سمعته يقول:"لقد كنت أبكي هذا اليوم" وتعجبت من قوله وتخاذلت عن السير فاستطرد يقول:"رأيت امرأة في مثل عمرك الغض وبهاء وجهك على جانب القبر" قالت باهتمام وهي تلتفت إليه:"ما أوداها هناك؟ هل فقدت ابناً مد به العمر طويلاً أم قريناً أول الزواج؟". "هل عظيم حزن المرأة يأتي من هذين الاثنين؟" سأل المحقق وأجاب حيرته بنفسه فقال:"بل فقدت قرينها ،فما تواءم جسدها مع روحها منذ وقت طويل ،حتى فقدت الجسد" وسكت قليلاً ثم قال لها:"لست أفرق بين الاثنين ولكن تلك المرأة تفعل ذلك". وأرادت الصحفية أن تستدرجه لحديث غير أنها عدلت عن ذلك. وكان اختيارها سالماً من الخطأ تماماً إذ أن الرجل بدا على غير طبيعته ،ثائراً تارة ،ضاحكاً تارة ،وباكياً تارة أخرى. إنه رجل أهمّ لحبيبة في الصباح ،وبكى صاحبة في الليل وبينهما التقى بنات الأفكار المزعجات. ونظر إليها الحارس بالباب واعتذرت إليه أن أطالت المكوث ،فلم يعتب أو يشكر أو حتى يتابعها ببصره. وتلاها خروج المحقق إلى سكنه ،ولكنه انحرف عنه إلى بيت أمه في حي غير بعيد يرتفع درجة عن أحياء الفقراء وينخفض درجتين عن مساكن المترفين. وركن سيارته وانتظر خلف الباب. فأقبلت والدته في صرة فصكت وجهها وقالت:"أتأتي إلي في الحلم! أم في عالم الإدراك يا ولدي!" فأجابها وهو يحضنها قائلاً:"في أيهما شئت يا أماه". ثم جلسا على أريكة منخفضة في غرفة استقبال المنزل ،ولم يترك الولد أمه لأحاديثها الطويلة ورواياتها التي لا تنتهي بل قطع خطابها بسرعة وعلا على صوتها فقال:"أمي ،قد أتيت استفتي باع خبرتك الطويل في القرب من نفوس الرجال" فقالت في عجب:"ماذا قلت يا ولدي؟ هل تهزأ بأمك!!"
    - لست بساخر أو مستهزئ ،ولكني في انفعال جامح.
    - إنك ترى الدماء كل يوم ،فهل تريد لنفسك أن تستقر!.
    - إن ألمي هذا لم أشعر به من قبل أبداً ،قد زارني هذا اليوم.
    فقالت ساخرة:
    - ماذا أكلت في عشاءك؟
    - لم أتعشى.
    - فذلك سبب رجفتك التي أحس يا بني. ثم ضربته على صدره بقوة وهي تضحك وتقول: هل حنيت إلى طبخي وأفجعتني آخر الليل. أيها الطفل المسكين سأنهض من سريري حتى أطعمك فما زالت أرفف المطبخ بعيدة عن متناول يدك!
