اختفى نور الشمس و ارتدت السماء ثوبها الرمادي, هدوء فضحه صوت المطر , فَلَاحَ يعلن طقوس التغيير..
قطرات المطر الباردة تتلمس بفرح دفء زجاج النوافذ , قطرات متفاخرة بقوتها أعلنت التمرد لتصنع بركة داكنة, قطط كسولة لا مكان لها تجلس في ظل هنا وتحت سقف خرب هناك, أمطارٌ غزيرة تُخفي معالم الافق البعيد ,أشجار تغتسل بنشوة , طرق أشبعتها جداول الماء , أُناسٌ يركضون , و خلف المعاطف يختبئون خشية البلل في ذلك الجو المقدس .. امتدت يدها لجيب بنطالها الاسود بينما أسرعت قدماها الى أقرب ركن لتحتمي تحته من المطر المنهمر بغزارة .. أحنت رأسها محاولةً السيطرة على أنفاسها المتقطعة ..أخذت نفساً عميقاً ثم رفعت رأسها من جديد لتعودَ منتصبة القامة .. شعرها الأجوري الذي غطى جزءا كبيرا من معطفها الداكن بدت أطرافه تلمع بسبب قطرات المطر التي عَلِقَت به فباتت تتلألأ كزجاج الثريا الكريستالي .. بدا الارهاقُ واضحا على ذلك الوجه الذي بدا شاحبا بملامح متعبة .. عادت من جديد الى الهاتف المحمول بين أصابعها الباردة ، صوت موسيقى هادئة متناغمة أصدرها هاتفها وأناملها تداعب لوحة المفاتيح وهي تضغط الأزرار لتحفر تلك النغمة الهادئة ومعها تخط طريقها نحو الرسالة الواردة لترقص عيونها :
[ لقد تحدثتُ إليه .. أين أنت الآن ]
[ أنا واقفة تحت المظلات المنتشرة في الساحة .. سأنتظرك فلا تتأخري]
و بكبسة زر تم ارسال الرسالة .. اتكأت على عمود حديدي خلفها ليتسلل برده الى أطراف معطفها , تنهدت قليلا ثم عادت وأغلقت عينيها من جديد .. الدقائق والثواني مرت بطيئة للأمامِ.. وشيئاً فشيئاً عم السكون.. لم يَعُد يُسمَع سوى صوت قطرات المطر التي تنهمر بغزارة وكأنها تخوض حربا مع أرضية الموقف الصامدة .. صوت خطوات ترتطم بالأرضية المبتلة .. فتحت عينيها على الصوت الحاد المعروف .. صوت ساتو .. تقدمت ساتو واضعة قبضتها على خصرها ووجهها مشدود
" أنت بالتأكيد ممتنة لي .. أتعلمين ما الذي حصل من ورائك" كان صوتها منزعجاً وغير راضٍ أبداً
تمتمت سايا:
" ما الذي حصل؟!"
حركت يديها في الهواء بنفاذ صبر:
" لا إشكال معك .. ستسير أمورك كما أردتِ .. و أنا الضحية بينكما"
تعلقت نظراتها بساتو:
" عذراً لست أفهم"
تمتمت ساتو بنفاذ صبر:
" سيأتي يوبا من لندن بعد يوم و لكن بشرط"
" بشرط؟"
ظهرت علامات الانزعاج على وجهها:
" أن أستأنف تلك الأبحاث .. تعرفينها جيداً تلك المتعلقة بمتحف المومياء ! ... -أمسكت برأسها - سأفني شبابي في مواعدة الهياكل العظمية ..... -تغيرت ملامحها إلى الجدية- هذا غير مهم الآن .. أنظري حولك .. الجامعة خالية إلا منا و هذا يعني عطلة بسبب الطقس.. خذي قسطاً من الراحة و سأمر بك غداً و اصطحابك إلى نارتيروثيا.. اتفقنا"
ظهرت على قسماتها ملامح الامتنان:
" ساتو أنا أنا .."
