(الفصل العاشر)
تنفس صباح جديد في كسوة الأرض المخضرة الندية ،وسقطت حرارة شمسه على البراعم الصغيرة تنتشلها إلى الحياة ،ووقف طائره على الماء يلقي رأسه فيه في كل آن ،واجتمع الطائر بسربه فوق رأس الشيخ بسلام. فقال بلحن ساكن:"اجمعني بهم ،رب الطير ،يا من جمعت الطير إلى أحبابه ،اجمعني بهم". ثم رفع عنق زهرة خزامية بين أصبعيه ،فساح نداها على يده وغاص في ثنايا عمرها المديد. والتقطت أذنه نفَس الجندي خلفه ،فقال: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج". و رد الجندي بنظرة طويلة للمرج أمامهم ،واستنشق عطره الذي تحمله الرياح ،ثم جلس ناصباً ركبته يفصله عن شيخه خط أصفر يتعرج مرتين من زينة الأرض وزخرفها البديع.
- إن الذي أحياها لمحيي الموتى - يا ولدي - كذلك النشور،إن الله لباعث الناس من عظم حقير ،كما بعث جسد هذه الزهرة من بطن أمها.
- أيها الشيخ الجليل ،لقد أوتيتَ من العلم الكثير ،فهل تخبرني عن الساعة أيان مرساها ،في أي سنة كتبها ربي؟ إني أراك من الناصحين.
قال الشيخ بنبرته المتزنة:
- سأل من قبلك رجال يا بني ،ابتغى بعضهم تكذيباً وهزواً برسول الله ،وحمل بعضهم نوايا الخير والتزود من الصالحات في صدره. لكنهم أخبروا أن جهلهم كان الأصلح لهم ،وأن الله قد قضى إخفاءها في علمه الواسع ،وليس لي أن أفضي إليك إلا قولي أن الساعة قريب ،منذ عهد المخبر عنها ،وعن ربها فتزود بالفاضل من العمل فساعتك تحين حين يحين موتك ،وترقد في ضَيق أمك.
فكأن الجندي قد اهتدى بحديث الرجل المسن إذ يبين وجهه ملمح النور ،ولا يؤتى النور إلا من غشيه الرضا الحقيقي وتمكن من جنانه وجوارحه. فاسترسل في تخيلاته عن تلك الساعة الطويلة القريبة ،وأحس الشيخ انشغال خاطره بالذي قال ،فربت على منكبه بلطف مشيراً إليه أن يساعده عقب جعله منسأته حطباً لنار البارحة. قال للشديد القريب :"يا بني خذني إلى الصخرة ،فإني أطمع أن ألقى رفاقنا هناك". واستمع حسن لأمره ،فغدا الثلاثة إلى صخرتهم أرض اجتماعهم قبل أيام ،واعتراهم بعض ظمأ المكان الأول فتحرك الجندي يبحث ببصره وساقه عن غدير سقاه غيث الليل الآفل ،فلم يظفر بقريب ولم يرد ابتعاداً عن ربعه خشية أذى جند المدينة ،أن يغنموا بسيده وصاحبه ،وهو غافل عنهم. ورجع صفر اليدين مخيب الأمل. إن الرجل لاحظ القوم زادوا مثلهم من البعيد وصدق ناظره لما أن اقترب ،فاستبشر. والتئم شمل أصحاب الصخرة تحت اعتقادهم بوجود أكبر منهم أعلم منهم ،يطلع إليهم. وقبض الحارس هادي على يدي الشيخ وعلى الحديث ،فقال:"إنا طمحنا أن نثقفكم هنا ،ولكنا تأخرنا عنكم إذ ضللتنا مسالك الأرض المتشابهة". وتلفت إلى وجوه أصحابه وصاحبته فلم يرجع إلا بإيماءة لطيفة من شيخه ،ولوحات الوجوه الثلاثة الناصبة. فقال بسرعة:"أيها القوم قد وجدت صويحبتي مكاناً آمناً ،فهلموا بنا إليه" فأجابت الجندية بانكسار:"يلزم أجساد الضعاف طعام وماء ،إن في ساقي حياة لأجلب لهم ذلك". فنهاها الجندي عن ما عزمت عليه ،وأطلعها على نيته بدخول المدينة إنه يعرف أحداً هناك. وانطلقت رفيقة بالقوم الواصبين إلى المعتزل البعيد ،وتساقطوا فيه صرعى من الجوع والحمى. وجلس الشيخ بالوصيد رافعاً يديه يتمتم إلى أحد لا يراه ،ولكنه يؤمن أنه يراه. وجعلت المرأة أذنها قريباً من فيه وفاضت عينها بالدمع الصافي وجعلت تمسحه بردن ثوبها ،وتحرك لسانها بانقضاء الشيخ من تلاوته ،فقالت بتأثر:"قد شردنا في هذه الفلاة لأيام وليال ،وأفرغت بطوننا من الماء والطعام ،وألهبت قلوبنا لوعة الفراق ،أيها الشيخ إنه الذي اعتنى بنا وردنا إلى بعضنا وآوى شتاتنا إلى كهف آمن. أيها الشيخ لقد قُدر علينا بالأمس لكنه فك أسرنا وشرّد بماءه القوم المجرمين. أيها الشيخ إنني في شوق لرؤيته ،لرؤية القوي الرحيم ،أما يوجد سبيل غير الموت؟ أيها الشيخ الفاضل إني أريد أن أراه ". فتبسم الشيخ بحبور وقال:"أي صاحبتي التقية ،إني أحس شوقك العارم هذا ،حين أقف بين يديه ،وأتلو كلماته ،وأنظر لأرضه وسمائه. إن نوره ليس كالقمر البازغ ولا الشمس الكبيرة البازغة ،ولو أنزل كلامه على جبل لرأيتيه خاشعاً متصدعاً من خشيته ،قد قال النبي من قبل:"رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين". إن أبصار خلقه عاجزة عن رؤيته في الدنيا ولا يرضى الله لعبد أن يسأله هذه المسألة". وأحس الشيخ هلع المرأة وارتباكها من الوحي الذي ألقي على مسامعها ،فإذا هي لاهثة في جلستها المريحة الهادئة ،وحدث نفسه ليس بغريب أن تخشع لأن حديثه حمل كلمات ربها التي تهوي بصخور الرواسي الشامخة. وادكرت المرأة بعد مدة فقالت وقد هدأ صدرها:"مالذي حل بكم إذ فارقناكم بالأمس يا سيدي؟ إن بي فضول شديد لأعرف الحدث" فأخبرها الشيخ بصوته المتقطع ،قال:"قد أعمى الله أبصار العدو عنا ،ثم همى برَده على رؤوسهم وردهم خائبين". وسكتت المرأة عن أسئلة وأحاديث كثيرة تريد بذلك الراحة للرجل المسن وجلس الاثنان متيقظَين دفع النشاط في عينيهما شوقها لرؤيته. وتحدث الشيخ بعد ساعة من الصمت وهو يسمع اصطكاك الحديد في يدها ،بلهجة ناصحة:"قد يكسر زندك تحت عنف هذه المحاولات ،إني أجد حرارة اللهب خير منها". ثم اضطجع على جنبه الأيمن ولحس بلسانه شفته اليابسة ،ونام. أما هي ،فقد صلت إلى قبلة الشيخ علمتها آلتها المرشدة جهتها الصحيحة ،وخطت صلادة الأرض في جبهتها علامة زالت مع مضي الوقت. قد قصد صاحبهم مدينة عدوه وعدوهم ،فقد رجت القوي الرحيم أن يحفظه.
سار الرجل طويلاً حتى حاذى موقعة الليلة التي لم يحضرها ،فألفى جثث أصحابه ببزاتهم العسكرية الممزقة ووجد رائحة العفن الرطب من سيل الأمس تقترب باقترابه منها. واكفهر وجهه وهو يبصر أجسادهم أكل منها الجارح وقبح هيئتها ،وسد ثغري الشم بذراعه وعزم أن يحفر لهم قبوراً أربعة. واختار مساحة رجا أن لا تطأها أقدام المشاة وحوافر الدواب ،وحفر بيد وحيدة ،وأحال بذراعه الأخرى دون تهافت التراب الذي لم يبله المطر ،على حفرته. واهتز القيد الخاوي على يده الحافرة منشداً قصيدة من حزن عظيم كظيم ،مع كل تقدم لها وتأخر. وواصل هادي حفره حتى مال وهج الشمس للغروب ،فاستعان بحمرة الشفق إبان ظهوره القصير ،وأرقد الأجساد الباردة في دفء الأرض يقبل كل واحد منها قبلة النظرة الأخيرة ،ومسح براحته قطرة من دمعه على وجه محمر من الدم ،فساح وخدع الناظر بحياة ليست حقيقة وجعل يحثو التراب على القبر الضيق الذي اجتمعت فيه أجساد الجنود الأربعة ،حتى اختفت أنوفهم الواقفة عن ناظره. ونصب على القبر حجراً صغيراً كان وجده بمشقة وخط على الطين جانب القبر أسماء رفاقه وكتب"ماتوا ميتة الشرف مناضلين مع الحق ضد الباطل". فلما فرغ قعد قبالة القبر يتأمل في حفرة كل حي ،واقشعر جلده على هبوب رياح باردة أشعرته بإحساس الضيق المؤلم ،وهو بعد لم يجربه! وحرك أفكاره فناء المكان من صوت إنسان إلا من حفيف خفيف للرياح على التراب. وتأمل قمم التلال حوله تحت ضياء القمر ،ثم نظر للقبر الساكن عند رجله فأصابه رهب وجزع. واحتضن جسده بذراعيه وأغمض جفنيه ورحل عن سماع عاصف أو إبصار كاسف ،ولم يفتحهما إلا مع الفجر. ولقد هاله نور المكان الذي كان نزله أول ظلامه وانطلق معجلاً في طريقه إلى المدينة. واتخذ الحارس مشية