(الفصل الرابع)
هذا الشاب .. أو ليس نفسه الذي كان يحمل مظلة المسخ ذاك؟؟
~*~
انقبض صدري فجأة فور تذكري لذلك الشخص .. راحت عيناي تجول متفحصة أرجاء الغرفة التي أتمدد فيها .. جدران بنية داكنة ونافذة واحدة .. فانوس فوق سطح الغرفة يضيئها بالأصفر الشاحب .. و السرير الذي أرقد فيه .. وصناديق سوداء خشبية تطفو منها الملابس .. مكتبة خشبية وطاولة صغيرة متآكلة
-حسام إلى متى ستبقى واقفاً هنا ؟ ألا تدرك كم أضعت من الوقت
إذاً فالشاب الطويل هناك يدعى حسام .. وماذا عن الفتاة؟ لحظة .. وكأني سأهتم باسم ذات الصوت الصاخب
تمتم الشاب بكلمات للفتاة لم تصلني .. ثم غادر على عجالة !!
-أهناك شيء ترغب في تناوله .. أعني مماهو متوفر لدينا.. فلا أظنني سأصرف ميزانيتنا على شخص رحمه أخي !!
قالتها تلك الفتاة النزقة .. مقاطعة تخبط أفكاري في رحم الذاكرة وهي تسحب كرسياً وتجلس عليه
-لا أريد شيئاً !
قاطعتني بشدة و عيناها تلتمعان:
-قلت لاشيء .. اسمع ياهذا .. لست في مزاج جيد لتغضبني ببرودك هذا
ألا تدرك كم من الوقت بقي أخي بجوارك لقلقه عليك .. حتى أنه تأخر عن اجتماع ذاك اللئيم . و لا أحد يدري كيف سيكون مزاج الشيطان لهذا اليوم .. و الفضل لك طبعاً !
ثم انصرفت مبتعدة عني
تنهدت .. كدت أن أقول لها .. طعامك سيثير غثياني .. لا أريد أي حصة منه .. و لكني آثرت الصمت .
~*~
بعد دقائق:
نظرت إلى تلك الصينية و الأشياء التي عليها .. بضعة قطع من الخبز .. عصير برتقال .. وطبق من البيض ..
مرت أيام مذ تناولت الطعام .. تقدمت و بكل قوة هجمت هجمة على ذاك الطعام المسكين .. لأبدأ بسرد سيمفونية الوليمة. أجل لقد كانت عصافير بطني تدق بمناقيرها دقاً حامياً
لحظة !!
أقلت بأن الطعام المسكين . بل أنا الشخص المسكين هنا ..
ليس الآن و أنا في قمة جوعي .. تباً .. البيض بنكهة لا تستساغ !!
مددت يدي فأخذت ألتقط اللقم تباعاً و أدسها في فمي .. فلا رغبة لي في مجادلة تلك الجالسة أمامي .. علي أن أحافظ على علاقة طيبة معهم حتى أعرف الرابط بين المدعو حسام و المسخ ذي الملابس السوداء
~*~
دقت الساعة و عقربها يصفع الثانية عشر .. و لم يعد المدعو حسام
أشعر بنعاس حاد .. قبل أن تطبق جفناي بقليل .. رأيت تلك الفتاة تجلس على أريكة قديمة وتحتضن رأسها بكفيها ..غريب ألن تنام قليلاً ؟!
