| قِصَّة مِن وَحي الأعضِآءء ~ عَلَـــے حَــآفَـة ـآلـقُـبُور .. } !

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 20 من 91

العرض المتطور

  1. #1

    الصورة الرمزية الجاثوم

    تاريخ التسجيل
    May 2011
    المـشـــاركــات
    610
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: | قِصَّة مِن وَحي الأعضِآءء ~ عَلَـــے حَــآفَـة ـآلـقُـبُور .. } !




    الحاسة السادسة:





    تغير لون الصباح , آلام مبرحة كتأنيب الضمير تدرك روحها و هي تستيقظ فزعة بصمت من كابوس باغتها على سريرها كسكرات الموت ,

    ما هاته الرغبة الجامحة في التقيؤ ، لا تشعر أنها بخير أبدًا ,

    رغم الهواجس المتناقضة المتضاربة يجب أن تستيقظ , أن تأخذ نفسًا عميقًا نقيًا لتبيد به التسربات السوداوية ,

    ثم تبدأ يوما انتظرته طويلا و الآن لا رغبة لها فيه لسبب ما ...

    إنه اليوم المنشود الذي أرهقت نفسها لأجله مدة شهر كامل ,

    فلم تترك الرمق الأخير له , السهر لساعات متأخرة , الاستيقاظ المبكر ,

    أعمال شاقة مضنية دون فترات راحة من سطوع الشمس لغروبها , صعود و هبوط ,

    نشاط و حيوية غريبان , لشهر كامل بالتحديد , دون مرض أو نكسة , و في اليوم العظيم ؛ يزول ذلك السحر, بكل بساطة ...

    هكذا كان شعور سندريلا حين دقة الساعة معلنة عن منتصف الليل , إنها نفس الخيبة و الفزع , الفزع الأخرس :


    { هيا سايا قومي , إنها الخطوة الأخيرة و الأهم , و ستتحدين مع السرير للأبد }×

    ذلك الكلام الهامشي في سرائرنا بعيدًا عن صفحة الحياة و آذان حروفها الذي نحرض به أنفسنا و نشجعها على الإقدام على أمر ما ؛

    ترفع رأسها المثقل بصراخٍ من نوع ما ببطء , ينسدل شعرها المخملي الأجوري البراق على كتفيها ؛

    و تستوي الخصلات الصغيرة لوحدها فوق عينين حالمتين غابيتين يملؤهما النعاس حتى النخاع ,

    ثم تقوم مترنحة كزهرة توليب تلعب بها النسائم فتميلها كيفما شاءت...

    المنزل هادئ كقطرات الندى الحلوة الصباحية التي تزين رؤوس الحشائش و الورود ,

    قطعًا ؛التوأمين ليسا هنا , لكانت أحد المعارك تندلع الآن , لا أحد هنا غيرها ؛ والصمت العريق ...

    الورقة الصفراء الفاقعة معلقة على الثلاجة , تنذر بالشؤم ,

    تحمل وابلاً من الأوامر رغم اليوم العظيم و التعب و ذلك الشعور الغريب المؤلم الذي ينخر عظامها ...

    ( أدخلِي الثياب التي نشرتيها بالأمس و أخرجِي الغسيل من الآلة ... البسكويت في الرف العلوِ خلف كيس الدقيق , عندما تعودين أرجو أن تتكفلي بالفطور فلدي ثلاث اجتماعات و أعمال كثيرة ؛ سأتأخر ... لا تنسي اصطحاب آي و كورابيكا من عند الخالة آمي , و حظًا موفقًا ... أمك )



    ( يا إلهي, ليتني لا أجيد القراءة, أصبحت أكره اللون الأصفر, لن يكفيني الوقت لكل هذا... أوووف, حسنٌ , سأسرع لأنهي هته الأعمال و أذهب )



    رغم أنف الوجع و التعب تكمل واجبها و تتجه نحو الكلية ,

    و في كل خطوة لها وخز في كل ما هو لها , كم طالت الطريق إلى هناك اليوم , يبدو المكان بعيدًا , بعيدًا جدًا ,

    تمامًا كالأحلام , إلا أنه أمكنها الوصول إليه ؛ بينما تلك الأحلام لم تقترب منها و لو شبرًا واحدًا ...