سريعة يطوي بها النجد فابتلعت أرضها يومه وليلته. ثم دخل المدينة على حين غفلة من أهلها وانصرف إلى معرفه في أقصى الشرق. كان يسير بثياب الكهل المدنية المتسخة سافر الوجه في الشوارع المزدحمة بالركاب ،وقد وضع يده اليسرى في جيب سرواله الأزرق. وصل بعد الثلث الأخير من الليل ،وانتظر حتى استيقظ أهل البيت إلى العمل. خرجت الفتاة أولاً تلبس ثوباً رسمياً طويل الأكمام ،قابضة بكفها عنق حقيبة حمراء ثقيلة. نظر إلى جسدها الذي يتمايل على بعضه بوضوح من خلف ثوبها الضيق الغامق ،في نزولها درجة بعد أخرى بكعب حذائها الصاخب ،فتعمد أن يكسر غصناً يابساً فالتفتت إليه مستطلعة. وكان أن مالت إليه بحدة فاحتجب وجهها بشعرها القصير ،نسفته رياح الصباح الأول. رفعته بأصبعين من يدها الخاوية ببعض الانزعاج ونظرت في زوايا وجه الرجل التي وضحها النور ،فارتدت إلى الخلف وعلت وجهها سحنة الوجل. فهمس إليها هادي أن تتبعه بهدوء وأظهر لها ابتسامة مطمْئنة. تقدمت الفتاة إلى مجلسه على فرع الشجرة المنخفض فاتكأت عليه وجلس هو قبالتها على ركبته. قال لها وهو يحاورها ولم تغادر بشاشته وجهه:"لقد أذهلتك بظهوري ،إني أتيتك أسترد مالي الذي أقرضتك إياه لسيارة الأجرة في سالف الأيام" قلبت بصرها في نواحي مظهره القذر ،وقالت تحاوره:"كم كان ذلك المال؟..انتظر من حي التجار إلى هنا عشرون ورقة نقدية..هاك إياها.." وأخرجت محفظة نقودها تريد أن تدفع ،فقبض على المحفظة بيده وقال:"أريد كل الأوراق هنا" فسلمته النقود وركنت إلى جذع الشجرة فصدمته بقوة ،وتطايرت العصافير أعلاها وهي تشتمها بصوت مسموع ،وهمس الرجل إليها ببعض كلمات ،وأجابته قائلة:
- نعم إنه في المنزل ،أبي يخرج في السابعة.
- اجلسي أيتها الفتاة ،وهذه المحفظة سأردها إليك بعد أن أفي بحاجتي وأستغني.
ثم أراح على الجذع المنخفض فاهتزت الشجرة وتساقطت بعض أوراقها ،قال:
- أنت لست مهتمة بالتبليغ عني..فبين إصبعينا ذلك العهد القديم ،وأحسبك لا تحنثين فيه. إني مطلوب هنا ووجهي يعرفه جميع الناس ،أيتها المرأة الفاضلة سأجلب الزاد لرفاقي وأعيد مالك في أسرع وقت.
- هل ستذهب الآن؟ بهذه الهيئة المثيرة للشبهة ،أنت لست عدوأً لي ،إني سأكرمك كضيف صباح.
ونظرا جميعاً إلى الأب الذي أخذته سيارته ،فتقدما داخل البيت وحيته في غرفة المعيشة. ولاحظ الرجل نظافة المكان فاستحى أن يريح على الأريكة ،ووقف صامتاً لا ينظر لشيء. وأدركت الفتاة مبلغ حرجه فدلته على الخلاء ،وقالت:"أي الثياب تلبس؟ سأصعد إلى خزانة أبي".
دخل الرجل واستحم ،وسمع الفتاة وهو يجمع ثيابه تجري مكالمة هاتفية ،مع صديقتها على الأرجح. "أنا آسفة قد أتأخر قليلاً ،أذهبي بالأوراق على مكتبي إلى المدير..نعم قبل التاسعة..شكراً لك".
خرج الرجل عليها مرتدياً لون الليل ،وبدت خطوط الخياط مشدودة حول كتفيه. واعتذرت الفتاة إليه من الضيق الذي يجد ،ودعته إلى بعض الطعام. وضع هادي يده على ذراع الكرسي فعجبت من هيئتها المشوهة. وصدت عنها بسرعة فكبت له فطيرة مغطاة بالعسل وأترعت كوبه بالشاي ،واستراحت في مقعدها أمامه. سأل عن سكونها الغريب ،واطمئنان حالها ،فقالت:
- حين أبصرتك ذلك اليوم اعتقدتك لصاً تعبث بحوالات والدي الإلكترونية ،لكني استدعيت للتحقيق واطلعت على حقيقة فعلك ذلك اليوم. أيها السيد هل سمعت عن نور الحق؟ شخص يكتب كلاماً عربياً ليس على لسان بشر ،يقول أنه من عند الإله ،ذلك الشخص يثير الضجة في شبكة الاتصال وقد قرأت بعض نصوصه ،إني أجد اهتماماً في نفسي لدراسة معتقدكم ،فإني أراك أمامي رجل اعتقاد وليس مجرد لص منازل صغير.
