'' الكتيب ممزق وبالٍ اصفرت أوراقه حد العفن، لم يتبقى منه إلا هذه الصفحات"



أشعر أني أتآكل كشمعة سخيفة تؤمن أنها تذوب و تتبدد في سبيل إلهاب وجه الظلام غير مدركة أنها حين تتلاشى تمامًا ستستبدل ولن يذكرها أحد، لكني أنفت من أجل لا شيء و سأستبدل أيضًا ،،


تبًا ... يكاد الوقت ينفذ ولم يحضر حتى الآن.


لا أدري لما أرى نفسي شمعة دومًا، رغم أني لا اسعف أحدًا، ربما لأن عمري في عده العكسي مثلها تمامًا، ربما لأني أحترق داخلًا و خارجًا مثلها تمامًا، ربما لأني أتشوه و أتلاشى من الذاكرة مثلها،،


سُحقًا له من أخرق ... لم يأتي بعد.


( 216:56:49 )



:: ::



لا أذكر حقًا متى آخر مرة رأيته فيها، واثقة أنه قد تغير كثيرًا، ربما غير تسريحة شعره أو زاد وزنه بضع كيلوغرامات، فعليًا ليس له شيء ليقلق عليه فيفقد شهيته للحياة، متأكدة أني لو التقيته لن أعرفه ولن يعرفني؛ و إنما سألفت انتباهه لو كنت أكبر قليلا مما أنا عليه ومرصعة بأفخم الحلي والملابس، أقهر الظن أنه ترفع عن البيرة الرخيصة وتحول لنوع أجود أفخر، حتمًا غير النبيذ الكثير من ملامحه وسلائقه، ربما أصبح هو الذي ليس هو، فالحرباء تتلون حسب محيطها إلى أن تصل لمرحلة تنسى فيه لونها الأصلي؛ لهذا أنا أمقت الزواحف ذات الحراشف بجميع أنواعها، حتى البشرية منها..


الأغلب أنه زاد من جرعة نفاقه ونتانته مللترات كثيرة، شخص بمقامه يحتاج لكم هائل من الخداع والزيف ليبقى كل شيءٍ ملكه وتحت أمره...


إنه نذل بكل بساطة، لهذا هو لن يأتي أبدًا.


::: :::



أنا لا أغادر غرفتي كثيرًا، لأنها تحوي على كل أسباب البقاء، سرير حديد رخو يصدر أعجب الأصوات، روائح الموت والمقابر وبقايا أناسٍ مروا قبلي على هذا السرير وتدثروا بهذا الغطاء الأبيض... لا أفهم لما جُل المستشفيات تكتسي البياض؛ ربما لتظهر بجلاء بقع الدم المتناثرة من انفجار أحدهم أو لخطأ في تشريحه، فالجراحة الوحيدة التي يجيدها العالم هي التشريح وفلق الأجساد ليس من أجل المداواة بل لمتعة فتح حقائب الغير فضولا لتفتيشها ولا يهم إغلاقها لاحقًا وإرجاعها لمكانها...


هذا كريه جدًا، وجودي هنا، ما يدور حولي، ترقب أحدهم ... كل شيء مجرد عبثٍ لا غير.



:: ::



أتت الدورة المعتادة لتفقدي، كم هذا سخيف؛ أنا هي أنا لم يتغير مني شيء منذ الأمس عدا تفاقمه، لا أشكُ من ألمٍ؛ هو موجود لكني لا أشكُ لا أدري لما هذا الإزعاج الصباحي والمسائي...



كان هذا دور الممرض ميشال رجل صفصافيٌ أصهب يبدو أنه يخطو خطوته الخامسة نحو الأربعين، اعتدت على فحصه لي مع ممرضين آخرين فقط منذ مكوثي هنا، فرانك وجوزفين إضافة لطبيبين آخريْن،


إنه لطيفٌ حقًا معي، حتى فرانك وجوزفين في مثل لطافته، ربما لأني هادئة ولا أنبس ببنت شفة، رغم أني أفهم جيدًا ما يقولونه، أحيانًا أضطر لسماع ترهات تكاد تفجر رأسي دون قول ''كفى وارحلوا للجحيم من فضلكم'' بالرغم من أني أجيد الحديث بالفرنسية فلم ينسَ ذلك المعتوه فرنستي لدرجة إبادة عروبتي كأنه يعوضني عن كل ما كان وسيكون وما هو الآن ''بعصرنتي'' وتوفير كل شيء إلا عطفه ووده، صدقني أنت وإبليس سيان، كلاكما مطرودان من رحمة الله.


