شبهات حول الصديق رضي الله عنه -2- :



مسألة فدك

أرض فدك قرية في الحجاز كان يسكنها طائفة من اليهود، ولمّا فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر، قذف الله عزوجل في قلوبهم الرعب، فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فدك، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنها مما لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب.



وأرض فدك هذه لا تخلو من أمرين:
إما أنها
إرث من النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضوان الله عليها أو هي هبة وهبها رسول الله لها يوم خيبر لفاطمة.
فأما كونها إرثاً فبيان ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضوان الله عليها لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه تطلب منه إرثها من النبي صلى الله عليه وسلم في فدك وسهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وغيرهما.
فقال أبو بكر الصدّيق: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إنّا لا نورّث، ما تركناه صدقة)) متفق عليه ، وفي رواية عند أحمد ((إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث))، ولم ينفرد أبو بكر برواية هذا الحديث، بل أمهات المؤمنين وعلي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد رضي الله عنهم أجمعين.
فوجدت فاطمة على أبي بكر ؛ بينما استدلت رضوان الله عليها بعموم قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ، ولقد صح حديث ((إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث)) عند الفريقين السنة والشيعة، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((...وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)) .
قال عنه المجلسي:
(حسن أو موثق لا يقصران عن الصحيح)!!
وقد إستشهد بهذا الحديث الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية حيث قال : رجال الحديث كلهم ثقات .



وأما الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى عن زكريا عليه السلام :
{فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} ، على جواز توريث الأنبياء لأبنائهم استدلال غريب وذلك لعدة أمور هي:
أولاً: لا يليق برجل صالح أن يسأل الله تبارك وتعالى ولداً لكي يرث ماله فكيف نرضى أن ننسب ذلك لنبي كريم كزكريا عليه السلام في أن يسأل الله ولداً لكي يرث ماله ! ، وإنما يسأل الصالحون ما ينتفعون به كالذرية الصالحة التي يرجون نفعها يوم القيامة، فأراد زكريا عليه السلام من الله عزوجل أن يهب له ولداً يحمل راية النبوة من بعده، ويرث مجد آل يعقوب العريق في النبوة.
ثانياً: المشهور أنّ زكريا عليه السلام كان فقيراً يعمل نجاراً، فأي مال كان عنده حتى يطلب من الله تبارك وتعالى أن يرزقه وارثاً، بل الأصل في أنبياء الله تبارك وتعالى أنهم لا يدخرون من المال فوق حاجتهم بل يتصدقون به في وجوه الخير.
ثالثاً: إنّ لفظ (الإرث) ليس محصور الاستخدام في المال فحسب بل يستخدم في العلم والنبوة والملك وغير ذلك كما يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، فلا دلالة في الآية السابقة على إرث المال.
رابعاً: حديث ((إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم)) الذي ذكرناه آنفاً يتضمن نفي صريح لجواز إرث أموال الأنبياء، وهذا كاف بحد ذاته.
وكذلك الحال في قوله تعالى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، فإنّ سليمان عليه السلام لم يرث من داود عليه السلام ؛ المال، وإنما ورث النبوة والحكمة والعلم لأمرين اثنين: الأول: أنّ داود عليه السلام قد اشتُهر أنّ له مائة زوجة وله ثلاثمائة سريّة أي أمة، وله كثير من الأولاد فكيف لا يرثه إلا سليمان عليه السلام ؟!!
فتخصيص سليمان عليه السلام حينئذ بالذكر وحده ليس بسديد.
الثاني: لو كان الأمر إرثاً مالياً لما كان لذكره فائدة في كتاب الله تبارك وتعالى، إذ أنّه من الطبيعي أنّ يرث الولد والده.
وقد اعترف بهذا المعنى مفسرو الشيعة الاثني عشرية فصاحب التفسير المبين محمد جواد مغنية من كبار علمائهم المعاصرين يقول عند تفسير هذه الآية:
"الملك والنبوة".



ثم أعلم أن المرأة
لا ترث في مذهب الإمامية من العقار والأرض شيئاً، فقد بوّب الكليني باباً مستقلاً في الكافي بعنوان (إنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً) روى فيه عن أبي جعفر قوله: "النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً".
ورووا عن ميسر قوله: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء ما لهن من الميراث؟ فقال:
لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب فأما الأرض والعقار فلا ميراث لهن فيهما" بحار الأنوار (101/351)، الانتصار للعاملي (7/287)..

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:
"النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً"، وعن عبد الملك بن أعين عن أحدهما إ قال: "ليس للنساء من الدور والعقار شيئاً" الكافي للكليني (7/129)، تهذيب الأحكام للطوسي (9/299). .


