...
جلس إلى مكتبه كي يترجم أحاسيسَه في شكل رموز .... حروف .. كلمات ..
وما إن ذَكـرَ اسمَها حتى فاضت العين دمعا .. فصرخ القلب آمِرا:
" اكتُبْ يا قلمُ كلماتٍ.. اكـتُـبْها علّها تُطفئ حرارةَ الدّمعِ.. "
تناول القلمَ الأسودَ بين أنامله، وهجم على الورقة البيضاء، لكنّ القلمَ لا يكتب
خطّ خطوطا بهلوانية وأعادها مرات عديدة، لكنْ، دون جدوى، كانت كصِفرٍ على الماء !
كانت الصدمةُ موجعةً عندما علِمَ أن القلمَ يأبى الكتابة عن سبْق إصرار، أُصيبَ بخيبة أمل مريرة..
فبِالأمس تمّرد عليه الحبّ مع النُّعاس، وها هو ذا اليومَ أمام خِذلان القلم، ذاك الصديقُ الوفيُّ الذي رافقه في السّرّاء
والضّرّاء، ذاك الذي لم يخطُرْ بباله يوما أنه سيخونه مهما كانت الظروف.. نظر إليه نظرةَ دهشةٍ واستغرابٍ متسائلا:
" ما السبب أيها القلم؟ أانقضى مدادُك أم أنك تعِبتَ من الكتابة؟ "
يُجيب القلمُ الحزينُ وهو يبكي من غير دموع: " لا هذا ولا ذاك، وإنما تعِبْتُ من غموضك؛ حتى أصبحتُ لا أعرفك
تُرغمني على نُطق رموز لا أفهمها.. أهكذا تكون الصداقة..؟ ولا تـتّـهمني بالخيانة، فلستُ وحدي في الميدان "
انتقل ببصره إلى سطح المكتب، فإذا بالورقة قد أجهشت بالبكاء.. كانت سطورُها قد اعوجَّت وانكسرت
انحرفت عن مسارها الأصلي، كأنها خطوطُ مسجِّلِ الهزّات الزلزالية.. مالَ نحوَها بصوت حنون:
"خبِّريني أيتها الأرض الوفية.. ما سبب هذه الثورة الأدبية؟ "
أجابت على استحياء:
"أنا أيضا تعِبتُ من غموضك؛ تعِبتُ من استقبال ضيوف لا أعرف هويتهم الحقيقية، فمتى ستفتح لنا قلبك..؟"
أحَـسَّ بأن الأرض قد ضاقت عليه بم رحُبَت.. ومرة أخرى يتساءل:
ألِهذه الدرجة كنتُ غامضا؟! حتى أعزّ أصدقائي الذين أحسبهم من جِلدتي ودمي يُرهقهم أسلوبي..!!
لن أتخلّى عن قلمي وورقتي، فهما رأسُمالي..
صمتَ قليلا ليزدَرِدَ لُعابه ثم خاطبهما:
"أيها الصديقان الوفيان، لكما ما تريدان، فليكن أوّل ضيف من اقتراحكما..".
سالتْ دموعُ القلم فرحا، بعدما قفز نحو يد صاحبه، ليأخذَ مكانه بين السبّابة والإبهام صائحا:
"وأخيرا عادت الحياة، أريد أول حرف في الحياة؛ أريد حرف الحاء".
تبسّمَ قائلا: "لك ما تشاء.. وأنتِ أيتها الأرض الخصبة، ماذا تَـنْظُرين؟"
أفرشَت الورقة سطورَها لحرف الحاء، ثم قالت:
"هذه البداية، أُفَضِّل أول حرف في البداية.."
وأطبَقَتْ شفتيها خجلا، وكأنها تُدافع ضحكةً من تلك الضحكات الفاضحة، وبمجرّد انفتاح الشفتين
قفز حرف الباء كالباز قد انقضَّ من الجو، فأخذ مكانه إلى جانب الحاء، وعانق كلٌّ منهما الآخر
معانقةَ حـبيبين قُـدِّرَ لهما اللقاءُ بعدما يَـئِسَا منه.. حتى صار الاثنان واحدا ( حُـــــبّ )
ظل يتأمل في تلك الكلمة التي لم يسمحْ لها يوما بالانضمام إلى قاموس مفرداته
لأنه يعلم معناها الحقيقي لأنه يخشى عدم الوفاء لهذا المعنى
لأنه يعلم أن الكلمة تحت حُكم صاحبِها ما لم ينطِـقْ بها، فإذا نطقها صار تحت حُكمها..
كان يطيل النظر في تلك الكلمة وهو يقول:
عجيبٌ أمرُك أيها الحُبّ، تفعل المستحيل كي تلِجَ القلوب.. هذه المرة انتصرتَ عليّ..
لكنني أعِدُك: لن تَبْرَحَ الورقةَ البيضاء :")
المفضلات