    كغريب تتصفح وجوه معارفها أمام باب المدخل , هذا الإحساس يمس حتى الذاكرة و يمسحها رويدًا رويدًا ,

    تنقذها ساتو من الدخول في غيبوبة حتمية :

    " مرررحبًا سايا ☺ , كيف حاا ... !! , آه.ه , ما بك , ما الأمر عزيزتي ؟ , لا تبدين بخير!"


    ترفع رأسها نحو ساتو و في عينيها امتنان سري مخفي لمنقذتها من هذا الصمت المُنْهِك

    " أأ , أنا لا أشعر أني بخير أبدًا , استيقظت مع شعور غريب أثقل صدري , لقد كنت على ما يرام بالأمس فقط , و اليوم أشعر بالكآبة , صدقًا , هذا اليوم ليس يومي إطلاقًا ّ"


    تنفجر ملامحها كمن اكتشف اكتشافًا عظيمًا:

    " ساياا , أنت دوما لما يتملكك شعور سيء يحدث أمر ما , ربما محاضرتك ستفشل .. أتعلمين ؟! يمكنك أن تلغيها , يوجد فرصة أخرى الأسبوع المقبل "

    " آ , ربما , ستفشل حتمًا و أنا في هذا الوضع , على أي حال أشعر أن كل الأفكار و كل ما حضرته قد تبخر , تعالي لأخبر الآنسة "

    " تخبرينني بماذا ؟!" رن صوت رقيق خلفهما

    " آآنسة أسامي , كــ ... كنت أود أن أخبرك أني سألغي محاضرتي هذا اليوم "

    " ماذا؟! و لماذا ؟ "

    " لأن حاستها السادسة قالت ذلك " تنطلق من فم ساتو كالصاروخ

    " حاسة ؟! أي حاسة هذه ؟ لا شك أنك أنت من أقنعتها بذلك , واثقة ... عزيزتي, لا تلقـِ لها بالاً, إنها مجنونة, صديقتك و تعرفينها, هيا لندخل"

    " لاا , في الواقع أنا لا أشعر أني بخير , استيقظت بصعوبة اليوم و أحس أني مريضة , ربما سأصاب بالزكام "

    " لا بأس , هذا طبيعي , لقد أرهقت نفسك كثيرًا هاته الأيام , و لا ريب أنه الخوف فقط والرهبة قد فعلا فعلتهما فيك , ستكونين على ما يرام "

    " لا صدقًا, لست ممن يهاب شيئًا, لكني لست بخير, و واثقة من هذا "

    " سأحضر لك بعض الأدوية و ستتحسنين, لا تدعيني أشرح لك تأثير العامل النفسي و المرض الوهمي الذي يصيب الناس في حالة الفزع و الجزع , هيا بنا لندخل"

    " آسفة آنسة, لكني لست بخير مطلقًا, لست جاهزة حتى, متأكدة أني سأفسد كل شيء "

    " حسنٌ حسنٌ ... إذا ؛ لعبت ساتو بعقلك , لا بأس , يوجد فرصة أخرى الأسبوع المقبل , سألغي محاضرتك , و لكن لن تذهبا لأي مكان , ستبقيان لمشاهدة محاضرات اليوم"

    تصرخ ساتو " ماذا ؟! و هل أنا مشعوذة ؟! "

    تُطْبِق سايا فاه ساتو "أصمتِ ... حسنٌ , شكرًا آنسة أسامي "

    الآنسة ممازحة " هههه , هيا تعاليا , و ساتو , أرجو أن لا يبدر منك أي تصرف مشين كالعادة "

    " حاضرة آنسة "






    ألقى العديد من الطلاب محاضراتهم , كلها تتحدث عن موضوع واحد , بالرتابة و الملل نفسه ,

    و كأنه لا يوجد في بحر الكتب التاريخية الأدبية التي تتحدث عن الأمجاد و الأساطير إلا كتاب "الإلياذة" لهوميروس ,

    الشاعر الإغريقي العظيم , واضحة هي المعركة التي تنشب في أنفسهم , تفضحها الأنفاس المتذبذبة المتوترة ...

