|| طبيبة أطفال || في قصصهم عبرة (2) ||

[ منتدى نور على نور ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الصورة الرمزية تشيزوكو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المـشـــاركــات
    4,317
    الــــدولــــــــة
    مغترب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي || طبيبة أطفال || في قصصهم عبرة (2) ||


    طبيبة أطفال


    عندما كنتُ صغيرة توفي أخي التوأم بعد أن أُصيب بمرض الحصبة.. ومن يومها عقدتُ العزم على أن أصبح طبيبة أطفال..

    وحتى عندما كنتُ لا أزال في بداية سنواتي المدرسية، كنتُ أجمع مصروفي اليومي لأشتري به كتباً ومنشورات عن طب وأمراض الأطفال.. صورة شقيقي الممدد على الفراش دون حراك كانت تتراءى أمام عينيّ في كل يومٍ من أيام حياتي..

    في الواقع كنت جزءاً من عائلةٍ كبيرة.. وعندما تخرجت من الثانوية كان اثنان من أشقائي يدرسان في الجامعة.. ولم يكن بمقدور والدي تحمل مصاريف دراستنا جميعاً.. لذلك حاولت عائلتي ثنيي عن عزمي على دراسة الطب.. ولكني لم أتزحزح عن هدفي مطلقاً..





    أنا
    ومنى وأحلام.. كنا ثلاثة زميلاتٍ جمعتنا رغبتُنا المشتركة بدراسة الطب على اختلاف فروعه.. لم أكن أعرف منى جيداً ولكنّ أحلام كانت صديقةً مقربةً لي.. حدثتهما عن مشكلتي.. لا يمكنني أن أتنازل عن التخصص الذي اخترتُه.. وفي الوقت نفسه أتفهم ظروف عائلتي وصعوبة تدريس ثلاثة أبناءٍ في وقت واحد..

    عندها قالت
    منى بحماسة: الحل لديّ! أنا كذلك أرغب بدراسة الطب ولا يمكن لعائلتي تحمل نفقات دراستي، بحثتُ كثيراً عن حل حتى دلني بعضهم على منحةٍ خاصة يقدمها رجلٌ ثريٌ محسن لأصحاب المعدلات المرتفعة! كنت أنوي التقدم للمنحة.. صرنا اثنتين الآن..!

    لم أصدق هذه المعجزة التي تنزّلت علي.. كنتُ في حالةٍ نفسيةٍ سيئةٍ مؤخراً وأنا أرى حلمي يلوح بعيداً جداً.. لذلك جاءت كلماتها كالماء البارد الذي سُكب على همومي فأطفأ كل نيران القلق والتعب.. سعدت
    أحلام لأجلنا وباركت لنا.. هي تنتمي لعائلةٍ ثرية ولا تحتاج المنحة.. وتواعدتُ مع منى على التقديم للمنحة في اليوم التالي..

    ومنذ تلك الليلة بدأتُ رحلةً جديدةً من التوتر.. لم يعد بإمكاني فعل شيءٍ سوى تقديم طلبي والانتظار.. كان معدلي مرتفعاً ولكني كنت خائفةً جداً من احتمال عدم قبولي.. فكرة أن يُغلق الباب الوحيد الذي فُتح أمامي كانت مرعبةً جداً بالنسبة لي..





    لم أجد أن بِيَدي شيئا لأفعله.. فرفعتُ بصري إلى السماء وهمستُ من أعماق قلبي:
    يا رب..

    شعرتُ بالدفء يغمر أوصالي.. همستُ مجدداً:
    يا رب.. أنت تعلم ما في قلبي.. وتعلم بحالي.. وليس لي الآن سواك.. فلا تردني خائبة..!

    شعرتُ بأن الليل كان يردد صدى كلماتي.. حلّ على قلبي اطمئنانٌ عجيب.. وخلدتُ إلى النوم بنفسٍ صافيةٍ مرتاحة..

    في اليوم التالي قدمتُ مع
    منى طلب المنحة.. وبقي علينا انتظار الرد.. كنت أدعو بإخلاصٍ في كل ليلة.. وانتظرتُ النتائج على أحرَّ من الجمر.. لم تتأخر النتائج كثيراً.. قُبِلت منى ولكني لم أُقبَل..!





    بقيتُ واجمةً أتأمل الواقع المرير الذي وصلتُ إليه.. هتفت جوارحي من أعماق الألم:
    لماذا..؟؟؟ لماذا بعد كل جهدي الدراسي وبعد كل ابتهالاتي القلبية.. لماذا يحدث هذا لي..؟ حتى أن معدلي أعلى من معدل منى..! أنا هي صاحبة الهدف الأرقى فقد رغبتُ بالطب لأجل الآخرين وليس لما سأكسبه من أموال من وراءه.. وأنا هي التي كانت تدعو بإخلاصٍ في كل ليلة..! لماذا يحدث كل هذا لي أنا..؟

    بدت
    منى مرتبكةً وهي تحاول مواساتي.. كان الوضع محرجاً بالنسبة لها بالتأكيد.. لذلك لم أحاول الحديث في الأمر أكثر وغادرتُها وقد عقدتُ العزم على أن أتدبر أموري بنفسي.. سأصبح طبيبة أطفال مهما حدث! لستُ بحاجة للدعاء لأحقق ذلك.. أستطيع فعل ذلك بنفسي..!