    وتضايق الرجل من استهتار أمه رغم الاتساع الذي حضر صدره في دفئها جانبه ،وطرافة حديثها تلقيه إليه من ثغرها المبتسم. وحين ابتغت النهوض جذب ردائها ونهض ونظرت إلى عينيه الحمراوين في ترقب ،فقال:"أمي..عانقيني أرجوك". فرمقته بنظرة تفتيش وتمحيص تريد أن تعلم الخافي في رأسه الكبير. قالت له وهي تقبض على ثوبها بكفها حاذرة:"ما ورائك؟ أين جلافتك وفساد لسانك؟"وفكر الرجل لحظة في عبارتها الظالمة ثم دنا منها فعانقته. قالت وهي تشم شعر رأسه بجدية:"يدرك الرجل ضعفه في حضن أمه ،ويدرك قوته في حضن المرأة التي يحب" "يقولون يا ولدي أن البسيطة أمك ،وأنت تعود في بطنها ضعيفاً خائفاً. وأن الحياة حبيبتك وأنت فوقها مرح سعيد" ثم قالت مغيرة في لهجتها إلى المرح:"إني أرى رأسك زال عنه دهنه" وأخذت بين أصابعها عَفْراة رأسه فراحت تعقصها ثم تمسدها ،ثم تعقصها ونصحته أن يقص شعره المتشابك إن كان يريد النساء أن يقربنه. ولم يكن يستمع إذ ذاك لشيء غير دقات قلبها المنتظمة في لين صدرها الدافئ ،ولم يكن يرى سوى زهرتين تتعانقان بشريط واحد أمامه ،من زينة الثوب وزخرفه. واستدركت الأم حديثها فقالت:"وإنك لتعقل الآن وتعرف ،ما كانت الأم موتاً ولا الحياة حبيبة إلا لأن الموت هو الرحمة وأن الحياة هي العذاب!" فابتعد الابن بحدة عن صدرها وقال:"مالك تنقمين على الوجود؟ أوتودين أن تدخلي تلك الحفرة؟". "لا يا بني ،ولكن جهلي بما فيها أحب إلي من علمي بالذي يعلوها ،أجبني إلى ماذا نسعى ونحفد؟ ولأي شيء نكد ونشقى؟ أجبني أيها المتفائل الصغير" "إني بحياتي عالمة ،ولكنه علم أردى من الجهل" فألجم فمه ولم يجب ،وأطلقت أمه ضحكة صاخبة وتولت إلى المطبخ وسمع الآنية الفخارية تغني بين يديها بلحن سعيد ،وأحب هذا اللحن بالقدر الذي كره فيه مغنية الصباح الوحيدة-الملعقة-في كف أم إلياس حين خرج. وبزغت فتاة صغيرة عاليها ثوب طويل من حرير أمام عينه ،فرحب بها وناداها باسمها إليه فقالت بصوت يماثل صوت أمه:"ما لذي جاء بك إلى بيتنا أيها الأخ الكبير؟ هل جلبت الدمية التي طلبت؟" فأجلسها على ركبته وأخذ يتأمل في محياها البريء الذي يتفاعل مع القصة التي يلقيها إليه:"هل تعلم! لقد تزوج والدي بامرأة جميلة..ولكن أمي أجمل منها" "لقد بكت أمي يوم علمت الخبر ،ولكن هدية العم أسعدتها كثيرا"
    - هل تحبين العم.
    - نعم ،لأنه يحضر ألعابا إلي حين يحضر بعد كل غياب طويل. إني أترقب هديته الآتية بفارغ الصبر.
    ثم قفزت من حجره إلى الأرض فأصدرت أقدامها الصغيرة صوتاً قوياً ،فنادتها والدتها قائلة:"ما لذي بعثك من فراشك إلينا" ردت الصغيرة صائحة:"صوتكم العالي. أمي لن أعود إليه ،لن أعود". ثم تربعت في صدر المكان وقد ارتفع ردائها عن ركبتيها وخطفت من الصحن في الوسط قطعة بطاطس مسلوقة ،وقضمت أجزائها بنهم. وأكل الرجل حتى شبع ثم اتكأ على الأريكة فطلب إلى أمه أن توقظه بعد الفجر بساعتين. ولكن الصغيرة أبت أن ينام أخوها الكبير وقالت:"إن شئت أن تنام فاذهب إلى المخدع" قال بصوت متعب:"لست أنتمي لهذه الدار". فأخذته من يده إلى غرفتها وطلبت إليه أن يغير لباسه إلى لباس الراحة ،فأجاب أني لا أملكه. ولما كان أهل البيت من الإناث فقد جلبت له ثوباً لها وبسطته على جسده فوجدته صغيراً فضحكت وقالت:"سوف تناسبك ملابس أمي". وارتدى المحقق أحدها مكرهاً ونام في سرير الصغيرة واستيقظ على برودة بلل في وجهه ،وسره وجه الفتاة الناصع أمامه ومسح بإبهامه ماء فمها بلطف ،ثم غادر المنزل. لقد عاد إلى بدنه هدوئه واتزانه ولم تعد ذكريات الألم للوجه الجريح والوجه الحزين لتهزه ،وقد قال بصوت مسموع بنغم ساخر:"أهذا يفعله الموت!" ثم ضحك كثيراً حتى انتبه له العابرون في الممرات ،فسكت. وتقدم منه مساعده وحياه فرد التحية بمرح صاخب ،وجلس الرجلان يتحاوران. قال المحقق بعد أن استعاد حزمه:"كيف تركتك بالأمس؟ هل أبحاثك بخير؟ إن عملي يعرقل بالكثير" فبسط المساعد ورقة طويلة لها شكل فريد كتلك التي تختص بمختبرات الشرطة ،ونظر المحقق فقرأ التقرير وهو يسمع تقرير الرجل الصوتي:"يبدو أن حارس الشيخ الذي يخدم في الجيش هو نفسه مهاجم الطبيب النفسي في بيته ،طابقنا بصماته مع بصمات اليد المقطوعة في ثلاجة الحفظ قبل يوم ،وبقي أن نزور المرأة لتؤكد ذلك" رد المحقق بسرعة:"لا تهتم بهذا الجزء خاصة ،كثف أبحاثك حول الرجل" ثم ألقى إليه مستندات جمعت في حقيبة بلاستيكية وملف عريض وأفصح فقال:"هذه شواهد وصور قد تساعدك في بحثك" ثم أنهى حديثه إذ ألقى معطفه فوق منكبيه ،وخرج. وأصاب المساعد بعض الأسف على انقضاء اللقاء بهذه السرعة ،إذ أن لديه الخبر الكثير لينقله إلى علم المحقق ،ولكن الأخير انصرف ليعمل بمفرده كعادته. كان يهيئ أسئلة التحقيق في ذهنه أثناء انتظاره إشارة المرور الحمراء أن تخضر ،وطال مكوثه فالتفت ينظر إلى السائقين على جانبيه واستمع لصخب أبواق المركبات ونداءات الأشخاص بالإسراع ،إنهم أناس يعملون ولا يدرون لأي شيء يعملون!. وصل المحقق بغيته فترجل وأسرع يشق موكب ممرضات يطلبن البركة لبعضهن بهذا الصباح الجديد. واستقبلته ممرضة بوجه منفر وقالت له عقب علمها بهويته:"الطبيب ناضر إنه يكون بين مرضاه بعد نصف ساعة" "سأخبره بمجيئك أيها المفتش ،أين ستجلس؟"فرد وهو يغادر مكتبها في شيء من الملل:"سأجلس في الردهة. أرجو أن لا يتأخر". وألقى جسده بإرهاق على الكرسي البارد ثم راح يتابع خافض طرفه أقدام العابرين وأحذيتهم المختلفة. فمن سيقان الممرضات إلى عجلات النقالات المسرعة ،إلى منسأة رجل كبير. ومن تحيات الأطباء اللطيفة للعاملات إلى بكاء طفل صغير. كان العالم الذي يلاحقه في أسفله كاذب ،يناقض في أكثره قمته ،ووجد الممرض يلاعب طفلا يقول وجهه خبر " طيب" غير مقالة"أنظروا إلي" التي تصرخ بها ركبته المثنية في طريق الناس. رفع المحقق رأسه وسأل نفسه قائلاً:"هل أنا سيء الظن؟" ثم نهض ليحيي الرجل الطويل أمامه وينكر تصريحه في نفسه:"بل أنا رجل حذر". وتصافح الرجلان وشدا على الأيدي بحرارة النفاق الموقد في عينيهما وخلجات جسديهما ،وذهبا إلى مكتب الرجل. قال الطبيب حين لاحظ غياب مرافقته:"إنها تتأخر دائماً ،لو كانت هنا لرحبت بك قبل مجيئي" رد المحقق بلطف فقال:"لا عليك يا رجل ،فقد سعدت بالانتظار هناك" ثم قال باهتمام:"إن لدي بعض السؤال وأحسبك رجلاً تجيب"
    - إنه استجواب إذن ،اعتدنا على هذا.
    - هل حقق أحدهم معك سابقا؟
    - لا تقلق لقد أكرموني لأني صديق لأكابر المدينة.
    - إني لا أعرف طبيعة العلاقة فاسمح لي أن أسأل الذي يحلو لي.
    - لك هذا. ولي عليك ألا أرد إلا بالذي أريد.
    - فإنك تعرف الممرضة السجينة ،وإنك لتزورها في قبرها إذ ترقد منذ أمد. وإنك رجل صريح في منهجه إذ تستند إلى شواهد العلم الذي عرفت ،وإذ الممرضة آمنت بشيء لا شاهد له ولا دليل فكيف انسجم فكريكما؟
    - إني رجل باحث ألتقط العلم من أي شيء صغير.
