السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال الله تعالى في سورة ابراهيم الاية :
(
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( 42 )
يقول [ تعالى شأنه ] (
ولا تحسبن الله ) يا محمد (
غافلا عما يعمل الظالمون ) أي : لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم ، لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا أي : (
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أي : من شدة الأهوال يوم القيامة .
تفسير ابن كثير
إن من أشد الأمور حرمةً، وأسرعها عقوبة، وأعجلها مقتًا عند الله وعند المؤمنين, ومن أشد ما يُؤثِّر في النفس، ويذهب إنسانيتها، ويحيل قلب صاحبها من اللحم والدم إلى أن يصير كالحجارة أو أشد قسوة، هو ذلك الداء الخطير والشر المستطير الذي انتشر في الوقت الحاضر انتشارًا ينذر بالخطر، وبانتقام الجبار جل جلاله, ألا وهو الظلم.
فقد تفشى الظلم في مجتمعاتنا ليس على مستوى الأفراد فحسب, بل حتى على مستوى الأقارب والأرحام
والأصهار، بل وحتى على مستوى المجتمعات والشعوب والدول، نسأل الله السلامة والعافية.
الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، ولو بغى جبل على جبل لدُكّ الباغي منهما.
الظلم منبع الرذائل، ومصدر الشرور، وهو انحراف عن العدالة، ومتى فشا وشاع في أمةٍ أهلكها، وإذا حل في قريةٍ أو مدينةٍ دمّرها.
الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو أيضًا عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل وفيه نوع من الجور؛ إذ هو انحراف عن العدل.
قال البعض: الظلم ثلاثة:
الأول ـ أن يظلم الناسُ فيما بينهم وبين الله تعالى:
وأعظمه الكفر والشرك والنفاق،
ولذلك قال تعالى: {
إن الشرك لظلم عظيم} (سورة لقمان:13)،
وإياه قصد بقوله: {
ألا لعنة الله على الظالمين} (سورة هود:18).
الثاني ـ ظلم بينه وبين الناس:
وإياه قصد بقوله: {
وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (سورة الشورى:40) ،
وبقوله: {
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة الشورى 42) .
الثالث ـ ظلم بين العبد وبين نفسه:
وإياه قصد بقوله: {
فمنهم ظالم لنفسه} (سورة فاطر:32)،
وقوله على لسان نبيه موسى: {
رب إني ظلمت نفسي} (سورة القصص:16)،
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس،
فإن الإنسان في أول ما يهمُّ بالظلم فقد ظلم نفسه.
قال الذهبي: «الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلمـًا، وظلم الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء»،
وقد عده من الكبائر، وبعد أن ذكر الآيات والأحاديث التي تتوعد الظالمين،
نقل عن بعض السلف قوله: «لا تظلم الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء»،
ثم عدد صورًا من الظلم منها:
أخذ مال اليتيم ـ المماطلة بحق الإنسان مع القدرة على الوفاء ـ
ظلم المرأة حقها من صداق ونفقة وكسوة ـ ظلم الأجير بعدم إعطائه الأجر.
ومن الظلم البيِّن الجور في القسمة أو تقويم الأشياء،
وقد عدها ابن حجر ضمن الكبائر.
وقد وردت النصوص تذم الظلم:
قال تعالى: {
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} (سورة الكهف:59)
وقال سبحانه: {
وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (سورة الزخرف:76)،
وقال: {
والله لا يحب الظالمين} (سورة آل عمران:57)،
وقال: {
ولا يظلم ربُك أحدًا} (سورة الكهف:49)،
وقال: {
وما ربك بظلام للعبيد} (سورة فصلت:46)،
وقال: {
ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} (سورة الشورى:45)،
والآيات كثيرة في القرآن الكريم تبين ظلم العبد لنفسه،
وأن هذا الظلم على نوعين:
الشرك،وهو أعظم الظلم كما بينا،
والمعاصي،
قال تعالى: {
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} (سورة فاطر:32)،
أما ظلم العبد لغيره بالعدوان على المال والنفس وغيرها،
فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} (سورة الشورى:42).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته،
ثم قرأ: {
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} »
(رواه البخاري ومسلم).
وفي الحديث: «
اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»
(رواه مسلم).
وعن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأبي سلمة بن عبد الرحمن، وكان بينه وبين الناس خصومة:
يا أبا سلمة اجتنب الأرض ، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين»
(رواه البخاري ومسلم).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا»
(رواه الترمذي).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل ـ نصيب ـ من دمها، لأنه كان أول من سنَّ القتل»
(رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»
(رواه مسلم).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم»،
وكان معاوية رضي الله عنه يقول:
«إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصرًا إلا الله»،
وقال أبو العيناء: «كان لي خصوم ظلمة، فشكوتهم إلى أحمد بن أبي داود، وقلت: قد تضافروا عليَّ وصاروا يدًا واحدة، فقال: يد الله فوق أيديهم، فقلت له: إن لهم مكرًا، فقال: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، قلت: هم من فئة كثيرة، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
وقال يوسف بن أسباط: «من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يُعْصَى الله في أرضه».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لما كشف العذاب عن قوم
يونس عليه السلام ترادوا المظالم بينهم، حتى كان الرجل ليقلع الحجر من أساسه فيرده إلى صاحبه».
وقال أبو ثور بن يزيد: «الحجر في البنيان من غير حله عربون على خرابه».
وقال غيره: لو أن الجنة وهي دار البقاء أسست على حجر من الظلم، لأوشك أن تخرب».
وقال بعض الحكماء:
«اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك، لا يعجبك رَحْبُ الذراعين سفَّاكُ الدماء، فإن له قاتلاً لا يموت».
وكان يزيد بن حاتم يقول: «ما هِبْتُ شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك».
وبكى عليٌّ بن الفضيل يومًا، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غدًا بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة.
ونادى رجل سليمان بن عبد الملك ـ وهو على المنبر ـ: يا سليمان اذكر يوم الأذان، فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله تعالى: {
فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} (سورة الأعراف:44).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام».
وقيل: إن الظلم ثلاثة:
فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب،
فأما الظلم الذي
لا يغفر فالشرك بالله، نعوذ بالله تعالى من الشرك، قال تعالى: {
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (سورة النساء:48)،
وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضًا،
وأما الظلم المغفور الذي لا يطلب، فظلم العبد نفسه.
ومر رجل برجل قد صلبه الحجاج، فقال: يا رب إن حلمك على الظالمين قد أضر بالمظلومين، فنام تلك الليلة، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى ذلك المصلوب في أعلى عليين، وإذا منادٍ ينادي، حلمي على الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى عليين.
وقيل: «من سَلَبَ نعمةَ غيرِه سَلَبَ نعمتَه غيرُه»، ويقال: «من طال عدوانه زال سلطانه».
قال عمر رضي الله عنه: «واتقِ دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة».
وقال عليٌّ رضي الله عنه: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى استشرى، وبسطوا الجور حتى افتدى»، وقيل: «أظلم الناس من ظلم لغيره»؛ أي لمصلحة غيره.
وقال ابن الجوزي: «الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالبًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، ولو استنار بنور الهدى لاعتبر».
وقال ابن تيمية: «إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة»،
ويروى: «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة».
الرجاء عدم الرد ...
المفضلات