حريق
جثا على ركبتيه في الحجرة الصغيرة القابعة في الطابق الثاني لمستودع شركته..
كان يفتش في الصناديق بقلقٍ واضح.. حتى وقعت يده أخيرًا على ملفٍ ورقي..
أخرجه بلهفة وفتحه فورًا وأخذ يقلّب بين أوراقه باضطراب.. وأطلق أخيرًا تنهيدة ارتياح عندما وقع بصره على إحداها..
إنه يبحث عنها منذ فترة.. لا يدري كيف أرسل ورقة مهمة كعقد التأمين مع الأوراق القديمة إلى صناديق المستودع..
عليه أن يحرص عليها أكثر..
بعد أن عاد إليه هدوءه الذي أضاعه قلقه على ورقته الضائعة..
تنبهت حواسه إلى وجود خطبٍ ما..
توجه نحو الباب قلقًا..
لا شك أن إحساسه سيخيب عندما يفتح هذا الباب.. لطالما خانه إحساسه الذي اعتاد توقع الأسوأ..
ولكن إحساسه وللأسف أصاب هذه المرة..
لقد كانت النيران تلتهم المكان..!
~
دار عقله في دوامات واحتاج دقيقة تقريبًا ليستوعب ما يجري حوله..
لماذا اليوم من بين كل الأيام..؟؟
عليه أن يخرج من هنا..!!
خطا خطوته الأولى خارج الباب فأحس بحرارة اللهب تكاد تشوي وجهه..
كل شيء يحترق.. الصناديق والأعمدة الخشبية وحتى طلاء الجدران..
أين طريق الخروج..؟
رسمت ذاكرته التصويرية أمام عينيه طريقًا يمتد حتى نهاية الممر يسارًا.. هناك تقبع السلالم..
ولكنه لا يستطيع أن يرى شيئًا..! ألسنة اللهب والدخان الأسود الكثيف يحجبان الرؤية تمامًا..
بدأ توتره يزداد ولكنه تمكن من تهدئة نفسه.. كل شيء سيكون على ما يرام..
بطريقة ما لم يبد أنه يستشعر مدى خطورة الأمر بعد..!
حاول التفكير بعقلانية.. الدخان.. أجل.. عليه ألا يستنشقه..!
بدأت ذكرياتٌ متقطعة لدورات السلامة القديمة تطفو على سطح أفكاره المبعثرة..
انحنى على ركبتيه علّه يتجنب الدخان ويتمكن من إبصار طريقه..
ولكن ما أبصره كان النيران المحرقة وفقط..
لا شك أن الحريق ابتدأ في الدور السفلي أولاً.. وهذا يعني أن طريق نجاته الذي رسمه لنفسه مسدودٌ تمامًا..!
إنه محاصر..!
لا يوجد طريقٌ أمامه يمكنه العبور منه.. النيران تلتهم كل شيء.. ومحاولة العبور من خلالها تعني انتحارًا مباشرًا..
من المستحيل أن يتمكن من مغادرة الحجرة..!
بدأ العرق يتصبب منه بغزارة.. فالحرارة تشتد.. وحواسه بدأت تدرك مدى خطورة الأمر..
ولكنه لن يموت.. أليس كذلك..؟ لا شك أنه سينجو.. من المستحيل أن ينتهي هنا..!
فكّر بهذا وهو يتراجع بخطواته في الغرفة باحثًا عبر دهاليز دماغه عن طريق آخر للنجاة..
غريزة البقاء لديه قادته إلى النافذة المرتفعة.. صعد على الكرسي وأطلّ منها..
إنه يعلم سلفًا أنه لن يتمكن من المغادرة عبرها.. كيف لا وهو من أمر بتصميم قضبان حديدية لنوافذ مستودعه حمايةً له من السرقة..؟
أطبق على القضبان بقبضتيه وهزّها بعنف.. وتأكد تمامًا استحالة نزعها من مكانها..
ولكنها أمله الوحيد..!
بدأ ينادي بصوتٍ مرتفع علّ أحدهم يتمكن من سماعه.. ولكن الجدار الأصم للمبنى الذي تطل عليه النافذة ابتلع صدى نداءاته.. ولا شك أن ضوضاء الخارج ستحول دون وصول صوته إلى مسامع أحدهم..
كيف حدث كل هذا..؟ استمر ينادي وينادي وهو يشعر بأن صوته يخرج من أعماق أعماق حويصلات رئتيه..
إن لم يتمكن من الخروج عبر هذه النافذة فإن أمله الأخير يكمن في تمكن رجال الإطفاء من التغلب على الحريق قبل أن يصل إليه..