نهض الرجل فارشاً منديله على صحنه إشارة الانتهاء وأخذ المحفظة بيده وقصد الباب ،وقال شاكراً الفتاة:"أحمد لك سعيك ،احتفظي بموثقنا لأطول وقت أيتها المعاهدة الصغيرة" فأسرعت إليه تقول:"إن المال في المحفظة قليل ،دعني أجلب لك المزيد"
- لا تقلقي إنه كاف.
- هل ستجعل الجميع يتعرف إليك؟ خذ كمامة الأنف هذه.
- شكراً لك.
- حسن دعني أوصلك إلى السوق بسيارة أبي.
فلم يعترض أو يتمنع ،وانطلقا يشريان ما يجدان أنه يحتفظ بحياته لمدة طويلة دون أن يفسد ،فملئا عربة التسوق بأكياس الأرز والفاكهة المجففة ومن الماء أخذا الكثير. وأوصلته إلى حدود المدينة فغادرها آخذاً مغانم كثيرة إلى أرض سربه ،الخالية ،وعادت هي إلى العمل.
أعلنت أقدامها حضورها في البيت ساعة المساء ،والتقى والدها بها فحياها ببرود ،ورشف رشفتين من كأس يحمله. قالت له باستغراب:"أليس يبدأ عملك الآن؟ كيف تشرب الخمرة يا أبتاه ،وورائك المرضى؟"
- إنه المساء يا بنية ،وواجب أن أفصل بعد صباحه بشيء من السكر الجميل.
نظرت إلى حمرة وجنته بازدراء شديد ،ثم خلعت معطفها القصير ووقفت تحضر كأسا من القهوة. قالت له غاضبة:"لا تحدق بي هكذا ،إني أعظك أن تراني كامرأة " ثم ألقت نظرة خاطفة في مرآة المطبخ الصغيرة على مظهرها بقميصها الأبيض ،وخفضت ناظريها فألفته ما يزال ينظر ،ويشرب. قال لها بصوت هادئ:"هل أخذت حماماً هذا الصباح؟ إني أسمع وقع الماء في المغطس. أنت لا ترخين الحنفية كوالدك" والتقت أبصارهما لوهلة ،نظرات الوالد الماكرة ونظرات الابنة المستسلمة ثم قطعها صفير إبريق الماء ،فنهضت تجيبه. لقد تعلقت الفتاة بالشاب القوي الذي ألبسها إصبعه خاتماً في إصبعها ،وفي نبله ودماثة خلقه ،وتقلبت في مرقدها تحسب ميعاد زيارته الآتية. كتبت تخاطب نفسها في مذكرة هاتفها الجوال:"كنت أعتقد الجنود أولو قوة وبأس ،وقد غاب عن خاطري أنهم ذوو أخلاق كريمة". ثم انقلبت على جنبها الآخر قبالة أستار النافذة الخفيفة التي تلاعب الرياح ،وكأنها تنظر إلى رجلها يخطو واثباً في صحراءه الشاسعة. ولقد أصاب بصرها وما أخطأ ،إذ الرجل بالأحمال الثقيلة قطع أميال كثيرة. وعجز بصره عن التمييز في غسق الدجى فقضى أمياله الباقية مع طلوع الشمس ،وحين رأى الهند تغدو مع حارسها الأبقع عجل إليها وولج بين أفرادها حتى لاحظ رؤوس الأوتاد خلف جرف صغير. واستقبله صاحب النزل بصوته المرحب من البعيد وأدخله خيمته وقدم له شيئاً من الرزق الكريم. ونادى البدوي بصوته العالي أهل الدار فأقبلت امرأة تستفسر عن طلبه ،ولما أراد أن يعلمها تصدى له هادي فشكره على كرمه وقال له:
- إني أتيتك على عجل ،وأخاف أن يفوتني الذي ينتظرني وراء الأميال.
- سألتك إلا تمسي لدينا ،وحقك ثلاثة يا ضيف.
- وإني قضيت بياتا عندكم وأنا جريح ،وخطر ببالي أن أسلم عليكم إذ ألفيت مضاربكم لم تبرحها الماشية.
فتفرس الرجل المضياف في وجه الجندي طويلاً ثم قال وهو يمسد لحيته ذاكراً:
- نعم ،أنت الذي عثر عليك الأبقع في تلك الساعة. ثم اقترب منه حتى تلامست أنوفهما فصاح: ولكنا لم نتمك حقك ،ثلاث..ثلاث يا رجل. وصيدك نؤتيك خيراً منه ,تعالي يا امرأة.
