الحاسة السادسة:
تغير لون الصباح , آلام مبرحة كتأنيب الضمير تدرك روحها و هي تستيقظ فزعة بصمت من كابوس باغتها على سريرها كسكرات الموت ,
ما هاته الرغبة الجامحة في التقيؤ ، لا تشعر أنها بخير أبدًا ,
رغم الهواجس المتناقضة المتضاربة يجب أن تستيقظ , أن تأخذ نفسًا عميقًا نقيًا لتبيد به التسربات السوداوية ,
ثم تبدأ يوما انتظرته طويلا و الآن لا رغبة لها فيه لسبب ما ...
إنه اليوم المنشود الذي أرهقت نفسها لأجله مدة شهر كامل ,
فلم تترك الرمق الأخير له , السهر لساعات متأخرة , الاستيقاظ المبكر ,
أعمال شاقة مضنية دون فترات راحة من سطوع الشمس لغروبها , صعود و هبوط ,
نشاط و حيوية غريبان , لشهر كامل بالتحديد , دون مرض أو نكسة , و في اليوم العظيم ؛ يزول ذلك السحر, بكل بساطة ...
هكذا كان شعور سندريلا حين دقة الساعة معلنة عن منتصف الليل , إنها نفس الخيبة و الفزع , الفزع الأخرس :
{ هيا سايا قومي , إنها الخطوة الأخيرة و الأهم , و ستتحدين مع السرير للأبد }×
ذلك الكلام الهامشي في سرائرنا بعيدًا عن صفحة الحياة و آذان حروفها الذي نحرض به أنفسنا و نشجعها على الإقدام على أمر ما ؛
ترفع رأسها المثقل بصراخٍ من نوع ما ببطء , ينسدل شعرها المخملي الأجوري البراق على كتفيها ؛
و تستوي الخصلات الصغيرة لوحدها فوق عينين حالمتين غابيتين يملؤهما النعاس حتى النخاع ,
ثم تقوم مترنحة كزهرة توليب تلعب بها النسائم فتميلها كيفما شاءت...
المنزل هادئ كقطرات الندى الحلوة الصباحية التي تزين رؤوس الحشائش و الورود ,
قطعًا ؛التوأمين ليسا هنا , لكانت أحد المعارك تندلع الآن , لا أحد هنا غيرها ؛ والصمت العريق ...
الورقة الصفراء الفاقعة معلقة على الثلاجة , تنذر بالشؤم ,
تحمل وابلاً من الأوامر رغم اليوم العظيم و التعب و ذلك الشعور الغريب المؤلم الذي ينخر عظامها ...
( أدخلِي الثياب التي نشرتيها بالأمس و أخرجِي الغسيل من الآلة ... البسكويت في الرف العلوِ خلف كيس الدقيق , عندما تعودين أرجو أن تتكفلي بالفطور فلدي ثلاث اجتماعات و أعمال كثيرة ؛ سأتأخر ... لا تنسي اصطحاب آي و كورابيكا من عند الخالة آمي , و حظًا موفقًا ... أمك )
( يا إلهي, ليتني لا أجيد القراءة, أصبحت أكره اللون الأصفر, لن يكفيني الوقت لكل هذا... أوووف, حسنٌ , سأسرع لأنهي هته الأعمال و أذهب )
رغم أنف الوجع و التعب تكمل واجبها و تتجه نحو الكلية ,
و في كل خطوة لها وخز في كل ما هو لها , كم طالت الطريق إلى هناك اليوم , يبدو المكان بعيدًا , بعيدًا جدًا ,
تمامًا كالأحلام , إلا أنه أمكنها الوصول إليه ؛ بينما تلك الأحلام لم تقترب منها و لو شبرًا واحدًا ...
كغريب تتصفح وجوه معارفها أمام باب المدخل , هذا الإحساس يمس حتى الذاكرة و يمسحها رويدًا رويدًا ,
تنقذها ساتو من الدخول في غيبوبة حتمية :
" مرررحبًا سايا ☺ , كيف حاا ... !! , آه.ه , ما بك , ما الأمر عزيزتي ؟ , لا تبدين بخير!"