أو على الأقل تمكنهم من الوصول إليه لإنقاذه..!
ولكن رعشةً سرت في جسده فجأة عندما التمعت في ذهنه حقيقة أن أحدًا لا يعرف حتى بوجوده اليوم في هذا المستودع..!
وعندما وقعت عيناه على النيران التي بدأت بالتسلل إلى الغرفة، ارتجف جسده كله وشعر بخواء ركبتيه فسقط عن الكرسي..!
تفتّحت أبواب الحقيقة أمامه على مصراعيها وأدرك فجأة أن ما يواجهه هنا هو الموت..!
تصاعد الأدرينالين بقوة إلى دماغه.. ابتلع ريقه بصعوبة.. وباستعمال أطرافه المرتعشة جميعًا تمكن أخيرًا من صعود الكرسي مجددًا..
عليه ألا يبتعد عن هذه النافذة مطلقًا..! إنها سبيل نجاته الوحيد..!
صوته الذي أبى الخروج بادئ الأمر انطلق فجأة بحرارة ويأس فطفق يصرخ كما لم يفعل في حياته قط.!
لقد كانت شركته تواجه خطر الإفلاس مؤخرًا وكل همه كان استعادتها على قدميها.. لقد أفنى حياته لأجلها.. أو هكذا ظن..!
كل ما يتمناه الآن هو أن تفنى هذه الشركة ومستودعها وقضبان نافذته والورقة الضائعة التعسة التي بدأت تحترق.. أن تفنى جميعًا وتبقى حياته..!
النيران تقترب أكثر وعقله لم يعد يستوعب ما يجري.. هذا مستحيل..! سينجو بالتأكيد..!
من بين كل الأيام ليس بالضرورة أن يموت اليوم..!
من بين كل البشر ليس بالضرورة أن يموت هو..!
من بين كل المصائب ليس بالضرورة أن يواجه الموت..!
النيران بدأت تلتهم أرجل الكرسي.. صراخه صار هستيريًا.. وجهه التصق بالنافذة باحثًا عن بقايا هواء صالح للتنفس..
النيران تلتهم الكرسي.. النيران ترتفع..
لم يعد يرى سوى اللهب..
لم يعد يدري أكانت الحرارة التي في قدميه ناجمة عن احتراقهما أو عن قربهما من الألسنة المستعرة..
لم يعد يعلم أكان يصرخ فزعًا وجزعًا أم طلبًا للمساعدة..
لم يعد يدرك أكان سقوطه وابتعاده عن النافذة بسبب احتراق الكرسي أو احتراقه هو..
لم يعد يستوعب أكان تخبطه وتقلبه والتصاقه بالجدار إراديًا أو غير إرادي..
فجأة لم يعد يشعر.. لم يعد يحس.. لم يعد يرى.. لم يعد يفكر.. أهذا هو الموت..؟ ولكن.. من المستحيل أن يموت..! أهو حلم..؟ لا بد أن يكون كذلك.. لا يمكنه أن يموت.. لا يمكن..
يموت الناس كل يوم.. يعرف أن دوره لا بد وأن يأتي يومًا.. ومع ذلك.. لا يمكنه أن يصدقه..!
~
تمكن رجال الإطفاء من إخماد الحريق بعد ساعاتٍ من اشتعاله.. أصيب العديد من العمّال بحروقٍ تفاوتت في درجاتها بين السطحية والخطيرة.. ولكنهم نجوا.. ولم يتم العثور سوى على جثة واحدة متفحمة في الدور العلوي.. تم التأكيد بعد فترة من الزمن على أنها جثة مدير الشركة المفقود..
أثبتت التحريات المكثفة أن الحريق كان متعمدًا.. وأن المسئول المالي للشركة هو من افتعله.. فتم القبض عليه..
قال المسئول المالي في محضر التحقيق: كانت الشركة على وشك الإفلاس وكنا سنستفيد من مبلغ التأمين الذي سنحصل عليه جراء حريق المستودع في إعادتها للحياة.. كنتُ قد خططتُ لإحراقه في ذلك الأسبوع تحديدًا.. لم يكن من المفترض أن يحوي سوى العمال.. لا أعرف بالضبط ما الذي كان يفعله المدير هناك.. ولكنه هو من أمرني بفعل ذلك..!
~ تمت ~
همسة:
"كثيرًا ما يقنعنا غرورنا الإنساني بأننا لن نكون جزءًا من الكوارث التي نعلم أنها ستحل..... أو التي ندبّرها..!"
المفضلات