[قصة قصيرة] | إِلـْفٌ |

[ شظايا أدبية ]


النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    الصورة الرمزية للذكرى حنين

    تاريخ التسجيل
    Mar 2007
    المـشـــاركــات
    1,537
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي [قصة قصيرة] | إِلـْفٌ |




    السَّلامُ عَلَيكم ورَحْمَةُ اللهِ وبَركاتُه
    أرْجُو أنْ يَكُون الجَميْعُ بكلِّ الخيرِ والعافيةِ.




    هذهِ قصَّةٌ شاركتْ بمنافسةٍ هنا، ووعدتُ أختي العزيزة وقارئتي الوفية
    (أصيل الحكايا) أن أنقلَها للقسمِ؛ لتنال مزيدًا من النقدِ وحدها.
    ومزيدًا من القراءةِ لمن أرادَ التفرُّغَ لقراءةِ قصةٍ طويلةٍ.
    وفي نفسِ الوقتِ تنشيطٌ لعضويتي التي تكادُ تقتصرُ على المراقبةِ والتحديثِ والتخطيطِ فقط ^^.

    وضعتُ إهداءً طويلًا -أو ثرثرة بالأصح-قبل القصةِ، وسأقتطعُ منه لأورده لكم، فمن لا يريد مقدمات يتجاوزها بكل سرورٍ.

    وكلي أملٌ بجميل كلمكم ونقدكم البنّاء، فشكرًا لمن سيحضرُ مقدّمًا.




    (ما قبل القصة): ثرثرةٌ كتابية
    "الحقيقة أفضل من الخيال؛ فالشيء إذا كان حقيقيًّا فهو حقيقيٌّ، ولا ذنب لك في ذلك" (أمبرتو إكو).

    حين أبلغتني اللجنة عن مضمون المنافسة؛ كنتُ متحمّسةً جدًّا، ووسط ظروف صحتي قبيل رمضان قبلتُ بها، بالأحرى قبلتُ بالنصف الأول منها.
    كان شرطها كتابةُ نصٍّ مفتوح الطول والعرض –مجازًا- عن إلفين (بكسر الهمزة) تفرّقا ثم التقيا يومًا، والنصفُ التالي اكتشفته بعيد رمضان، وكان أصعب من سابقه. ولأنني أعلمُ يقينًا أن قراءة هذه السطور ستؤثر سلبًا في استنتاج القصة؛ آليتُ أن أؤخرها رغم أنها أسبقُ في الكتابة من تحرير القصة نفسها، لكن اثنتين من أصل ثلاثة فتيات أشارتا عليّ أن من الحكمة أن أضعها ابتداءً وهكذا فعلتُ.
    لا أنكرُ أن قصصي تصطبغُ بشيءٍ من خيالي، بالكثير منه ربما! لكنه خيالٌ منطقيّ؛ لذا أُخضعها لمخاضٍ عنيفٍ قبل أن أترك وثاقها، خاصةً بعد نقاش محاولةٍ روائية لي. ذلك الخيالُ الذي أبحثُ فيه جميع الاحتمالات (الواقعية) للقصة، رغم أنها خيالٌ محضٌ؛ فبكل بساطة أريدها أن تحيا في ذهن القارئ اليوم وغدًا وبعدٍ غدٍ كحقيقةٍ ربما واجهها أو واجه نصفها أو جزءًا صغيرًا من عُشرِها. وفي بحثي عن نصٍّ ما، أبحثُ عن البشر أنفسهم، عما تقوله أعينهم، عن ذكرياتهم المخبّأة وسط دوامة الحياة، وحتى أجد الخيال الذي أريده؛ لا يولد نصّي!
    بعضُ ما في هذه القصة واقعي، ربما حقيقة أو حدث واحد، لكنه لا يحكي قصة شخص بعينه، بل يحكي الموقف نفسه، لربما تعجّب قارئي حين علم أنني توقفتُ مرارًا وتكرارًا حين فكّرتُ في النص لهذه المنافسة؛ لأنني لا أعرف كيف أكتبها! ولأنني أحتاج أن أعرف حقًّا أكثر مما يُمكنني تخيله، وبدرجةٍ لا تلغي احتمالية الواقعية في قصتي.
    لا أحب أن أجعل قصصي مجرد خيالٍ غريب؛ لا يمكنه أن يكون أب القارئ أو أمه أو أخته يومًا، ولا حتى نفسه التي بين جنبيه، وكذا لا أحبها واقعية صرفةً تحكي قصة شخصٍ ما؛ لأنها ستكون –برأيي- أكثر جمالًا ومصداقية لو رواها بنفسه، لو روت الأم قصة موت طفلتيها فستكون أصدق من آلاف الكلمات التي قد أصفها بها، ولستُ كالمنفلوطي أو الرافعي اللذين ستفرطُ الدموع من قراءة وصفهما للقصة أكثر من سماعها من شخوصها.
    أخبرني أستاذي يومًا أن الكاتب سيقول ما لم يقله غيره، كما لو أنه هو، أنني سأكون اللسان الذي لا يستطيع غيري الحديث به أفضل مما أفعل، وأخبرني آخر أن أتريث، وتلك نصيحةٌ غاليةٌ أدركتُ الكثير منها خلال بحثي عن هذا النص، كانت لدي عشرات الطرق للأحداث والتقلبات، استبعدتُ الكثير منها، بتساؤل مني نفسي ومن غيري عن إمكانية حدوثها دون أن تخدش منطقية الحدث الخيالي، وكذا كان عليّ أن أقرأ شخصيات وعيون أفرادٍ فقدوا ألّافًا، ووقتها علمتُ أن الجميع فقد إلفًا؛ لأنها سنّة الكون. وكذا كان محكومًا عليّ بنهاية القصة، ولم أردها تراجيدية أليمة، لكنني أردتها كذلك بطريقةٍ ما! أردتها أن تكون دموع القارئ الذي سيتذكر –حين قراءتها- أليفًا ذهب يومًا، وجمعته معه ذكريات عزيزة، وأردتُ كذلك أن أخبر قارئيّ؛ أن الواقع –أحيانًا- قد يكون أقوى خيالًا من الخيال نفسه! فاجتماع هذه الأمور في حياة شخصٍ أو أشخاصٍ ممكنةٌ وقد تكون قصتي هي قصة شخصٍ ما دون أن أدري.
    تحيتي للّجنة الحليمة، ولجميع من سيقرأ ويعترف أنها قصةٌ ستبقى في ذهنه زمنًا.