فنهض هادي ولحقه الضيف واختصما حتى اهتدى المضيف إلى فصل بينهما ،فقضى بأن يهبه ناقة من قطيعه تعويضاً عن تقصيره في ضيافته. وتفحص هادي جوانب المكان ومد عينه إلى داخل الخيام ،كان يقيم مع الرجل سبع نسوة وغلام وحيد فاحم الشعر كثيفه ،يلبس ثوباً يكشف ساقه ،جاءه حين طلبه فقال له:"تخير يا فتى ناقة في مقدمة القطيع تسير أماماً لا تنحرف" وغاب الغلام ثم أناب يجر بيده زمام الناقة وسلمها والده ،وضربها الرجل على يديها فأناخت ورغت. سأل هادي قبل أن يرحل أهل الترحال إن كانوا شاهدوا جيشاً أو اقتربوا من خطر ،فأجابه الرجل وهو يرفع المتاع على الراحلة:"هذه الأرض آمنة يا ولدي ،وبعيدة عن الشرور". وتجاوز هادي مرابع القوم مطمئناً أن خبر أصحابه لم ينكشف بمرتزق أو عين حقير. وتلك الساعات قطّعها بدعاء علمه الشيخ إياه إذا أحس كربه وضيق حاله ،أخذ يردد:"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". وقد نعس الرجل فوق ظهر الدابة فقادته إلى أرض لا يعرف رؤوسها ولا بطونها ،فأصابه حزن شديد. واستغاث بسيده في السماء ،وأحنى جسده وبكى ثم استدار يتفقد دابته ولم يحكم لجهله إذ ذاك وثاقها ،فهامت في الأرض بالرزق على متنها ،فأطلق الرجل آهة الرجال وعانق رمل الصحراء يائساً حتى نبهه صوت غريب. خاطبه الصوت باسمه فتعجب ،قال:"إن هذه ربوعنا أيها الغريب ،وعليك أن لا تطأها بغير إذن منا"
- أنجدني يا هذا ،ذهب الحزن بناقتي وزادي..وورائي خلق يحتضرون.
- وما تبادل بحثي وكدي؟
- بكل شيء ،إني في كربة يا رجل.
- الجزاء أولاً ثم الكلام.
- ............................
- حسن ما شرطك وعجل بالخطاب.
- أما ناقتك فسآتيك بها قبل أن تقوم من مقامك هذا ،وأما الجزاء سفر عتيق.
- أي كلام تريد؟
واستقرت الناقة بحملها بين يديه ،فقفز ونكص على عقبيه وأوجس في نفسه خيفة ،ونظر لخصمه في دهشة وترقب. وبركت الناقة فتقدم منها وفحص طعامه وسقاءه ،ثم اعتلاها فقامت على أرجلها وسارت به. وناداه الرجل أن اجزني أجر ما صنعت ،فرد هادي أن قد كلفتني أمراً لا أحتمله ،وأجابه الرجل أن الناقة والسقاء سيوفيهما في يومين ،إن لم يأته بخبر عن طلبه أو يستعين بناصح أمين. وابتعد هادي عن الرجل الأشيب القصير ،وتاه في هضاب الصحراء وسهولها وخذل عزيمته اليأس وأضاع صوابه عرض الفلاة ،فانتبذ من شمسها ظل نشز صغير. وطوق الحارس رقبة دابته واسترخى ،فأحس ظهرها يتحرك تحته فرفع رأسه ونظر. فإذا غانية طويلة الشعر تمسك الرسن في يدها تلتفت إليه. سألها بسرعة:"من أين جئت؟ من أنت؟" فأنشدت المرأة تقول:"من أرض قوم لا تلد نسائهم الرجال ،من جحر نذل نصب حول أهله الأقفال ،إني رضية فافجر بقولك وافعل الأفعال ،لا ترتدد أيها الغاوي وتعال إلي تعال " فتهربت حدقتاه من لقاء محياها الضاحك وأشار إليها أن تخلي سبيله ،فاعترضته وصاحت به أن يمتثل لطلبها ،لكنه ركل دابته فحادت ،حتى إذا همت أن تسير داست المرأة خفها فأرغت وتوقفت. وغضب الحارس واستنكر هدوء الناقة ،وطلب إلى المرأة أن تتركه. فأخرجت المرأة طبلة من بطنها وأخذت تدقها وتغني ،ودارت حوله تهز خصرها وتدعوه إلى نفسها. وانزعج الرجل من لحنها الصاخب فسد أذنيه ،وقال بالذي علمه الشيخ ،فغابت الغانية عن ناظره فلم يهمه غيابها السريع ،وانطلق يبصر طريقه تحت الشمس الراجعة وشفق الغروب. إنه يصول في مكان قريب من قومه ويجول ،فتعبه وانهزام حيلته جعله يتخبط ويتعثر ،وإنه أدرك منزلهم في رأس العلم فنصاه وعقل راحلته والنور يغالب الظلام ،ودخل على أصحابه في غلب الظلام. واستقبله الوهج الدافئ وصوت الحارسة الفرحان برجوعه وهي تقول:"كدت