    و هي تعارك في نفسها شيئًا أكبر , إلحاح الحاسة السادسة على الانتحار ..

    { أيها الشعور؛ لقد ألغيت المحاضرة , رجاءًا توقف ‼} ...


    انتهت المحاضرات و الأوجاع لم تتوقف بعد , و هذا الزحام يزيد الأمر سوءًا , تخلق آلاف الأعذار و الحجج لتغادر , فلم يبقى نفس ,

    لتطلق الآنسة أسامي سراحها بعد جهد كبير ,

    غادرت المكان مع ساتو نحو بيت الخالة آمي , آملة أن يعلق الشعور وسط الحشود و تدهسه الأرجل الدائسة ,

    مرجرجة نفسها في الطريق معتقدة أن هذا الوخز في قلبها هو مجر بقاياه ,

    تحتاج لتنفث عليها فتروح هباء منثورًا عبر الأثير...

    يُقال ؛ أي فكرة تعتقدها و تؤمن بها يمكن أن يُريك عقلك أنها قد تحققت , بينما في الواقع لم يحدث شيء ,

    رغم إيمانها أنها قد تخلصت من الإحساس ذاك , إلا أن الآلام أبت أن توقف سخافتها , استمرت , و استمرت و استمرت ...


    لكل طريق نهاية , لكل شيء نهاية , فهاهي آخر الطريق و ها هو بيت الخالة ,

    و لكن ليس لسكرات الحاسة السادسة من نهاية , بقناع خادع و ابتسامة حلوة مصطنعة تخفي عذابها ,

    فلا تريد لأحد أن يشاركها هذا , أن يسألها عن أمر يلم بها , تشعر به و يملؤها حتى أخمص قدميها, و ليس لها تفسير له ...




    تدق الباب لتفتح الخالة بعد لحظات معدودة و تقبل بوجهها البشوش كالعادة :

    " سايا عزيزتي . مرحبا بك , و من حضر معك ؟ .. آاا , ساتو , تفضلا بالدخول , مرحبًا بكما ‼ "

    ساتو "مرحبا خالتي آمي "

    سايا "شكرًا خالتي , أتيت لاصطحاب آي و كورا "

    " حسنًا , لكن لماذا لا تبقين تناول الغذاء معنا ثم يمكنكم الرحيل "

    " شكرا خالتي , لكن سيعود أبي قريبًا للمنزل و يجب أن أكون هناك .. أنت تعرفين؛ لقد أوصتني أمي ببعض الأمور و تدركين إن أنا لم أقم بها ما الذي سيحصل لي "

    " ههه حسنٌ , لا بأس , تفضلي لغرفة الجلوس و سأناديهما ... آي , كورابيكا , لقد جاءت سايا , هيا انزلا "

    صوت يبدو من نبرته أنه مرتفع و إنما هو خافت من الأعلى " نحن قادمان "

    " سأحضر لكِ بعض الطعام لتأخذيه معك, دقيقة فقط و سأعود "



    بعد دقائق نزل التوأمان و أحضرت الخالة سلة بها الطعام ثم غادروا صوب منزلهم ...

    " حسنًا سايا , نلتقي غدًا , وداعًا "

    " شكرًا لك ساتو لأنك رافقتني اليوم , إلى اللقاء "

    " لا شكر على واجب عزيزتي "




    اتجهت ساتو لبيتها و دخل الأشقاء الثلاث منزلهم :

    " مرحبًا , لقد عدنا .... لا أعتقد أن أحدًا هنا , هيا اغسلا أيدكما و تعاليا , ستجدان الغذاء جاهزًا "

    ما إن غادر التوأم حتى دق جرس الباب , فاتجهت سايا لفتحه

    " من بالباب ؟"

    " إنه والدك , افتحي "

    " مرحبًا أبي , تفضل "

    " مرحبًا , هل عادت أمك ؟"

    " لا , ليس بعد , أعتقد أنها ستتأخر اليوم "