" هيييه أيتها الحمقاء .. نحن صديقتان بعد و قبل كل شيء .. دعي أمر يوبا علي .. أممم أنا آسفة علي أن أغادر من دونك .. أحتاج إلى بعض الوقت لأصفي ما بيني و بين أعضاء النادي .. إلى اللقاء "
لوحت سايا هاتفة:
" انتبهي لنفسك"
سارت قدماها بخطوات رتيبة وصوت حذائها يعزف نغمة منتظمة على الأرضية المبللة زادت سرعة خطواتها إلى الأمام شيئاً فشيئا حتى تلاشت الكلية خلفها تماماً .. ثم انحرفت متجهة نحو محطة الحافلات
*ج2*
يبدُو الصَّخبُ بعيْداً جدَّاً كما لُو لم يكُن بجانِبها ، هيَ في عالمٍ مُغايرٍ يحفًّه سكُون وذَكرياتٌ ماضٍ يأخذها ما بيَن أسطره , رأسَها استَند فُوق ركبتيْها وجسدُها انطوى فٌوق السَّرير البسيْط فِي الغرفةِ الواسعَة , شعرُها الأحمر المُشاكسُ يتبعثُر مِن حُولها لكنَّها كانت بعيدة عَن كلِّ ذلِك , عَن غناءِ التوأم فِي زاويَة الغرفَة , وَعن شجار الأخرتين تقبُع إحدَاهما فُوق سرِير يعلُوها وثانيةٌ إلى سريرٍ يجاورَها :
" سايا أين وصلتِ ؟ "
اسْتَيْقظَت علَى صوْتٍ مشاغب فجَّر طبلَتِي أذَنيْهَا بضجيَجِه , رفَعت رأسَهَا المُنكَس فُوقَ رُكبَتيْها لتصْرُخَ بفَزعٍ مِن منْظَرِ الفتاةِ الَّتِي نادَتْها للتَّوْ بهذِه الطَّريْقَة. إذ وجَدت أمامَها وجْهاً مقْلُوباً يُطلُّ مِن السَّريْرِ العُلوِّي وقَد انسَدل شعْرُ صاحبته الأسود القَصيْرُ وتلألأتَ عيْنيَها الزرْقاوان بمَرح ، فصرَخت بها:
" بحق الله ماذا تفعلين .. لقد أفزعتني ؟"
قفزت نحو الأرض ورغم التواء كاهلها قالت:
"لا شيء .. أردت قطع صمتك المهيب الذي بات يخيم عليك وانشغالك بتلك الأوراق ومع هذا .. -بعد خطوتين مدت يدها لرجلها- آه كاحلي يؤلمني حقاً "
هبت سايا واقفة لتقول بوجل:
"أأنت بخير ؟!"
الْتفَتْت إليْها رُغْمَ اْنحناءَاِتها و انشغالِها بـمُلامَسةِ كاحِلهَا وتفقُّدِهـ , كانَت تودُّ قُولَ شيءِ مَّا لكنه قُوطِعَ هذِه المرَّةَ مِن قبَلِ صوْتٍ صارِمٍ أتَى مَن والدتهما الواقفة عَلى بآبِ تلْكَ الغُرْفَةِ الواسِعَةً مُردِّدَةً بمآ يُشْبِهُ التّأنيْب :
" هَل عليَّ إرْسالُ بطاقاتِ دعْوَةٍ لكُنَّ سيِّداتِي ؟ , هيَّآ إلَى العشاءِ حالاً !"
صرَخت بالجُملَةِ الأخيْرَةِ بعْدَ أن قَذفتْ بما يُفترض بهِ أن يكُون دعابةً ساخرةْ , ما جعَل تلْكَ الفتاةَ ذاتَ العَيْنيَنِ الرَّماديَّتِيْنِ الَّذَّكِيَّتيْنِ تضُع المذكرات جانِباً , وَ تَثِبُ مِن سرير التوأم المجاوُرِ لسرير الشقيقة الوسطى بـهُدوءٍ ثُمَّ تنْظُر بازْدراءٍ إلَى ذات الكاحل المصاب وتقُول :
" لا تقلقي ستكونين بخير !! "
ومضَت تجُرٌّ خلْفَها مظْهَرها المُنظَّمَ , وَ شعْرَها المُميَّزَ ذُو اللَّوْنِ الماغماتي بتموَّجاتِه الواسِعَة , فسَحبت تاكارا قدمِيهما خلفها وطَغى كثيْرٌ مِن الانْزعاجِ علَى نبْرَتها وردَّدَت بسُخريَة :
" سأكون بخير هاه !! سحقاً لك يا دودة الكتب!"