    إِلْفٌ[1]
    (قصّة طويلة)






    - مدخلٌ: "الصديق هو الذي إذا حضرَ رأيتَ كيف تظهرُ لك نفسك؛ لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسستَ أن جزءًا منك ليس فيك" (الرافعي).


    (1)
    - لا إله إلا الله...
    تبسّمَ (إسافٌ
    [2]) حين سمعَ الجملة من الرجل القابع بقربه، ندرَ أن يتنصّت على المكالمات الهاتفية، لكن رنّة الجملة في خلاياه كانت فريدةً، ذكّرته بعينين قديمتين ظنّ أنه نسيهما.
    يصعبُ على البشر توقعُ احتماليات التذكر لعيون أحبتهم؛ ربما لأنها لا تحتلّ الحيز الأكبر في الاهتمام إلا حين يبرز الحب أو الموت أو الفراق أو حديثٌ عن ذكرياتٍ ما، وقتها تنظرُ مباشرةً إلى عيني من أمامك؛ تريدُ أن تقرأ روحه بشغفٍ؛ لأن الكلمات ما عادت تكفي، ولسببٍ ما لن تستطيع رسم عيون أهلك المقرّبين يومًا، لكن إسافًا يُمكنه رسم عيني ذلك الرجل؛ لسببٍ لا يزال يجهله!
    تلك العينان اللتان برزتا في مخيلته حين سمعَ نصف جملة التوحيد الكامل، والتي لطالما تبادلها مع ذلك الرجل في نهاية كل اتصالٍ بينهما؛ كانت لغةً التقطاها من زميلٍ مصريٍّ أيام الثانوية، ضحكا كثيرًا على العادة الغريبة لختم الاتصالات بهذا النمط، حتى علِما أنها تعني أنك تودُّ لقاء ذات الشخصِ أيامًا ودهورًا، ومن يومها.. لم يتركا هذه العادة يومًا، حتى تبعثر الزمان بينهما.
    عينا ذلك الرجل كانتا مرحتين، لكنهما كانتا أكثر ذكاءً وحدّةً من أن يُقال عنهما أنهما لعوبتين، ولطالما فكّر إسافٌ أن عينا رفيقه تصلحُ لتكون عيني محقق جنائي، أو رجل دولةٍ من الطراز الأول، هل كان يتوقعُ مستقبل زميله لمجرد قراءة عينيه؟
    - هه.
    أصدرها إساف بعد سفرٍ قصيرٍ لماضٍ عتيقٍ أدركَ أنه كان بعيدًا جدًّا، مرت عشرون سنةً منذ افترقا، كان دربه في الحياة عاديًّا وأفضل مما كان يأمل، تزوّج وأنجب (عَمْرًا)
    [3]، وإخوته. دأب على الذهاب لاجتماع المدرسة السنويّ على أمل أن يلتقي صاحب العينين ثانيةً، ورغم ذلك ما يزال يلتقي بالثرثار (عقيل) كل مرةٍ، ويعود بخفين وجعبةٍ من حنينٍ، حتى قرّر التوقف عن الحضور للاجتماع ساعة مندم.
    الساعةَ، وبينما يتأمل في الوجوه في المشفى؛ أدركَ أنه ما يزال يتساءلُ عما يفعله الإلف الآن.



    (2)
    "مقياس الصداقة الوحيد هو الذكريات والضحكات والسلام والحب" (ستيوارت ولندا مكفارلين)
    - ما اسمكَ يا صغيري؟
    - إسافٌ.
    انخفضت ابتسامة الملاطفةِ التي علّقها (يامينُ)
    [4] على صفحة وجهه؛ عاد به رأسهُ إلى زمنٍ بعيدٍ جدًّا، إلى طفلٍ رافقه من الروضة وحتى أول سنةٍ خطاها في الجامعة، إلى الرفيق الهادئ الذي ظلّ محتفظًا بالجزء الثاني من جملة التوحيد آخر كل مكالمةٍ (محمد رسول الله)، وتساءلَ إن كان الصديقُ التليد قد أصبحَ معلّمًا كما تخيّل.
    ذانك النحيلُ الذي لطالما استمتع بمشاكسته، لم يره بعد البعثة العلمية خارج البلاد، ولم يستطع إيجاد وقتٍ ليملأ به إجابةً للتساؤلات أو حتى ليلتقي به في الاجتماع الذي يُطالبه به زميلهما المرِح عقيلٌ.
    تذكر أنشودة (عاشرتُه عشرين عام)، وابتسمَ:
    - إنها حقًّا عشرون عامًّا، لكنها أعوامُ فراقٍ، ولم يثبت لنا منها حتى سلامٌ واحدٌ.
    حاول أن يضع الأسباب المنطقية التي حالت دون اللقاء بينهما، وراح يعدُّ:
    - البعثة العلمية وقت الجامعةِ، زواجي وأبنائي منذ سن الخامسة والعشرين، عملي كرجلِ دولةٍ...
    تجهّم مدركًا أن السبب الرئيس هو أنه لم يحضر يومًا الاجتماع المدرسي السنويّ، ولم يُعمل معرفته طوال ذلك الجزء الذي عاشه من القرن العشرين بحيثُ يختلسُ معلومةً صغيرةً متمثلةً في أرقامٍ هنديةٍ لهاتفٍ قديمٍ يجمعه بصديقٍ غالٍ شاركه مقاعد الدراسة دومًا، شاركه بالكثير.. أكثر من من مجرد أخشاب طاولة وزياراتٍ ومكالمات.
    والآن وهو يرفلُ في الخامسة والأربعين، وينتظرُ مكالمة المشفى العاجلة؛ ليقرروا حالة كليته، حنّ لأن يرى تفاصيل وجه الصديق النحيل يومًا.