ترفع رأسها نحو ساتو و في عينيها امتنان سري مخفي لمنقذتها من هذا الصمت المُنْهِك
" أأ , أنا لا أشعر أني بخير أبدًا , استيقظت مع شعور غريب أثقل صدري , لقد كنت على ما يرام بالأمس فقط , و اليوم أشعر بالكآبة , صدقًا , هذا اليوم ليس يومي إطلاقًا ّ"
تنفجر ملامحها كمن اكتشف اكتشافًا عظيمًا:
" ساياا , أنت دوما لما يتملكك شعور سيء يحدث أمر ما , ربما محاضرتك ستفشل .. أتعلمين ؟! يمكنك أن تلغيها , يوجد فرصة أخرى الأسبوع المقبل "
" آ , ربما , ستفشل حتمًا و أنا في هذا الوضع , على أي حال أشعر أن كل الأفكار و كل ما حضرته قد تبخر , تعالي لأخبر الآنسة "
" تخبرينني بماذا ؟!" رن صوت رقيق خلفهما
" آآنسة أسامي , كــ ... كنت أود أن أخبرك أني سألغي محاضرتي هذا اليوم "
" ماذا؟! و لماذا ؟ "
" لأن حاستها السادسة قالت ذلك " تنطلق من فم ساتو كالصاروخ
" حاسة ؟! أي حاسة هذه ؟ لا شك أنك أنت من أقنعتها بذلك , واثقة ... عزيزتي, لا تلقـِ لها بالاً, إنها مجنونة, صديقتك و تعرفينها, هيا لندخل"
" لاا , في الواقع أنا لا أشعر أني بخير , استيقظت بصعوبة اليوم و أحس أني مريضة , ربما سأصاب بالزكام "
" لا بأس , هذا طبيعي , لقد أرهقت نفسك كثيرًا هاته الأيام , و لا ريب أنه الخوف فقط والرهبة قد فعلا فعلتهما فيك , ستكونين على ما يرام "
" لا صدقًا, لست ممن يهاب شيئًا, لكني لست بخير, و واثقة من هذا "
" سأحضر لك بعض الأدوية و ستتحسنين, لا تدعيني أشرح لك تأثير العامل النفسي و المرض الوهمي الذي يصيب الناس في حالة الفزع و الجزع , هيا بنا لندخل"
" آسفة آنسة, لكني لست بخير مطلقًا, لست جاهزة حتى, متأكدة أني سأفسد كل شيء "
" حسنٌ حسنٌ ... إذا ؛ لعبت ساتو بعقلك , لا بأس , يوجد فرصة أخرى الأسبوع المقبل , سألغي محاضرتك , و لكن لن تذهبا لأي مكان , ستبقيان لمشاهدة محاضرات اليوم"
تصرخ ساتو " ماذا ؟! و هل أنا مشعوذة ؟! "
تُطْبِق سايا فاه ساتو "أصمتِ ... حسنٌ , شكرًا آنسة أسامي "
الآنسة ممازحة " هههه , هيا تعاليا , و ساتو , أرجو أن لا يبدر منك أي تصرف مشين كالعادة "
" حاضرة آنسة "
ألقى العديد من الطلاب محاضراتهم , كلها تتحدث عن موضوع واحد , بالرتابة و الملل نفسه ,
و كأنه لا يوجد في بحر الكتب التاريخية الأدبية التي تتحدث عن الأمجاد و الأساطير إلا كتاب "الإلياذة" لهوميروس ,
الشاعر الإغريقي العظيم , واضحة هي المعركة التي تنشب في أنفسهم , تفضحها الأنفاس المتذبذبة المتوترة ...
و هي تعارك في نفسها شيئًا أكبر , إلحاح الحاسة السادسة على الانتحار ..
{ أيها الشعور؛ لقد ألغيت المحاضرة , رجاءًا توقف ‼} ...