وضع الصينية التي يحملها دومًا على المنضدة جنبي تحوي بعض الأدوات الباردة الحديدية التي يفحصونني بها كأني فضائي قد هبط عليهم توًا من كوكب تائه ما، ابتسم لي وردد عبارته الأثيرة 'بُونْجُوغْ ما فِي' (Bonjour ma fille)


ثم اتجه للنافذة يفتحها دون أن ينتظر مني ردًا على تحيته المعهودة المضجرة، استنشق أول ما ولج منها من هواء منعش يحمل شذًا اعرفه جيدًا ثم حرك شفتيه في كلام خافت يحدث نفسه ( يا لروعة رائحة الأرض المستحمة فجرًا بالمطر)
أكاد أكون معزولة عن هذا العالم، آخرة مرة قاسمت فيها الأرض موعد استحمامها كانت في
(قْسمْطِينَة) معلقة على جسرها العتيق... لم أقدر على إخفاء لهفتي للخروج فقمت مسرعة للنافذة أشم بنهم عبق الاغتسال، فاجأت ميشال الذي لم يرني يومًا واقفة، تنبهت لذهوله ولطوله الفارع أكثر، فرمقته بنظرة سريعة وعدت للساحة المنداة،،


فهم دون أن أقول أني أعشق المطر مهما انهمر بوحشية، وأني قد أرغب في الخروج قليلا لتجول في حديقة المشفى المترامية... بدل دهشته بابتسامة صغيرة على ثغره ثم أردف يلفظ كلامه بطيئًا مع حركات شارحة محاولاً إيصال فحواه لي كأنه يحدث متخلفًا عقليًا ( تريدين الخروج للحديقة، يمكنك ذلك، هيا تعالي،، إلى الحديقة ،،إلى الحديقة)


الأبله، لا يمكنه تصور نفسه كم يبدو غبيًا هكذا، خففت عنه عناء التصرف كقرد أقمل وقاطعته ( أجل أريد)


توقف عن بلاهته وتسمر يستوعب، ثم ردد متلعثمًا ( كـ..كيف؛ من علمك الحديث بالفرنسية)


إنه لطيف لكنه مأفون، لم أرغب في الرد عليه نحوت لخفي ثم توجت الكرسي المتحرك معلنة على استعدادي للخروج، لم يشغل نفسه بالبلبلة فدفعني للخارج...


أشعر أني أرى هذا المكان لأول مرة، كأني دخلت للمشفى من خندق مظلم تحت الأرض، أو ربما بسبب مكوثي الطويل في الغرفة والتصاقي المبالغ فيه بسريري ...


أستطيع أن أشعر بجسيمات عطر ''شانيل تاغ'' تتمدد عبر أنفي الآن، أجود وأغلي ما جادت به علينا شانيل هو تلك الزجاجة الوردية الصغيرة تحت اسم ''شانيل الأرض والمطر''،،


لم يمكث ميشال كثيرًا جنبي لم أتفطن له وهو يغادر حتى، الأغلب انه لم يشأ إزعاج عربي يؤثر الصمت يتأمل حديقة غناء يظنه قطعًا لم يرى في إفريقيا إلا الصحراء القاحلة وأسد يجول في الجوار يبتغي وليمة دسمة، لا يهمني ما يعتقد فطالما مقت الفرنسيين-لأسباب تاريخية- بكل أشكالهم الكريهة، فليذهبوا للجحيم جميعًا...


الندي يتقاطر شهدًا يزحف على الأوراق و الحشائش، يجبلها يصرع خلاياها بغمرة قطرة، الورود تصطف جنبًا إلى جنب في سلسلة بدت من مكاني تمتد لبعيد من الطرف الأيمن للأيسر، تجتمع أمامي في كتلة دائرية ضخمة كأنها تحشد عروقها الألف بشتى الألوان و الفصائل، منداة هي الأخرى ببلورات ماسية ... بعض الأشجار تحمل زمردًا وعقيقًا في شهرها السابع ترتلُ شيئًا من التهليل و التحميد و التكبير ،،


شيء أخضر مشاكس يتوغل على الجدران يتسلقها في مشاغبة حلوة لصبية في الخامسة يطوح بالمنظر،


الأرضية تحتي جلها حشائشٌ تكتسي خضرة عجيبة إلا من بقع صغيرة لإسفلت الممر الحجري الآيل للاختفاء خلف اليخضور وأتربة تغري باللهو بها في 'العُشَّة'... يبقى الطفل في صدري يناجي لعب الطفولة ،،


أحببت كثيرًا الوقوف و مداعبة الزهور لكني امتنعت، ربما لأني خشيت ذبولها بين أناملي بسبب العدوى، يُقال أن السوداوي لا يترك شيئًا حوله إلا و لطخه بحبره القاتم.


بقيت أتجرع رائحة الأرض المترعة مطرًا في غنج، في بطء أنتشي، و أنصت في خشوعٍ للحن عصفور داعب الذاكرة، شاغبت على طرف لساني أغنية أندلسية سارعت للفرار دونما أمر ,,

قُـم تـــرى دراهــم اللوز °° تندفق عن كـل جــــهَة
والنسـيم سقطها في الحوز °° والندى كبب عليـــــهَا
بــدت تلقح ورقة الجوز °° جاء بشير الخير إلـــــيهَا
والرياض يعجبني ألوان °° ما أحسنه فصل الخلاعة**
يــــا نديم هيا للبستان °° نغنموا في الدنيا ساعـَــــة



::: :::


وقفت الشمس تسرح شعرها عند المغيب تاركة جنبي بعض أطفالها لمؤانستي وانا مسجاة كـ 'وْلِيَة' تتضرع في جهل بغيض أفحم ضريح 'سِيدِي مْحَمِدْ لْقَادَارِي' كي يرزقها أي شيء... أيًا يكن فأنا أفقد الكثير، وسأحمل معي هذا الوجع إلى حيث لن تتسلل إليَّ قطرات المطر تخفف فجيعتي ...