    (3)
    "كانت صداقتك لي -ولا زالت- بركةً كبرى لحياتي" (جوليا ودجوود)
    - تحتاج إلى عملية زرع كليةٍ جديدة.
    سطّر الطبيب حكمه للأب والابن أمامه، تناثرت أمامه مجموعةٌ من أوراق الفحوصات والتقارير لرجل الدولة الكهل، نظر إليهما ثانيةً وأردف:
    - لكنك غير ملائمٍ للتبرعِ كما طلبتَ يا (تميم).
    عبس الشاب أمامه لفترة وأطرق، قدّر فيها الطبيب أنه يقلب الأمر في رأسه، ولم يوقف الطبيب سير الأمر؛ لثقته أن الإجابة ستأتي من الشاب قريبًا.
    رفع الشاب رأسه أخيرًا، وقال: هل من متبرعٍ صالحٍ في الوقت الحالي؟
    حك الطبيب ذقنه مفكرًا واسترخى، شعر أن المشاهد تتكرر اليوم كثيرًا وكأنه في مشهدٍ مصورٍ، هنا حيثُ جلس فتى يسبق تميمًا، وسأل ذات السؤال، ما كان اسمه؟ أكان عمرو؟ ركّز الطبيب نظره ثانيةً، وقال: تقتضي السريةُ ألا أخبر بالمعلومات الكاملة، لكنني سأجيبُ على قدر سؤالك، أجل. هناك متبرعٌ صالحٌ بمثل عمرك، وبالمقابل أنتَ صالحٌ للتبرع لوالده وهذا ما أردتُ إطلاعك عليه، ولك فرصةٌ قصيرةٌ للتفكير والتقرير مع والدك في هذا الشأن.
    رد الكهلُ: شكرًا لك أيها الطبيب، سأردُّ خلال يومين.
    بعد يومين، كان الطبيب يجهّز ورقتين للعمليات، إحداهما لمريضٍ اسمه (إسافٌ)، والأخرى لمريضٍ باسم (يامين).



    (4)
    "الصداقة -بالنسبة للشباب- تأتي كجلال الربيع، غامضةَ الميلاد، معجزةً في جمالها.. والصداقة بالنسبة للشيوخ هي زهرةٌ من زهرات الخريف لم تفقد جمالها" (هوج بلاك)
    كان على عمروٍ الاستعداد باكرًا للعملية اليوم، أراد أن يهدأ طوال ليلة الأمس من قلق التفكير في القادم، ذلك القلق الذي يُرافق من يضع قدمًا أخرى في عجلة الحياة، ويقرّر قرارًا كما فعل، شعرَ بدفقةٍ من الأمل حينَ أُخبر أنه يُنقذُ روحًا أخرى تعرضت لشراسة الشعور بفقد الكلى، وتذكر الغسيل الموجع لوالده كل حينٍ، ووقتها وافق على المبادلة الطبية للغريب.
    نُقل إلى غرفةٍ متوسطةٍ تفوحُ منها رائحة المحاليل الطبية، ويغطي كل جزء منها ستارةٌ تفصلُ بين مريضٍ وآخر، وتكوّم الأطباء والممرضات في منتصف الغرفة مرحبين ببعضهم البعض، بينا انتظر عمرو قدوم سرير والده بعده.
    سمع إجابة الشاب في السرير المجاور: تميم بن يامين.
    قدّر أن الشاب متوترٌ مثله، وكان آخر ما سمعه أن الشاب بنفس عمره، ثم التفت إلى طبيبٍ حضر للتو.
    ولم يكن تميمٌ أقل توترًا من عمرو، تنفس الصعداء مرارًا، حاول القيام بعددٍ من تمارين التنفس البطني؛ ليخفف من حدة قلقه، ثم تشاغل بالانتظار، ذلك الشاغل الذي يترك ذهنك خاليًا إلا منه، لا شيء ينثال لذهنك سوى محاولة استجماع أمرٍ أو شخصٍ أو ربما الاستماع إلى امرئ يتحدث بجانبك. وتلك الأخيرة هي من التقط زمامها تميم قبيل العملية، سمع اسم الشاب بجانبه وعمره وأنه سيتبرّع اليوم بكليته لرجل في الأربعينات، وأنه لم يسبق له إجراء عمليات من قبل.
    ودّ لو يعبرُ المسافة الفاصلة بين السريرين ويزيح الستار ليرى الشاب، حاسةٌ سادسةٌ أخبرته أن الشاب القريب بأقل من مترٍ هو ذاته المتبرع لوالده، وأن المسافات الفاصلة القصيرة لطالما كانت مفتاحًا للقاءاتٍ متجددةٍ، لكنه أحجم؛ كيلا يُخالف سرية المعلومة، وكيلا يقع ضحية ظنٍّ لم يؤكد بعدُ.
    نُقل أربعة أشخاصٍ إلى غرفِ العمليات، وخرج ثلاثةٌ منهم بعدها إلى غرفهم سالمينَ.



    (5)
    "لستُ قويًّا، ولا هو قوي.. لكننا معًا نشكل أقوى القوى في هذا الكون، هذه هي الصداقة" (عن لندا ماكفارلين-بتصرّفٍ)
    غادر عمرو مع والده غرفة المراجعة بعد أسبوع العملية، أخبرهما الطبيب أن الحالة مستقرة وجيدة، وأوصاهما بالالتزام بمواعيد العلاج سيما إساف، قلب الصفحة عند وصولهما للعتبة وهتف للممرضة: نادي تميمًا بن...
    كانا قد خرجا قبل أن يسمعا بقية الاسم، لكن عمرًا رنّت بداخله الذكرى، فترفّق في مشيته؛ علّه يدركُ الشاب الذي رافقه هواء غرفة المشفى يومًا، وعندها التقى بعينين مرحتين لشابٍّ عريض المنكبين، طويلٍ أسود الشعر، يرتدي سترةً وبنطالًا، تنحّى جانبًا حين مرّ الشاب ثم تحرّك بوالده نحو السيارة.
    خطا تميمٌ لغرفة الطبيب؛ فرحّب به، عاين الطبيب جرحه وألفاه قد التأم جيدًا، قرأ الفحوصات، وسأل تميمًا:
    - كيف تشعرُ الآن؟
    - بخيرٍ والحمد لله.
    - كيف حال والدك أيضًا؟ أهو بخيرٍ؟
    - هو كذلك، قاموا بمتابعة ضغطه بكثافةٍ بعد النقل؛ حتى اتزن واستقامت حالته.
    - حمدًا لله؛ كنا قلقين من حالته الحرجة بعد العملية حتى وصلتنا الموافقة بالنقل إلى المشفى الذي يقطنه والدك الآن، علي أن أقول إنه كان أمرًا مفاجئًا اكتشاف حاجته لعمليةٍ أخرى عاجلة لا تتوفر لدينا كامل أدواتها وطاقمها، فكان الاختيار الأنسب أخذ موافقة والدتك ونقله فورًا لمشفى آخر.
    - الشكر لله ثم لكم، هو يبلغكم خالص شكره وتحيته.
    - ذاك واجبنا يا بنيّ.
    ربّت الطبيب على كتف تميمٍ، ثم حرّر ورقة العلاج وودعّه جذلًا.
    تحرّك تميمٌ وفي رأسه آلاف الأسئلة عن الشاب رقيق الجسم الذي سبقه، والذي أصبح وجهًا مألوفًا كلما حضر لموعدِ المراجعة الدوري في المشفى.