لـتقَهْقِه سايا بسعادَةٍ , وهِيَ تقُول بنبْرَةٍ كسَتْها الأريحيَّة :
" ما قصة هذا اللقب .. مؤخراً بدأت أسمعه بكثرة"
تنهدت تاكارا وربتت على ظهر سايا بقوة :
" اسألي نفسك يا آنسة .. تلك الصفحات البالية تكاد لا تفارق مجلسك .. هيا بنا قبل أن تأتي والدتي ببطاقات الدعوة تلك"
" أيتها الـ .. يا لك من عنيفة .. تلك تنجب و أنا أتورط بكم !"
أحاديث تافهة وقهقهات هنا وهناك ، حركة النادل المستمرة بين الطاولات ، سحابات دخانٍ كثيفة تروح و تجيء من ركن واحد لا تنفك تختفي بنهر المالك و رفع لافتة 'ممنوع التدخين' في كل مرة يمر فيها عليه مهددًا إياه بالطرد كل كرة ، رنين هواتف وصمت أخرى وحركة الثلج في أكواب العصير تصطدم بزجاج الكأس لتصدر صوتا رنانا مزعجا اختلط مع تلك الضوضاء العارمة ، وهي تجلس على الطاولة الخشبية وحيدة اعتلاها صمت مريب ، تنظر تارة إلى النافذة الزجاجية التي بالقرب منها وتلوح بشرود بين ملامح الأشخاص المبهمة التي تمر وتغدو دون عودة ، وتارة أخرى تنظر إلى كوب القهوة الفارغ أمامها للحظات تدوم لدقائق ثم تنادي النادل بصوت هادئ :
" كوبًا آخر من القهوة لو سمحت "
تشير عقارب ساعتها إلى التاسعة مساءا ، تأففت بانفعال ودست يدها في جيبها الأيمن لتخرج هاتفها المحمول ، بادرت في الضغط على الرموز الرقمية لكنها تراجعت وأعادت هاتفه إلى جيبها بتذمر .. وضع النادل القهوة أمامها ، ، يخرج منها بخارها ليمتزج مع الهواء حولها .. رفعت الكوب بمستوى فمها وارتشفت منه قليلا ، قطع لحظاتها تلك صوت قادم من أمامها :
" أنتِ مدينة لي بالكثير .. القدوم إلى هنا بعد رحلة دامت 8 ساعات ليس بالأمر الهين "
همست بهدوء وهو تضع الكوب على الطاولة :
"أنا ممتنة لحضورك كل هذه المسافة يوبا !"
وضع حقيبته السوداء الجلدية على الطاولة ثم وضع فوقها معطفه الفاحم الذي يناسب قميصه الأبيض و الذي بدوره انسجم مع منظره الأنيق وعينيه العسليتين وشعره الكستنائي المبعثر بلون حمرة النار فوق رأسه ..
قال بابتسامة :
"والآن ما الأمر المهم الذي لأجله ستستأنفين أبحاث المومياء التي أقفلت عليها منذ سنة "
رفعت عينها و نظرت إليه باستنكار ، ثم أزاحت وجهها إلى النافذة عندما سمعت صوت قطرات المطر تتساقط بعنف على أرضية الشارع .. استجمعت قواها و ارخت أعصابها ، ثم شبكت ذراعيها وزفرت نفسا هادئا :
" إذاً استعدّ لما ستسمعه !!"
هنا يتوقف الكلام و الساحة لكم
المفضلات