أضربك بكعب البندقية لولا أن شفعت لك النار". وآوت إلى القوم وفم بندقيتها يرسم خطوطاً تمحو صورة خطواتها ،خلف ظهرها الحبيس. أفلت الحارس الأمتعة من يده وأخمد شوق عينه إلى رؤية وجه شيخه الصامت ،خلف لهب النار الراقص وتقدم منه فعانقه وقبله وسقاه المعين وانتزع عوالق الطين من لحيته ،ثم بلغ الأسماع النهمة بالذي مر به:"لقد انتشلني قوم رحل ليلة جرح يدي ،وكنت شارفت على الموت فأكرم سيدهم مثواي ،وهو رجل شديد الجود. ثم قص أثركم فاتبعت السبيل حتى ألفيتكم تحت الصخرة فسقيتكم ما رزقني إياه. إنه أكرم عبوري الآن بهذه الدابة أيضاً ،وعرفت فيه رجلاً خيّراً لا يتجسس لصالح أحد. والشخص أعرف في المدينة أعان يدي في حمل الحاجة ،وما آسى على شيء إلا أن تأخرت عنكم". قال حسن بصوته المرهق:"لا بأس عليك يا هادي ،ما فرطت في أمرنا من شيء. ونحن صبرنا..على ربيع الأرض وفرات نقع قريب". ثم سأل الكهل باهتمام:"كيف وجدت القوم في المدينة؟ هل سمعت من أخبارنا شيئاً؟"
- يظهر لي أنهم يأتمرون بنا. تحاك خططهم يا صاحبي بالسر والكتمان.
- رجائي أن لا يكون هدوئهم بادئ الأمر إنذاراً لعاصف في آخرة.
وتفكر القوم في قول الكهل خافضي رؤوسهم صامتين ،حتى أخمدت النار ولم يتقدم لإذكائها أحد. وتأمل هادي في الجدران وزوايا المكان وفحص ببصره بعض فرجات في السقف ،ونزل منها إلى وجه رفيقة الذي ينظر إليه. خاطبته حين انتباهه إليها ،قالت:"خلفك ترقد شجرة ميتة فامدد بيمينك وألقها يصطلي بحريقها الرجال". وأضرمت النار بالحطب اليابس فاشتعل الشق كله بالنور ،ونظر الرجال لبعضهم نظرات وداعية صامتة فقد خلا المرقد من الحطب ،وديجور ليلتهم طويل. وتولى أصحاب الكهف إلى السكون بعد أن هدأت البطون واطمأنت الأفئدة ،وأرخت الجفون. وأرخى هادي وكاء صرته وأخرج مافيها وقال للحارسة:"قد جمعت أثري هنا" "أعتقد القيد المكسور سيكسر أسرك". واستخرج إبرة دقيقة من حديدته وألقاها في أصل النار ،ثم انقلب إليها وجلس. كان الحارسان لا يتسليان بحديث ولا يجتمعان في رأي ،ولم يكن كلامهما لبعضهما إلا صامتاً وإيماءات أعينهما لا تنيب ولا تجيب. حرك هادي وقود النار وأخرج قبساً من أسفلها ،فثقب ثوبه انفصام لهيب وآذى جلده فصرخ وابتعد ،ثم قفل فأخرج حديدته بحذر شديد ،وسمع الشيخ يسترجع ويطلب المغفرة من سيد السماء ،ويقول:"هذه النار يا ولدي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. قد برد ألم جلدك وتوقف وأنى لناره أن تتوقف وحطبها يلقى إليها في كل آن وكلما نضجت جلودهم تبدل بجلود غيرها. هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن". وانتهى الشيخ من حديثه فانتهرت المرأة الرجل آمرة إياه أن يفلت من يده ،وترك الحرق في راحة كفه علامة مستديمة. و عاد إحماء الحديدة وقربها من المفصل الصغير في قيدها ،وجعلت المرأة تصرخ من القطر المتساقط بين أصابعها وتبكي ،وتخلخلت شدة الأسر وتحرك ذراعا المرأة بعصبية ووقع الشر المعدني وراءها على الحجارة ،ولم يرفعه أحد.
أمن أصحاب الكهف في هجرانهم أصحاب المدينة ،وامتدت الأيام بهم حتى بلغت الثمانية ،وإذ بالأوعية يبقى نهايتها حتى يعلم مافيها الآكلون. فتجهز الحارس لرحلته واتجه إلى ركوبه بين أصحابه الموصين. نظر في عين الناقة وأنفها ففزع ،والتفت بحدة إلى الشيخ. حدثه وعبرة الخوف تكاد تقطّع بحلقه أنه رأى رجلاً أشيباً خارق الفعل وامرأة بارعة الجمال تظهر من العدم. وصد الشيخ بعينه عنهم للحظة ثم قال:"هؤلاء أهل الأرض ،خلقوا من النار ،وهم مثلنا عند الله تعالى. فإذا رأيتموهم فاستعيذوا بالله من أشرارهم ،وأخيارهم كثير".
