"مغترب"


أصحو في الصباح.. أفتح النافذة الكبيرة.. وأتجمد مكاني لبضع دقائق..

لماذا أتحدث بصيغة الحاضر؟ لأن هذا ما أفعله كل يوم دون أدنى تغيير..

أستيقظ من نومي على صوت منبه هاتفي المزعج، أنهض من فراشي الممدد على الأرض المليئة بالغبار.. أقف مترنحا.. أتجه نحو النافذة.. وأفتحها لأرى نفسي مواجهاً لجدارٍ أصم ضخم..

وبالرغم من أنني هنا منذ عامٍ كامل، إلا أنني ما زلت أحتاج بضعة دقائق كل صباح حتى أستوعب ما أراه خارج نافذتي.. وحتى أستوعب أين أنا تحديداً..

لأكثر من عشرين عاماً كنتُ أصحو يومياً بنفس الطريقة.. توقظني أصوات الطيور العالية – والتي كنت أراها مزعجةً في ذلك الوقت – ثم أفتح النافذة الكبيرة.. أستنشق عبير الصباح.. أنصت لحفيف الأشجار وأصوات الطيور ونداءات الباعة.. أتأمل شجرة التين التي تمتد أغصانها إلى نافذتي وأراقب نمو ثمارها وألمح ما خلّفته أثناء نموها على حافة النافذة.. قبل أن أبدأ بعدها حياتي اليومية..

لم يتغير روتيني الصباحي هذا لأكثر من عشرين عاماً.. لذلك حتى بعد مرور عامٍ كامل على وجودي في "الغربة".. لا أزال أضع صوت زقزقة العصافير كنغمةٍ لمنبهي، ولا أزال أتفاجأ يومياً بالجدار الأصم القابع أمام النافذة وبرائحة عوادم السيارات المنبعثة بقوة إلى الغرفة..

هي غرفة صغيرة تلك التي أسكنها هنا.. فيها فراش ملقى تحت النافذة، دولابٌ خشبي مستعمل، تلفازٌ صغير، وجهاز تكييف ضخم..!

بالمناسبة ابتعت تلفازي الصغير لأجل تمضية الوقت فقط.. حتى أني أضعه على صندوقٍ من الكرتون! لماذا؟ لأنني لا أنتمي إلى هنا..! وجودي هنا مؤقت.. لن أستقر هنا في كل الأحوال.. ربما سنة أو سنتين بعد، ثم سأعود.. لذلك لا داعي لاقتناء المزيد من الأثاث.. لا أحتاج سوى ما يكفيني لإقامتي المؤقتة هذه فقط..

لم أفكر يوما بمغادرة بلادي.. ولكني لم أستطع أن أجد عملا طوال عامين بعد تخرجي ولم أملك إلا أن أقدم أوراقي لشركاتٍ في الخارج.. كنت محتاجا للعمل بشدة فأنا أساعد والدي المسن في الإنفاق على العائلة.. لم أرهم منذ عامٍ كامل الآن.. ولكن.. أستطيع أن أرى في تقويم هاتفي الذي أفتحه كل ساعةٍ تقريبا، أنه قد تبقى ثلاثةُ أيام فقط حتى موعد سفري إليهم!

استطعتُ الحصول على عطلةٍ أخيرا.. وسأراهم.. وسأعود..

الأيام الثلاثة مرت ببطء شديد.. كنت أعد الدقائق والثواني المتبقية على موعد سفري.. حتى حان ذلك الوقت أخيرا..

طوال جلوسي على مقعد الطائرة كنت أتخيل منزلي وغرفتي وشجرة التين.. تصورت حتى أدق تفاصيل غرفة المعيشة وطاولة الطعام والعائلة المجتمعة حولها تتناول فاكهةً موسمية بقرب مدفئة الغاز الكبيرة.. لحظة إننا في الصيف لذلك ستكون المدفئة مركونةً في زاوية الغرفة بجانب دولاب الثياب الخشبي الكبير..

طوال جلوسي في سيارة الأجرة المتجهة من المطار إلى منزلي كنت أرى في ذهني صورة حيّنا.. دكان أبي صلاح في بداية الطريق.. القرطاسية الصغيرة في الأسفل ومحل الخضروات الذي يبيع فيه العجوز أبو أحمد.. ثم أشجار الزيتون على جانبي الطريق حتى نصل إلى بوابة منزلنا السوداء.. تطل من خلفها أزهار الياسمين البيضاء بخجل..

كنت غارقاً في خيالاتي عندما قال السائق فجأة: إننا في الحي الآن.. أين يقع منزلك بالضبط؟

ربما بدوت له غريبا وأنا أتأمل كل شجرة وزهرة في الطريق، وأطرب لسماع أي كلمةٍ بلهجة بلادي التي افتقدتها طويلا..

لم أبالي كثيرا بذلك.. حدّقت من النافذة نحو الحي.. إنه حيّنا فعلا.. سنمر الآن على الدكان و.. لحظة.. يبدو أن الدكان قد اختفى!

كنت أصف الطريق للسائق وذهني منشغلٌ مع الدكان الذي اختفى.. لماذا أغلقوه؟ هل خسروا كثيرا؟ ما الذي يفعله أبو صلاح الآن؟ لا بد أن أسأل عائلتي عن الأمر.. عليّ ألا أنسى ذلك..