~*~
فتحت عيني بتثاقل .. أحسست لوهلة بالضياع .. لم أكن واثقاً من مكاني الذي أنا فيه .. ولكن بحثاً سريعاً أجريته بعيني .. سرعان ما جعلني أدرك أين أنا
نهضت من مكاني .. أتلمس من ظلام المكان نوراً يهتدي إليه بصري.. تحسست بيدي حتى وصلت إلى الفانوس الموضوع على الطاولة .. أضأته وسرت قاصداً الباب
استوقفتني صورة الفتاة النائمة بين أحضان الأريكة .. باغتني تعبير الدهشة لكنه مالبث أن محي وحلت محله ابتسامة دافئة
سحبت قدمي بهدوء لأقترب منها .. كانت نائمة بعمق تعلوها ابتسامة ملائكية
لست أصدق أنها نفس الفتاة المشتعلة قبل لحظات
~*~
أكملت طريقي مغادراً ذلك المنزل إلى الشارع .. غيوم كثيفة تلك التي فرضت نفسها على السماء .. وقطرات رقيقة شابهت رذاذاً متناثراً .. إنه إحساس البرد الذي احتوى المكان بأكمله .. و تلك العتمة الداكنة التي طغت على إحساس الخريف معلنة عن غزو قادم باسم الشتاء
~*~
في عنفوان الظلام ، راقصت خطواته أرضية الشارع المبتلة التي أخذت تستقبل قطراتِ المطر بترحيب . وقد توِشح جسده سواداً أليماً احتّل طيفه عينيه .. اقتربت خطواته نحوي ليقف قبالتي و قد فصل بيننا قدر مترين .. بقي كلانا صامتاً .. فلمحت أثر كدمة تحت عينيه
ارتسمت ابتسامة على محياه فهتف :
-كيف حالك الآن؟
بادلته الابتسامة ذاتها:
-بخير .. ماذا عنك؟
ابتسم و بنبرة هادئة:
-وأنا كذلك بخير
أومأت برأسي صامتاً لأهتف بعدها:
-أحقاً أنت بخير مع هذه الكدمة؟!
رفع يده متحسساً عينه :
-أظن ذلك .. هذه ليست المرة الأولى التي أعود بها هكذا
أرجو أن يخف أثرها مع الصباح
سكت هنيهة :
-بالمناسبة هل سارة ستيقظة؟
سارة! يبدو أنه اسم تلك الفتاة البغيضة التي أشتمها في نفسي!!
-إنها نائمة الآن .. و لكن يبدو أنها انتظرتك حتى داهمها النعاس!
فرت تنهيدة من شفتيه:
-هكذا إذاً .. أظنني شقيق فاشل بمعنى الكلمة
أردف قائلاً:
-والآن هل ندخل؟
~*~
-ماذا حصل لك يا حسام؟
هذا ماقالته تلك الفتاة بدهشة
ابتسم المدعو حسام وتحدث بنبرة هادئة:
-مجرد كدمة بسيطة
تكلمت بقلق بينما تمسك يديه:
-لم لم تذهب إليه منذ البداية كما أخبرتك .. ذلك اللعين إلى متى سيستمر في هذا
خرجت هذه الكلمات من فمها مؤذنة ببدء عاصفة من الدموع الهوجاء المنحدرة على ذينك الخدين
تدارك حسام الموقف ليربت على رأسها بحنان:
-سارة أنت حمقاء .. أنت في ال 17 من العمر و تبكين لأني أصبت بكدمة طفيفة !
و أخذ يزرع فيها كلمات الأمل الكاذب .. و لا تسألوا لم أنعته بالكاذب؟
لأني قد جربت هذا الشعور بنفسي
تعلقت المزيد من الدمعات على جفونها .. ثم ابتلعت دمعة مالحة في حلقها:
-أحمق .. أنت لا تدرك كم أخاف عليك .. لا أريد أن أخسرك كما خسرت والدي
سأكون وحيدة من بعدك .. ألا تفهم ؟
رفعت يدها بعشوائية تمسح دمعات متناثرة على وجهها وتمتمت:
-أحمق
حدق فيها وقد شد على يدها وابتسم هامساً:
-سأكون دائماً تلك الروح التي تطوف حولك .. و سأبقى معك و لن تستشعري الضياع أبداً
ابتسمت من بين الدمعات التي بللت وجهها .. كلماته موزونة وثقته هادئة
كيف أمكنه تهدئتها فقط بهذه الكلمات
أدارت وجهها قليلاً لتتمكن من مسح بقايا الدمعات ثم التقت عينها بعيني:
-لا تنظر هكذا .. أكره أن يراني أحد و أنا أبكي
انبثقت ابتسامة تائهة على وجهي فهمست:
-أعرف شخصاً كان ليقول هذا الكلام .