فدك لو كانت إرثاً من النبي صلى الله عيله وسلم لكان لنساء النبي ومنهن عائشة بنت أبي بكر وزينب وأم كلثوم بنات النبي حصة منها، لكن أبا بكر لم يعط ابنته عائشة ولا أحد من نساء النبي ولا بناته شيئاً استناداً للحديث، فلماذا لا يُذكر هؤلاء كطرف في قضية فدك ؟!!



إذا كانت فدك هبة وهدية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضوان الله عليها كما يروي ذلك الكاشاني في تفسيره، فهذا يتعارض مع نظرية العدل بين الأبناء التي نص عليها الإسلام.
فكيف يهب صلى الله عليه وسلم السيدة فاطمة فدك دون غيرها من بناته؟!!
فكلنا يعرف أنّ خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة بينما توفيت زينب بنت رسول الله في الثامنة من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في التاسعة من الهجرة، فكيف يُتصور أن يُعطي رسول الله فاطمة رضوان الله عليها ويدع أم كلثوم وزينباً؟!!
والثابت من الروايات أنّ فاطمة رضوان الله عليها لمّا طالبت أبا بكر بفدك كان طلبها ذاك على
اعتبار وراثتها لفدك ، لا على أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.



ولذا فإنّ فدك لم تكن لا إرثاً ولا هبة، وهذا ما كان يراه الإمام علي نفسه إذ أنه لمّا استُخلف على المسلمين لم يعط فدك لأولاده بعد وفاة أمهم فاطمة.
يقول المرتضى (الملقب بعلم الهدى):"إنّ الأمر لمّا وصل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كُلّم في رد فدك، فقال:
(إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر) الشافي في الإمامة (4/76). .



وقد احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: (وقد روينا عن السفاح أنه خطب يوماً فقام رجل من آل علي رضي الله عنه قال: أنا من أولاد علي رضي الله عنه ، فقال: يا أمير المؤمنين
أعدني على من ظلمني.
قال: ومن ظلمك؟ قال:
أنا من أولاد علي والذي ظلمني أبو بكر حين أخذ فدك من فاطمة، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عمر ، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عثمان ، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكاناً يهرب منه..).
وعن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله :
«أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك» ‎.
وعن الباقر رحمه الله أنه لما سئل: "أرأيت أبا بكر وعمر، هل ظلماكم من حقكم شيئاً - أو قال: ذهبا من حقكم بشيء؟ فقال:
لا، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً، ما ظلمنا من حقنا مثقال حبه من خردل، قلت: جعلت فداك أفأتولاهما؟ قال: نعم ويحك! تولهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عنقي، ثم قال: فعل الله بالمغيرة وبنان، فإنهما كذبا علينا أهل البيت" شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (16/220)، السقيفة وفدك للجوهري (ص: 110). .



أن فاطمة رضي الله عنها قد
رجعت عن قولها في المطالبة بإرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة الحديث والسير.
قال القاضي عياض رحمه الله:
(وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم للإجماع على القضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل، تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر، وعمر رضي الله عنهم )‎.
وقال القرطبي رحمه الله:
(فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد إليه)‎.



فظهر بهذا
رجوع فاطمة رضي الله عنها إلى قول أبي بكر وما كان عليه عامة الصحابة، وأئمة أهل البيت من القول بعدم إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو اللائق بمقامها في الدين والعلم.
أما جملة
(فهجرته فلم تكلمه) الواردة في الرواية، فقد بين الترمذي في سننه، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة، أن المقصود هو أن فاطمة رضي الله عنها تركت تكليم الصديق رضي الله عنه في أمر الميراث.



أنه ثبت عن فاطمة رضي الله عنها أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، يقول ابن الميثم البحراني وهو من كبار علماء الإمامية:
"أن أبا بكر قال لها - أي فاطمة -: أن لك ما لأبيك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من فدك قوتكم، ويقسم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه" شرح نهج البلاغة - لابن ميثم البحراني ج 5 (ص:107) ط طهران..

ومثل هذ الكلام ذكره الدنبلي في شرحه(الدرة النجفية (ص:331، 332) ط. إيران.).
وقال: إن أبا بكر كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها.. حيث ذكروا:
(إن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي فدك) فيدفع إليهم (أي أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4. ( شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج 5 (ص:107) ( الدرة النجفية (ص:332) ( شرح النهج - فارسي لعلي نقي ج 5 (ص:960) ط طهران ). .



إرث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يورث يرثه ثلاثة: فاطمة وأزواجه وعمه العباس.
أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث. أنثى.
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة.
والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الباقي تعصيباً.
فلماذا لم يأت العباس وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويطالبون بإرثهم من النبي صلى الله عليه وسلم ؟!.



وسنُتْبِعُها بآُخْرى .....