    " نعم أدرك ذلك , لكني اتصلت بها لتأتي - يضع حقيبته على المنضدة و يفتح ربطة عنقه- أنا تعب جدًا , سأصعد لغرفتي لأرتاح ,عندما تأتي أمك أخبريها أن لا تزعجني المهم أن تحضر ما طلبته منها ... -يُدخل يده في جيب السترة متأففًا - خذي هاتفي و ضعيه في الشاحن "

    تأخذ منه هاتفه و هي لا تزال تنظر إليه باستغراب , ثم ترد بصوت هادئ " حسنًا , أمرك "


    صعد للطابق العلوي متمتمًا بكلام غير مفهوم , يبدو من حركاته و تعابير وجهه أنه متذمر من أمر ما , ربما واجهته مشاكل في العمل ...

    عاد التوأمان من الحمام, تناولا فطورهما ، توسل كورابيكا لتتركه يذهب لبيت الجارة للعب مع ابنها,

    بعد إلحاح طويل , تركته يذهب , شرط أن يعود باكرًا , و أن لا يوسخ نفسه أو يخلق المشاكل ,

    بينما آي قررت البقاء لمشاهدة التلفاز في أمان, المهم أن يتركاها في سلام نظرًا لتصرفاتها الغريبة الملحوظة اليوم,

    على أي حال تحتاج للراحة و الجلوس وحدها لتهدئة و ترويض هذا الإحساس الهجين الذي يرفض الانصياع و الخضوع ....

    في محاولة مجنونة يائسة لمدة طويلة تفتح كل أبواب حواسها لتطلق سراحه ,

    أو بالأحرى لتطرده بعيدًا عنها , تصرخ في صمت يمزق حناياها , تترجاه ليتركها في سلام , و لكن دون جدوى , فقلبه قاسٍ ...

    تُرهِف كل ما فيها , عبثًا تبحث عن ما يبعدها و ينسيها في كل هذا الهراء في حديقة غرفة الجلوس ,

    بينما هي منهمكة في التفتيش عن سؤال ما في زهور تبدو كئيبة اليوم , رنَّ الهاتف,و قبل أن تتفطن للقيام رفعت آي السماعة :

    " ألو , مرحباً ! من على الخط؟ "

    " ألو , مرحبًا عزيزتي آي , كيف حالك "

    " آاا , عمي ياماتو , أنا بخير و أنت , كيف حالك ؟ "

    " أنا على ما يرام , هل والدك في البيت ؟ "

    " أجل إنه هنا , هل أناديه لك ؟ "

    " أجل عزيزتي , هيا أسرعي "

    " حسنًا -تضع السماعة جانبًا- أبي ... أبي , العم ياماتو على الهاتف "

    بصوت خافت لا يخلو من التبرم من الطابق العلوي " أنا قادم ... ألو "

    " أكان , في أي عالم أنت ؟‼ , أحاول الاتصال بك منذ الصباح و هاتفك مغلق "

    " نعم , لقد نفذت بطاريته , ما الأمر؟ "

    "لقد أفقدوني صوابي إدارة المصحة , لا ينفكون يتصلون و يتصلون من أجل جثة العجوز و مقتنياته , أنت تعلم أني لست بالمدينة اليوم , اذهب بدلي "

    " و ما الذي يفترض بي أن أفعله أنا, هل احتفظ بجثته في الثلاجة ؟‼ ... لقد أفسدت يومي بخبره هذا الصباح و تريد مني أن أذهب إليه, لا صلة لي بذلك الهرم , أخبرهم أن يفعلوا به ما شاءوا "

    " ماذا تعني بكلامك ؟ "

    " أرجوك , ما الذي يمكن أن يملكه ذلك العجوز المُعْدم , فليتبرعوا بأشيائه إن وُجِدت حقًا , و ليأخذوا جثته لمصلحة حفظ الجثث أو يدفنونه دون أي مراسيم أو أي سخافات , أو يرمونه في بحيرة ما , ما أدراني أنا ؟ , لن يفتقد العالم مجنونًا , إنه بحاجة للعقلاء "