    (6)
    "الصمتُ وبعدُ المسافة جزءٌ من نسيج أية صداقة حقيقية" (روبرت إزرائيلوف)
    مرّ شهران منذ أن زُرعت كبدان في جسدي كهلين، وانتُزعت من جسدي شابيّن، تلك المنحةُ الغاليةُ وهبت للشابين حبًّا أعمق للعطاء، ذانك العطاء الذي يزيد الكون إشراقةً بامتداد حياةٍ أخرى، تتنفس معك، وتحيا معك، بيد أنها قد لا تلتقي بك يومًا!
    تفكّر تميم بالشهرين الماضيين حينما جلس إلى مائدة الطعام مع والده، وبكمّ المواعيد الذي بدأ يتقلّص تاركًا فسحةً من أنفاسٍ يلتقطها عائدًا للدراسة.
    - فيمَ تُفكّر؟
    أعاده سؤال والده إلى المائدة، كما لو أنه سافر لهنيهاتٍ خارج سرب الجدران حولهما، دقّق قليلًا فيما يأكله والده، وتحرك لسانه سريعًا:
    - أبي.. أنت تأكل مأكولات بحرية!
    لاحظ ذلك منذ عدة أسابيع إلا أنه عزاه إلى اختلاف الظرف الصحي وما يعتريه من تغيّر الأنظمة الغذائية للمرضى، لكن والده لن يأكل مأكولات بحرية! قطعًا لا!
    - وجدتُ أنها ليست سيئةً كما ظننتُ.
    - ...!
    يُمكنُ لتميمٍ أن يعدَّ أمورًا بدت غريبةً على قاموسه كابنٍ هنا، سمع عن أناسٍ تتبدل عاداتهم
    [5]، لكنه لحظ بعدها أمورًا كثيرة، رياضات لم يحبها والده قط، وبدأ يمارسها، مأكولات يؤكد أنه لا يحبها لكنه اليوم يأكلها!
    أن تبدّل قلبًا مكان قلبٍ أو كليةً مكان كليةٍ لهو لغزٌ حيٌّ في عالم الطب والنفس، أولئك الذين تغيرت نفوسهم بين ليلة وضحاها بعد عملية زرع العضو كانوا أشد الناس إلغازًا للباحثين عن لقمة معلومةٍ يستنبطونها من خلايا وعقول مرضاهم.
    والساعةَ يسائلُ تميمٌ نفسه: هل يُمكن أن يكون الشاب الآخر هو الحل؟
    ذات السؤال خطر ببال عمرو وهو يهتف لوالده لعاشر مرةٍ: ليس هكذا يا أبي!
    - حنانيك بني! ما زلتُ أجرّب.
    - لستُ أفهم سرّ اهتمامك المفاجئ بالتقنية؛ كنتَ دومًا تهرب منها بحجة أنك ابن القرن العشرين! حتى إنك لم تشترِ هاتفًا نّقالًا إلا منذ عدة سنوات فحسب، مخبرًا لنا بأن الهاتف العادي كان وما يزال أعظم تقنيةٍ في التأريخ، وأننا ندمّر الروابط الرائعة بهذه الالكترونيات!
    صمت إسافٌ برهةً، ثم ردّ: هو كذلك، أتعلمُ أنني لولا الله ثم هو لفقدتُ صديقًا غاليًا، كان هاتف صديقي أعلى رنينًا، وأكثر تأثيرًا من ملوك المال في هوليوود
    [6]!
    - نحن ندور في دوامة زمنٍ يا أبي! وقرننا هو القرن الواحد والعشرون، هذه الأجهزة ستساعدكَ كما فعل هو، كلُّ ما عليكَ هو أن تُغامرَ هذه المرة بمفردكَ.
    - ما بهجةُ المغامرة إذا لم يُشاركك فيها صديقٌ؟
    - والدي!
    - حسنًا، حسنًا.. هلّا أعدتَ شرحَ ذلك الجزء ثانية؟
    - إلهي!
    ابتسمَ إسافٌ: سأشهدُ لك بأنك إنسانٌ صالحٌ للاستخدام الآدمي إن أتقنتُها.
    ضحك عمرو هذه المرة، يبدو أن الزميل الشاب الذي أرسل لوالده بكليته قد خبّأ دسائس مرحٍ فيها!