    سجلتُ في تخصص الطب بالجامعة وبدأت أبحث عن عملٍ يساعدني في دفع تكاليف الدراسة.. العمل الوحيد الذي وجدته كان مربيةً في حضانة أطفال! أتتخيلون الأمر؟ طبيبة المستقبل تقضي يومها في التهريج للأطفال بدلا من العكوف على الكتب والأبحاث والدراسات!

    كنت متألمةً وساخطةً جداً على الواقع الذي انتهيتُ إليه.. ولكني قررتُ أن أتابع.. فلا تزال صورةٌ بعيدة لطفلٍ شاحبٍ ومسجى على فراشه الصغير تتراءى أمام ناظري كل يوم.. صورةٌ تطل عليّ من الماضي وتدفعني دفعاً نحو المستقبل..

    لم أتواصل مع
    منى بعد ما حدث.. أنهت أحلام دراستها بينما لا زلتُ في منتصف مشواري.. كنتُ أخفّض عدد الساعات التي أدرسها في كل فصل لتتناسب مع ميزانيتي المحدودة.. بالكاد كنتُ أقابل أحداً أو حتى أتحدث إليه.. لم أكن أرى سوى طريقي من الجامعة إلى العمل.. ثم إلى المنزل في وقتٍ متأخر من الليل لأقضي ساعاته في الدراسة حتى أسقط نائمةً بين الكتب وأستيقظ في صباحٍ جديد حافل بالمزيد من التعب..

    وفي كل خطوةٍ كنتُ أخطوها وعند كل إنهاكٍ يعتري جسدي كنتُ أتذكر المنحة التي فاتتني وأتخيل كيف سيكون حالي لو أنني قُبلتُ فيها.. ها قد بدأت
    أحلام أخيراً تزاول مهنة الطب في إحدى المستشفيات الصغيرة.. وأنا لا أزال هنا.. أهرّج مع الأطفال..

    ولكنّ سنوات العناء سرعان ما انتهت.. وتفاصيل العذاب صارت جزءاً من الماضي.. فها أنا ذا أقف على عتبات حلمي فخورة بالإنجاز الذي حققته بنفسي.. بعرقي وجهدي.. كنت مغفلةً حين اعتقدتُ يوماً أن حلمي سيتحقق لو رفعتُ يديّ بدعوة صادقة.. لا تتحقق الأحلام إلا بالجهد الشخصي.. وفقط..! وإلا لكنتُ الآن مع
    أحلام أتطور في وظيفتي وأتنقّل من مشفى لآخر..!





    بعد أن حصلت
    أحلام على سنواتٍ من الخبرة في العمل في أكثر من مشفى صارت تعمل الآن في مشفى ضخم.. هو حقاً الأفضل في البلد كله.. غبطتُها على ما وصلت إليه.. وندبتُ حظي ومنحتي المفقودة مجدداً..

    أخبرتني
    أحلام عن حاجة المشفى إلى طبيبة أطفال وشجعتني على تقديم أوراقي.. كنتُ لا أزال خريجةً جديدةً وعملي في مشفىً كهذا يعد ضرباً من الخيال.. ولكني مع ذلك قدمتُ أوراقي دون أن أفكر بالأمر كثيراً.. وبعد أيامٍ قليلةٍ فقط.. كنتُ قد قبلتُ في المشفى..!

    لم أكد أصدق النبأ.. لم تسعني الأرض من شدة السعادة.. وحتى في قمة سعادتي هذه زارتني الحسرة مجدداً عندما تذكرتُ المنحة.. لو أنني قبلتُ فيها وتخرجتُ باكراً لكنتُ الآن أعمل هنا منذ سنوات بدلاً من الأعوام التي أضعتُها في التهريج مع الأطفال! أذكر ليلة تقديمي لها حين سهرتُ أدعو وأنا أعتقد أن شيئاً يمكن أن يتحقق هكذا.. كم كنت مغفلة..!

    ها أنا ذا الآن أعمل في وظيفةٍ يحلم بها الكثيرون.. سعيدة وقد حققتُ حلم طفولتي.. وقد صار بإمكاني إنقاذ أرواحٍ كثيرة كان يمكن أن تضيع وتتحول إلى صورٍ بعيدةٍ مؤلمة تتراءى لأحبائها كل يوم..!





    اليوم حصلتُ أخيراً على بعض وقت الفراغ.. وقضيتُ اليوم بطوله مع
    أحلام.. تحدثنا عن أمورٍ كثيرة.. حدثتها عن مشاعري وكيف أني أستطيع أن أخيراً أن أتذكر وجه أخي المبتسم بدلاً من تذكر صورته البائسة وهو مسجى على فراشه.. حدثتُها بكل صراحةٍ عن حسرتي على ما ضاع من عمري بين الأطفال بينما كان من الممكن أن أكون بأفضل حالٍ لو أنني قبلتُ في تلك المنحة..