وسط ملامح الدهشة التي ارتسمت على وجهها .. اقتربت منها هامساً:
-بالمناسبة ! لديك أخ رائع .
ربت على كتفها و انصرفت بعيداً عنهما ليخلو الجو للشقيقين ..وتلك أول اشارة تعاطف أصدرتها تجاه تلك العائلة الصغيرة .. ولم أدرك وقتها أنها لن تكون الأخيرة
~*~
رمى حسام نفسه على الأريكة .. ثم رفع رأسه عنها ليقول بضجر وخصلات شعره البنية تنساب على وجهه:
-أحتاج إلى نوم عام كامل ..
ثم موجهاً حديثه إلى شقيقته:
-ليوم واحد دعيني أنعم بنوم هادئ في الصباح
حبست شيقته ضحكة ثم قالت:
-كما تريد ولكن ليوم واحد فقط !!
ثم انصرفت مغلقة الباب خلفها و اضجعت أنا على سرير حسام و آلاف من الأسئلة تدور في رأسي
~*~
ها هي الشمس كعادتها، تُطل من الأفق مرسلةً أنوارها إلى منازل المدينة، قبلاتٍ صباحية تُطبع على كل جبينٍ دونما استذئان.
متخللة ستائر تلك الغرفة .. أشعة رقيقة تبث شيئاً من الدفء في هذا الطقس البارد
مر أسبوعان و لازلت هنا في منزل حسام .. يمكن أن أقول بأن البقاء هنا راق لي كثيراً .. و مع هذا لم أسلم من المجادلات التي تحصل بيني و بين شقيقته
لم يحدثني بعد عن عمله و عن يومه .. أو ربما كان يتجنب ذلك ؟
على كلٍ لست أدري .. و لكن مزاجي تحسن كثيراً هذه الفترة
معنواتي مرتفعة للغاية اليوم .. نزعت ثيابي و استمتعت بحمام دافئ
حشرت فرشاة أسناني في فمي .. ثم جففت شعري و خرجت من الحمام
سمعت صوت قرقعة الأطباق .. تباً هل أعدت الافطار لهذا اليوم؟؟
طوال الأسبوعين الماضيين كنت الشخص الذي يعد الطعام فلا نية لدي لتناول البيض الكريه النصف نيء
وما إن تقدمت نحو المائدة حتى رأيت طبقه يتربع عليهاً .
زفرت بإحباط في نفسي:
-ليس مرة أخرى!!
~*~
بعد معركتي مع نفسي أنهيت ذلك الطبق و بالكاد .. أخذتني خطواتي نحو النافذة الصغيرة
شاهدت أشكالاً هندسية صنعتها رقاقات الثلج .. بدت رقيقة و هشة للغاية
استدرت ملقياً نظراتي إلى سارة:
-الجو منعش .. أترغبين في الخروج بجولة معي؟؟
راقبت عينيها وهي تلتمع شوقاً لتهتف بحماس:
-بالطبع !!
~*~
نسمات باردة تقرص جلودنا .. لون برونزي قد اكتسى الجو .. وبريق تلك الشمس التي ارتكزت وسط تلك السماء .. انعكس على مياه النهر بشكل جذاب .. أخذ الزورق يرقص بعنفوان فوق صفحته .. ويد الجالسة أمامي تمسك بتلك العصى الطويلة وتجدف بها في حركة متناسقة
يفترض بي كرجل أن أحرك القارب و لكن عنادها جعلها تصر على تحريكه بنفسها .. استشعرت صوت المياه التي كادت تصدر صدى على ذلك الجو الخالي .. الأجواء شتوية و نادراً ما يخرج أحدهم في نزهة على القارب و لكننا فعلنا و ظفرنا بجولة طويلة بسعر رمزي للغاية
والآن انتهت جولتنا و جولة الشمس لتغرق في صفحة المياه .
~*~
بدأ الظلام يمد طبقاته و يخيم على الأرجاء .. ونحن نسير بخطى رتيبة نحو المنزل
أخذت تتحدث بحماسة عن جولة اليوم وعن أكثر ما أثار اعجابها
وعيناي تحدقان فيها بذهول .. فبعد كل شيء لم تكن تلك الجولة بهذه الروعة .. كل مافي الأمر أني أردت كسر الروتين الممل الذي عشته مذ أتيت لهذه المدينة..