    (7)
    "الحزن يُلغي نفسه، أما الفرح فإن معناه الكامل لا يكتمل إلا إذا شاركك فيه آخر" (مارك توين)
    (تبدأ الآن مسيرة كلية...)
    علا الصخبُ أذني إساف، تطاول قليلًا في كرسيه؛ ليرى عمرًا بشكلٍ أوضح، يوم التخرج الأسمى لفلذة كبده، طفرت عيناه قليلًا ثم تجلّد، ما كان يذكره ذاك إلا بنفسه يومًا، وبأليفٍ قديمٍ.
    بعض مسرّاتِنا مسراتٌ لأفئدتنا دُفنت بين السنين، حتى إذا ما استدعاها حدثٌ طفت على سطح أدمغتنا تُطالب بفدية الشعور بها، وإنّا –إذ ذاك- نسدّد الدين في دموعٍ أو ابتساماتٍ.
    يومُ تخرّج عمرو كان بهيًّا بكل شيء، كان أبهى مما يتذكره إسافٌ عن حفله هو، كان قلبه اليوم قلب أب. يتناغم وجيب قلبه مع لحظة السعادة التي ملأت سحنة ابنه الأكبر، ويعزفُ آلاف المعاني وإن لم يكن شاعرًا فذًّا، ولولا أنه كان في آخر المقاعد لأسرع إلى الشاب الصغير واحتضنه وقبّل رأسه.
    وطافت نفسُ يامين فرحًا بمقدم موكب ابنه ضمن مسيرة التخرّج، كان يجلسُ ضمن كبار الشخصيات، لمح ابنه يرفع يده محيّيًا فندّ عن شفتيه ارتكاب ابتسامةٍ حانية، وأرسلت نفسه ذكرى خبيئةِ وعدٍ بينه وبين صديقٍ تليدٍ نحيلٍ.
    انفضّ الجمعُ وتزاحم الناس، كان إسافٌ يبحثُ في الجموع عن عمرو، وكان يامين يبحث عن تميم، خيّل إلى كلٍّ منهما مرأى مألوف، وطفق إسافٌ يُعالجُ نظره؛ كي يتأكد أنه ربما رأى عينين ذكيتين قبل أن يصله صوت ابنه من الخلف يحثه على الخروج.
    خطا يامينُ خارج الجمع مع ابنه، فرك جبهته متذكرًا وشاكًّا، أكان يرى خيالات رؤاه وسريرة نفسه؟ استقلّ السيارة حاملًا بين جنبيه إعادة وعدٍ ما استطاع إلى إنفاذه سبيلًا.