انتهت المحاضرات و الأوجاع لم تتوقف بعد , و هذا الزحام يزيد الأمر سوءًا , تخلق آلاف الأعذار و الحجج لتغادر , فلم يبقى نفس ,
لتطلق الآنسة أسامي سراحها بعد جهد كبير ,
غادرت المكان مع ساتو نحو بيت الخالة آمي , آملة أن يعلق الشعور وسط الحشود و تدهسه الأرجل الدائسة ,
مرجرجة نفسها في الطريق معتقدة أن هذا الوخز في قلبها هو مجر بقاياه ,
تحتاج لتنفث عليها فتروح هباء منثورًا عبر الأثير...
يُقال ؛ أي فكرة تعتقدها و تؤمن بها يمكن أن يُريك عقلك أنها قد تحققت , بينما في الواقع لم يحدث شيء ,
رغم إيمانها أنها قد تخلصت من الإحساس ذاك , إلا أن الآلام أبت أن توقف سخافتها , استمرت , و استمرت و استمرت ...
لكل طريق نهاية , لكل شيء نهاية , فهاهي آخر الطريق و ها هو بيت الخالة ,
و لكن ليس لسكرات الحاسة السادسة من نهاية , بقناع خادع و ابتسامة حلوة مصطنعة تخفي عذابها ,
فلا تريد لأحد أن يشاركها هذا , أن يسألها عن أمر يلم بها , تشعر به و يملؤها حتى أخمص قدميها, و ليس لها تفسير له ...
تدق الباب لتفتح الخالة بعد لحظات معدودة و تقبل بوجهها البشوش كالعادة :
" سايا عزيزتي . مرحبا بك , و من حضر معك ؟ .. آاا , ساتو , تفضلا بالدخول , مرحبًا بكما ‼ "
ساتو "مرحبا خالتي آمي "
سايا "شكرًا خالتي , أتيت لاصطحاب آي و كورا "
" حسنًا , لكن لماذا لا تبقين تناول الغذاء معنا ثم يمكنكم الرحيل "
" شكرا خالتي , لكن سيعود أبي قريبًا للمنزل و يجب أن أكون هناك .. أنت تعرفين؛ لقد أوصتني أمي ببعض الأمور و تدركين إن أنا لم أقم بها ما الذي سيحصل لي "
" ههه حسنٌ , لا بأس , تفضلي لغرفة الجلوس و سأناديهما ... آي , كورابيكا , لقد جاءت سايا , هيا انزلا "
صوت يبدو من نبرته أنه مرتفع و إنما هو خافت من الأعلى " نحن قادمان "
" سأحضر لكِ بعض الطعام لتأخذيه معك, دقيقة فقط و سأعود "
بعد دقائق نزل التوأمان و أحضرت الخالة سلة بها الطعام ثم غادروا صوب منزلهم ...
" حسنًا سايا , نلتقي غدًا , وداعًا "
" شكرًا لك ساتو لأنك رافقتني اليوم , إلى اللقاء "
" لا شكر على واجب عزيزتي "
اتجهت ساتو لبيتها و دخل الأشقاء الثلاث منزلهم :
" مرحبًا , لقد عدنا .... لا أعتقد أن أحدًا هنا , هيا اغسلا أيدكما و تعاليا , ستجدان الغذاء جاهزًا "
ما إن غادر التوأم حتى دق جرس الباب , فاتجهت سايا لفتحه
" من بالباب ؟"
" إنه والدك , افتحي "
" مرحبًا أبي , تفضل "
" مرحبًا , هل عادت أمك ؟"
" لا , ليس بعد , أعتقد أنها ستتأخر اليوم "
" نعم أدرك ذلك , لكني اتصلت بها لتأتي - يضع حقيبته على المنضدة و يفتح ربطة عنقه- أنا تعب جدًا , سأصعد لغرفتي لأرتاح ,عندما تأتي أمك أخبريها أن لا تزعجني المهم أن تحضر ما طلبته منها ... -يُدخل يده في جيب السترة متأففًا - خذي هاتفي و ضعيه في الشاحن "
تأخذ منه هاتفه و هي لا تزال تنظر إليه باستغراب , ثم ترد بصوت هادئ " حسنًا , أمرك "
صعد للطابق العلوي متمتمًا بكلام غير مفهوم , يبدو من حركاته و تعابير وجهه أنه متذمر من أمر ما , ربما واجهته مشاكل في العمل ...