- طلبني الرجل الأشيب أدله على سفر عتيق ،وتوعد أن يرد الناقة في يومين إن لم أخبره.
قالت رفيقة بدهشة:
- وقد سلخنا ثمانية أيام حسوماً ،وصاحبك بعد لم يظهر. هل الأيام تفرق من أرض لأرض؟ هل الوقت يمر بصحرائنا كما مثليه عند أهل المدينة وما وراءها؟
وتناظر الرجال مرتبكين من قولها ،وقال هادي بسرعة:
- لا تتخبطوا لدينا الشيخ لنسأله.
وطلعت الشمس من الشرق على خمسةٍ وسادسهم ناقتهم ،إذ ألقت رأسها بين رؤوسهم وأرغت في الحديث حتى لم يجد مسمع سمعاً ،فركلها الكهل يريد سكوتها ،فرفسته بين رجليه فوقع على ظهره وصرخ واستنجد ،وكانت تخفي تحت رموشها الضافية شيئاً يجهلونه. وخطى الشيخ بعصاه القصير اتخذه من جذوع الشجر فابتعد ،ونظروا إليه وإلى الناقة فإذا حدة نظرتها تتلاشى مع آخر ظهور لساق الشيخ يكشفها ثوبه الذي ترفعه الرياح ،خلف ظرِب قريب. واتبع الرجال الشيخ فاستفسروا فلم يزد على أن قال:"لن تراعوا لن تراعوا ،هذه الدابة تخشى رجلاً أشيباً ،وقد اطمأن قلبها." ثم خاطب هادي وضم الجميع في الخطاب:"لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون. نحن تزيد لحظاتنا ولا يكون لها أبداً أن تنقص ،فويل للذي تزيد أيامه وتنقص أعماله ،ويل له" "أما رجلك فقد زل إذ روعك بهيئة الإنسان الذي لا يأتي قول وفِعال إنسان. وأحسب أن كتاب الله العظيم هو ضالته". وتأهبت الجندية لحديث فكفاها الشيخ عناء السؤال وتقدم منها بخطوات وئيدة:"وأما يا أمة الله فصل قولك ،فاعلمي أن أيام العسرة قد حسبتها فلم تزد عن حسبة هادي إذ كان في البعيد يوماً. وإن في الأرض التي نزل إليها آدم أغوار كثار ،وفي بروج السماء أسرار خافية". ثم أمر ببعض الثياب وشيء من الحبر ،فأتاه هادي بثياب المدني البالية جمعها في صرته ،فأمر أن تكتب كلمات الله في أنحاءها النظيفة ،فاعترض الكهل بشدة قال:"والله لا تكتب كلمات الله في بالٍ متسخ" وأوحى الشيخ إلى الرجال أن يكتبوا مكان القلب من الثوب وأعلى ،وأن يقطعوا مكان البطن منه وأدنى. وبحثوا فلم يظفروا بالحجارة واستكرهوا ثقلها. وخط هادي من فَي الشيخ ما يمليه بقلم يرجه طلباً لماءه بعد كل حرف ،كلمات من هدي الكتاب في صدره ،وأجاد كتابته في أقصى مدى يصل إليه قلم الجندي.
سار الرجال مع راكبهم حتى إذا لم تؤثر أخفاف الناقة في الأرض جعلوها جادة مسافرهم ،وودعوه. وتوجه الشيخ تلقاء الشمس يسأل ربها الحفظ لحبيبهم فيه ،وكثير من الخير. وتلوى فؤاد رفيقة جزعاً وهي ترمق سواد رأسه يغيب في التلال ،واقترحت إليه أن تآزره سالفاً ،فرفض.
واستمرت صحراءه تقلّبه في الظلام إلى النور ،حتى حاذى موطن قوم فسلم عليهم وما كان لهم أن يردوا عليه إلا أسماءهم مسحتها الرياح ،وإذا سمة القبر أخذته الريح.
وأتى طرف المدينة الحبيس فحيى الصابرين فيه على أذى الجنود ،وألقى موعدة إليهم أنه مستنصر لهم. وعثر على سور قديم محيط بأرض موات ،كأنه الحصن فأودع دابته فيه ،وخرج. واتصل بأهله من أهل المدينة فعزروه ونصروه ،ونام تلك الليلة تحت سقف عدو له ولهم. ونادته الفتاة التي تناصره في الإصباح وأجاب طلبها فدخل. قالت له بحبور:"إني أتيتك بخبر. إن القوم أتوا خبيراً فرسم لهم تضاريس صحرائكم. يقول المطلعون أنها تنتهي خلال شهر ،وتبدأ مناورتهم للنازحين اتكالاً إلى خريطته". حدق فيها ثم سألها بعد مدة:"أتحشرين نفسك بينهم؟ أتقدرين على هذا؟"
- إن عملي يا سيدي يخالطني بأصحاب الشأن وأفراد الشرطة ،إني وزميلة لي نحقق في قضية ممرضة أسيرة.