    (8)
    "(ابق معي!).. كلمةٌ جذابة في قاموس صديقٍ" (لويزا ماي ألكوت)
    ضغط يامين على البوق بعصبيّة، كان واضحًا أن السائق قبله يسير على مهلٍ لا يساير عُرف باقي السيارات!
    -رجلٌ هادئ جدًّا.
    علّق يامين على سائق السيارة البيضاء قبله، بدا ظاهرًا للعيان أن السائق يحسب حساباتٍ دقيقة للمسافة والمكان؛ ما يعطّل زمن يامين.
    اليومَ يومٌ فريدٌ في حياته، يومُ وعدٍ دأب على تذكره كل عامٍ، إلا أنه لم يجد وقتًا ليفي به.. اجتماعاتٌ وسفرٌ وأوراقٌ حالت دون حضوره كلّ عامٍ، اتكأ على حافة النافذة وفكّر: أما زال إسافٌ يتذكّر؟
    خطر له سائق السيارة البيضاء فجأةً، سيما وأنه التفت لذات الطريق إلى بيت أم وائل، لكنه عدَل عن الفكرة فور انعطاف السيارة لمكانٍ قريبٍ، وحينها كان يامين قد وصلَ إلى وجهة الوعد.
    ترجّل حاملًا هديته، ونظر إلى البيت المتواضع أمامه، وزفر عندها هتافات الماضي، وصداقةً عتيقةً غُرست في ذكرياته، وامرأة عجوزًا تعاهد مع إساف على رعايتها كل عامٍ، وزيارتها مرةً في العام.
    إن كان من أمٍّ يلتمس منها دعاءً في جنح الليل بعد أمه فهي أمُّ وائلٍ، في روحها عبقٌ يكفي لأن تودّع حياتك لساعةٍ وأنت تسمع حكاياتها.
    طرق الباب وانتظر، في جوانحه تمنّى لو يطلّ وجه الصديق القديم تلو اللحظة، لكنّ الوجه الذي أطلّ كان عجوزًا ملفّعةً بخمار رقيقٍ تسألُ عن الطارق.
    -أنتَ!
    ابتسمت عينا يامين بحنانٍ، عاد شابًّا صغيرًا تُشرقُ الحياةُ في كونه، كانت حدقتا أم وائلٍ تنضحُ بالدموع، بدا وكأنها تنضحُ بدماء روحها أنئذٍ، سلّم عليها وعرّف بنفسه.
    - السلام عليكِ يا خالة، أنا يامين.
    همهمت العجوز بكلماتِ ندبةٍ ودعواتٍ جعلت من الاتزان شيئًا صعبًا، ابتسمَ يامين رغمًا، ودعته للدخول ليشرب الشاي.
    حدّثها عنه، عن تلك السنين التي مرّت دون أن يراها، وأنه كان يُرسل شخصًا غيره؛ لكثرة مشاغله، وعندها اعتذر كما لو كان ابنها العاق الذي أدرك أنه لا عُذر إلا باعتذارٍ!
    كان ينتظرُ طرقةً على الباب منذ حفل التخرج، أو وجهًا نحيلًا يُطلُّ عليه فجأةً، أنشأ يضع الاحتمالات لوجه رفيقه القادم، ورغم أنه لم يسأل العجوز عنه.. شعرَ أنه قادمٌ لا محالة.
    تلك الوعود التي نقطعها مع الأرواح القديمة المحبّة، نعلمُ يقينًا أنها ستغدو وتروح إلى أمكنة اللقيا بلا كلل، مهما تطاول العمر، ومهما تغيّرت النفوس، وكان ذلك عهدُ يامين بإسافٍ دومًا.
    رنّ الجرسُ فاضطرب يامينُ قليلًا، سرت رعشةٌ طفيفةٌ في أضلاعه ترقبًا، كل اللقاءات الحاسمة تطبعُ الكثير، وكان ذلك لقاءً فريدًا انتظره دومًا، نهض مستأذنًا الخالة في فتح الباب عنها، توجه تلقاء الباب، وفتحه قليلًا، أبصرَ السيارة البيضاء أولًا فعبس، ثم لمح صندوقًا ونصف رجلٍ، تنحّى قليلًا ليمرّ الرفيق، ونظر إليه متسليًّا.
    استغرب إسافٌ فتح الباب دون السؤال المعتاد، والسيارة الجديدة أمام المنزل، وفراغ المكان واتساعه فجأةً حين أدخل صندوق الفاكهة، رفع رأسه بعد أن وضع الصندوق.
    -السلام عليكِ يا خـا...
    وصمتَ، اصطدمت عيناه بحدقتين مبتسمتين، وبوجهٍ ضاحكٍ يعلوه شعرٌ فضيٌّ، وبشيءٍ ما.. ما لبث أن عرفه.
    - أنت ... يامين؟
    - كيف حالك يا رجل؟
    هبّ واقفًا واحتضن زميله، ضحكَ يامينُ وربّت على ظهره.
    - هرمتَ يا ذا الساقين النحيلتين!
    - يا للمفاجأة! اشتقت إليك يا صاح!
    شدّ يامين على يد صديقه القديم، ألفاه نحيلًا كما كان، بشعرٍ قليلٍ وبسحنةٍ أكثر سمرةً مما عهدَ، تفرّس فيه وشدّ يده أكثر.
    إن كان من دفء وقوةٍ يمنحها تلامس الأكف؛ فإن كف الصديق هي أعظم دفءٍ بعد طول حنينٍ، وإن كان من صوتٍ يعيدُ خلاياك الرمادية إلى مواقعها القديمةِ فهو صوتُ الصديق؛ حاضرٌ كطائر الربيع، منسابٌ كدفق مشهد الشروق، باذخٌ بكل الأماني الجليلة.
    كفُّ يامين كانت بلسمًا للسنوات التي مضت، وعيناه كانت شريطًا مليئًا بذكريات الطفولة والصبا، وابتسامة إساف كانت ثروةً ضخمةً مغمورةً في وجه رجلٍ.
    لطالما يتحضّر الناس إلى اللقاءات المترقبةِ بإحصاء الأسئلة والحكايا التي يُخيّل إليهم البوح بها: كيف كنت؟ أين عشت؟ هل ما زلتُ أعيشُ في ذات مكاني العزيز من مضغة قلبك؟ لكنهم وفور اللقاء يطمسون كل شيء، تُطمس ذاكرتهم التي درّبوها، تخرسُ ألسنتهم التي أطلقوا حبستها منذ زمنٍ، تتجاوب أجسادهم عكسيًّا، وربما مرّ الوقتُ في البحثِ عن كسرةِ كلماتٍ تجمعهم.
    كذا كان حالُ الرجلين المجتمعين بعد أكثر من عقدين؛ مُحي من ذهن يامين كلُّ ما كان مخططًّا له، وأسعفه ذكاؤه بالسؤال عن الحال الاجتماعيةِ على الأقل:
    - كم لديكَ من الأبناء؟
    - خمسةٌ، أكبرهم عمروٌ. ماذا عنكَ؟
    كان إسافٌ ينقّبُ عن كلماتٍ ومعلوماتٍ أراد معرفتها عن الصديق القديم، لكن نظرةً أولى أخبرته بالكثير، ونظرةً أخرى أخرست ذاكرته عن التنبؤ.
    - أربعةٌ، أكبرهمٌ ذكرٌ مثلك واسمه تميمٌ.
    - جعلهم الله قرة عينٍ لك.
    - وإياكَ، علّنا نحظى بفرصةٍ نجمعُ فيها لمّ الشباب فهذا جيلهم.
    - سيسعدُ ابني بذلك، سأعطيك رقم هاتفي النقال.
    - أوه! لقد انتقلت إلى طور القرن الحالي يا رجل! لم أعهدك مهتمًّا بالتقنية.
    - أنا كذلك منذ سنواتٍ قليلة، تقريبًا منذ أجريتُ عمليةَ زرعٍ لكليةٍ.
    - حقًّا؟ عافاك الله. إنها لصدفةٌ جميلة أن أعلم أنك زرعت كليةً مثلي!
    - أفعلت؟
    - أجل، وأصبحتُ أعشق المأكولات البحرية.
    ابتسمَ إسافٌ: لا يا رجل، ذاك تطورٌ مذهلٌ. لابد أن أشكر المتبرع لأنه أضاف حسنةً إليكَ.
    - أنا بصدد شكره لو كانت هويته معروفةً لي، أعلم أنه شابٌّ صغيرٌ بعمر ابني، وما عدا ذلك فإني خاوي الوفاض منه.
    - أنا كذلك! لو لقيته لسلّط ابني عليه لسانه، عادات الرفيق ممتعةٌ وغريبةٌ، وإن كنتُ أشكُّ في أن الأمر ممكنٌ ابتداءً.
    ضحك الكهلان، وتبادلا أرقام الهواتف. أنعشتهما قهوة أم وائلٍ فطفقا يتحدثان عن أيام الطفولة وشقاوة الصبا، تحدثا كما لو أنهما صديقان افترقا بالأمس واجتمعا اليوم، صمتا كثيرًا، كان كلٌّ منهما يرى صاحبه بعين الأمس، ويحدّث نفسه: "إن كنتَ في أعين الناس قد تغيرتَ، فأنتَ كما أنت في عيني، لم يُلحق بك كرُّ السنين سوى القليل من الأذى"، ورغم اختلاف الجلد وإنهاك الأعين ووخط الشعر الفضي، ألفيا روحيهما يافعتين محلّقتين زمنًا، كان زيفُ المسافةِ وهمًا صنعته الكتبُ؛ المسافةُ والمقياسُ رمزٌ لخيطٍ رفيعٍ ووتينٍ في الفؤادِ يُسافرُ معك حيثُ كنتَ، يكمن وهمها في أنكَ ستضعُ ألّافك في مستوياتٍ ودرجاتٍ، وما ذاك بصداقةٍ؛ فأينما كنتَ فإن أصدقاءك هم عالمك المحيطُ بك، هم نسمة الهواء العليلةِ ليلةَ صيفٍ، وهم كوبُ قهوةٍ فارغٍ احتسيته ذات نهارٍ حين تتصفحُ كتابك المدرسي، وهم كلُّ الصفاء إذا أدلج ليلك، وادلهمّت خطوبك، وهم لوحدهم من تُضاعفُ بهم نفسك، وتحيا في أنفسهم حتى إذا ما غاب أحدهم عنك حنّ سائرك إليكَ.
    وكان في صمتِ الصديقين آلاف العبقريات والمعاني للصداقة الحقة بعيدًا عن بلايين الكلمات التي حارت في تعريف وتصنيف الصداقة الحقيقة؛ ذلك أن الصمتَ أبلغُ تعريفٍ وأصدق برهانٍ للموافقة الروحية، وأن الكلام وإن طال في تقرير المودة والتوثق فإنه لابد من فعلٍ وقول حقٍّ يوازن مرآة نفسك الأخرى؛ و"لن يكون الصديقُ صديقًا إلا إذا عرفَ لك الحق، وعرفتَ لهُ الحبَّ"
    [7].
    انتهى اللقاء بعناقٍ آخر، تبعهُ تنهّدٌ من يامين، فكّر بصوتٍ عالٍ: لم أسأله عن يوم عميلته؟