عاد التوأمان من الحمام, تناولا فطورهما ، توسل كورابيكا لتتركه يذهب لبيت الجارة للعب مع ابنها,
بعد إلحاح طويل , تركته يذهب , شرط أن يعود باكرًا , و أن لا يوسخ نفسه أو يخلق المشاكل ,
بينما آي قررت البقاء لمشاهدة التلفاز في أمان, المهم أن يتركاها في سلام نظرًا لتصرفاتها الغريبة الملحوظة اليوم,
على أي حال تحتاج للراحة و الجلوس وحدها لتهدئة و ترويض هذا الإحساس الهجين الذي يرفض الانصياع و الخضوع ....
في محاولة مجنونة يائسة لمدة طويلة تفتح كل أبواب حواسها لتطلق سراحه ,
أو بالأحرى لتطرده بعيدًا عنها , تصرخ في صمت يمزق حناياها , تترجاه ليتركها في سلام , و لكن دون جدوى , فقلبه قاسٍ ...
تُرهِف كل ما فيها , عبثًا تبحث عن ما يبعدها و ينسيها في كل هذا الهراء في حديقة غرفة الجلوس ,
بينما هي منهمكة في التفتيش عن سؤال ما في زهور تبدو كئيبة اليوم , رنَّ الهاتف,و قبل أن تتفطن للقيام رفعت آي السماعة :
" ألو , مرحباً ! من على الخط؟ "
" ألو , مرحبًا عزيزتي آي , كيف حالك "
" آاا , عمي ياماتو , أنا بخير و أنت , كيف حالك ؟ "
" أنا على ما يرام , هل والدك في البيت ؟ "
" أجل إنه هنا , هل أناديه لك ؟ "
" أجل عزيزتي , هيا أسرعي "
" حسنًا -تضع السماعة جانبًا- أبي ... أبي , العم ياماتو على الهاتف "
بصوت خافت لا يخلو من التبرم من الطابق العلوي " أنا قادم ... ألو "
" أكان , في أي عالم أنت ؟‼ , أحاول الاتصال بك منذ الصباح و هاتفك مغلق "
" نعم , لقد نفذت بطاريته , ما الأمر؟ "
"لقد أفقدوني صوابي إدارة المصحة , لا ينفكون يتصلون و يتصلون من أجل جثة العجوز و مقتنياته , أنت تعلم أني لست بالمدينة اليوم , اذهب بدلي "
" و ما الذي يفترض بي أن أفعله أنا, هل احتفظ بجثته في الثلاجة ؟‼ ... لقد أفسدت يومي بخبره هذا الصباح و تريد مني أن أذهب إليه, لا صلة لي بذلك الهرم , أخبرهم أن يفعلوا به ما شاءوا "
" ماذا تعني بكلامك ؟ "
" أرجوك , ما الذي يمكن أن يملكه ذلك العجوز المُعْدم , فليتبرعوا بأشيائه إن وُجِدت حقًا , و ليأخذوا جثته لمصلحة حفظ الجثث أو يدفنونه دون أي مراسيم أو أي سخافات , أو يرمونه في بحيرة ما , ما أدراني أنا ؟ , لن يفتقد العالم مجنونًا , إنه بحاجة للعقلاء "
" حسنًا , و لكن إن اتصلوا مجددًا يجب أن تفعل شيئًا , إنهم يفسدون عطلتي و زوجتي غاضبة جدًا مني بسبب هذا الإزعاج "
" لقد قلت لك مسبقًا, ليس لي أي وقت لمثل هذا الهراء, لست مهتمًا بالأمر و لن أضيع وقتي, إن تخلصت منه أخبرني و إلا, فلا داعي للاتصال بي مجددًا "
" حسنًا حسنًا , سأُعْلمهم بقرارنا , وداعًا "
"إلى اللقاء " و يضع السماعة بعنف
> آﯾھَـآ آلآعژآءء .. ﯾړُﭴـے عﮃم̝̚ آلرد :} !
المفضلات