    " حسنًا , و لكن إن اتصلوا مجددًا يجب أن تفعل شيئًا , إنهم يفسدون عطلتي و زوجتي غاضبة جدًا مني بسبب هذا الإزعاج "

    " لقد قلت لك مسبقًا, ليس لي أي وقت لمثل هذا الهراء, لست مهتمًا بالأمر و لن أضيع وقتي, إن تخلصت منه أخبرني و إلا, فلا داعي للاتصال بي مجددًا "

    " حسنًا حسنًا , سأُعْلمهم بقرارنا , وداعًا "

    "إلى اللقاء " و يضع السماعة بعنف



    > آﯾھَـآ آلآعژآءء .. ﯾړُﭴـے عﮃم̝̚ آلرد :} !
    التعديل الأخير تم بواسطة الجاثوم ; 29-7-2014 الساعة 12:08 AM

  2. #2

    الصورة الرمزية أثير الفكر

    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المـشـــاركــات
    5,262
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: | قِصَّة مِن وَحي الأعضِآءء ~ عَلَـــے حَــآفَـة ـآلـقُـبُور .. } !

    "ج2"

    تفاجئه سايا خلفه بصوت قوي شجي


    " عن أي عجوز أنتما تتحدثان؟ "

    ينتفض انتفاضة خفيفة دلالة على الفزع " أنت هنا, لم أرك... إنه فقط ذلك المجنون "

    تصرخ بصوت مبحوح و الدموع تباشر الظهور على عينيها " لا تنعته بالمجنون , ما الذي حلَّ بالعم رييو ؟ "

    بتهكم واضح " ليس طبيبًا في المصحة, بل هو من المرضى أعتقد... لقد توفيَّ هذا الصباح "

    تنخفض حدة نبرة صوتها " كـُـ ... كنتـ تعلم بهذا, صحيح ؟ "

    " نعم , لقد اتصلـ ..."

    تقاطعه و تعود للصراخ و تنفجر بالبكاء " و لم تخبرني بذلك , لماذا لم تخبرني , لماذا ؟ "

    "سايا , كان لديَّ أعمال كثيرة اليوم , خسرت رهانًا و صفقة , و تشاجرت مع مديري و هو غاضب مني جدًا , بسبب العجوز الأحمق ذاك و الاتصالات المتكررة لإعلامنا بموته , لا ينقصني همك أنت أيضًا .. و من يهتم لأمره أصلاً ؟! "

    " أنا أهتم !... أنت تدرك ذلك جيدًا, لكنك لم تخبرني, لما تكرهني هكذا ؟.. " وتركض صوب الطابق العلوي لغرفتها

    " سايا ... سايا انتظري , تعالي إلى هنا ‼ ... آه يا إلهي ستفقدني صوابي هاته الفتاة "

    تصعد السلالم و الدموع تغشي بصرها, تكاد لا ترى طريقها إلى الأعلى, و نواحها خلفها يتجرجر , تدخل غرفتها و تغلق الباب خلفها بقوة , و ترمي بنفسها على السرير محاولة كسر الأحاسيس التي اندمجت فيما بعضها البعض لتخلق ألمًا جبارًا أكبر من ذي قبل .. كانت منذ البداية تنذر بالنحس , منذ البداية كانت الحاسة السادسة رافعة الراية الحمراء , يا ليتها أفسدت المحاضرة و قلبتها رأسًا على عقب و لم يكن هذا ... لقد توفي العجوز رييو , العم الرييو شقيق جدها المتوفى , دخل المصحة العقلية منذ أن كان بعمر العشرين , بسبب أمور غير منطقية كان يتلفظ بها تفسيرًا لضياع يوري , صديقه المقرب , في رحلة لتصوير فلم وثائقي قام بها و أصحابه المقربون ,تومومي , واكانا و كوتا , و الذين فسر موتهم أيضًا رغم أنهم توفوا بطريقة عادية خلال فترات متقاربة في حوادث متفرقة تفسيرًا ليس له أساس من الصحة , و حديثه مع نفسه و شجاره و صراخه مع شخصيات خيالية لا توجد إلا في عقله , و إيذاءه نفسه ثم تلفيق التهمة لهاته الشخصيات ... هكذا يقولون عندما يتحدثون عن رييو المجنون , لكن سايا لم ترى أي خبل في تلك العينين , بل سكينة و لطفًا و رزانة ..
    تعرفت على العم رييو و هي في العاشرة من العمر , عندما كان يصطحبها جدها أكيرا دومًا لزيارته من فترة لأخرى ... كان وحيدًا , وحيداً حقًا , تخلى عنه الجميع و تركوه منفردًا بائسًا مع اللون الأبيض و رائحة الأدوية و الموت , لم يكن له إلا شقيقه الذي يزوره كل أسبوع من باب الإنسانية , من باب الأخوة التي جمعتهما يومًا , و برفقته حفيدته الجميلة