توقفت السيارة أخيرا.. رفعتُ عيني المترقبتين نحو بوابة منزلنا السوداء المزينة بأزهار الياسمين البيضاء التي تطل من خلفها بخجل.. البوابة كانت بيضاء تماما.. ولا أثر للأزهار.. متى أعادوا صبغها؟ وماذا حل بشجرة الياسمين؟

بقيتُ محدقا بذهول ثم استعذت بالله من الشيطان الرجيم.. دفعتُ للسائق أجرته وحملتُ حقيبتي ثم انطلقتُ إلى المنزل.. من ينتظرني في الداخل هو ما يهمني حقا..!

الوجه الذي استقبلني أمام الباب كان وجه أمي الحبيبة.. بكت كثيرا وعانقتني.. واجتمع حولنا بعدها إخوتي وأخواتي ووالدي المسن واختلطت الدموع بالابتسامات.. شعرتُ بقلبي ينغمس في السعادة انغماسا.. ألم أقل لكم أن من بداخل المنزل هو الأهم؟

تحدثنا كثيرا عن سفري وعن عملي وعن أخبارهم وأيامهم هنا.. قضينا سهرةً لطيفةً افتقدتها طويلا ثم أخذوني إلى غرفتي.. أيبدو غريبا أنهم أخذوني إلى غرفتي..؟ كنت أفضل أن أقول "ثم ذهبت إلى غرفتي" ولكنهم أخذوني إلى هناك كضيفٍ عزيزٍ حلّ بهم.. تجاهلتُ الأمر.. لماذا أُصِرُّ على الانتباه إلى جزئيات فرعية لا أهمية لها؟

كان ترتيب الغرفة قد تغير.. من الواضح أن إخوتي قد استعملوها من بعدي، ولكن أليس ذلك طبيعيا؟ أعني من غير المنطقي أن تُترك خاليةً لعام! عندما فتحتُ النافذة الكبيرة التي افتقدتُها في كل صباحات عامي الفائت، كانت التينة تبدو أبعد من المعتاد.. التفتُّ نحو أختي التي كانت تعد الفراش متسائلا: ماذا حدث للتينة؟

نظرت نحوي دون فهم ثم قالت فجأة: أوه.. لقد كانت تسبب اتساخ النافذة دوما لذلك قلّمنا أغصانها قليلاً.. ظننتكَ كنتَ هنا عندما فعلنا ذلك!

بدا الضيق على وجهي الآن وقلت: لا لم أكن هنا.. ولم أعلم حتى بإعادة صبغكم للبوابة أو بإزالتكم لشجرة الياسمين!

ضحكت أختي قليلا وقالت: حقا؟ إذا فقد وجدت الكثير قد تغير عند عودتك!

في الواقع كان الكثير قد تغير فعلا.. أبو صالح ترك الدكان وباع المنزل وانتقل من الحي.. أبو أحمد صاحب محل الخضروات قد توفي وورث ابنه محله الآن.. هناك مبنى عالٍ قد بني خلف بيتنا لذلك عندما صعدتُ إلى سطح المنزل لم أتمكن من رؤية مشهد المدينة الذي لطالما عشقته واعتدت تأمله طويلا..

طاولة غرفة المعيشة تغيرت، ومدفئة الغاز العتيقة المركونة بجانب الدولاب اختفت وحلّت محلها مدفئة كهربائية حديثة..

لماذا تغير الكثير هكذا خلال العام الوحيد الذي قضيته بعيدا؟ أم أن الحياة تتغير هكذا دائما ولكننا لا نشعر بهذا التغيير إلا عندما نبتعد؟؟

ربما تقولون أني أهتم كثيرا بالمظاهر، الواقع أن هذا ليس كل شيء.. عندما تشاركتُ الطاولة مع عائلتي في الأيام التالية بدوتُ كالغريب.. لم أعرف شيئا عن عائلة اللحام التي يتحدثون عنها، ولم أسمع يوما بمشروع أخي العظيم الذي يعده في المدرسة، ولم يصلني خبر عن مشروع خطبة أختي القريب، ولا رأي لي في إعادة ترتيب المنزل التي ينوون القيام بها!

وأخيراً بدا أنهم يعتمدون كثيراً على النقود التي أرسلها ويرسمون خططاً مستقبلةً كثيرةً مبنيةً عليها..!

ببساطة بدوت بينهم كالغريب.. كالضيف الذي يزورهم.. يفرحون به ويعلمون أنه لا ينتمي إلى هنا..

أنا حقاً ودون أشعر.. لم أعد أنتمي إلى هنا..

عندما اقترب وقت سفري مجددا وقفت على سطح المنزل.. أتأمل المبنى العالي الذي يخفي المدينة الكبيرة خلفه.. أستنشق عبق الهواء وأنصت إلى تغريد الطيور وأصوات الباعة وحفيف الأشجار..

اقترب أخي من ورائي مبتسماً.. سألني عما سأفعله عند عودتي.. نظرت إلى السماء ملياً ثم همست:

سأشتري منضدةً للتلفاز..!


~ تمت ~