عاجلها القول:
- ممرضة؟ التي سجنت بتهمة القتل؟ جريمة منزل المعمر؟
- نعم..هو سيدك. إننا نسأل كثيراً بشأن طفل هارب ،لا تعلم والدته أين ولى..
- إلياس ،هل تعرفين منزل والدته..أريد أن اتصل بصبية يعرفهم.
- كان هذا اسمه. إننا نبحث حول ثائر آخر أيضاً..جندي رافق السجينة كثيراً في جلسات تعذيبها الخارجية..ربما تعرفه..هو فرد ضمن كتيبة كنتَ منها..رجل أجلف غليظ ،لسانه سليط وبذلته يقتسمها اثنان من الرجال الضخام.
قال وفي صوته رنة سخرية:
- لدينا جنود كثر بمواصفات بطلك ،فلا أحدد في ذكري أحد.
وسكتا طويلاً ثم قالت الفتاة:"لقد تبدلت الباعة الذين أشتري منهم إلى سوق آخر ،هل يعجبك هذا؟"
- أشتريتِ الطعام؟
- نعم ،خبأته في غرفتي...
فنهض وأقبل عليها باسطاً كفيه ،وقامت إلى لقائه وقد توترت أطرافها واحمرت وجنتها ،وكان في مرأى وجهه في عينها شعور غير الذي يظهره. واندفعت فتقدمت خطوة منه فارتد إلى الوراء محرجاً ،وقبض على يديها في يديه ونظر في عينيها ،فأخبرها أنه ممتن لها ،ثم أفلت يديها وذهب يريد سماع صوت المدينة. ونظرت المتيمة إلى كوبه الذي لم يمسه ثم إلى الباب الذي أخرجه ،فما رجعت بغير صوت البراد الرتيب ،في المطبخ. لقد تبوأ الرجل منزلة غير هينة في قلبها الواسع ،وصدوده عن نزولها كمالك أعطي مفاتح داره التي اشتراها فرفض أخذها ،فما يكون شعور البائع حينئذ فذلك شعورها!
ومع تبدل لون السماء إلى حمرة الغروب ،آب إلى ناصرته في عقر دار عادِيْه ،وأزال لثام وجهه وشكرها على ثيابه وطعامه ،قال:"لا أود أن تهترىء هذه الثياب ،لقد أفادتني"
- دعها ستراً لجسدك وزينة ،إنها ليست من خزانة أبي.
فلم يتفوه بكلمة ،وقالت له بصوتها البريء:"قد غسلت ثيابك ،إني في فراغ كبير صباح عطلتي". ثم خرجا إلى حديقة المنزل وجلست الفتاة على جذعه المنخفض من شجرة التين وسط أحواض من الغرس. قالت بينا تمسد ورقة بيدها:"قد زرعت أمي هذه الشجرة ذات يوم كنت حينها لا أنطق حاء وخاء". ثم نادته باسمه وانتصبت ،ورفّت أشجار البستان الصغير لتطل على حديثهم وأصغت فسكتت. وسكنت ياقة معطف الرجل وأكمام ثوب المرأة ،وقالت في هدوء:"هل تبقى هنا..يا سيدي..أو تأخذني معك"
- ليست مواطن الجفاف والخوف مناسبة لفتاة رقيقة.
ثم سحق ورقة أوقعتها الشجرة تحت قدمه ،وتحدثت الفتاة بحماسة وأمل:"إني معتادة على الظروف القاسية ،إني أرافق الرجال في توثيق الحدث ،ذلك عملي يا سيدي"
- هل تتركين لفظة سيدي..لا أتفضل عليك بشيء وأدين لك بالكثير.
فانقبض وجهها وهي تقول:"هل ستعود يا هادي؟"
- إن أمكن لي ذلك. غايتي الأولى أن أحمي نور الشيخ.
ونظر إليها وسط طوق أحواض الزنبق الأبيض الذي أحاط بالباسقة ،وتذكر الغانية وشعرها الطويل في خواء الصحراء يومه ذاك ،وتذكر نفوره من ضحكتها ومرحها الصاخب. ثم نظر ،إلى بياض ثوبها الخفيف وبتلات الزنبق الأبيض من حولها ،فألقى كفه فوق رأسها وانسابت أصابعه الخشنة بسلاسة مع شعرها البني الناعم. حظيت يده بلمسة نقية إلى حمامة السلام ،وهناك في صدرها بياض غاشم لا يقدر أن يلمسه.
إلى الفصل الحادي عشر بإذن الله
المفضلات