    - حسن ،هل تزورها حتى الآن؟
    - نعم ،ومنع عني هذا منذ الفترة المقبلة.
    - آه إنها شهور العذاب الأخير ،حيث تسحب إلى الاعتراف.
    - .....................
    - لقد لقيتَ ربها ،كيف تصف الرجل؟ وهل تعرف أحداً من رفاقه؟
    - كان مريضي فقط. وأنا لا أعرف أحداً.
    - أعني صبي صغير ،اسمه إلياس.
    - يغيب عن خاطري هذا الاسم.
    - هل أنت متأكد؟
    - ماذا تريد أن تقول؟
    قرب المحقق وجهه إلى الرجل الجالس ونظر في عينيه بالشك الصارخ:
    - أما كنت معبراً تنتقل خلاله الكلمات؟
    - لن أجيب.
    - حتى وإن قلت أن كل سبابة تشير إليك؟
    - لن أقع في حفرتك التي حفرت.
    - تبدو ذكياً صعب المراس.
    - وأنت تبدو ملحاحاً بطيء الفهم.
    - شكراً لك. ثم خرج من عنده وهو لم يكتب ملاحظة واحدة!
    وسار إلى المخرج مبتسماً وقد ستر كفيه بجيبي سترته ،وتوقف لحظة حاذى فيها وجهاً يعرفه. قال بسرعة:"إني أعرفك ،هل لنا بحديث؟" فنظرت إليه الفتاة ببعض الخوف ولم تجب ،قال:"حاذري أن تخدعيني ،إنني كثير النسيان غير أني لا أنسى ملامح الناس". فبدت أمارات الاستسلام على وجهها وجسدها المشدود وتحدث بنبرة ألطف فقال:"لن آخذ من وقتك الكثير ،فقد سألتك مراراً سالفاً ومن الظلم الصراح أن أسأل. أردت أن أبشرك فقط أنك امرأة عنيفة ولهذا ستنجحين". ثم تجاوزها وهو يحك شعره الأسود ويخرج شعرة ليست منه ،قلبها في يده باهتمام ثم أفلتها وقد عرف فيها وجه طفلة الأمس ومبسمها الآسر.
    وإلى البحر قصد المحقق مكان التفتيش الأخير ،ورفع السواد عن عينه ينظر إليه في وضوح السراج السماوي الكبير ،وأصغى لصوت خطوات تهرول إليه ثم عصف الهواء فاصطحب معه نبرة علية تلقي التحية العسكرية من خلفه. قال رجل باحترام شديد:"كيف حالك أيها المحقق؟ أتيتنا في سابق الوقت المتفق عليه".
    - لم يشغلني شاغل فأردت أن أنظر إلى عملكم من بعيد.
    - أرجو نقل الخير عني أيها الرجل الكريم.
    وضحك المحقق لدقيقة ثم التفت إليهما وعلى محياه الكالح إشارة حزم وعزم"ماذا عن البحث؟" فتطوع الرجل الآخر للإجابة وكان يبدو متحفظاً غير ودود:"قد وجدنا بعض الصبية واختلط علينا في التفريق وجه طفلك الذي تنشده"
    - لا يمكن أن تخلط يا صديقي ،إنه صبي حين تنظر إليه طويلاً ينقلب إليك بصرك خاسئاً وهو حسير ،في عينيه بحر كالبحر في أوله الطيب وفي آخره شر يمكنك رؤيته.
