&& رحلة قلم في عالم الأساطير :: من مذكرات أستاذ &&

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 6 من 6

مشاهدة المواضيع

  1. #1

    الصورة الرمزية Hercule Poirot

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    3,514
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Book Icon && رحلة قلم في عالم الأساطير :: من مذكرات أستاذ &&



    "ولم يستطع الهنود الحمر وأسلحتهم البدائية الصمود طويلًا أمام الرجل الأبيض وبندقيته، مما أدى إلى احتلال البيض لأراضيهم، وإبادة وتهجير معظم من كان فيها".

    ختمتُ مقولتي بهذه العبارة، ونظرتُ حولي لأرى تأثيرها على المستمعين، وسرعان ما ارتدّت إليّ نظراتي بالخيبة المعتادة...
    مجموعة من الأطفال يتحادثون أو يصرفون أسماعهم بعيدًا عمّا يُفترض به أن يكون حصة تاريخ مليئة بالقصص المشوقة الآسرة للعقول والآذان. إن كان لي أن أسمّي هذا الجيل فلا أجد أنسب من "جيل اضطراب نقص الانتباه"!

    دقّ الجرس معلنًا انتهاء حصتي، فانطلق الأشقياء الصغار هاتفين مصطدمين ببعضهم ككرات البلياردو، حتى خلت الغرفة من معظمهم في غضون ثوانٍ. لم يبق في المكان إلا طالبان أو ثلاثة يجمعون حاجياتهم قبل الخروج. حزمتُ أغراضي بدوري وهممتُ بالمغادرة، فقد كانت حصتي الأخيرة لهذا اليوم...

    - "أستاذ كامبل"
    رفعتُ بصري عن حقيبتي فرأيتُ طفلًا شاحب البشرة، بنيّ الشعر، ينظر إليّ بعينين عسليتين صافيتين.
    - "ما الأمر يا عزيزي جون؟"
    كان جون أحد أنبه تلاميذ صفي وأذكاهم، وكان اهتمامه بدروسي وقصصي التي أسردها عليهم يتجلى بأسئلته التي يمطرني بها عقب انتهاء الحصة، وأجيب عليها بصدر رحب.
    - "أما يزالون موجودين؟"
    حسبته لأول وهلة يسأل عن الهنود الحمر، وشرعت بالإجابة على هذا الأساس، ولكنه هزّ رأسه يمينًا ويسارًا بحدة قائلًا:
    - "أعني مصاصي الدماء!"

    عدتُ بذاكرتي إلى الوراء قليلاً إلى حصة التاريخ في الأسبوع ما قبل الماضي. كان موضوع الدرس آنذاك الحروب العثمانية في أوروبا، وقد عرّجت على ذكر الأمير الروماني فلاد دراكولا فيها، وعن أساطير مصاصي الدماء التي حيكت حوله. ولكني أستغرب الآن أن الموضوع ما زال عالقًا في ذهن جون الصغير بعد مضيّ تلك المدة.

    - "ما الذي يدفعك للسؤال عنهم؟"
    وهنا لاحظتُ أن ركبتي جون ترتجفان بشكل خفيف، ولم يكن البرد هو السبب.
    أجاب جون: "لا أدري... منذ فترة وأحس وأن هناك من يراقبني... في الشارع، عند البقال، في الحديقة، في المكتبة العامة، وحتى في المدرسة. أشعر بنظرات دموية حمراء تتعقبني في كل مكان، حتى صرتُ أخشى النوم وحيدًا في غرفة مظلمة، وتنتابني الكوابيس الموحشة إن فعلتُ..."

    طمأنتُ جون الصغير ببعض العبارات، وأضفتُ في حسباني أن أتجنب ذكر الأساطير المفزعة ثانية في صفوف المرحلة الابتدائية، ثمّ ودّعتُ جون عند باب المدرسة، وانطلقتُ في طريق عودتي إلى المنزل.

    ****

    كان عليّ أن أمرّ بمتجر البقالة لأبتاع المكونات اللازمة لعشائي، وكان ذلك يعني إطالة المسافة اللازمة للوصول إلى المنزل سيرًا على الأقدام. كانت المدرسة تقبع في وسط قرية نائية صغيرة، وكانت المحال والمتاجر فيها قليلة، والمسافات بين المباني والمنازل متباعدة، والشجر والأعشاب هما المحتل الرئيسي لمعظم المساحة الترابية. استغرقتُ وقتًا أكثر من المعتاد في متجر البقالة بسبب زحام نهاية الأسبوع، وعندما خرجتُ منه قافلًا إلى منزلي، كان ضياء السماء قد بدأ يستحيل ظلمة، وشمس الأصيل تودع الشفق الأحمر، والأشجار من أمامها تبدو كأيادي ممدودة إلى الثريا تخطف ما تخلّف من بقايا النور.