تكلمت و ضحكت .. علا صوتها وانخفض و احمرت وجنتاها حماساً لشدة اندماجها بالكلام .. و أخيراً حدقت فيّ بذهول:
-لم تنظر إليّ هكذا؟
رفعت إحدا حاجبيّ بارتباك:
-أنا؟
وضعت يدها على فمها :
-أنا آسفة .. هل كنت ثرثارة إلى هذا الحد؟
-لا . لا على العكس .. كل مافي الأمر انه مر وقت طويل مذ رأيت أحداً سعيداً بهذا القدر
وكنت على وشك أن أقول ( وخصوصاً أنت .. فلم أتوقع أن تكوني قادرة على رسم مثل هذه التعابير)
هتفت وقد أمالت برأسها تطلب توضيحاً أكثر:
-أهذا مديح؟
ابتسمت:
-وهل تتوقعينه غير ذلك
تنهدت وقد تشكلت غيمة صغيرة حول شفتيها:
-أنا سعيدة لسماع هذا .. الحقيقة لقد مر وقت طويييل مذ خرجت في نزهة للخارج
صحتي ليست جيدة لأخرج وحدي و أخي مشغول دائماً و لا يسمح لي بالخروج من دونه لئلا تصيبني النوبة وأقع في المشاكل
استوقفتني جملتها الأخيرة:
-نوبة
ابتسمت وشيء من الاحباط ارتسم على وجهها:
-أملك قلباً ضعيفاً منذ ولدت .. وهذا القلب كان سبباً لما يقاسيه أخي من عمله
صمتت وقد أخذت نفساً عميقاً:
-دعنا من هذا .. أنت لم تتحدث عن نفسك ولا لمرة (أردفت بعد صمت) .. صحيح .. هل لديك اخوة؟
صمت لوهلة:
-لدي أخت في عمر قريب منك.. ونحن نعيش معاً خارج المدينة .. في تلة قريبة من الغابة
رفعت يدي لتلامس الزغب الأبيض .. أتساءل إن كان الشتاء قاسياً هناك؟! ..
أتعلمين أنا مشتاق إليها و إلى المنزل !!
-هل تركت عائلتك وأتيت وحدك؟
رسمت أسمال ابتسامة:
-لا عائلة لي سواها .. والداي توفيا قبل خمس سنوات
-أنا آسفة لم أقصد أن أذكرك بما يحزنك
-لا داعي للاعتذار .. مر وقت على تلك الذكرى و أظنني شفيت من حزني .. ومع هذا أرى بأني مجرد أخ سيء .. يترك أخته لتعيش وحدتين و يأتي وحده إلى المدينة.
لم أتحدث بعدها بكلمة و لم تسأل هي عن شيء
هبت رياح صاخبة مصحوبة بأنين فعبثت بملابسنا وصفعت وجهينا بقطع الثلج .. أحنينا رؤوسنا و استدرنا ناحية الزقاق الضيق و المؤدي إلى المنزل ..
ما إن اقتربت خطواتنا حتى لاحظنا كتلة من الثلج تربض بشكل غريب على عتبة الباب
ركزت بصري ولاحظت أن تلك الكتلة تزداد حجماً كلما اقتربنا منها .. سمعت شهقة كان مصدرها فاه الفتاة التي تقف بقربي .. أسرعت بعبور الشارع وتوجهت ناحية مدخل المبنى السكني :
-حسااااااااام!!
بدأ الجسد بالتحرك ورفع المعني ذقنه قليلاً و ابتسامة فاترة تربعت على شفتيه فور رؤيته لسارة
رفعت يدها نحو رأسه:
-ماذا جرى لك بحق الله؟ أنت تغلي!!
طرحت سؤالها لكن هبة ريح باردة اختطفته من شفتيها و أرسلته عبر الشارع الفارغ و لم تحصل على إجابة
(نهاية الفصل)
المفضلات