    وتراجع الرجلان إلى الوراء قليلاً إيذاناً بالانصراف ،وقال أولهما للمحقق:"حسناً يا سيدي ،قد وضعنا أوراق القضية في أمانة المحقق علاء. قد طلبها اليوم. وأما حجزك فقد تم دون مشاكل ،ستكون الليلة على متن اليخت الذي أردت" "نتمنى لك نزهة سعيدة". وهتف لهما وهما يبتعدان:"شكراً لكما. أقدر لك أن قضيت لي هذه الخدمة الشخصية" ثم استدرك بسرعة:"ولن تدخل في حسبان درجة تقييمك". وتبسم الرجال لبعضهم وتفرقوا ،وموج البحر أمامهم لم يتفرق. واتخذ المحقق مجلساً من صخرة ناتئة وبعض الأسف يعلو وجهه من أن الليلة قد لا تكون مناسبة للإبحار. ولربما اعترى انتباهه غفوة قصيرة ،وسنيات متفرقات أخذن بدقائق فراغه حتى التقت الشمس مغيبها واختفت عن ناظره. وانتبه من رقاده فنهض ونظر إبان مهلة بقاياها الأخيرة إلى بطاقة الركوب في يده ،وأومأ إلى بعض ما جاء فيها ثم انطلق. ونظر إلى مقعده الذي غادره فوجد عباب البحر يلطمه بشدة ويتجاوزه في مد جارف. وقضى الرجل يفكر في هناء غفوته على الصخرة طوال إرشاده من قبل غلام قصير. قال له الغلام حين أوصله إلى مرسى السفينة وهو يمد إليه يده:"هات يا عم أتعابي وعجل أرجوك" فأجاب المفتش متعجباً:"لم نتفق على هذا" رد الصبي بنبرة ساخرة:"ألم تعلمك أمك أن لكل شيء ثمن..لاشيء يأتيك لوحده هكذا". فأخرج المحقق بضع ورقات نقدية وضعها في راحة الصبي وأطبقت كف الأخير عليها بقوة ،وطفح وجهه بالنشوة والسرور. وابتعد المحقق وهو يفكر في صبي قليل الذوق وإن ارتدى ثياباً أنيقة! وأبدى ورقته للموظف الذي حدق فيها من خلف عدساته المكبرة ،ثم أذن له بالدخول في سلك من الناس المتنزهين. واتجه المحقق فور صعوده السفينة إلى قاعة العشاء وأكل كثيراً حتى امتلأ ،وغازلته بعض الشابات فلم يجبهن وخرج إلى فناء السفينة يتمشى في رياح الليل العاتية. ولما أن رفعت مرساة السفينة وشغلت محركاتها نادى مناد في مكبر للصوت أن قد بدأت رحلتنا في سكون الظلام فاستمتعوا بليلتكم في أقصى استطاعتكمَ! وأطلق المحقق زفيراً طويلاً بينما يسمع هتافات الناس وزغاريدهم وأسند ذراعيه المنهكين إلى حائط قصير ،ونظر في عمق البحر المعتم. ووجد نفسه يقارن بين النور أول النهار حين أتى وبين الظل المدلهم أمامه الآن.
    بين الليل والنهار تتقدم حياتنا حتى نفنى ونموت
    أجيبوني من الأقوى أظّلام أم النور؟
    أجيبوني ولا تحذروا ،سأكون حليفاً للأقوىَ!
    سأتبع الظلام يا رفاقي ولن أخاف ،لأنني مع الرجل الأقوى
    بين النور والظلام تتقدم حياتنا حتى نفنى ونموت
    وسمع المحقق صوتاً غليظاً يقول:"لم أعلم أيها المحقق أنك تملك ذوقاً غنائياً وصوتاً بهذا الدفء" فرد المحقق دون أن ينظر إليه:"إن لي قلب أيضاً" فرد الصوت بنفس الغلظة:"ولكني لا أخالك تملك عقل المحقق". ونظر الرجلان لبعضهما أخيراً بنظرة تحد طويلة ثم قال المحقق:"ما هذه الصدفة التي جمعتني بك ،يا علاء" وحيا كل منهما الآخر بغير ترحيب شديد ،وتقدم الزائر فوقف جانب المحقق على مطله الساكن. قال وذقنه الدقيق يهتز طوال حديثه:"أنت رجل ذكي ،لو تخليت فقط عن عاطفتك وقلبك الذي تدعيه" "إني حققت في أمر المفقود فلم أعثر على أثر. وهناك احتمالان لا ثالث لهما بشأن غيابه المفاجئ..فإما أن يكون في المدينة في مكان لا تصل إليه أعين الباحثين ،أو في غياهب اليم راقداً في بطون الأسماك". وعلا وجه المحقق انفعال غاضب ،وشاء أن يلطم الرجل الذي لا يعرف مكان هذا الصبي في اهتمامه وعنايته. ولكن ذقن الرجل الدقيقة ونظارته ظلتا تلمعان في السواد الجاثم على قلب المحقق ،وفكرته المحتضرة.
    إلى الفصل الثاني عشر بإذن الله

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...