سَأُورِدُ لَكُم فِي هَذَا المَوضُوعِ مُتَشَابِهَاتِ سُورَة الفَاتِحَة مَعَ ذِكرِ الحُجَّةِ وَالبَيَانِ نَقلاً بِتَصَرُّفٍ عَن كِتَابِ :
"البُرهَان فِي تَوجِيهِ مًتَشَابِه القُرآنِ لِمَا فِيه مِن الحُجَّة وَالبَيَان"
تَألِيف : بُرهَان الدِّين أَبِي القَاسِم مَحمُود بنِ حَمزةَ بنِ نَصر الكرمَانِي "تَاج القُرَّاء"
تَحقِيق وَشَرح وَتَعلِيق : الدكتُور / السَيِّد الجمِيلِي .
************************************************** **
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1»
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ «2» الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ «3» مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «4» إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «5» اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ «6» صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ
عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ «7» .
1- أَوَّلُ المُتَشَابِهَاتِ قَولُه {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ*مَالِكِ}[4,3] فِيمَن جَعَلَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} آيَةً مِن الفَاتِحَة . وَفِي تكرَارِه قَولان : قَالَ عَلَيُّ بنُ عِيسَى* : إِنَّمَا كُرِّرَ للتَوكِيدِ , وَأَنشَدَ قَولَ الشَّاعِرِ :
هَلاَّ سَألتِ جُمُوعَ كندةَ ** يَومَ وَلَّوا أَيْنَ أَيْنَا ؟
وَقَالَ قَاسِمُ بنُ حَبِيبٍ** : إِنّمَا كُرِّرَ ؛ لَأنَّ الرَّحمَةَ هِي الإِنعَامُ عَلَى المُحتَاجِ , وَذَكَرَ فِي الآيَةِ الأُولَى المُنعِمَ , وَلَم يَذكر المُنعَم عَلَيهِم ؛ فَأعَادَهَا مَع ذِكرِهِم , وَقَالَ :{رَبِّ العَالَمِينَ*الرَّحْمَنِ}[3,2]لَهُم جَمِيعًا يُنعِمُ عَلَيهِم وَيَرزُقُهُم .
{الرَّحِيمِ} بِالمُؤمِنِينَ خَاصّة يَوم الدّين , يُنعِمُ عَلَيهِم وَيَغفِرُ لَهُم*** .
2- قَولُه تَعَالَى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[5] كَرَّرَ {إِيَّاكَ} وَقَدَّمَه , وَلَم يَقتَصِر عَلَى ذِكرِه مَرَّةً ؛ لَأنَّ فِي التَّقدِيمِ فَائِدَةً , وَهِي قَطعُ الاشتِرَاكِ -أَي إِشرَاك شَيء بِالعُبُودِيَّةِ أَو الاستِعَانَة مَع اللهِ تَعَالَى- , وَلَو حُذِفَ لَم يَدُلّ عَلَى التَّقدِيمِ ؛ لِأَنَّكَ لَو قُلتَ : إِيَّاك نَعبُدُ وَنَستَعِينُ , لَم يَظهَرْ أَنَّ التَّقدِيرَ : إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ , أَم إِيَّاكَ نَعبُدُ وَنَستَعِينُكَ , فَكُرِّرَ .
وَقَالَ النَوَوِيُّ : كُرِّرَتْ إِيَّاكَ المُفِيدَة لِلحَصرِ , وَتَقَدَّمَت لِلتَّصرِيحِ بِتَوكِيدِ حَصرِ الإِخلاصِ فِي العِبَادَةِ لَـه وَحَصرِ الاستِعَانَةِ أَيضًا بِه تَعَالَى .
3- قَولُه تَعَالَى : {صِّرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم}[7] كَرَّرَ "الصِّرَاط" ؛ لِعِلَّةٍ تَقرُبُ مِمَّا ذُكِرَت فِي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ : المَكَانُ المُهَيَّأ للسُّلُوكِ , فَذَكَر فِي الأَوَّلِ المَكَانَ , وَلَم يَذكُرْ السَّالِكِينَ , فَأَعَادَه مَعَ ذِكرِهِم , فَقَال : {صِّرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم}**** أَي الَّذِي يَسلُكُه النَّبِيّون وَالمُؤمِنُون ؛ وَلِهَذَا كُرِّرَ أَيضًا فِي قَولِه : {إِلَى صِّرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*صِّرَاطِ اللهِ}[الشُّورَى:35,52] ؛ لِأنَّه ذَكَرَ المَكَانَ المُهَيَّأ**** ؛ وَلَم يَذكُر المُهَيّىء , فَأعَادَه مَعَ ذِكرِه , فَقَالَ : {صِّرَاطِ
اللهِ} أَي الَّذِي هَيَّأه لِلسَّالِكِين .
يُلاحَظُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِإضَافَةِ النِّعَمِ إِلَيه دُون الغَضَبِ , فَلِذَلِكَ لَم يَقُلْ : غَيرِ الَّذِين غَضِبتَ عَلَيهِم , كَمَا قَالَ : "أَنعَمتَ عَلَيهِم" وَهُو مِن بَابِ الأَدَبِ من السَّائِلِ فِي حَالِ السُؤالِ , وَمِنه {بِيَدِكَ الخَيرُ} آل عِمرَان 26 وَلم يَقُلْ وَالشَرّ , وَنَبَّه عَلَى ضِدّه بِقَولِه : {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} . رَاجِعْ أَيضًا فَتَاوى النَوَوِي (ص170) مَسأَلة(8) .
4- قَولُه : {عَلَيْهِم} لَيسَ بِتِكرَارٍ ؛ لِأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِفِعلٍ غَيرِ الآخَرِ , وَهُو الإِنعَامُ وَالغَضَبُ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنهُما يَقتَضِيه اللفظُ , وَمَا كَان هَذَا سَبِيلُه فَلَيسَ بِتكرَارٍ , وَلا مِن المُتَشَابِه .
*: هُو عَلِيّ بنُ عِيسَى بنِ عَليّ بنِ عَبدِ اللهِ أَبُو الحَسنِ الرمَانِي , المُتَوفِّي 384ه . إنبَاه الرُّوَاة (2/294) وَتَارِيخ بَغدَاد (12/16) وَنزهَة الألبَاء (318) وَبُغيَة الوِعَاء لِلسِيُوطِي (2/181) وَالنُجُوم الزَاهِرَة (4/168) وَطَبَقَات النُّحَاة (174) وَطَبَقَات المُفَسِّرِين (24) .
**: هُو قَاسِمُ بنُ حَبِيبٍ مِن نُّحَاةِ الطَبَقَة الرَّابِعَة بِالقَيرَوَان . طَبَقَات النَّحَوِيين وَاللُّغَوِيين لِلزَّبِيدِي (372) . وَذَكَرَه السيُوطِي فِي بُغيَة الوِعَاءِ (2/252/1917).
***: رَاجِعْ فَتح الرَّحمَن لِلشيخِ زَكَرِيا الأَنصَاري (ص17) .
****: فَتح الرَحمَن للشيخِ زَكَرِيَّا الأَنصَارِيّ (ص18) .
المفضلات