    "سايا" ‼

    سايا لم تكن تعي أنه مجنون قد يودي بحياتها أو حياته في نوبة غضب أو هستيريا , لكنها كانت ترى و تفهم انه رجل عادي , رغم أن ما بعد الهدوء عاصفة هوجاء حتمًا .. بعد مرور الزمن توفي الجد , فشعر العم رييو بحزن عميق , لأنه فقد آخر ما كان يملك , و قد بدا هذا جليًا في كل ما هو فيه , انقطعت الزيارات بانقطاع آخر بصيص ... مرَّ الأسبوع الأول , فالثاني , فالثالث فالرابع , و رييو يغوص في الحزن أكثر فأكثر ‼

    و ذات مطر جاءت ... تلك الصبية التي ملكت ما يكفي من الشجاعة والوعي و الرحمة , لتقف إلى جانب هرم لم يتبقى له إلا طاقم أسنانه القديم , مثلما رآها هو و استغرب من قدومها , رأته هي واحتارت في الحزن الذي يفوح منه ...
    كانت يانعة آن ذاك , و ما كنت لتكذب و تراوغ , أثبتت أنها تريد أن تتوغل في هته الروح ,أن تكون لجنبه , أن تكون الصندوق الخشبي الصغير الذي نخبئ فيه أسرارنا و أثمن ما نملك .. فتح رييو قلبه , و لم يتوانى في كشف كل ما يوجد في الثنايا و أفرغ كل ما في جعبته, و كان رييو ؛ ريو حقًا ، لكنه لم يجرأ أبدًا على فتح آخر و أصغر بابٍ أوصده بإحكام منذ زمن بعيد , رغم تكتمه و صمته و بسمته تلك التي يرد بها دومًا عن سؤال لا طالما رددته بنفس الصيغة و بعفوية مطلقة

    "( لم زجوا بك هنا ؟ , أنت لا تتصرف أو تتحدث كالمجانين أبدًا )" ...

    قطعًا , لا يمكنه أن يخبرها بأي شيء, كي لا يُرمى به لآخر الرواق بعيدًا عن الحياة و النور و فوضى المرضى و الزوار و الأطباء , يريد أن يشعر و لو قليلا أنه هنا في مكان ما من هذا العالم الكبير , أنه موجود حقًا , أو شبه إنسان , أو ربما لا يريد أن يبدو مجنونًا في نظرها بعدما صورته لمدة طويلة عاقلاً , لا يريد أن يفقد ما كسب بدل شقيقه , فلن يسقط عليه شيء من السماء .

    هكذا كانت حياته , مغامرة صغيرة تودي بحياته و حياة أصدقاءه, ليدخل مصحة عقلية في غز شبابه و يقضي فيها خمسين عامًا , يتلوى و يحترق , في نفس ذلك الصمت الطاغية الذي أرهقنا جميعًا ...
    دخل ابن العشرين , مفتول العضلات , قوي و وسيم , و خرج بن الستين , ضعيف , خائر القوى و عجوز...

    لا طالما مات المُهَمَّشُون المُهَشَمُون في صمت , بل تحت ظل صراخ الحياة التي لا تبالي , مطلقًا ...