لم انتظر أن يعيدني أحد، قررت العودة وحدي، حافية القدمين أتحسس الحشيش والأرضية الملساء منذ سنوات وربما للمرة الأخيرة، فكثيرًا ما أحببت الركض حرة من أي نعل في مروج ضواحي قسمطينة لأستشعر بشغف دغدغة الطبيعة لسطح قدمي... عدت أدراجي في تراخٍ أمُسُّ من حين لآخر في حركة لا إرادية جمجمتي العارية، اعتدت شعري الفاحم الطويل الذي كنت أمرر خصلاته الناعمة بين أناملي... في كل مرة أتذكر أن فقدت الكثير...
أشعر بالاكتئاب حقًا، هذا طبيعي، أنا وحيدة وسقيمة، وسأموت قريبًا وحيدة وسقيمة.




::: :::




أعلم أنه لم يبقى الكثير، يُقال أن الشخص يشعر بأجله إذ اقترب، و بوصلتي لا تخطئ، لذلك أريد قدومه.



سحقًا له...




أنا أريده حقًا الآن، أريده أن يكون أمامي حين أتلفظ أنفاسي الأخيرة وأوسعه شتمًا وسبًا وأخبره أنني لن أسامحه يومًا على ما فعله بي، وأني سأظل أطارده إلى أن يجن أو ينتحر... أنا أنتظره أحر من الجمر فليس لي غيره رغم نذالته وسفالته.
إنه دور فرانك اليوم، لم يسبق أن حدث هذا لكني كنت أنتظر أن يأتي أي شخص لغرفتي؛ لا أدري لما لكن ربما قد يحمل معه خبرًا سارًا، كنت أكبح سؤالًا يتردد على حلقي من حين لآخر يتحقق من أن الأبواب قد تُركت مفتوحة عرضيًا، يحاول الفرار من سجنه المؤبد، هذا مخجل حقًا؛ الأجدر أن يسألني هو لما لا يزورني أحد لا أنا...



تبًا له من والد... هذا هو قدري، تركني أولد وحدي كيف له أن يقف لجنبي وأنا أموت.



ليتك جنبي الآن أمي، ربما كنت لتكوني أحن عليّ منه هذا ما لم تكوني من طينته أنت أخرى...أو ربما أنت كذلك فلو لم تكوني لبقيتي معي على الأقل بدل أن تخلفيني ورائك قطعة غضة لم يتفتح بصرها بعد ولا تفقه شيئًا مع أبله لم يفهم قط أي شيء رغم تفتح بصره على مصرعيه، قد تخليتي عني أنت أيضًا... لم أعد طفلة ساذجة، أنا في السادسة عشر الآن، و قد قررت؛ لن أسامحكما ما حييت و مِتُ أبدًا.



::: :::


إنه الفاتح من سبتمبر، أشعر أني أخف من خنزير نافق، أن شيئًا رخوًا مقرفًا يسبح داخلي ... أشعر انه الموعد.
يا لسخرية، تولد وتموت في نفس اليوم، ولا يوجد أحد يهديك شيئًا مغلفًا بورق التزيين لا يهم مدى سخفه ويتمنى لك عيد ميلادٍ تعيسًا قبل أن تنفد بساعات... هلكًا لهذا العالم، فأنا لن أفتقده أبدًا.


أنا آسفة فعليًا لأني أكثر من الشتائم، أعاني من متلازمة توريت، تكرار لا إرادي للألفاظ البذيئة وبعض الحركات المزعجة، الأمر لا إرادي فعلاً، إنه إنجاز عظيم أنى لم أتلفظ بشيء أكثر قبحًا...


أتصدقون هذا، في هذا البلد يعتبرون البذاءة مرضًا نفسيًا. يعشقون المجلدات التي تشرح علميًا كل شيء مهما كان في غاية السخف والبداهة ...


على كلٍ لا أحب التلفظ بهذه الكلمات وأعتذر لأني أوسخ عيني من يقرأ مذكراتي الآن،
إن حدث وأغضتك أتمنى ألا تبحث عني -رغم أني اشك أن أحدًا يجيد العربية هنا- فالأغلب أني نافقة الآن//شمعة ذائبة قد يبست على الشمعدان.


( 05:10:44 )
أيلول 1997// مستشفى أمراض السرطان-باريس، مدينة القرف،
مليكة




** الخلاعة ليس معناه الفسق و الفجور هنا، فالأندلسي قصائده فصحى ممزوجة بلهجات أخرى لست أدري معناها لكني واثقة أنها لا تعني الفسق ^^''