    (9)
    "قد يبتعد الصديق بعدًا قد لا يمكنك الالتقاء به بعد ذلك، ومع هذا.. يبقى جزءًا منك إلى الأبد" (بام براون)
    ككل اللحظات العميقة التي تذوبُ بظرف الزمنِ؛ انقطعت الاتصالات بين الصديقين بعد خمس سنواتٍ، كان الهاتفُ النقال حينها بريدًا زاجلًا أعاد الكثير، بيد أنه لم يعد كالماضي؛ فعملُ يامين في سلك الدولة يحكُم وقته، وانشغال إساف بالتعليم وتصريف أمور بيته تحدُّ من مواصلة الخط الرفيع من التمسك بالأمسِ.
    بدا ليامين كما لو أنه فقدَ شخصًا قديمًا من جديدٍ، ومات شيءٌ منه يُسمّى الصديق يوم أن فقد الاتصال برفيق صباه، حثّه ذلك الشعور على أن يسعى ليرى أي الدروب ستوصله إلى إسافٍ يومًا، وما استطاعَ.
    افتقدت المكالماتُ العادة الغريبة القديمة، لم يجرؤ أيٌّ من الصديقين على البدء بها أو على إحيائها؛ خوفًا مما قد يكون عليه صديقه اليومَ. لكنهما دأبا على تذكرها بعد انتهاء الحديث المقتضب في كلِّ اتصالٍ.
    استراح يامينُ على كرسيه في القطار مفكّرًا، جال ببصره على المسافرين معه في الدرجة الأولى، وتمنّى لو يتقاسم لحظة السفر مع صديقه التليد.
    -سنصلُ المدينة قريبًا، ربما الساعة القادمة.
    أخبر إسافٌ ابنه عن موعد وصول القطار، كانت القاطرة مزدحمةً بصخب الأطفال وأصوات النساء مما أربك نومه وأنهكَ تفكيره.
    أنهى الاتصال وعاد محاولًا النوم عبثًا في كرسي الدرجة العادية للقطار، راجع نفسه: لو أحضرتُ عمرًا للارتحتُ قليلًا، لكن موعد المشفى...
    حينها دهمه النعاسُ ثانيةً.
    وقتها، دسّ عمروٌ الهاتف بعد الاتصال بوالده، وتطلّع إلى الزميل الذي تغيّر خلال السنوات القليلة الماضية، ابتسمَ مرحّبًا بتميمٍ، وأتاح له مكانًا بجانبه.
    سعلَ تميمٌ، كانت الحمى قد أرعدت فرائصه، وعربدت في عظامه، وجدّ في السعي للمشفى بعد لأيٍ.
    ووجد الرجل القديم، وتذكرَ سنة التبرع تلكَ، سلّم عليه كزميلٍ يلتقي زميلًا شاركه أشياء، وخبّأ له أشياء..
    خطر لعمروٍ أن يستفتح الحديث بما يجمعهما، بالمشفى أو بـ.. التبرع ربما؟
    - كيف حالك يا...؟
    - تميمٌ، أنا بخيرٍ ولله الحمد. شكرًا لك.
    - أنصحك بعصير الليمون، سيفيدك كثيرًا.
    - سأفعلُ...
    - أشعرُ أنني التقيتكَ من قبلُ؟
    - نحن نلتقي طوال سنةٍ ما، وكل ذلك ما يزال في حيز شعورك؟!
    - أعني... في غرفة العمليات؟
    - آه.. أجل، كنتَ الشخص بجانبي ربما.
    - كنتُ سأتبرّع بكليتي يومها.
    - أنا كذلكَ، لرجلٍ كهلٍ ربما يبلغ الآن شيئًا من الخمسين أو حولها.
    - أنا كذلكَ..
    أعملَ عمرو ذهنه، اتفاقُ الغرفة، اتفاق المواعيد، اتفاقُ اليوم، وقتها تحدّث بصوتِ عقله:
    - هل تحبُّ التقنية؟
    - ما مناسبةُ السؤال؟
    - أشكُّ أننا تبرّعنا في برنامج المبادلةِ يومها، والدي في عمر المتبرّع له بوصفكَ.
    - ووالدي أيضًا! لا تعلمُ كم يرغبُ بشكرِ الرجل الذي تبرّع له كثيرًا.
    - أمن طريقةٍ لنعرفَ؟
    - المعلومات سريّةٌ، ربما تنجحُ بعضُ العلاقات في هذا الأمرِ، انتظر لحظةً.
    انتعشَ جسدُ تميمٍ لدقائق، تحرّك مبتعدًا ومتحدثًا مع عددٍ من الموظفين ووصولًا إلى الطبيبِ، ثم عاد بابتسامةِ انتصارٍ.
    -تهانينا يا رفيقي، حدسكَ صوابٌ.
    -رائــعٌ، لا أطيقُ صبرًا لأخبر والدي.
    - أنا أيضًا.
    رفع الشابان السماعة، أخبر تميمٌ أباه أنه وجد المتبرّع وأنه بجانبه، اتسعت ابتسامة يامين متحمسًّا، ردَّ: حمدًا لله، ما اسمه؟
    - عمرو بن.. إساف!
    - إساف؟
    رمى يامينُ آخر بصيصٍ للشكِّ: أين درس والده في الثانويةِ؟
    سأل تميمٌ عمرًا الذي كان يشرح لوالده أن الرجل الثاني رجل دولة، سأل إسافٌ: أيُعقلُ أن اسم والده يامين؟
    - أجل! أين درست الثانوية يا والدي؟
    - إنها .. المدرسة التاسعة والعشرون، أين والده؟ وهل لي برقم هاتفه؟
    - رويدكَ والدي.
    قطّب تميمٌ للأصوات الصاخبةِ المفاجئة بعد صوت والده، رفع صوته: والدي! أأنتَ بخيرٍ؟
    وانقطعَ الصوتُ عن الشابين.
    بعد دقائق أعلنَ التلفاز المحليّ اصطدام قطارين قرب المدينة.