    ****

    لستُ بالرعديد ولا الجبان، ولا بالذي يترك للمخاوف عنان السيطرة على مخيلته. ربما كان للشوارع المقفرة بعد حلول الظلام أثر فيّ، وربما انتقلت إليّ عدوى شكوك جون الصغير، ولكني استشعرتُ حقًا بمن يراقبني عن كثب، ويتابع كل خطوة أخطوها من خطواتي التي صارت تتسارع غريزيًا. صارت مشيتي أقرب إلى الهرولة، وأنا الذي كنت أزهو على غيري بطول خطوتي وسرعتها، ومع ذلك لم يتوقف ذلك الشعور الغريب الذي ينتابني، بل أخذ يزداد قوة مع كل نفس أتنفسه، ومع كل نبضة ينبضها قلبي، ومع كل متر أقطعه نحو غايتي.

    توقفتُ هنيهة لالتقاط أنفاسي، وأنا أكاد أقسم أني سمعتُ صوت خطوات إثر خطواتي صمتتْ بمجرد توقفي. أخذتُ نفسًا عميقًا لأوقف لهاثي، وشدّ ما راعني أني بقيتُ أسمع لهاثًا رغم حبسي لأنفاسي... أهو صدى لهاثي السابق ردّته عليّ الجبال سخرية من فزعي؟ كلا! أرهفتُ السمع جيدًا... إنه لهاث غير آدميّ! ومصدره لا يمكن أن يبعد أكثر من أمتار قليلة عني!

    استجمعتُ شجاعتي واقتربتُ رويدًا رويدًا من مصدر الصوت؛ كانت ثَمَّ شجيرات صغيرة متشابكة ممتدة على طول جانبي الطريق. مددتُ يدي نحو الشجيرات وأزحتها بحركة خاطفة، وكأنّما أريد تسريع عجلة الأحداث وإنهاء الأمر بسرعة بغض النظر عن النتيجة. فعلتُ ذلك بدافع الدم النابض المتدفق بقوة الأدرنالين في عروقي، فكان في انتظاري مفاجأة لم تكن في الحسبان...

    ****

    كان جروًا صغيرًا أسود! أعتقد أني سأكتب هذه الحادثة في مذكراتي بقلم الخزي والعار لتكون عبرة لي. يبدو أن هذا الشيطان الصغير قد تبعني طوال الطريق منذ خروجي من محل البقالة، وقد أثارت الأكياس التي في يدي شهيته ومطمعه، وبسبب لونه القاتم وعتمة الشارع لم أتمكن من تبيّن ملامحه جيدًا. خلاصة الأمر أني ألقيتُ إليه بشيء من كيسي يتلهى به جهازه الهضمي، ولم أغادر المكان إلا بعد أن تيقنتُ أنه ما عاد يجري في أثري!

    ****

    وصلتُ إلى المنزل أخيرًا متعبًا منهكًا. دلفتُ إلى غرفة الجلوس لأجد ضيفي المعتاد جالسًا في انتظاري بهدوء على مقعده المفضل. ألقيتُ عليه تحية المساء فردّ بهمهمة غير مفهومة. أسمّيه ضيفي لكن الوصف الأدقّ هو أنني ضيف عليه، لأن البيت بيته في الأصل، وهو من استضافني فيه منذ قدومي إلى القرية قبل ستة أشهر حين كُلّفتُ بمهمة التعليم في مدرستها، وقد أجاد عليّ في ضيافته حتى أشعرني في نهاية المطاف أني في بيتي وأنه ضيف عليّ لا العكس! حملتُ الأكياس إلى المطبخ، حيث أفرغتُها هناك. ما زلتُ أحسّ ببقايا الأدرنالين في عروقي بعد أحداث الساعة الأخيرة. عدتُ إلى غرفة الجلوس
    مجددًا لكي أُعلم صاحبي بجهوزية العشاء.

    هتفتُ له بصوت ناعم وأنا أقترب منه: "حان موعد العشاء يا أستاذ كامبل!"، ثم لففتُ يديّ حول جسده المربوط بالحبال، فلم تصدر عن عينيه اليائستين سوى رمشة صغيرة، ولم يصدر عن فمه المكمّم سوى آهة خافتة وأنا أعض عنقه في المكان المعتاد لأرتشف منه نصيبي من الدماء الطازجة!

    تمّت








    التعديل الأخير تم بواسطة بوح القلم ; 6-3-2016 الساعة 10:00 AM سبب آخر: سلمك ربي وبارك حرفك


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...