    × قامت سايا من سريرها بعد أن أغرقت وسادتها في الدموع الحارقة الساخنة , مسحت ما تبقى من الألم و الندى من على عينيها , غيرت ملابسها و اتجهت نحو الأسفل و ارتدت حذاءها و اتجهت للباب الخارجي , لمَّا سمع والدها صوت فتح الباب أسرع إليها و نداها , لكنها لم ترد عليه و استمرت في المسير , نحو المشفى لتتكفل بجثة العم رييو .. وجدت القطار معطل لمدة مؤقتة بسبب الصيانة , و ما من سيارة أجرة , العالم اليوم كله ضدها , رغم أن السير إلى هناك على الأقدام يستغرق ساعة كاملة , إلا أنها ذهبت مشيًا و لم تأبه أو تهتم , أو بالأحرى ذهبت ركضًا , لكنها لم تصل في الوقت المناسب , لقد تمَّ دفن العم رييو , ذهب للأبد و لن يعود أبدًا

    [ بأمر من أقرباءه دفناه في مقبرة المشفى , لأولئك الذين لا يملكون أهلا و يموتون هنا ]

    هكذا قالوا لما سألت عن المريض صاحب الغرفة 201 !
    هل لهذه الجملة من معنى ؟! , بأمر من "أقرباءه" دفناه في مكان مخصص "لمن لا أقرباء له", ما هذا العالم الغريب, ماتت قلوب الناس .. لم تستطع أن تنقذ منه شيئًا سوى مذكراته الغير صالحة لتبرع, و قلادة كانت في طريقها للبيع لتذهب نقودها لميتم ما , و ذكريات حلوة معه , تركت البهو العظيم , و اتجهت للمقبرة الصغيرة المخفية خلف أشجار العليق , استطاعت ان تتعرف إلى قبر العم رييو لأنه جديد على غرار القبور الأخرى , تبدو من القرن الماضي , و كأن الزمان قد توقف في تلك المقبرة , بقيت لجنب قبره مدة طويلة و لم تشعر بها قط , كل ما في الأمر أن الدموع انهمرت بغزارة , و دون توقف .. قد توقف ألم الحاسة السادسة , لكن حلَّ بدله شعور آخر , إنه شعور بالضياع و التيتم , بالحزن الباذخ , ثم غادرت تاركة بركة دموعها خلفها لتدفئه هذه الليلة , كاعتذار منها عن انقطاعها عن زيارته الشهر المنصرم بسبب انشغالها بالمحاضرة ... لم تعد للمنزل بالخطوات السريعة التي أتت بها , و لم تبالي بالقطار و سيارات الأجرة , فلا تهمها العودة مثلما أهمها المجيء , سارت ؛ و سارت , و لم ينهكها المسير , و بينما هي تائهة و شاردة , فاجأها فتــًا يخرج من محلٍ كالرصاصة صارخًا و زاهيًا

    " ياا رجل! لا أصدق هذا ! أرأيت كيف طفى الكأس في السماء لوحده؟! "

    " أنا لن أعود لهذا المكان مجددًا أبدًا, دومًا ما تجرفني لما لا أحبه "

    " ههه , أصمت أيها الجبــان "

    بعد حديثهما المشوش رفعت رأسها نحو واجهة المحل ... "المشعوذة أنستازيا " هذا ما كتب بالأعلى , إنها محل للترهات , و إعلان أسفله عن لعبة ما , تتصل بها مع عالم الأرواح , لتخبر عزيزًا فقدته بأمر ما كنت تود ان تقوله و لم يسعفك الحظ , أو يخبرك هو .. فجأة أصبحت الترهة أمرًا جديًا و حقيقيًا , دون وعي و بكل تلقائية , جدت نفسها تدخل , فتطلب اللعبة و تخرج,ليعود لها وعيها و تحلل ما فعلت ,هي لا تعرف هاته اللعبة و لا تعرف كيف تلعبها و لا تؤمن بها , و لكن شيء في الأعماق قادها , ربما لتحدث العم رييو لآخر مرة ... لا تدري حقًا , فقط أكملت طريقها الطويل للمنزل .