    (10)
    "إذا مات لي صديقٌ؛ سقط مني عضوٌ". (أبو حاتم السجستاني)
    ارتجّ رأسُ يامين من قوة الاصطدام، ارتطم بالنافذةِ ثم غاب عن الوعي، كان آخرُ ما سمعه أو فكّر فيه صورة الصديق القديم الذي لمس خيط نورٍ بالعودة إليه، بسماع صوته المبتهج، وباكتشاف روعة المصادفة في حياتهما.
    ومثل كل اللحظات البديعةِ التي تنتهي فجأةً، كان الألمُ الصارخُ في بطنِ إسافٍ يطحنُ آخر مقاومةٍ له، لكنّهُ تجلّد؛ كي لا يفقد وعيهُ فلا يُلفي لحظةً أخرى من الحياةِ.
    كان الناس يصرخون، وكأن ما حوله قطعةٌ من قيامةٍ صُغرى، تستحضرُ فيها كل حياتك ولحظاتك، وترغبُ بهبةٍ أخرى من الحياة، مبتدئًا بـ: لو قُدّر لي العيشُ ثانيةً...
    بدأ الخدرُ يتسلّلُ على إوصاله، أدركَ أن وعيه قاب قوسين أو أدنى، وقدّر أنه أُصيب بنزفٍ داخليٍّ.
    زفر الهواء بصعوبةٍ، ثم سحبهُ شابٌّ عريضٌ إلى سيارة الإسعاف خارج القاطرةِ، وعالجه بالتنفس وجس نبضه.
    - يُعاني من نزيفٍ داخليٍّ، ويجبُ نقلهُ حالًا.
    - هناك مريضٌ ثانٍ في نفس حالته، إلا أن النزف في رأسه.
    - أنطلبُ طائرةً؟
    - أخشى أن نفقد الوقتَ، ونحن قرب المدينة، لننقلهما معًا.
    فتح يامين عينيه بصعوبةٍ، التقط الطبيب استجابتهُ وسأله عن اسمه؛ ليتأكد من وعيه، أجاب:
    - يــا .. مين.
    حرّر الطبيب اسمه، وثبّته على السرير في السيارة، التفت إسافٌ وسعلَ دمًا؛ فهبّ طبيبٌ آخر إليه، نظر فإذا صديقه بجانبه، خُيّل إليه أن صدى فكره يترددُ في عينه، وأن مكالمةً طويلةً على وشك أن تنتهي، دون أن يقول الجملة التي أرادها. مدّ يده.
    - سيدي، أتحتاج شيئًا؟ يفضّل ألا تتحرك فذلك قد يضرُّك.
    - يامين.
    نطقها بصعوبةٍ، فتحدث الطبيب المقابل: أتعرفه؟ سأحاولُ أن أجعلهُ يراكَ.
    سمعَ يامينُ صوت صديقٍ قديمٍ يطرقُ سمعه، بدا كلحنٍ عتيقٍ يزوره، أراد أن يُصافح الصديق ويشدُّ على يده ثانيةً.
    - سيدي، زميلك في السيارة، أعني.. المريض المقابل يبدو وكأنه يعرفكَ، سأجعلكَ في وضعٍ تستطيع فيه رؤيته.
    لم يقوَ على الرد، حرّكه الطبيب بحذرٍ، ورأى بضبابيةٍ وجهًا مألوفًا، وجسدًا نحيلًا، ويدًا ممتدّةً إليه، تحركت شفتاه تلوّنانِ ابتسامةً، ومدّ يده. أيقن أن سائره لا يشعر به، لكنه وجد صوته أخيرًا:
    - لا إله .. إلا اللهُ.
    شدّ الصديقُ على يده، ورأى الضباب يعلو ويصطبغُ بالرماد، ردَّ إسافٌ: محمدٌ رسولُ الله.


    - مخرجٌ: "كان السرّ الوحيد يكمن في اتصال أزليّ بين شخصين" (بودورا ولتي).

    -انتهت-



    [HR][/HR]
    [1] الإلف: أي الأليف، بكسر الهمزة.

    [2] إساف: اسم صنمٍ لقريش، أو اليم الذي غرق فيه فرعون وقومه، واسم صحابييّن.

    [3] عَمْرو: تُنطقُ بكل لطفٍ بفتح العين، وسكون الميم ودون نطقِ الواو، سيُقصمُ ظهركَِ إن سمعك متخصص لغةٍ تزيد الواو كمتشدق J، ستبدو وكأنها: عمروووووًا، إضافةً إلى أنها مصروفةٌ عكس عُمَر، ولذا ستفارقها الواو؛ لأن وظيفتها التفريق بين الاسمين حالي الرفع والجر.

    [4] يامين: اسمُ صحابيٍّ وتابعيّ.

    [5] هناك حالاتٌ لمرضى قلبٍ تبدلت عاداتهم الغذائية، أو الرياضية، أو النفسية لأخرى من المتبرّع، وحتى الآن يظل السبب مجهولًا علميًّا، وجزئية تغيرها بعد عملية كلى هي محض خيال أو افتراض مني.

    [6] عن بام براون.

    [7] الرافعي






  2. #2

    الصورة الرمزية أَصِيلُ الحَكَايَا

    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المـشـــاركــات
    1,934
    الــــدولــــــــة
    فلسطين
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: [قصة قصيرة] | إِلـْفٌ |

    لستُ أصدق ، ما أسعدني ، أقبع هنا لأرتوي منها أخرى وأخرى

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...