    استوقفتني
    أحلام هنا قليلاً وتساءلت باستغراب: أية منحة؟

    لا ألوم نسيانها فلم تكن المنحة بالأمر المهم بالنسبة لها.. أجبتُها:
    منحة منى.. أنتِ تذكرين منى أليس كذلك؟

    بدت الدهشة جليةً الآن في ملامحها وقالت:
    لا تقولي بأنكِ لا تعرفين!!

    انتابني بعض القلق وسألتُ بتوتر:
    لا أعرف ماذا؟؟

    هتفت بسرعة:
    المنحة! صاحب المنحة ذاك كان مجرد مخادع! لقد كان يجمع التبرعات من المحسنين بحجة أنها لكفالة طلاب العلم، وليكسب ثقتهم كان يعلن عن منحته تلك ويقبل الطلاب فيها ويدفع لهم بالفعل رسوم فصلهم الدراسي الأول.. ثم إنه يجمع بقية المبالغ ويأخذها لنفسه ويغادر المدينة مغيراً اسمه وهيئته..

    لقد ظهر أنه صاحب سوابق ومعروفٌ لدى الشرطة ومع ذلك لا يزال الكثيرون يُخدعون به.. لقد انهارت منى تماماً.. تدمرت كل أحلامها بالإضافة إلى أنها اضطرت طوال العام التالي إلى التنقل بين المحاكم والمخافر لتقديم إفادتها مرةً بعد أخرى.. لقد كان الأمر جحيماً بالنسبة لها!



    احتبست الكلمات في حلقي ولم أعرف كيف أعقب.. يا له من مصيرٍ مفجعٍ ذاك الذي كان ينتظرني لو أنني قُبلتُ في تلك المنحة.. تراءت أمام ناظري ليلة ما قبل تقديمي للمنحة.. همسات قلبي الصادقة.. والليل الذي ردد معي صدى دعواتي.. لقد حدثت المعجزة بالفعل في تلك الليلة..! ولكن وطوال هذا الوقت كنتُ..... لم أشأ أن أعترف بذلك.. بمدى فظاعة ما اعتقدتُه وارتكبتُه طوال هذه السنوات..!

    كان عليّ أن أقول شيئاً لعيني
    أحلام المثبتتين عليّ بلومٍ واضح..

    تمتمتُ بارتباك:
    ولكن.. لو أنني وجدتُ منحة.. منحةً أخرى.. لما اضطررتُ لأن أعاني ما عانيتُه من عملٍ وشقاء.. كنتُ لأكون طبيبة مشهورةً الآن.. في هذا المشفى الكبير..!

    ولكن نظرات
    أحلام لم تتغير.. قالت بلهجةٍ مؤنبة: لم يكن ذلك ليحدث أبداً.. أتعتقدين حقاً أن مشفىً كبيراً كهذا يقبل بحديثي التخرج لديه ببساطة..؟

    صدمتُ من كلامها وقلتُ بغير ترابط:
    ولكنني.. أنا.. أنا هنا.. هذا يعني...

    قاطعتني
    أحلام بصرامة: يهتم المشفى كثيراً بطريقة تعامل الأطباء مع مرضاهم.. الجانب المعرفي الطبي ليس الشيء الوحيد الذي ينظرون إليه.. لقد كان هناك الكثير من ذوي الخبرة المنافسين لكِ على هذه الوظيفة.. أتعلمين لماذا أنتِ بالذات من قُبلت هنا؟

    كان قلبي يخفق بشدةٍ الآن.. أُلجم لساني ولم أنطق بكلمة وبقيت عيناي مثبتيين بشفتيها بانتظار ما ستنبجسان عنه:

    لقد كانت الأفضلية لكِ بسبب الخبرة التي تملكينها في تدريس والتعامل مع الأطفال..!






    همسة:


    قال أحد السلف: "لو اطلع أحدكم إلى الغيب لما اختار إلا ما اختاره الله له"..




    التعديل الأخير تم بواسطة تشيزوكو ; 29-11-2014 الساعة 09:56 PM

  2. الأعضاء الذين يشكرون تشيزوكو على هذا الموضوع:


  3. #2

    الصورة الرمزية [ اللــيـــث ]

    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المـشـــاركــات
    4,329
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: || طبيبة أطفال || في قصصهم عبرة (2) ||

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    تبارك الرحمن .. كم أتعبتِ المشاركين في هذه الجولة ..
    لنا عودة وكم كثرت حجوزاتي هذه الفترة فتحملونا بارك الله فيكم :")

  4. #3

    الصورة الرمزية تشيزوكو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المـشـــاركــات
    4,317
    الــــدولــــــــة
    مغترب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: || طبيبة أطفال || في قصصهم عبرة (2) ||

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة [ اللــيـــث ] مشاهدة المشاركة
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    تبارك الرحمن .. كم أتعبتِ المشاركين في هذه الجولة ..
    لنا عودة وكم كثرت حجوزاتي هذه الفترة فتحملونا بارك الله فيكم :")

    شكرا جزيلا..

    لا بأس أبدا سنكون في الانتظار في أي وقت

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...