    إنها السابعة مساءًا , تدخل البيت عابسة ؛ حاملة القلادة و المذكرة و اللعبة , و تتجه لغرفتها دون أن تحيي أحدًا أو تبحث عن أحد , تسمع أمها صوت قدوم أحدهم , فتسرع نحو الأسفل " هل هذه أنت سايا ؟, أين كنت ؟, تعالي لأتحدث إليك "
    لا ترد سايا و تستمر في صمتها الذي تبنته فجأة .. تعاود الصعود للطابق العلوي نحو غرفة سايا

    " يا إلهي , ما به هاته البنت ... سايا افتحي الباب و حالاً ! "

    ترد من خلفه " لن أفتح , اتركيني و شأني "

    " سايا , أرجوك افتحي , أنا قلقلة عليك "

    تعود للبكاء " ما الذي تريدينه مني ؟ "

    " أرجوك عزيزتي , افتحي , أود أن أتحدث إليك "

    تفتح الباب و تصرخ " ما نفع الحديث الآن , لقد مات و انتهى , لقد أخفيتم عني أمرًا مهمًا و يعنيني كثيرًا ,و أنتما تدركان هذا , أنتما تعلمان أن العم رييو عزيز على قلبي , لما فعلتما بي هذا ؟‼ "

    تحاول الاقتراب منها لتحضنها "عزيزتي كان لديك محاضرة اليوم و لم أرد إزعاجك أو تعكير يومك, لقد قلتها الآن ؛ قد مات و انتهى !"

    تبتعد عنها نافرة رافضة عناقها "إذًا , أنت أيضًا كنت تعلمين بالأمر .. يمكنك أن تغرقي الثلاجة في أوراق ملاحظاتك , لكن لا يمكنك أن تخبريني بأمر أهم من القيام بواجباتك بدلك .. لقد ألغيت محاضرتي , و لن أتحدث إليكما مجددًا , اتركيني و شأني , أنا أكرهكما ! " و ترتمي على سريرها من جديد لتجهش في البكاء

    " ماذا؟ .. يا إلهي ! "

    ثم تخرج من الغرفة نحو غرفة الوالد " اسمع , ستقوم سايا بأمر سيء , أنا واثقة , لقد قالت إنها تكرهنا , كنت واثقة أنها ستغضب لكن ليس لهاته الدرجة "

    دون أن يوقف استهزاءه و تكبره " لو منعتيها من الذهاب إليه منذ البداية لما جرى هذا , الآن أصبحت مجنونة مثله "

    تصرخ في وجهه "و الآن تلومني أنا؟ , أعتقد أن أول من اصطحبها هو والدك, و ليس أنا -يعود صوتها الحنون الرؤوف- أنا قلقة عليها جدًا, أنا أعرفها جيدًا, عاصفة غضبها هوجاء "

    " هذا كله هراء, ستتحسن مع مرور الأيام, أليست في سن المراهقة ؟!, ستنسى الأمر بسرعة "

    بنبرة الرجاء " آمل هذا "



    يعود الهدوء للمنزل , و ينام الجميع , إلا سايا .. لا زال الوجع جديدًا في قلبها و الجرح حديث .. تتذكر المذكرات , تحضرها .. تتحسسها .. تتملكها رغبة في البكاء فتكبحها , قد تعبت من النحيب ..

    ثم فجأة , تتذكر أمر اللعبة ، لتتصرف بالتلقائية نفسها و تجلبها لتتفقدها ... كُتب عليها "لعبة الويجا" .. اسم الغريب قد لعب في وقت سابق في ردهات مسامعها.. تفتحها أمامها , تتمعن في الرموز العجيبة التي أحاطت بها و في الأحرف المبعثرة عليها , و كلمتي |نعم| و |لا| ..

    بغتة ؛ تتذكر أن ساتو قد أخبرتها عنها من قبل , فتسرع نحو هاتفها لتتصل بها لتجد الساعة قد قاربت الثانية فجرًا .. حتما هي نائمة الآن .. فتعدل عن الفكرة و تغلقها ثم تعود باحثة عن نوم شهي بين ثنايا الظلام .

    [ نهاية الفصل]



    يتاح لكم الرد الآن


    التعديل الأخير تم بواسطة أثير الفكر ; 21-8-2014 الساعة 05:21 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...